الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢

لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا ، واتساع نفوذهم ، وعلى أن شخصية الرضا (ع) ، كانت قد استقطبت قطاعا واسعا ، إن لم نقل : أنه القطاع الأكبر من الامة الاسلامية ، في طول البلاد وعرضها ، في تلك الفترة من الزمن ، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك ، فلا نعيد.

الهدف الخامس :

هذا .. ونستطيع أن نقول أيضا : إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه ، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم. ولقد كان الحكم بأمس الحاجة الى شخصية من هذا القبيل .. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين ، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي ، طلبا للشهرة ، وطمعا بالمال ، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم .. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الاخرى ، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم ، عند ما رأوا ضعف الدولة ، وتمزقها ، وتفرقها الى جماعات وأحزاب ..

نعم .. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الاكفاء ، والأحرار في تفكيرهم ، وفي نظرتهم الواعية للانسان والحياة ، ولم يعد بحاجة الى المتزلفين ، والجامدين ، والانهزاميين ، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين ، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له ، يشدون من أزرها ، ويقيمون أودها .. ويقرب المعتزلة : كبشر المريسي ، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية ، التي لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الأرض علما وزهدا ، وورعا وفضلا الخ .. كانت منحصرة في الامام الرضا (ع) ، باعتراف من نفس المأمون ، كما قدمنا ، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية اخرى ، مهما بلغت.

٢٢١

الهدف السادس :

ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه ، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات ، قد أتى الامة بمفاجئة مثيرة ، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري ، وما يحدث ، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والامة منها ، وما أكثرها ..

وقد عبر ابراهيم بن المهدي ، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة .. حتى لقد ذهل ـ على حدّ قوله ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فم الصبي!! »

وبعد هذا .. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء ، لإدراك مدى دهشة غيرهم : ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لا حظنا : أنهم كانوا سياسيا أقل وعيا وتجربة من مثل ابراهيم بن المهدي ، الذي عاش في أحضان خلافة. كان بمرأى ومسمع من الأعيب السياسة ، ومكر الرجال ..

الهدف السابع :

هذا .. طبيعي بعد هذا : أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي ، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ : أن جميع تصرفاته ، وأعماله ، لم يكن يهدف من ورائها ، إلا الخير للامة ، ومصلحة المسلمين ، وحتى قتله أخاه ، لم يكن من أجل الحكم ، والرئاسة ، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين ، والمصلحة العامة ، يدل على ذلك : أنه عند ما رأى أن خير الامة ، إنما هو في اخراج الخلافة من بني العباس كلية ، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها ، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عند ما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا باخراجها إلى ألد أعدائهم ،

٢٢٢

سارع إلى ذلك ، بكل رضى نفس ، وطيبة خاطر .. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء ، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به ، ألا وهي : قتله أخاه الأمين ، العزيز على العباسيين والعرب ..

وليكون بذلك ، قد ربط الامة بالخلافة ، وكسب ثقتها فيها ، وشد قلوب الناس ، وأنظارهم إليها ؛ حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل ، وترفع الظلم ، وأن تكون معهم ، وفي خدمتهم ، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير ، ما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص ، ويبغون لها الغوائل ..

ويدل على ذلك ـ عدا عما ورد في وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي ، عامله على المدينة : أن اخطب الناس ، وادعهم إلى بيعة الرضا ؛ فقام خطيبا ؛ فقال :

« يا أيها الناس ، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون ، والعدل الذي كنتم تنتظرون ، والخير الذي كنتم ترجون ، هذا علي بن موسى ، بن جعفر ، بن محمد ، بن علي ؛ بن الحسين ؛ بن علي بن أبي طالب :

ستة آباؤهم ما هم

من أفضل من يشرب صوب الغمام (١)

وقد أكد ذلك بحسن اختياره ؛ إذ قد اختار هذه الشخصية ، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الامة ، ورجاءها ، في حاضرها ، ومستقبلها.

وتكون النتيجة ـ بعد ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل ، وكل عمل يقوم به .. مهما كان غريبا ، ومهما كان غير معقول ؛ فإن على الامة أن تعتبره صحيحا وسليما ،

__________________

(١) العقد الفريد ج ٣ / ٣٩٢ ، طبع مصطفى محمد بمصر سنة ١٩٣٥ و « ما » في البيت زائدة .. ولا يخفى ما في البيت ، وقد أثبتناه ، كما وجدناه.

٢٢٣

لا بد منه ، ولا غنى عنه ، وإن لم تعرف ظروفه ، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها ؛ فان عليها أن تؤوّل ما يقبل التأويل ، وإلا .. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب ، وتتناسى ما تعلم .. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة ، وأن ما أدركته ولو كان حقا ـ لا واقع له ، ولا حقيقة وراءه ويدل على ذلك بشكل واضح ابيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥ / ٣٠٦ ، يقول ابن المعتز :

وأعطاكم المأمون حق خلافة

لنا حقها لكنه جاد بالدنيا

ليعلمكم أن الّتي قد حرصتموا

عليها وغودرتم على اثرها صرعى

يسير عليه فقدها غير مكثر

كما ينبغي للصالحين ذوى التقوى

وعلى كل حال ؛ فإنه يتفرع على ما ذكرناه :

أولا : إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه ؛ فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه ، بسبب معاملة أبيه ، أو أخيه ، وسائر أسلافه لهم ؛ فإن المرء بما كسب هو ، لا بما كسب أهله ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ..

وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد ، وهو قد أرجع الخلافة إليهم ، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا : أنه لا يريد لهم ، ولغيرهم ، إلا الصلاح والخير ..

وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم ، ولا قتله أخاه ، ولا أن يزعجهم ، ويخيفهم تقريبه للايرانيين ، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك .. ما دام أن الخلافة قد عادت إليهم ، على حسب ما يشتهون ، وعلى وفق ما يريدون ..

ومن هنا .. فلا يجب أن نعجب كثيرا ؛ حين نراهم : قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة ، وقلوب رضية .. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير ؛ فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري وابن مسكويه ـ على أن بعضهم وافق ، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني

٢٢٤

العباس ـ رفض. وهذا يدل دلالة واضحة : على أن بغداد ، معقل العباسيين الأول ، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة ..

بل ونص المؤرخون ، على أن : ابراهيم بن المهدي ، المعروف بابن شكلة ، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد : لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد ، والكوفة والسواد (١) ، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهرا عديدة بين أنصار المأمون ، وعليهم الخضرة ، وأنصار العباسيين وعليهم السواد (٢).

وثانيا : وأما الايرانيون عامة ، والخراسانيون خاصة ، والمعروفون بتشيعهم للعلويين ؛ فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له ، وثقتهم به ؛ بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم ، وأغلى أحلامهم ، وأثبت لهم عملا ، حبه لمن يحبون ، وودّه لمن يودّون .. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره ، ولا لعربي على غيره ، وأن الذي يسعى إليه ، هو ـ فقط خير الامة ، ومصلحتها ؛ بجميع فئاتها ، ومختلف طبقاتها ، وأجناسها ..

ملاحظة هامة :

إن من الجدير بالملاحظة هنا : أن الرضا (ع) كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة ١٩٣ ه‍. ، أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد ؛ فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه : ضيافة الإخوان : أن عليا الرضا (ع) كان مستخفيا في قزوين في دار داود بن سليمان الغازي أبي عبد الله ، ولداود نسخة يرويها عن الرضا (ع) ، وأهل قزوين يروونها عن داود ، كاسحاق بن محمد ،

__________________

(١) راجع البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨ ، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه : التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ١٠٥ ـ زاد على ذلك : المدائن أيضا.

(٢) راجع : الكامل لابن الأثير ج ٥ / ١٩٠ ، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨ ، وغير ذلك.

(٣) راجع كتاب : ضيافة الاخوان مخطوط في مكتبة المدرسة الفيضية في قم ، في ترجمة أبي عبد الله القزويني ، وعلي بن مهرويه القزويني.

٢٢٥

وعلي بن مهرويه (٣).

وقال الرافعي في التدوين : « وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال : إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي ، روى عنه النسخة المعروفة ، وروى عنه اسحاق بن محمد ، وعلي بن مهرويه ، وغيرهما.

قال الخليل : وابنه المدفون في مقبرة قزوين ، يقال : إنه كان ابن سنتين ، أو أصغر .. » (١) انتهى كلام الرافعي.

والمراد بالخليل في كلامه ، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي ، القزويني ، وهو الحافظ المشهور ، مصنف كتاب الارشاد ، وكتاب تاريخ قزوين ، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية ، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه‍.

الهدف الثامن :

لقد كان من نتائج اختياره الإمام ، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ : أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والامصار. ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا ، سوى ثورة عبد الرحمن بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط : ظلم الولاة وجورهم ، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه ..

بل لا بد لنا أن نضيف الى ذلك :

أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم .. بل لقد حصل على ثقة

__________________

(١) التدوين قسم ٢ ورقة ٢٣٥ مخطوط في مكتبة ( دفتر تبليغات اسلامي ) في قم ، في ترجمة علي الرضا ..

٢٢٦

الكثيرين منهم ، ومن والاهم ، وشايعهم ، والخراسانيون منهم ، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته ، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى ؛ حيث يقول :

« .. ما ظننت أحدا من آل أبي طالب يخافني ؛ بعد ما عملته بالرضا » والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب .. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته ، التي أشرنا إليها غير مرة ، يقول لهم : إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم ، ويذود عنهم ؛ باستدامة المودة بينهم ، وبين العلويين ..

ب : بل ونزيد هنا على ما تقدم : أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه ، وهم قسم كبير جدا ، بل لقد بايعه اكثر المسلمين ، ودانوا له بالطاعة ، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته ، حسبما قدمناه ..

وهذه دون شك هي إحدى امنيات المأمون ، بل هي أجل امنياته وأغلاها.

ج : قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت :

« .. هذا منجم مأموني ، كبير القدر في صناعته ، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له ، بعد الاختبار ..

وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين ، علي بن أبي طالب متخشّين ، متخفين ، من خوف المنصور ، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء ؛ فظنوا ما يظنونه بالانبياء ، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة ، من التغالي ..

فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل ..

٢٢٧

ثم فكر : أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به ؛ فنظر نظرا دقيقا ، وقال : لو ظهروا للناس ، ورأوا فسق الفاسق منهم ، وظلم الظالم ، لسقطوا من أعينهم ، ولا نقلب شكرهم لهم ذما ..

ثم قال : إذا أمرناهم بالظهور خافوا ، واستتروا ، وظنوا بنا سوءا ، وإنما الرأي : أن نقدم أحدهم ، ويظهر لهم إماما ، فإذا رأوا هذا أنسوا ، وظهروا ، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين ؛ فيحقق للعوام حالهم ، وما هم عليه ، مما خفي بالاختفاء ؛ فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته ، ورددت الأمر إلى حالته الاولى ..

وقوي هذا الرأي عنده ، وكتم باطنه عن خواصه .. وأظهر للفضل ابن سهل : أنه يريد أن يقيم إماما من آل أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه.

وفكر هو وهو ، فيمن يصلح ، فوقع إجماعهما على الرضا ؛ فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك ، وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر.

وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا ؛ فاختار طالع السرطان ، وفيه المشتري الخ » (١).

ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختيار المأمون ؛ فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت ؛ فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات ، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ ..

وابن القفطي هنا ، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضا (ع) من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس ، ولكنه يوجه نظره إلى بقية

__________________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢١ ، ٢٢٢.

٢٢٨

العلويين في ذلك .. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون ، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالا ـ على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس ، وأنهم كانوا أكثر تدينا والتزاما من أي فئة اخرى على الإطلاق ..

هذا .. ولسوف نرى أن أحمد أمين المصري يأخذ برأي ابن القفطي هذا. لكنه ينظر فيه إلى خصوص أئمة أهل البيت (ع) ، كما سيأتي بيانه ، وبيان مدى خطله وفساده في الفصل التالي. وفيه دلالة على أن الفضل كان مخدوعا ، وعلى أن المأمون لم يكن مخلصا فيما اقدم عليه ..

د ـ : إنه لا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن اكثر ثورات العلويين ، التي قامت ضد المأمون ـ قبل البيعة للرضا (ع) طبعا ـ كانت من بني الحسن ، وبالتحديد من أولئك الذين يتخذون نحلة الزيدية ؛ فأراد المأمون أن يقف في وجههم ، ويقضي عليهم ، وعلى نحلتهم تلك نهائيا ، وإلى الأبد ؛ فأقدم على ما أقدم عليه من البيعة للرضا (ع) بولاية العهد ..

هذا .. وقد كانت نحلة الزيدية هذه ـ شائعة في تلك الفترة ، وكانت تزداد قوة يوما عن يوم ، وكان للقائمين بها نفوذ واسع ، وكلمة مسموعة ، حتى إن المهدي قد استوزر يعقوب بن داود ، وهو زيدي ، وآخاه ، وفوضه جميع امور الخلافة (١).

وعلى حد تعبير الشبراوي : « .. فولاه الوزارة ، وصارت الأوامر كلها بيديه ؛ واستقل يعقوب حتى حسده جميع أقرانه .. » (٢).

__________________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٤٧ ، وغيره من كتب التاريخ ؛ فراجع فصل : مصدر الخطر على العباسيين.

(٢) الاتحاف بحب الأشراف ص ١١٢.

٢٢٩

بل كان « لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل ؛ فيجوز ، حتى يكتب يعقوب إلى أمينه وثقته بانفاذه .. » (١).

وقد بلغ من نفوذ يعقوب هذا .. أن قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة ، التي قدمناها ، والتي يقول فيها : « إن الخليفة يعقوب ابن داود ».

وقد سعي بيعقوب هذا إلى المهدي : وقيل له : « .. إن الشرق والغرب في يد يعقوب ، وأصحابه ؛ وإنما يكفيه أن يكتب إليهم ؛ فيثوروا في يوم واحد ؛ فيأخذوا الدنيا .. » (٢).

وذلك لأنه قد : « أرسل يعقوب هذا إلى الزيدية ، وأتى بهم من كل أوب ، وولاهم من امور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل ، وعمل نفيس ، والدنيا كلها في يديه .. » (٣).

وإذا ما عرفنا أن معاوني يعقوب إنما كانوا هم : متفقهة الكوفة ، والبصرة ، وأهل الشام (٤) .. فإننا نعرف أن الاتجاه الزيدي سوف يؤثر كثيرا ، وكثيرا جدا على الثقافة العامة ، والاتجاهات الفكرية في ذلك العصر ـ كما حدث ذلك فعلا .. حتى لقد صرح ابن النديم بأن : « أكثر علماء المحدثين إلا قليلا منهم ، وكذلك قوم من الفقهاء ، مثل : سفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة كانوا من الشيعة الزيدية .. » (٥).

وقد صرح المؤرخون أيضا : بأن أصحاب الحديث جميعهم ، قد

__________________

(١) الطبري ج ١٠ / ٤٨٦ ، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٠ ، ومرآة الجنان ج ١ / ٤١٨.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦ ، ٦٧.

(٣) الطبري ج ١٠ / ٥٠٨ ، طبع ليدن ، والوزراء والكتاب للجهشياري ص ١٥٨ ، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦.

(٤) الطبري ، طبع ليدن ج ١٠ / ٤٨٦.

(٥) الفهرست لابن النديم ص ٢٥٣.

٢٣٠

خرجوا مع ابراهيم بن عبد الله بن الحسن ، أو أفتوا بالخروج معه (١).

وعلى كل حال .. فإن ما يهمنا بيانه هنا : هو أن المأمون كان يريد

__________________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٣٧٧ ، وغيرها من الصفحات ، وغيرها من الكتب .. ويرى بعض أهل التحقيق : أن المقصود هو جميع أصحاب الحديث في الكوفة .. ولكن الظاهر أن المراد : الجميع مطلقا ، كما يظهر من مراجعة مقاتل الطالبيين وغيره ..

والأمر الذي تجدر الإشارة إليه هنا : هو أن فرقة من الزيدية ، وفرقة من أصحاب الحديث ، قد قالوا بالإمامة على النحو الذي يقول به الشيعة الإمامية ، عند ما جعل المأمون « الرضا عليه‌السلام » وليا لعهده. لكنهم بعد وفاة الرضا عليه‌السلام رجعوا عن ذلك : قال النوبختي في فرق الشيعة ص ٨٦ :

« .. وفرقة منهم تسمى « المحدثة » كانوا من أهل الارجاء ، وأصحاب الحديث ، فدخلوا في القول بامامة موسى بن جعفر ، وبعده بامامة علي بن موسى ، وصاروا شيعة ؛ رغبة في الدنيا وتصنعا. فلما توفي علي بن موسى عليه‌السلام رجعوا إلى ما كانوا عليه .. وفرقة كانت من الزيدية الأقوياء ، والبصراء ، فدخلوا في إمامة علي بن موسى (ع) ، عند ما أظهر المأمون فضله ، وعقد بيعته ؛ تصنعا للدنيا ، واستكانوا الناس بذلك دهرا. فلما توفي علي بن موسى (ع) رجعوا إلى قومهم من الزيدية .. »

وقد تقدم قول الشيبي : إنه قد التف حول الرضا (ع) « المرجئة ، وأهل الحديث ، والزيدية ، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته .. » وغير ذلك ..

والذي نريد أن نقوله هنا هو : أن « الارجاء دين الملوك » ، على حد تعبير المأمون ( على ما نقله عنه في ضحى الاسلام ج ٣ / ٣٢٦ ) ، نقلا عن طيفور في تاريخ بغداد .. وفي البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٧٦ : أن المأمون قال للنضر بن شميل : ما الارجاء؟. قال : « دين يوافق الملوك ، يصيبون به من دنياهم ، وينقصون به من دينهم » قال : صدقت الخ .. وليراجع كتاب بغداد ص ٥١.

وعمدة القول بالارجاء ( القديم ) هو : المغالاة في الشيخين ، والتوقف في الصهرين ؛ فالارجاء والتشيع ، وخصوصا القول بامامة موسى بن جعفر ، وولده علي الرضا على طرفي نقيض ومن هنا كانت المساجلة الشعرية بين المأمون المظهر لحب علي وولده ، وابن شكلة المرجي ، يقول المأمون معرضا بابن شكلة :

إذا المرجي سرك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فجدد عنده ذكرى علي

وصل على النبي وآل بيته

٢٣١

__________________

أما ابن شكلة فيقول معرضا بالمأمون :

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرك أن يبوح بذات نفسه

فصل على النبي وصاحبيه

وزيريه وجاريه برمسه

راجع : مروج الذهب ج ٣ / ٤١٧ ، والكنى والألقاب ج ١ / ٣٣١.

وبعد هذا .. فانه لمن غرائب الامور حقا ، الانتقال دفعة واحدة من القول بالارجاء إلى التشيع ، بل الى الرفض ( وهو الغلو في التشيع حسب مصطلحهم ، والذي يتمثل بالقول بامامة الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام ). وأغرب من ذلك العودة إلى الارجاء بعد موت علي الرضا عليه‌السلام ..

وهذا ان دل على شيء ؛ فانما يدل على مدى تأثير السياسة والمال في هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم ـ بادعائهم ـ مسئولية الحفاظ على الدين والذود عن العقيدة ؛ فانهم كانوا في غاية الانحطاط الديني ، يتلونون ـ طمعا بالمال والشهرة ـ ألوانا ؛ حتى إن ذلك يحملهم على القول بعقيدة ، ثم القول بضدها ، ثم الرجوع الى المقالة الاولى ، إذا رأوا أن الحاكم يرغب في ذلك ، ويميل إليه ، ولهذا سموا بـ « الحشوية » يعني : أتباع وحشو الملوك ، وأذناب كل من غلب ، ويقال لهم أيضا ( وهم في الحقيقة أهل الحديث ) : « الحشوية ، والنابتة ، والغثاء ، والغثر .. » على ما في كتاب : تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ٨٠. وراجع أيضا فرق الشيعة ، ورسالة الجاحظ في بني أميّة ، وغير ذلك ..

بل لقد أطلق عليهم المأمون نفسه لفظ « الحشوية » في مناقشته المشهورة للفقهاء والعلماء المذكورة في العقد الفريد والبحار ، وعيون أخبار الرضا وغير ذلك ..

وقال عنهم الزمخشري في مقام استعراضه للمذاهب والنحل ، ومعتنقيها :

وإن قلت من أهل الحديث وحزبه

يقولون تيس ليس يدري ويفهم

ويقابل كلمة « الحشوية » كلمة « الرافضة » التي شاع اطلاقها على الشيعة الإمامية. ومعناها في الأصل : جند تركوا قائدهم ؛ فحيث إن الشيعة لم يكونوا قائلين بامامة أولئك المتغلبين ، سموهم بـ « الرافضة » ؛ ولذا جاء في تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٦١ : أن معاوية كتب إلى عمرو بن العاص :

٢٣٢

__________________

« أما بعد .. فانه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك ؛ فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة الخ .. ». ومثل ذلك ما في وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٤. فالمراد بكلمة رافضة هنا هو ذلك المعنى اللغوي الذي أشرنا إليه ؛ فسمي الشيعة بالرافضة ؛ لأنهم ـ كما قلنا ـ رفضوا الانقياد لأولئك الحكام المتغلبين .. يقول السيد الحميري على ما جاء في ديوانه وغيره ـ يهجو بعض من اتهمه بالرفض ليقتله المنصور :

أبوك ابن سارق عنز النبي

وأمك بنت أبي جحدر

ونحن على رغمك الرافضو

ن لأهل الضلالة والمنكر

ولكن قد جاء في الطبري ، مطبعة الاستقامة ج ٦ ص ٤٩٨ ، والبداية والنهاية ج ٩ ص ٣٣٠ ، ومقدمة ابن خلدون ص ١٩٨ ، ومقالات الاسلاميين ج ١ ص ١٣٠ ، وغاية الاختصار ص ١٣٤ : أن سبب تسمية الشيعة بـ « الرافضة » هو أنهم عند ما تركوا نصرة زيد بن علي في سنة ١٢٢ ه‍. قال لهم زيد : رفضتموني ، رفضكم الله. وهذا كذب راج على بعض الشيعة أيضا حيث ذكروا وذكر الطبري في نفس الصفحة المشار إليها آنفا : أن التسمية كانت من المغيرة بن سعيد ، لما رفضته الشيعة .. وكانت قضيته سنة ١١٩ ه‍.

ولكن الحقيقة هي أن التسمية بالرافضة كانت قبل سنتي ١٢٢ ه‍. و ١١٩ ه‍. فقد جاء في المحاسن للبرقي ص ١١٩ طبع النجف ، باب الرافضة : أن الشيعة كانوا يشكون إلى الباقر المتوفى سنة ١١٤ أن الولاة قد استحلوا دماءهم وأموالهم باسم : « الرافضة » الخ .. وجاء في ميزان الاعتدال طبع سنة ١٩٦٣ م. ج ٢ ص ٥٨٤ بعد ذكره لاسناد طويل أن الشعبي المتوفى سنة ١٠٤ ه‍. قال لأحدهم : « ائتني بشيعي صغير ، اخرج لك منه رافضيا كبيرا » ..

وفي كتاب : روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار ص ٤٠ ، أن الشعبي قال : « أحبب آل محمد ولا تكن رافضيا ، وأثبت وعيد الله ، ولا تكن مرجئيا .. ». بل لدينا ما يدل على أن تسمية الشيعة بـ « الرافضة » كان قبل سنة المائة ؛ فقد جاء في المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٢١٢ ، طبع دار صادر وأمالي السيد المرتضى ج ١ ص ٦٨ هامش : أنه لما أنشد الفرزدق أبياته المشهورة في الامام زين العابدين ، المتوفى سنة ٩٥ ه‍ قال عبد الملك بن مروان المتوفى سنة ٨٦ ه‍ للفرزدق : « أرافضي أنت يا فرزدق؟! ». وعلى كل حال : فان ذلك كله قد كان قبل قضيتي زيد والمغيرة ابن سعيد بزمان بعيد ..

٢٣٣

أن يقضي على الزيدية ، ويكسر شوكتهم بالبيعة للامام الرضا (ع) بولاية العهد ؛ ولهذا نرى أنه قد طبق اللقب ، الذي طالما دعا إليه الزيدية ، واعترف به العباسيون ، بل ودعوا إليه في بدء دعوتهم ودولتهم ، ألا وهو لقب : « الرضا من آل محمد » ، طبقه على علي ابن موسى (ع) ؛ فسماه : « الرضا من آل محمد » (١). فأصبحت بذلك حجته قوية على الزيدية ، بل لم يعد لهم حجة أصلا. وأصبح يستطيع أن ينام قرير العين ، إذ قد أصبح « الرضا من آل محمد » موجودا ، فالدعوة إلى غيره ستكون لا معنى لها البتة. ولسوف تكون مرفوضة من الناس جملة وتفصيلا. وكان ذلك بطبيعة الحال السبب الرئيسي في إضعاف الزيدية ، وكسر شوكتهم ، وشلّ حركتهم ..

والذي ساهم إلى حد كبير في اضعافهم ، وشل حركتهم ، هو اختياره الإمام (ع) بالذات ، حيث إنه الرجل الذي لا يمكن لأحد كائنا من كان أن ينكر فضله ، وعلمه ، وتقواه ، وسائر صفاته ومزاياه ، التي لم تكن لأحد في زمانه على الاطلاق ، فليس لهم بعد طريق للاعتراض عليه : بأن الذي اختاره لولاية عهده ، والخلافة من بعده ، ليس أهلا

__________________

(١) راجع : الفخري في الآداب السلطانية ، ص ٢١٧ ، وضحى الاسلام ج ٣ ص ٢٩٤ ، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٧ ، والطبري ، وابن الأثير ، والقلقشندي ، وأبو الفرج ، والمفيد وكل من تعرض من المؤرخين لولاية العهد .. بل لقد صرح نفس المأمون بذلك في وثيقة ولاية العهد ، وهذا يكفي في المقام .. ولقد قال دعبل :

أيا عجبا منهم يسمونك الرضا

ويلقاك منهم كلحة وغضون

وهناك نصوص اخرى مفادها : أنه سمي الرضا ؛ لرضا أعدائه ، وأوليائه به. وعزا الشيبي في كتابه : الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٣٨ : ـ عزا ـ رضا أعدائه به إلى قوة شخصيته عليه‌السلام .. أما نحن فنقول : إنه ليس من اليسير أبدا ، أن تنال شخصية رضا كل أحد ، حتى أعدائها .. اللهم إلا إذا كان هناك سر إلهي ، اختصت به تلك الشخصية ، دون غيرها من سائر بني الانسان ..

٢٣٤

لما أهّله له. ولو أنهم ادعوا ذلك لما صدقهم أحد ، ولكانت الدائرة حينئذ في ذلك عليهم ، والخسران لهم دون غيرهم.

فذلكة لا بد منها :

هذا .. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أن المأمون ، لم يخترع اسلوبا جديدا للتصدي للزيدية ، والحد من نفوذهم ، وكسر شوكتهم : ببيعته للرضا (ع) ؛ إذ أنه كان قد استوحى هذه الفكرة من سلفه المهدي ، الذي كان قد استوزر يعقوب بن داود الزيدي ، ليحد من نشاط الزيدية ، ويكسر شوكتهم. وكان قد نجح في ذلك إلى حد ما : إذ لا يحدثنا التاريخ عن تحركات زيدية خطيرة ضد المهدي ، بعد استيزاره ليعقوب ، وتقريبه للزيدية ، كتلك الأحداث التي حدثت ضد المنصور ، وخصوصا ثورة محمد وابراهيم ابني عبد الله ..

كما يلاحظ أن تقريب العباسيين للزيدية في عصر المهدي ، وتسليطهم على شئون الدولة وإداراتها ، لم يؤثر في الوضع العام أثرا يخشاه العباسيون ، وذلك بلا شك مما يشجع المأمون على الاقدام على ما كان قد عقد العزم عليه ، بجنان ثابت وإرادة راسخة ..

يضاف إلى ذلك : أن سهولة إبعاد العباسيين لهم عن مراكز القوة ، ومناصب الحكم على يد المهدي نفسه ، الذي نكب يعقوب بن داود ، الوزير الزيدي ، حيث لم تصاحبه ردة فعل ، ولا نتج عنه أية حادثة تذكر ضد العباسيين ، لا حقيرة ، ولا خطيرة .. هو الذي شجع المأمون على أن يستوحي نفس الفكرة ، ويلعب نفس اللعبة ، ويتبع نفس طريقة المهدي. في مواجهتهم ، وكسر شوكتهم ، بالبيعة للرضا (ع) بولاية العهد بعده.

٢٣٥

وعلى كل حال ، فان هذا اسلوب قديم اتبعه العباسيون في دعوتهم الاولى أيضا ، حيث بايعوا للعلويين ، وأظهروا أن الدعوة لهم وباسمهم .. ثم كانت النتيجة هي ما يعلمه كل أحد ، حيث انقلبوا عليهم يوسعونهم قتلا وعسفا ، وتشريدا عند ما خافوهم ، ولم يعودوا بحاجة إليهم ..

هـ ـ : أضف إلى ما تقدم أن المأمون كان يعلم قبل أي شخص آخر بطبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين الأئمة (ع) ، وبين الزيدية ، حيث إنها كانت على درجة من السوء والتدهور. وكان عدم التفاهم ، والانسجام فيما بينهم واضحا للعيان .. حتى لقد شكى الائمة (ع) منهم ، وصرحوا : بأن الناس قد نصبوا العداوة لشيعتهم ، أما الزيدية فقد نصبوا العداوة لهم أنفسهم (١) ، وفي الكافي رواية مفادها : إنه (ع) قال إنهم قبل أن يصلوا إلى الحكم كانوا لا يطيعونهم فكيف تكون حالهم معهم لو أنهم وصلوا إلى الحكم وتبوعوا كرسي الرئاسة.

__________________

(١) راجع : الوافي للفيض ج ١ ص ١٤٣ ، باب : الناصب ومجالسته ..

هذا .. ولا يمنع ذلك ما ورد عنهم عليه‌السلام من أن خروج الزيدية وغيرهم على الحكام يدرءوا به عنهم ، وعن شيعتهم : فقد جاء في السرائر قسم المستطرفات ص ٤٧٦ أنه : « ذكر بين يدي أبي عبد الله من خرج من آل محمد (ص) ؛ فقال عليه‌السلام : لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد إلخ .. ». وذلك لأن اصطدامهم مع الحكام كان يصرف أنظار الحكام إليهم ، ويفسح المجال أمام أهل البيت وشيعتهم إلى حد ما. ولم يكن هناك مجال لاتهام الأئمة وشيعتهم بالتواطؤ معهم ، مع ما كان يراه الحكام من عدم الانسجام الظاهر بين الأئمة وبين الزيدية ، وغيرهم من الثائرين وسلبية كل فريق منهما تجاه الآخر ..

وأخيرا .. فلا بد لنا هنا من الاشارة إلى أن ثورات العلويين ، سواء على الحكم الاموي ، أو الحكم العباسي ، قد ساهمت في أن يبقى حق العلويين في الحكم محتفظا بقوته وحيويته في ضمير الامة ، ووجدانها. ولم تؤثر عليه حملات القمع والتضليل ، التي كان الحكم القائم آنذاك يمارسها ضدهم ، وضد هذا الحق الثابت لأهل البيت عليهم‌السلام بالنص.

٢٣٦

وقد رأينا : أن عبد الله بن الحسن ، عند ما جاء يعرض على الإمام الصادق (ع) كتاب أبي سلمة ، الذي يدعوه فيه للقدوم إلى الكوفة ، لتكون الدعوة له ، وباسمه ؛ فنهاه الإمام (ع) عن ذلك ـ رأيناه ـ ينازع الإمام الصادق الكلام ؛ حتى قال له :

« والله ، ما يمنعك من ذلك الا الحسد إلخ .. » وقد انصرف عبد الله آخر الأمر مغضبا (١).

ورأينا أيضا أنه في موقف آخر له مع الإمام الصادق (ع) يتهمه بنفس هذه التهمة ، ويصمه بعين هذه الوصمة ، وذلك عند ما أرادوا البيعة لولده محمد ، وأبدى الإمام (ع) رأيه في ذلك .. ذلك الرأي الذي كشفت الأيام عن صحته وسداده (٢).

بل لقد كان عيسى بن زيد يقول لمحمد بن عبد الله : « .. من خالفك من آل أبي طالب ، فأمكني أضرب عنقه .. » (٣) وقد تجرأ عيسى هذا أيضا على الإمام الصادق بكلام لا نحب ذكره ..

وأما موقف محمد بن عبد الله نفسه مع الإمام الصادق (ع) ، فأشهر من أن يذكر ، حيث إنه سجن الإمام (ع) ، واستصفى أمواله ، وأسمعه كلاما قاسيا ، لا يليق بمقام الإمام وسنه (٤).

__________________

(١) راجع : مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٤ ، ٣٥٥ ، وغيره من المصادر.

(٢) الصواعق المحرقة ص ١٢١ ، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٣٢ ، ٣٦١ ، ومقاتل الطالبيين ص ٢٥٥ ، ٢٥٦ ، ٢٧٠ ، وغير ذلك .. وفي هذا الأخير : أن عبد الله ابن الحسن لم يرض باستدعاء الامام ، ولا وافق عليه ، عند ما أرادوا البيعة لولده محمد ، وبعد أن أقنعوه ، وحضر الامام ، جرى بينهما ما جرى ..

(٣) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠.

(٤) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠ ، وج ٨ ص ٢٤٢ ، ٢٤٣ ، والبحار ج ٤٧ ص ٢٨٤ ، ٢٥٨.

٢٣٧

إلى آخر ما هنالك مما يدل على كرههم ، وحقدهم على الائمة (ع) ، أو بالاخرى حسدهم لهم ..

والمأمون .. كان يعلم بذلك كله ، ويدركه كل الإدراك ، ولهذا فإننا لا نستبعد أنه ـ وهو الداهية الدهياء ـ قد أراد أيضا في جملة ما أراد : أن يوقع الفتنة بين آل علي أنفسهم. أي : بين الأئمة ، والمتشيعين لهم ، وبين الزيدية ، ويقف هو في موقف المتفرج المتربص ، حتى إذا أضعف كل واحد من الفريقين الفريق الآخر ، ولم يعد فيهما بقية .. انقض هو عليهما ، وقضى عليهما بأهون سبيل ..

بل إن بعض الباحثين يرى : أنه أراد من لعبته هذه : « .. ضربا للثائرين العلويين من إخوة علي بن موسى بأخيهم (١) .. ».

ولو اننا استبعدنا كل ذلك ، فلا أقل ـ كما قلنا ـ من أن حجته أصبحت قوية على الزيدية ، وعلى كل من يدعو إلى « الرضا من آل محمد » ، ولم يعد يخشى أحدا منهم ، بعد أن أصبح « الرضا من آل محمد موجودا ..

الهدف التاسع :

كما أنه ببيعته للامام الرضا (ع) بولاية العهد ، وقبول الإمام (ع) بذلك .. يكون قد حصل على اعتراف من العلويين ، على أعلى مستوى بشرعية الخلافة العباسية ، ولقد صرح المأمون بأن ذلك كان من جملة أهدافه ، حيث قال : « .. فأردنا أن نجعله ولي عهدنا ، ليكون دعاؤه لنا ، وليعترف بالملك والخلافة لنا .. » وسنتكلم حول تصريحات المأمون

__________________

(١) هو الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه : الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢١٩.

٢٣٨

هذه بنوع من التفصيل في فصل : مع بعض خطط المأمون ، وغيره إن شاء الله تعالى ..

نعود إلى القول : إن تصريح المأمون هذا يعطينا : أن قبول الإمام بأن يكون ولي عهد المأمون ، إنما يعني بالنسبة للمأمون : أن الإمام يكون قد أقر بأن الخلافة ليست له دون غيره ، ولا في العلويين دون غيرهم. وأنه كما يمكن أن يكون هو جديرا بها ، وأهلا لها ، كذلك غيره يمكن أن يكون كذلك .. وليتمكن المأمون بذلك من محاربة العلويين بنفس السلاح الذي بأيديهم ، وليصير ـ من ثم ـ من الصعب استجابة الناس لهم ، إذا دعوا لأية ثورة ضد حكم اعترفوا هم بشرعيته ، وأيدوه ، وتعاونوا معه من قبل ، وعلى أعلى مستوى ومن أعظم شخصية فيهم ..

بل لقد كان يريد أن يحصل من العلويين على اعتراف بأن الحكم حق للعباسيين فقط. أما هم ، فليس لهم فيه أدنى نصيب. وما فعله المأمون ـ من إسناد ولاية العهد لواحد منهم ، ما كان إلا تفضلا وكرما ، ومن أجل أن يجمع شمل البيتين العلوي والعباسي ، وتصفو القلوب ويمحو ما كان من أمر الرشيد وغيره من أسلافه مع العلويين ..

ولقد حاول المأمون أن ينتزع من الإمام اعترافا بأن الخلافة حق للعباسيين ، شفاها أيضا فكانت النتيجة عكس ما أراد المأمون ، وذلك عند ما عرض بالمن على الإمام بأن جعله ولي عهده ، فأجابه الإمام (ع) :

بأن هذا الأمر لم يزده في النعمة شيئا ، وأنه وهو في المدينة كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب.

كما أن المأمون قد قال لحميد بن مهران ، وجمع من العباسيين :

« .. وليعتقد فيه المفتونون به ، بأنه ليس مما ادعى في قليل ، ولا

٢٣٩

كثير ، وأن هذا الأمر لنا دونه .. » ولسوف يأتي الكلام عن هذه التصريحات إن شاء الله كما قلنا ..

وبعد .. فإنه لا يكون من المبالغة في شيء لو قلنا : إن حصول المأمون على اعتراف من العلويين ، ومن الإمام الرضا (ع) خاصة ، بشرعية خلافته ، وخلافة ، بني أبيه أخطر على العلويين من الاسلوب الذي انتهجه أسلافه من أمويين وعباسيين ضدهم ، : من قتلهم ، وتشريدهم ، وسلب أموالهم ، إلى غير ذلك مما هو معروف ومشهور ..

الهدف العاشر :

يضاف إلى ذلك ، أنه يكون قد حصل على اعتراف ضمني من الإمام بشرعية تصرفاته ، طيلة فترة ولاية العهد ، وليعطي الناس ـ من ثم ـ الصورة التي يريدها عن الحكم والحاكم ، وليؤكد للملإ أجمع : أن الحاكم هذا هو سلوكه ، وهذه هي تصرفاته : من كان ، ومهما كان ، وإذن فليس لهم بعد حق في أن يتطلعوا إلى حكومة أحد على أن بها شيئا جديدا. ولا أن ينظروا إلى جهة على انها يمكن أن يكون بها المنقذ لهم ، والمخرج من الظلمات إلى النور ، حتى ولو كانت تلك الجهة هي آل بيت نبيهم ، فإنه من الطبيعي أن يتبع السياسيون أساليب ، ويتكلموا بأشياء كثيرة ، ينسونها بمجرد وصولهم إلى الحكم ، وتسلمهم لأزمّة السلطة ، فإن تلك لا تعدو كونها تكتيكات ، ووعودا انتخابية ، يحتاجون إليها في ظروف معينة ، ثم يستغنون عنها .. كما كانت الحال في وعود المأمون ، التي أشرنا إليها فيما تقدم ..

وهكذا .. فيكون سكوت الإمام في فترة ولاية العهد ، عن تصرفات الهيئة الحاكمة ، دالا على رضاه بها ، ويعتبر إمضاء لها .. وبعد هذا ..

٢٤٠