الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢

فلا يجب أن يكون من العسير على الناس أن يتصوروا طبيعة وماهية حكم الإمام ، وكل من يقدر له أن يصل إلى الحكم والسلطان ، سواء من العلويين ، أو من غيرهم ..

وإذا كانت الصورة واحدة ، والجوهر واحد ، والاختلاف إنما هو فقط في الاسم والعنوان ، فليس لهم بعد حق ، أو على الأقل ما الداعي لهم ، لأن يطلبوا حكما أفضل ، أو حكاما أعدل ، فانه طلب لغير موجود ، وسعي وراء مفقود ..

الهدف الحادي عشر :

هذا .. وبعد أن يكون المأمون قد حصل على كل ما قدمناه ، وحقن دماء العباسيين ، واستوثقت له الممالك ، ولم يعد هناك ما يعكر صفو حياته (١). وقوي مركزه ، وارتفع بالخلافة من الحضيض المهين ، الذي أوصلها إليه أسلافه إلى أوج العظمة ، والتمكن والمجد. وأعطاها من القوة والمنعة ، ووهبها من الحياة في ضمير الامة ووجدانها ما هي بأمس الحاجة إليه .. ولتتمكن من ثم من الصمود في وجه أية عاصفة ، وإخماد أية ثورة ، ومقاومة كل الأنواء ، وذلك هو حلمه الكبير ، الذي طالما جهد في تحقيقه ـ إنه بعد أن يكون قد حصل على كل ذلك وسواه مما قدمناه :

__________________

(١) لقد صرح الذهبي في الجزء الأول من كتابه « العبر » ، بأنه في سنة ٢٠٠ ه‍. استوثقت الممالك للمأمون .. وهذه هي نفس السنة التي اتي فيها بالامام عليه‌السلام من المدينة إلى مرو .. ولكن اليافعي في مرآة الجنان ج ٢ ص ٨ وشذرات الذهب ج ٢ ص ٥ : قد جعل ذلك في سنة ٢٠٣ : أي في السنة التي تخلص فيها المأمون من الامام الرضا ٧ بواسطة السم الذي دسه إليه .. وفي اليعقوبي ج ٢ ص ٤٥٢ طبع صادر : أنه في السنة التي غادر فيها المأمون خراسان : « لم تبق ناحية من نواحي خراسان يخاف خلافها ».

٢٤١

يكون قد أفسح لنظام حكمه المجال ـ تلقائيا ـ لتصفية حساباته مع خصومه ، أيا كانوا ، وبأي وسيلة كانت ، وبهدوء ، وراحة فكر واطمئنان إن اقتضى الأمر ذلك.

كما أنه يكون قد مهد الطريق لتنفيذ الجزء الثاني ـ ولعله الأهم ـ من خطته الجهنمية ، بعيدا عن الشبهات ، ودون أن يتعرض لتهمة أحد ، أو شك من أحد .. ألا وهو : القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم. وليكون بذلك قد قضى نهائيا ، وإلى الأبد ، على أكبر مصدر للخطر ، يمكن أن يتهدده ، ويتهدد خلافته ومركزه ..

إنه يريد زعزعة ثقة الناس بهم ، واستئصال تعاطفهم معهم ، وليحوله ـ إن استطاع ـ إلى كره ومقت ، بالطرق التي لا تمس العواطف والمشاعر ، ولا تثير الكثير من الشكوك والشبهات ..

يظهر ذلك في محاولاته إسقاط الإمام اجتماعيا ، والوضع منه قليلا قليلا ، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ، وليدبر فيه في نهاية الأمر بما يحسم عنه مواد بلائه .. كما صرح لحميد بن مهران ، وجمع من العباسيين ، وسنتكلم بنوع من التفصيل عن محاولات المأمون هذه ، التي باءت كلها بالفشل الذريع ، وعادت عليه بالخسران ؛ لأن الإمام (ع) كان قد أحبطها عليه ، بل لقد كان لها من النتائج العكسية بالنسبة إليه ما جعله يتعجل بتصفية الإمام جسديا ، بعد أن أشرف هو منه (ع) على الهلاك .. بالطريقة التي حسب أنها سوف لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات ..

ملاحظة لا بد منها :

ومن الامور الجديرة بالملاحظة هنا : أن المأمون كان يقدر أن مجرد

٢٤٢

جعل ولاية العهد للإمام ، سوف يكون كافيا لتحطيمه اجتماعيا ، وإسقاطه نهائيا من أعين الناس ؛ حيث يظهر لهم بالعمل ـ لا بالقول : أن الإمام رجل دنيا فقط ، وأن تظاهره بالزهد والتقوى ما هو إلا طلاء زائف ، لا واقع له ، ولا حقيقة وراءه .. ولسوف تكون النتيجة هي تشويه سمعة الإمام (ع) ، وزعزعة ثقة الناس به ؛ وذلك بسبب الفارق الكبير بالسن ، بين الخليفة الفعلي ، وبين ولي عهده ؛ إذ أن ولي العهد لا يكبر الخليفة الفعلي بسنتين ، أو ثلاثة ، أو خمسة ، لا .. بل اكثر من ذلك بكثير ، إنه يكبره بـ (٢٢) سنة ، وإنه لمن الامور غير الطبيعية أبدا : أن يقبل ولاية العهد ، وهو يكبر الخليفة الفعلي بهذا المقدار الكبير من السنين ، ولسوف يكون قبوله لها ـ مع هذا الفارق بينهما ـ موجبا لجعله عرضة لشكوك الناس ، وظنونهم ، ولسوف يتسبب بوضع علامات استفهام كبيرة حوله .. كما كان الحال. بالنسبة لسؤال محمد بن عرفة ، وكلام الريان المتقدم .. ولسوف يفسر (١) ذلك من أولئك الذين لا يدركون حقيقة ما يجري ، وما يحدث ، ـ وما أكثرهم ـ بتفسيرات تنسجم مع رغائب المأمون ، وأهدافه. لأنهم سوف يرون أن زهده (ع) بالدنيا ، ليس إلا ستارا تختفي وراءه مطامعه فيها ، وحبه المستميت لها ، حتى إنه ليطمع أن يعيش إلى ما بعد الخليفة الفعلي ، الذي هو أصغر من ولده ، ويصل إلى الحكم .. وباختصار نقول :

__________________

(١) ولكنا ، مع ذلك نجد : أن قسما من أصحاب الرضا عليه‌السلام ، ممن كانوا يراقبون الأحداث بوعي ودراية ، كانوا يدركون لوايا المأمون وأهدافه هذه ففي البحار ؛ ج ٤٩ ص ٢٩٠ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩ : أنه قد سئل أبو الصلت : « كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه ومحبته له ، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟! فقال : إن المأمون كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله ، وجعل له ولاية العهد من بعده ، ليري الناس أنه راغب في الدنيا ؛ فلما لم يظهر منه إلا ما ازداد به فضلا عندهم ، ومحلا في نفوسهم ، جلب عليه إلخ .. ».

٢٤٣

إنه يريد أن : « .. يعتقد فيه المفتونون به بأنه : ليس مما ادعى في قليل ولا كثير .. » حسبما صرح به هو نفسه .. وعلى حد قول الإمام نفسه ، الذي كان يدرك خطة المأمون هذه : « .. أن يقول الناس : إن علي بن موسى ، لم يزهد في الدنيا ، بل زهدت الدنيا فيه ؛ ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا بالخلافة؟! .. ». كما سيأتي ..

وعن الريان قال : « دخلت على الرضا ؛ فقلت : يا ابن رسول الله ، إن الناس يقولون : إنك قبلت ولاية العهد ، مع إظهارك الزهد في الدنيا؟!! ، فقال (ع) : قد علم الله كراهتي .. » (١) وقد أشرنا إلى سؤال محمد بن عرفة ، وكلام الريان فيما تقدم.

وعلى أي شيء يبكي المأمون ، ومن أجل أي شيء يشقى ويتعب ، ويسهر الليالي ، ويتحمل المشاق .. إلا على هذا .. إن هذا هو أجل أمنياته واغلاها ..

سؤال وجوابه :

قد يدور بخلد القارئ أن ما ذكرناه هنا : فيما يتعلق بالفارق الكبير بالسن ، ينافي ما تقدم من أن المأمون كان يريد الحصول على قاعدة شعبية ، والارتفاع بالخلافة من الحضيض الخ ..

ولكن الحقيقة هي : أنه لا منافاة هناك .. ويمكن للمأمون أن يقصد كل ذلك من البيعة ، لأن مقدار التفاوت بالسن بين الامام (ع) والمأمون ، لم يكن مما يعرفه الكثيرون ، ولا مما يلتفت إليه عوام الناس في بادئ

__________________

(١) علل الشرائع ص ٢٣٨ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٠ ، وأمالي الصدوق ص ٤٤ ، ٤٥.

٢٤٤

الأمر ؛ لأنهم يأخذون الامور على ظواهرها ، ولا يتنبهون إلى مثل ذلك ، إلا بعد تنبيه وتذكير ؛ فللوهلة الاولى تجوز عليهم الخدعة ، ويقدرون خطوة المأمون هذه ، وتنتعش الآمال في نفوسهم بالحياة الهنيئة السعيدة ، تحت ظل حكم بدا أنه يتخذ العدل ديدنا ، والانصاف طريقة ..

ثم .. وبعد أن يجند المأمون أجهزة إعلامه ، من أجل تسميم الأفكار ، يجد أن نفوس الناس مهيأة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها. ويكون لديه ـ باعتقاده ـ من الحجج ما يكفي لاسقاط الامام ، وزعزعة ثقة الناس به. ولا يؤثر ذلك بعد ذلك على الحكم ؛ فإن الحكم يكون قد استنفذ أغراضه من البيعة ، وحصل على ما يريد الحصول عليه منها .. هذا ولا بد لنا هنا من ملاحظة أن المأمون وأجهزة إعلامه كانوا في مقابل وصم الامام بالرغبة بالدنيا والتفاني في سبيلها .. يشيعون بين الناس عن المأمون عكس ذلك تماما ؛ فيطلب المأمون من وزيره أن يشيع عنه الزهد ، والورع والتقوى (١) .. وأنه لا يريد مما أقدم عليه الاخير الامة ومصلحتها ؛ حيث قد اختار لولاية عهده أفضل رجل قدر عليه ، رغم أن ذلك الرجل هو من ذلك البيت الذي لا يجهل أحد موقفه من حكم العباسيين ، وموقف العباسيين منه كما يتضح ذلك من وثيقة ولاية العهد ، وغيرها.

رأي الناس فيمن يتصدى للحكم :

لعل من الواضح أن كثيرا من الناس كانوا يرون ـ في تلك الفترة من الزمن ـ لقصر نظرهم ، وقلة معرفتهم : أن هناك منافاة بين الزهد والورع ، والتقوى ، وبين المنصب ، وأنهما لا يتفقان ، ولا يجتمعان.

__________________

(١) تاريخ التمدن الاسلامي ج ٤ ص ٢٦١.

٢٤٥

وقد رأينا الكثيرين يمتنعون عن تولي المناصب للحكام ، لما يرونه من المنافاة المشار إليها.

ولعل سر فهمهم هذا : هو أنهم كانوا قد اعتادوا من الحكام التجاوز على الحقوق ، والدماء ، والأموال ، وعلى أحكام الدين ، والنواميس الانسانية ، بشكل عام. والزهد والورع لا يتلائم مع ذلك كله ، ولا ينسجم معه ..

ولكن الحقيقة هي : أن لا منافاة بينهما أبدا ؛ فإن الحكم إذا كان وسيلة لا يصال الخير إلى الآخرين ، ورفع الظلم عنهم ، وإشاعة العدل ، واقامة شريعة الله تعالى ؛ فيجب السعي إليه ، والعمل من أجله ، وفي سبيله .. بل إذا لزم من ترك السعي إليه ، تضييع الحقوق ، وانهيار صرح العدل ، والخروج على أحكام الدين ؛ فإن ترك السعي هذا ، يكون هو المنافي للزهد والورع والتقوى ..

ولقد قاد النبي (ع) الامة ، وقبله قادها سليمان بن داود ، وغيره ، وبعده الإمام علي بن أبي طالب ، وولده الحسن ، ثم الحسين ، وهكذا ..

وحال هؤلاء في الزهد والورع ، لا يحتاج إلى مزيد بيان ، واقامة برهان. بل لم يكن على ظهرها أزهد ، ولا أتقى ، ولا أفضل ، ولا أورع منهم ، عدوهم يعرف منهم ذلك تماما كما يعرفه منهم صديقهم .. فعدا عن الأنبياء الذين كانوا القمة في الورع والزهد والتقوى ، نرى الإمام علي (ع) قمة في ذلك أيضا ؛ وقد رقع مدرعته حتى استحيا من راقعها ، وكان راقعها هو ولده « الإمام الحسن (ع) » (١). وكان

__________________

(١) راجع : الدرة النجفية ص ٣٠٣ ، طبعة حجرية.

٢٤٦

يصلي في بيت المال ركعتين شكرا لله ، بعد فراغ المال منه. وكان يقول : « إليك عني يا دنيا غري غيري ، أبي تعرضت؟!! إلخ .. » وهو الذي قال فيه عدوه معاوية : « لو كان له بيتان : بيت من تبر ، وآخر من تبن ؛ لأنفق تبره قبل تبنه .. » (١) .. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه ..

العلويون يدركون نوايا المأمون :

إن نوايا المأمون تجاه العلويين ، ومحاولاته لإسقاطهم اجتماعيا ، وابتزازهم سياسيا .. حتى إذا أخفق في ذلك راح يختلهم واحدا فواحدا ، كلما واتاه الظرف ، وسنحت له الفرصة .. لم يكن العلويون يجهلونها ، بل كانوا يدركونها كل الإدراك ، ولم تكن تخدعهم تلك الشعارات والأساليب المبهرجة .. وحسبنا هنا أن نذكر في مقام التدليل على هذا : أن المأمون كتب لعبد الله بن موسى ، بعد وفاة الرضا ، يعده بأنه يجعله ولي عهده ، ويقول له : « ما ظننت أن أحدا من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا » ..

فأجابه عبد الله يقول : « وصل إليّ كتابك ، وفهمته ، تختلني فيه عن نفسي ختل القانص ، وتحتال علي حيلة المغتال ، القاصد لسفك دمي. وعجبت من بذلك العهد ، وولايته لي بعدك ، كأنك تظن : أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟ أفي الملك الذي غرتك حلاوته؟! .. إلى أن يقول : أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟! ». ويقول له أيضا ـ والظاهر أنه نص آخر للرسالة ـ : « هبني لا ثأر لي عندك ، وعند آبائك المستحلين لدمائنا الآخذين حقنا ، الذين جاهروا في أمرنا ، فحذرناهم. وكنت ألطف حيلة منهم ؛ بما استعملته من الرضا بنا ، والتستر لمحننا ، تختل واحدا ،

__________________

(١) ترجمة الامام علي (ع) من تاريخ ابن عساكر ، بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٥٨ ـ ٦٠.

٢٤٧

فواحدا منا الخ .. » (١).

ولا بد من ملاحظة : منافاة وعده هذا لعبد الله بن موسى بأن يجعل له ولاية العهد .. للرسالة التي أرسلها إلى العباسيين في بغداد ، فور وفاة الرضا (ع) ، ويعدهم فيها بأن يجعل ولاية العهد فيهم ، وسنشير إلى رسالته لهم في فصل : مع بعض خطط المأمون إن شاء الله وعلى كل حال .. فإننا نستطيع أن نفهم من هذه الرسالة التي لعبد الله بن موسى أمورا ، نشير إلى بعضها :

أولا : إن المأمون كان قد جعل ولاية العهد وسيلة لختل الشخصيات التي كان يخشاها ، والغدر بها ؛ إذ أن من المقبول والطبيعي ـ كما يرى البعض ـ أن يكون ولي العهد هو الذي يتآمر ، ويدبر للتخلص من الخليفة الفعلي ، ليختصر المسافة ، ويصل إلى الحكم ، الذي ينتظر الوصول إليه ، والحصول عليه بفارغ الصبر. وليس من الطبيعي ، ولا من المقبول أن يتآمر الخليفة على ولي عهده ، إلا إذا كان يريد أن يجعل الخلافة لمن هو أعز عليه منه ، وهذا ما نفاه المأمون عن نفسه في أكثر من مناسبة.

وهكذا .. فان النتيجة تكون : هي أن الخليفة الفعلي يكون آخر من يتهم في ولي العهد ، إذا ما راح ضحية التآمر والاغتيال ، وعرف الناس ذلك. وهذا بلا شك من جملة ما كان يريده المأمون ، ويسعى إليه ..

ثانيا : إن المأمون رغم الصعوبات التي واجهها في فترة تولية الرضا (ع) العهد .. يبدو أنه كان يعتبر نفسه منتصرا وناجحا في لعبته تلك ، ولذلك نرى أنه قد حاول تكرار نفس اللعبة مع عبد الله بن

__________________

(١) مقاتل الطالبيين للاصفهاني ص ٦٢٨ ، إلى ص ٦٣١ ، وسنورد الرسالة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله ..

٢٤٨

موسى. ولكن يقظة هذا الأخير ، الذي كانت ظروفه تختلف عن ظروف الإمام (ع) قد فوتت عليه الفرصة ، وأعادته. بخفي حنين.

كما أننا لا نستبعد أن المأمون قد أراد بالاضافة إلى ذلك التستر على غدره بالرضا (ع) ، بعد أن كان قد افتضح واشتهر ، رغم محاولاته الجادة للتستر والكتمان ..

ثالثا : ما تقدمت الاشارة إليه من أن إكرامه للعلويين ، والرضا بهم ، والتستر لمحنهم ، ما كان منه إلا ضمن خطة مرسومة ، وإلا سياسة منه ودهاء ، من أجل أن يأمن العلويون جانبه ، ويطمئنوا إليه ، كما يدل عليه قوله لعبد الله بن موسى : « ما ظننت أحدا من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا ». وقد قدمنا أنه أشار إلى ذلك أيضا في كتابه للعباسيين ؛ فلا نعيد ..

رابعا : أنه لم يستطع أن يخفي عن العلويين ـ كما لم يستطع أن يخفي عن غيرهم ـ غدره بالإمام الرضا (ع) ، وسمه له بالعنب ، وكذلك غدره بغيره من العلويين. وسر ذلك واضح ؛ فان جميع الدلائل والشواهد كانت متوفرة على ذلك ، كما سيأتي بيان جانب من ذلك في فصول هذا الكتاب بنوع من التفصيل.

موقف الامام في مواجهة مؤامرات المأمون :

لقد رأينا كيف أن المأمون أراد من لعبته تلك ، التغلب على المشاكل التي كان يواجهها ، والاستفادة منها في تقوية دعائم خلافته ، وخلافة العباسيين بشكل عام .. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : ما هو موقف الإمام (ع) نفسه من لعبة المأمون تلك ، وخططه ، وأهدافه؟ ، وهل أفسح المجال للمأمون ليحقق كل ما يريد تحقيقه ، ويصل إلى ما

٢٤٩

كان يريد الوصول إليه؟ .. وهل كانت لديه خطط من نوع معين ، وأهداف معينة كان يسعى من أجل الوصول إليها ، والحصول عليها؟! ..

الحقيقة هي : أن الإمام (ع) قد استطاع ، بما اتبعه من خطة حكيمة ، وسلوك مثالي : أن يضيع على المأمون كافة الفرص ، ويجعله يبوء بالخيبة والخسران ، ويمنى بالفشل الذريع ، حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك ، وبدا الارتباك واضحا في كل تصرفاته ، وأقواله ، وأفعاله .. وسيأتي في الفصول الآتية في القسمين : الثالث ، والرابع بيان بعض ما يتعلق بذلك إن شاء الله.

المأمون في قفص الاتهام :

وهكذا .. وبعد أن اتضحت الاسباب الحقيقية للبيعة ، وبعد أن عرفنا بعض الظروف والملابسات ، التي أحاطت بهذا الحدث الهام ، فاننا نستطيع أن نضع المأمون ، ونواياه ، وأهدافه ، في قفص الاتهام ، ولا يمكن أن نصدق ـ بعد هذا ـ أبدا ، أي ادّعاء سطحي ، يحاول أن يصور لنا حسن نية المأمون من البيعة ، وسلامة طويته ، ولا سيما ونحن نرى كتابه للعباسيين في بغداد فور وفاة الرضا ، وكذلك سلوكه المشبوه مع الرضا (ع) من أول يوم طلب منه فيه الدخول في هذا الأمر ، وحتى إلى ما بعد وفاته ، كما سيأتي بيانه في الفصول الآتية .. وكذلك كتابه لعبد الله بن موسى المتقدم ..

والأدهى من ذلك كله رسالته للسري ، عامله على مصر ، التي « يخبره فيها بوفاة الرضا ، ويأمره بأن تغسل المنابر ، التي دعي عليها لعلي بن موسى ، فغسلت .. » (١).

__________________

(١) الولاة والقضاة للكندي ص ١٧٠.

٢٥٠

وكذلك لا يمكن أن نصدق بحسن نيته بالنسبة لأي واحد من العلويين ، الآخرين .. كما أشرنا إليه في رسالته لعبد الله بن موسى ، التي يذكر فيها : أنه راح يختلهم واحدا فواحدا .. وأيضا عند ما نرى أنه يمنعهم من الدخول عليه ، بعد وفاة الرضا ، ويأخذهم بلبس السواد (١) .. بل ويأمر ولاته وأمراءه بملاحقتهم ، والقضاء عليهم ، كما سيأتي ..

مع المأمون في وثيقة العهد :

ويحسن بنا هنا : أن نقف قليلا مع وثيقة العهد ، التي كتبها المأمون للامام (ع) بخط يده ؛ فلقد ضمنها المأمون إشارات هامة ، رأى أنها تخدم أهدافه السياسية من البيعة وحيث اننا قد تحدثنا ، ولسوف نتحدث في مطاوي هذا الكتاب عن بعض فقراتها .. فلسوف نقتصر هنا على :

أولا : إننا نلاحظ : أنه يؤكد كثيرا على نقطتين : الاولى : أنه منطلق في هذه البيعة من طاعة الله ، وإيثاره لمرضاته ، الثانية : أنه لا يريد بذلك إلا مصلحة الامة ، والخير لها ..

وسر ذلك واضح : فهو يريد أن يذهب باستغراب واستهجان الناس ؛ الذين يرون الرجل الذي قتل حتى أخاه من أجل الحكم ـ يرونه الآن ـ يتخلى عن هذا الحكم لرجل غريب ، ولمن يعتبر زعيما لأخطر المنافسين للعباسيين .. كما أنه يريد بذلك أن يكتسب ثقة الناس به ، وبنظام حكمه.

وعدا عن ذلك فهو يريد أن يطمئن العلويين والناس إلى أن ذلك لا ينطوي على لعبة من أي نوع ، بل هو أمر طبيعي فرضته طاعة الله ومرضاته ، ومصلحة الامة ، والصالح العام ..

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ ص ٢٠٤.

٢٥١

وثانيا : نراه يجعل العباسيين والعلويين في مرتبة واحدة ؛ وذلك لكي يضمن لأهل بيته حقا في الخلافة كآل علي.

وثالثا : يلاحظ : أنه يعطي خلافته صفة الشرعية ؛ حيث يربطها بالمصدر الأعلى ( الله ) ، وعلى حسب منطق الناس هذا تام وصحيح ؛ لأنهم بمجرد أن يعمل أحد عملا يؤدي إلى المناداة بواحد على أنه خليفة ، ويصير مقبولا لدى الناس .. إنهم بمجرد ذلك يصيرون يعتبرونه خليفة الله في أرضه ، وحجته على عباده ..

وهو أيضا تام وصحيح حسب منطق العباسيين ، الذين يدعون الخلافة بالارث عن طريق العباس بن عبد المطلب ، حسبما تقدم بيانه ..

ولهذا نلاحظ أنه يقدم عبد الله بن العباس على علي بن أبي طالب!! مع أن عبد الله تلميذ علي .. وليس ذلك إلا من أجل إثبات هذه النقطة ، وجعل حق له بالخلافة ، بل وجعل نفسه الأحق بها .. هذه الخلافة التي هي منصب إلهي ، وصل إليه بالطريق الشرعي ، سواء على حسب منطق الناس في تلك الفترة ، أو على حسب منطق العباسيين ..

وفي هذا إرضاء للعباسيين ، وتطمين لهم ، كما أنه في نفس الوقت تطمين لسائر الناس ، الذين كانوا غالبا ـ يرون الخلافة بالكيفية التي أشرنا إليها وقد أكد لهم هذا التطمين باستشهاده بقول عمر ؛ حيث أثبت لهم : أنه لا يزال على مذهبه ، وعلى نفس الخط الذي هم عليه ..

ورابعا : إننا نراه في نفس الوقت الذي يؤكد فيه مذهبه ، ووجهة نظره بتلك الأساليب المتعددة والمختلفة المشار إليها آنفا ـ نراه في نفس الوقت ـ يدعي : أنه إنما يجعل الخلافة للرضا (ع) ، لا من جهة أنها حق له ، ولا من جهة النص عليه ، حسبما يدعيه الرضا ، بل من جهة أنه أفضل من قدر عليه .. وهذا أمر طبيعي جدا ، وليس إقرارا بمقالة

٢٥٢

الرضا .. وكما ينطبق الآن على الرضا ، يمكن أن ينطبق غدا على غيره ، عند ما يوجد من له فضل ، وأهلية .. وهذا دون شك ضربة لما يدعيه الرضا ويدعيه آباؤه من الحق في الخلافة ، ومن النص ، وغير ذلك .. هذا ..

ولسوف يأتي في فصل : خطة الإمام ، شرح ما كتبه الإمام (ع) على ظهر الوثيقة ، ولنرى من ثم كيف نسف الإمام كل ما بناه المأمون ، وصيره هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف ..

كلمة أخيرة :

وأخيرا : فاننا مهما شككنا في شيء ، فلسنا نشك في أن المأمون كان قد درس الوضع دراسة دقيقة ، قبل أن يقدم على ما أقدم عليه. وأخذ في اعتباره كافة الاحتمالات ، ومختلف النتائج ، سواء مما قدمناه ، أو من غيره ، مما أخفته عنا الايدي الأثيمة ، والأهواء الرخيصة .. وإن كانت لعبته تلك لم تؤت كل ثمارها ، التي كان يرجوها منها ؛ وذلك بسبب الخطة الحكيمة التي كان الإمام (ع) قد اتبعها.

ولعمري : « .. إن بيعته للامام لم تكن بيعة محاباة ؛ إذ لو كانت كذلك لكان العباس ابنه ، وسائر ولده ، أحب إلى قلبه ، وأجلى في عينه .. ». على حد تعبير المأمون في رسالته للعباسيين ، التي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

٢٥٣

أسباب البيعة لدى الآخرين :

أحمد أمين المصري ، وأسباب البيعة :

وعلى ضوء ما تقدم ، نستطيع أن نلقي نظرة على ما ذكره بعض المؤرخين ، والباحثين ، مما جعلوه أسبابا لأخذ البيعة للامام (ع) بولاية العهد ؛ ولنرى ـ من ثم ـ أنها لا تقوى على الصمود أمام النقد التاريخي الواعي والدقيق ؛ إذ أنها على الغالب : إما لا تعتمد على سند تاريخي أصلا ، أو تعتمد على ما لا يصلح للاعتماد عليه ..

ولعل الدكتور أحمد أمين المصري ، قد جمع كلا الناحيتين فيما جعله ـ بنظره ـ أسبابا للبيعة ، حيث نلاحظ : أن بعض ما ذكره ليس له أي سند تاريخي ، بل التاريخ على اختلاف أهوائه ، واتجاهاته يدحضه ، ويكذبه .. والبعض الآخر قد اعتمد فيه على ما لا يصح الاعتماد عليه ؛ ولذا فلا يكون من التجني عليه القول : إن ما ذكره كان سطحيا ، أو بوحي من تعصب مذهبي رخيص ..

وما ذكره يرجع إلى أسباب أربعة ، رأى أنها صالحة ، كلا أو بعضا ، لأن تكون سببا لأخذ البيعة للرضا بولاية العهد .. ونلخصها بما يلي :

٢٥٤

١ ـ إن المأمون قد أراد بذلك : أن يصلح بين البيتين ، العلوي ، والعباسي ، ويجمع شملهما ؛ ليتعاونا على ما فيه خير الامة ، وصلاحها. وتنقطع الفتن ، وتصفو القلوب.

٢ ـ إنه كان معتزليا ، على مذهب معتزلة بغداد ، يرى أحقية علي (ع) وذريته بالخلافة ؛ فأراد أن يحقق مذهبه ..

٣ ـ إنه كان تحت تأثير الفضل والحسن بني سهل الفارسيين ، والفرس يجري في عروقهم التشيع ؛ فما زالا يلقنانه آراءهما ، حتى أقرها ، ونفذها ..

٤ ـ « إنه رأى أن عدم تولي العلويين للخلافة ، يكسب أئمتهم شيئا من التقديس ؛ فإذا ولوا الحكم ظهروا للناس ، وبان خطؤهم ، وصوابهم ، فزال عنهم هذا التقديس .. » (١).

هذا .. وقد ادعى في كتابه : « المهدي والمهدوية » : أن هؤلاء الأئمة كانوا يرتكبون الآثام في الخلفاء ، فأراد المأمون : أن يظهرهم ، ليعرفهم الناس على حقيقتهم ..

كان ذلك ما يراه أحمد أمين يصلح ـ كلا أو بعضا ـ سببا للبيعة ..

آراء أحمد أمين في الميزان :

ونحن بدورنا ، وإن كنا نعتقد أن فيما قدمناه ، وما سيأتي كفاية في تفنيد هذه المزاعم واسقاطها ، إلا أننا نرى لزاما علينا أن نشير بايجاز إلى بعض ما يشير إلى ضعفها ووهنها ، معتمدين في بقية ما يرد عليها على ذكاء القارئ ، وتنبهه ، ووعيه .. فنقول :

__________________

(١) ضحى الاسلام ج ٣ ص ٢٩٥.

٢٥٥

أما ما ذكر أولا : فقد كفانا هو نفسه مؤونة الكلام فيه ، حيث قد اعترف بأن المأمون لو كان يرمي إليه لكان في منتهى السطحية والسذاجة ..

وأما ما جعله سببا ثانيا : فلعله لا يقل عن سابقه في الضعف والوهن ، ولا سيما بملاحظة ما قدمناه في الفصلين السابقين ، من الظروف التي كان المأمون يعاني منها ، وأيضا ملاحظة ما سيأتي من سلوك المأمون المشبوه ، مع الإمام (ع) ، ومعاملته السيئة للعلويين ، وكل من يتشيع لهم ، ويتعاطف معهم .. وعلى الأخص إذا لاحظنا : أن المأمون لم تكن عقيدته هي المنطلق له في مواقفه السياسية ، بل كان ينطلق مما يراه يخدم مصالحه الخاصة ، ويؤكد وجوده في الحكم ، وقد قدمنا أنه كان تارة يتحرج من تنقص الحجاج بن يوسف ، وتارة يصف الصحابة ، ما عدا الإمام علي (ع) بـ « الملحدين » ، ويصف الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بـ « جعل » ، إلى آخر ما هنالك من الشواهد والأدلة ، مما لا نرى ضرورة لاعادته.

ولعل الأهم من ذلك كله : أن تفضيل المعتزلة ـ معتزلة بغداد ـ عليا (ع) على جميع الصحابة ، لم يكن واضحا بعد في تلك الفترة ، وإنما بدأه بشر بن المعتمر حسبما سيأتي بيانه في فصل خطة الإمام .. وعليه فهذا الوجه لا يستقيم ، على جميع الوجوه والتقادير.

وأما ما جعله سببا ثالثا ؛ فسيأتي الكلام عليه بنوع من التفصيل ..

ولكننا نستغرب منه جدا ، بل ونأسف كل الأسف ، لما طلع به علينا ؛ بما جعله سببا رابعا : من أن عدم تولي الأئمة للحكم يكسبهم شيئا من التقديس ؛ فأراد أن يولي الإمام الرضا العهد ؛ ليزول عنهم ذلك التقديس ـ وقد أشرنا سابقا إلى أنه استوحى هذه الفكرة من ابن القفطي في تاريخ الحكماء ..

٢٥٦

وليس واضحا تماما من هم « الأئمة » ، الذين يقصدهم أحمد أمين في عبارته تلك. وإذا ما كان يقصد الأئمة الاثني عشر ، حيث إنه في معرض الحديث عن أحدهم ، وهو الإمام الرضا .. بل أعلن ذلك صراحة في عبارته الاخرى ، التي أوردها في كتابه : « المهدي والمهدوية » ـ إذا كان كذلك ـ ، فاننا نرى : أن لنا كل الحق في أن نتساءل :

هل عثر أحمد أمين لهؤلاء الأئمة ، أو لواحد منهم على ما يتنافى مع التقديس ، على مدى تاريخهم الطويل؟!

وهل يستطيع أن يثبت عليهم أدنى شيء يمس كرامتهم ، ويتنافى مع مروءتهم ، ويخالف دينهم ورسالتهم؟! ..

ولماذا تظهر تفاهات غيرهم ، وأخطاؤهم ، رغم اجتهادهم وتفانيهم في سترها ، واخفائها .. ولا تظهر أخطاء هؤلاء الأئمة ، رغم اجتهاد الناس في الافتراء عليهم ، والتعرف على أية نقيصة أو خطاء منهم إن كان؟!!.

ومتى كان هؤلاء الأئمة مستورين عن الناس ، منفصلين عنهم ، حتى استطاعوا أن يحصلوا على هذا التقديس؟!!.

وهل كل شخصية لا تصل إلى الحكم يقدسها الناس؟!!.

وهل كل شخصية تصل إلى الحكم لا يقدسها الناس؟!!.

وهل التقديس مقصور على الشخصية المستورة ، ولاحظ للشخصية الظاهرة منه؟!!.

وهل أثر وصول الإمام علي (ع) للحكم طيلة أكثر من أربعة أعوام على تقديس الناس له؟!.

٢٥٧

وهل يستطيع أحمد أمين أن يذكر لنا خطأ واحدا ، ارتكبه الإمام علي (ع) ، طيلة فترة حكمه؟! رغم أن معاوية وسواه ، ممن كانوا معادين للإمام (ع) ، ما كانوا يألون جهدا في الصاق التهم به ، والافتراء عليه؟!!.

وأما عن الإمام الرضا (ع) :

فمتى كان مستورا عن الناس ، بعيدا عنهم؟!!.

وهل تتفق دعواه باستتار الأئمة ـ والرضا منهم ـ عن الناس ، مع ما اعترف به المأمون نفسه للإمام الرضا (ع) ، فيما كتبه بخط يده في وثيقة العهد ، حيث يقول : « .. وقد استبان له [ أي للمأمون ] ما لم تزل الأخبار عليه متواطية ، والألسن عليه متفقة ، والكلمة فيه جامعة ، ولما لم يزل يعرفه به من الفضل : يافعا ، وناشئا ، وحدثا ، ومكتهلا الخ .. ».

فهل يعقل : أن إنسانا من هذا النوع يكون مستترا عن الناس ، بعيدا عنهم ، ولا يعيش فيما بينهم ، منذ حداثة سنه إلى أوان اكتهاله؟!.

ومع ذلك .. فأي خطأ يستطيع أحمد أمين ، أن يسجله على الإمام الرضا (ع) طيلة الفترة التي عاشها مع المأمون ، رغم محاولاته الجادة ـ وهو الحاكم المطلق ـ من أجل أن يضع من الامام (ع) قليلا قليلا ، ويصوّره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ، على حد تعبير نفس المأمون؟!.

وهل لم يقرأ أحمد أمين أقوال كبار علماء أهل السنة ، وأئمتهم ، وتصريحاتهم الكثيرة جدا حول أئمة أهل البيت (ع) ، والإمام الرضا منهم بالذات ؛ ليعرف مقدار عظمتهم ، وطهارتهم ، ونزاهتهم التي لا يشك ، ولا يرتاب ، ولا يناقش فيها أحد؟! ..

٢٥٨

وأخيرا .. هل زال ذلك التقديس عن الإمام الرضا ، عند ما ظهر للناس؟! أم أن الأمر كان على عكس ذلك تماما؟!! ..

هذه بعض الأسئلة التي نوجهها للاستاذ : « أحمد أمين » ، ولكل من يرى رأيه ، ويذهب مذهبه .. وإننا لعلى يقين من أنها سوف لن تجد لدى هؤلاء الجواب المقنع والمفيد .. وإنما ستواجه عنتا وعنادا صاعقين ، يبتزان منهم كل غريبة ، ويظهران الكثير الكثير من الترهات العجيبة .. ولكن ليطمئن بالهم ، وتهدأ ثائرتهم ؛ فإننا سوف لن نستغرب عليهم مثل هذه الترهات ، ولن نعجب لمثل تلك الافتراءات ؛ فما تلك إلا : « شنشنة أعرفها من أخزم » ..

رأي غريب آخر في البيعة :

هذا .. ويرى بعض المؤلفين : أن المأمون كان في بيعته للرضا (ع) واقعا تحت تأثير القوات المسلحة ، وأنها هي التي أجبرته على ذلك ، حيث كان القسم الكبير من قوادها ، وزعماء فرقها يميلون إلى العلويين ، وقد شرطوا عليه : أنهم لا يفتحون نار الحرب ضد الأمين إلا إذا جعل الرضا ولي عهده ؛ فأجابهم إلى ذلك (١) ..

وأقول : ليت هذا المؤلف ذكر لنا اسم ذلك المؤرخ ، الذي نقل له هذا الاشتراط من أولئك القواد على المأمون ، والذي تنافيه تصريحات المأمون نفسه ، وسلوكه مع الإمام (ع) ، حتى قبل أن يصل إلى مرو ، وكذلك سائر مواقفه معه ، والتي تكشف عن حقيقة دوافعه ونواياه إلى آخر ما هنالك مما قدمنا وسيأتي شطر منه.

__________________

(١) هذا ما ذكره الشيخ القرشي في كتابه : حياة الامام موسى بن جعفر ج ٢ ص ٣٨٧.

٢٥٩

وأحسب أن هذا المؤلف يشير بما ذكره هنا إلى ما ذكره جرجي زيدان في روايته : « الأمين والمأمون » ص ٢٠٣ ، طبع دار الاندلس ، فقد ذكر أن الفضل بن سهل قد اشترط على المأمون ذلك. واحتمل ذلك أيضا في كتابه : تاريخ التمدن الإسلامي ، المجلد الثاني جزء ٤ ص ٤٣٩. وكأن مؤلفنا يريد أن يقول : إن المأمون كان مضطرا إلى إجابتهم : إما خوفا من انتقاضهم عليه ، أو رغبة في القضاء على أخيه الأمين ، أو للسببين معا .. ولكن هذا الاشتراط كما قلنا ، ليس له أي سند تاريخي يدعمه ، بل الشواهد التاريخية كلها على خلافه ، سيما ونحن نرى الفضل بن سهل وأخاه يمانعان في عقد البيعة للرضا. وما ذكره « زيدان » ، لا يصلح شاهدا تاريخيا ، بعد أن كان روائيا ، لا يلتزم بالحقائق التاريخية .. وبعد أن لاحظنا : أنه يتعمد التضليل في كتابه : تاريخ التمدن الإسلامي ..

وأحسب أن هذا هو عين الاتهام الموجه للفضل بن سهل في أمر البيعة ؛ بأنه هو المدبر لها ، والقائم بها. لكنه صيغ بنحو آخر فيه الكثير من الايهام والابهام ..

وفريق آخر يرى :

وهناك بعض الباحثين يرى : أن من جملة الأسباب الهامة للبيعة : هو أن المأمون أراد أن يحذر العباسيين من مغبة المخالفة له ، والاستمرار في ذلك. وأن يرغمهم ، ويدفعهم إلى الوقوف إلى جانبه ؛ بدافع من خوفهم من انتقال الخلافة عنهم إلى خصومهم العلويين. وأن ينتقم منهم بسبب خلعهم له من ولاية العهد ، وتأييدهم أخاه الأمين عليه ، وتشجيعهم له

٢٦٠