الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢

الحجاج ، فكيف بالسلف الطيب ، فاستمع إليه يقول ، على ما يرويه لنا البيهقي ، والظاهر انها جواب على ابيات ابن شكلة لانها على نفس الروي ، والوزن ، والموضوع ـ يقول المأمون :

ومن غاو يغص علي غيظا

إذا أدنيت أولاد الوصيّ

يحاول أن نور الله يطفى

ونور الله في حصن أبيّ

فقلت : أليس قد أوتيت علما

وبان لك الرشيد من الغوي

وعرفت احتجاجي بالمثاني

وبالمعقول والأثر الجلي (١)

بأية خلة ، وبأي معنى

تفضل « ملحدين » على « عليّ »

علي أعظم الثقلين حقا

وأفضلهم سوى حق النبيّ (٢)

بل وزاد على ذلك وضرب العقيدة التي تقدم أن العباسيين قد اتوا بها لمقابلة العلويين وروجوا لها من أن الحق كان للعباس ، وانه أجاز عليا ، فصحت خلافته وذلك بأن اظهر تقديم علي على العباس فقد قال السندي بن شاهك للفضل بن الربيع يوما عن المأمون :

« سمعته اليوم قدم علي بن أبي طالب على العباس بن عبد المطلب ، وما ظننت أني أعيش حتى اسمع عباسيا يقول هذا ، فقال الفضل له : تعجب من هذا؟ هذا والله كان قول أبيه قبله » (٣). ولكن الظاهر : أن أباه كان يكتم ذلك حتى خفي على مثل السندي المقرب ، لكن الآن قد اضطرت السياسة المأمون إلى الجهر بذلك ، وإظهاره.

وهكذا .. فإن المأمون لم يكن يرى أن بين كل تصرفاته المتقدمة أي تناقض ، أو منافاة ، بل كانت كلها في نظره صحيحة ، ومنطقية ؛ لأنها كانت في ظروف مختلفة ، وكان لا بد له من مسايرة تلك

__________________

(١) القوي خ ل.

(٢) المحاسن والمساوي ، طبع دار صادر ص ٦٨. وطبع مصر ج ١ / ١٠٥.

(٣) كتاب بغداد ص ٧.

٢٠١

الظروف ، والانسجام معها ، فلا مانع عنده ، من أن يقرب العلويين إليه ، ويتظاهر باكرامهم ، وتقديرهم .. في يوم .. ثم منعهم من الدخول عليه ، واضطهادهم ، وقتلهم بالسم تارة ، وبالسيف أخرى في يوم آخر .. وهكذا ..

وأيضا .. لا بد من خطوة أخرى.

ولكن ذلك وحده لم يكن كافيا لإخماد ثورات العلويين ، ولا لتحقيق كافة الأهداف ، التي قدمنا ، وسيأتي شطر منها ..

فكانت خطوته التالية غريبة ومثيرة في نفس الوقت ، لكنها إذا ما أخذت الظروف آنذاك بنظر الاعتبار يتضح أنها كانت طبيعية للغاية. ألجأته إليها الظروف والأحداث .. وتلك الخطوة هي :

« أخذ البيعة للامام علي الرضا عليه‌السلام بولاية العهد بعده .. » وجعله أمير بني هاشم طرا ، عباسيهم ، وطالبيهم (١) ، وليس الخضرة ..

لم يبق إلا خيار واحد :

ومن نافلة القول هنا : أن نقول : إن ذلك يدل على فهم المأمون للداء ؛ مما ساعده على معرفة الدواء ، الذي تجرعه المأمون ـ رغم مرارته القاسية ، التي لم تكن لتقاس أبدا بما سوف يعقبها من راحة وطمأنينة وهناء ـ تجرعه ـ بكل رضا ، ورجولة ، وشجاعة ..

إن المأمون ـ على ما أعتقد ـ وإن كان قد ثقل عليه أمر البيعة لرجل غريب ، ومن أسرة هي أقوى وأخطر المنافسين للحكم العباسي في

__________________

(١) غاية الاختصار ص ٦٨.

٢٠٢

تلك الفترة .. ولكن ما الحيلة له بعد أن لم يعد أمامه أي خيار في ذلك .. إلا إذا أراد أن يتغابى أو يتعامى عن ذلك الواقع المزري الذي وصلت إليه خلافته ، التي أصبحت ظلا ، لا يلبث أن تلتهمه أشعة الشمس المشرقة ، فتحوله إلى سراب ..

ما الحيلة له .. بعد أن رأى أنه لن تنقاد له الرعية والقواد ، ولن تستقيم له الامور إلا إذا أقدم على مثل تلك اللعبة الجريئة ..

ولقد صرح المأمون نفسه للريان ، بعد أن أخبره الريان بأن الناس يقولون : بأن البيعة للامام كانت من تدبير الفضل بن سهل ـ صرح بقوله : « .. ويحك يا ريان ، أيجسر أحد أن يجيء إلى خليفة ، قد استقامت له الرعية ، والقواد. واستوت له الخلافة ؛ فيقول له : ادفع الخلافة من يدك الى غيرك؟. أيجوز هذا في العقل؟! (١) .. ».

مع رسالة الفضل بن سهل للامام :

وكاتب الامام ، وألح عليه ، وكاتبه الفضل بن سهل أيضا .. وبما أن في رسالة الفضل مواضع جديرة بالملاحظة ؛ فقد أحببت أن أشير ـ باختصار ـ إلى بعض ما يمكن استخلاصه من هذه الرسالة ..

كما أني أوردت نص هذه الرسالة بتمامه مع الوثائق الهامة في أواخر هذا الكتاب ؛ ليطلع القارئ عليها بنفسه ، ويستخلص منها ما يراه مناسبا وضروريا ..

أما الملاحظات التي رأيت أن من الضروري الاشارة إليها هنا ؛ فتتلخص بما يلي :

__________________

(١) أعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١١٣ ، والبحار ج ٤٩ / ١٣٧ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥١ ، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٥.

٢٠٣

ملاحظات لا بد منها :

أول ما يطالعنا في هذه الرسالة هو استعمال الفضل لكلمة : « الرضا » ، التي تنص وثيقة العهد ، وغيرها : على أن المأمون هو الذي جعلها لقبا للإمام (ع) ـ كما سيأتي ـ .. فاطلاق الفضل بن سهل لكلمة « الرضا » عليه (ع) يجعلنا نقول ـ إن لم نقل أنه كان لقبا مشهورا ومعروفا له ـ : إن جعل المأمون هذا اللفظ لقبا رسميا للإمام (ع) كان بوحي من ذي الرئاستين نفسه .. وإن كان يمكن أن يقال عكس ذلك تماما : أي أن استعمال الفضل لهذه الكلمة كان بايحاء من المأمون ولا أقل من كونهما قد اتفقا على ذلك.

وثانيا : إننا بينما نرى الرسالة تشتمل على تطمين الإمام (ع) : بأن قضية ولاية العهد ليست لعبة من المأمون ، وإنما هي من آثار سعي ذي الرئاستين ، الأمر الذي لا داعي معه للخوف والوجل على الاطلاق ـ بينما الرسالة تشتمل على ذلك ـ نراها تنص على أن قضية ولاية العهد أمر قد قضي بليل. وعلى أن هناك تصميم من ذي الرئاستين والمأمون على امضاء هذا الأمر ، وهذا يعني : أن الممانعة والمقاومة لا تجدي ولا تفيد ؛ ولذا فإن من الأفضل له (ع) أن يكف عن ذلك ، ويمتنع عنه .. وهذا ما أشار إليه الفضل بقوله : « .. وان كتابي هذا عن إزماع من أمير المؤمنين ، عبد الله الإمام المأمون ومني الخ .. ».

وثالثا : يلاحظ : أن الرسالة تتناسب في صياغتها ، وانتقاء جملها وألفاظها مع ذوق الإمام (ع) ، ومذهبه العقائدي ، ومذهب شيعته.

وتنسجم مع ما يدعيه هو ، ويدعيه آباؤه ، وكان قد اشتهر وشاع بين الناس : من أن الحق في خلافة النبي (ص) لهم دون غيرهم ، وأن الغير ـ أيا كانوا ـ ظالمون لهم ، ومعتدون عليهم في هذا الحق ..

ثم يحاول الفضل أن يفهم الإمام : أنه وإن كان هو والمأمون

٢٠٤

قد صمما على توليته العهد ، لكنه يقول له ، لكن السر في ذلك مختلف بيني وبين المأمون ؛ فأنا أقول فيك : أنك ابن رسول الله ، وأنك المهتدي ، والمقتدى ، وأرى أن ذلك إرجاع لحقك إليك ، وردّ لمظلمتك عليك. أما المأمون : فهو يراك شريكا في أمره ، وشقيقا في نسبه ، وأولى الناس بما تحت يده.

فالفضل يحاول بهذا أن يتقرب من الإمام ، ويكتسب محبته وثقته .. ولعل إظهار هذا الاختلاف ، مما اتفق عليه كل من المأمون والفضل ..

وهكذا كان السياسيون ، وما زالوا يتكلمون مع أندادهم باللغة ، التي يرون أنها توصلهم إلى أهدافهم ، وتحقق لهم مآربهم.

ورابعا : وأخيرا .. إنه بعد أن يطلب منه أن لا يضع الرسالة من يده ، حتى يصير إلى باب المأمون!! .. نراه يضمن الرسالة إشارة واضحة : إلى أن ذلك منه (ع) يوجب صلاح الامة به .. وما ذلك إلا لأنه كان يعلم ، كما كان الكل يعلم : أنه إذا تأكد لدى الإمام (ع) : أن صلاح الامة متوقف على عمل ما من جهته ؛ فإنه لا يتوانى ، ولا يألو جهدا في العمل بوظيفته ، والقيام بواجبه .. هذا بالاضافة إلى أن في ذلك إشارة للحالة العامة ، التي وصفناها في بعض فصول هذا الكتاب ..

ملاحظات هامة :

هذا .. وقبل الخوض في تفصيل أسباب البيعة ، لا بد من ملاحظة :

أ ـ : إن من الطبيعي أن يثير تصرفه هذا حفيظة العباسيين ، الذين ناصبوه العداء ، وشجعوا أخاه الأمين عليه ، ولسوف يزيد من حنقهم ، وغضبهم : حتى إنهم رضوا بابراهيم بن شكلة المغني خليفة عليهم ، عند ما سمعوا بهذا النبأ الذي كان له وقع الصاعقة عليهم ..

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم ، ويذهلهم .. بعد أن لم يكن

٢٠٥

بينهم رجالات كفاة ، يدركون الأعيب السياسة ، ودهاء ومكر الرجال.

وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه ، واستعاضوا به عن المأمون .. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين :

فلا جزيت بنو العباس خيرا

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتوني مهطعين ، وقد أتاهم

بوار الدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصد الثدي عن فم الصبي

وحل عصائب الاملاك منها

فشدت في رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رءوس

تطالبها بميراث النبيّ (١)

ب ـ : ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما ، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية ، وسفك دمائهم .. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم ، حيث قال : « .. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى ، بعد استحقاق منه لها في نفسه ، فما كان ذلك مني إلا أن اكون الحاقن لدمائكم ، والذائد عنكم ، باستدامة المودة بيننا وبينهم .. ». والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد ، مخاطبا « أهل بيت أمير المؤمنين » حيث قال لهم : « .. راجين عائدته في ذلك ( أي في البيعة للرضا عليه‌السلام ) في جمع الفتكم ، وحقن دمائكم ، ولم شعثكم ، وسد ثغوركم .. »

فليغضبوا إذن قليلا ، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيرا ، وذلك عند ما يعرفون الاهداف الحقيقية ، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة ، وأنها لم تكن إلا من أجل الابقاء عليهم ، واستمرار وجودهم

__________________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣. والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

٢٠٦

في الحكم ، والقضاء على اخطر خصومهم ، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم.

إنهم دون شك عند ما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه ، ويعترفون له بالجميل ، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة. ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إليها آنفا : « .. فان تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم ( يعني للعلويين ) عاقبة ومنفعة ، فاني في تدبيركم ، والنظر لكم ، ولعقبكم ، ولابنائكم من بعدكم .. » ..

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريبا ـ قد جاء في وثيقة العهد ، حيث قال فيها ، موجها كلامه للعباسيين ، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك .. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ : « .. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها ، وآثر طاعة الله ، والنظر لنفسه ، ولكم فيها ، شاكرين الله على ما الهم أمير المؤمنين ، من قضاء حقه في رعايتكم ، وحرصه على رشدكم ، وصلاحكم ، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم ، وحقن دمائكم إلخ. ما قدمناه .. ».

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون ؛ فانه يقدر على ارضائهم في المستقبل ، « وقد حدث ذلك بالفعل » ، عند ما يطلعهم على حقيقة نواياه ، ومخططاته ، وأهدافه ، ولكنه إذا خسر مركزه ، وخلافته ، فانه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة ، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال ..

ج ـ : إن من الانصاف هنا أن نقول : إن اختيار المأمون للرضا (ع) وليا للعهد ، كان اختيارا موفقا للغاية ، كما سيتضح ، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه السياسى ، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون ، ويعاني منها ما يعاني ..

د ـ : إن من الامور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون

٢٠٧

لولي عهده ، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل .. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة ؛ إذا ما أخذت مكانة الإمام (ع) ، ونفوذه بنظر الاعتبار ، سيما مع ملاحظة : أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون ، ونظام حكمه ؛ حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير ، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الامة الاسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد ، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه ؛ حيث كان الإمام (ع) يكبره بـ (٢٢) سنة ؛ وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه ، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن ، لم يكن يشكل خطرا على الخلافة ؛ إذ لم يكن من المعروف ، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!! .. إلى ما بعد الخليفة الفعلي ، فإن ذلك من الامور التي يبعد احتمالها جدا ..

هـ ـ : ولهذا .. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظرا من مثله ؛ وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك ، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيت عليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه ، واخلاصه فيما أقدم عليه ، وأن يقنع الناس بصفاء نيته ، وسلامة طويته .. فأقدم لذلك .. على عدة أعمال :

فأولا : أقدم على نزع السواد شعار العباسيين ، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول : انه لباس أهل الجنة (١). حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضا (ع) ، وتمكنه هو من دخول بغداد

__________________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

٢٠٨

عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين ، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله ، على حد قول أكثر المؤرخين ، وقيل : بل بقي ثلاثة أشهر .. نزع الخضرة رغم أن العباسيين ، تابعوه ، وأطاعوه في لبسها ، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد ، على ما صرح به في مآثر الإنافة ، والبداية والنهاية ، وغير ذلك ..

وثانيا : ولنفس السبب (١) أيضا نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضا (ع).

وثالثا : أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضا (ع) ابنته ، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له ، حيث كان يكبرها الإمام (ع) بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الاخرى للامام الجواد (ع) ، الذي كان لا يزال صغيرا ، أي ابن سبع سنين (٢).

ومن يدري : فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضا إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل ، لكي تكون الأداة الفعالة ، التي

__________________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١ ، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣ ، طبع ليدن ، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩ : أنه (ع) لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة ، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر : أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله الى بغداد ، وأمر له بألفي الف درهم ، وقال : إني أحببت أن أكون جدا لامرئ ، ولده رسول الله ، وعلي بن أبي طالب ، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضا (ع) ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضا (ع) ؛ حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريبا بذلك ومطمئنين إليه ، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاته (ع).

ويلاحظ : أن كلمة المأمون هذه تشبه الى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر اصراره غير الطبيعي على الزواج بام كلثوم بنت علي (ع) ، حتى لقد استعمل اسلوبا غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد ..

٢٠٩

يستعملها في القضاء على الإمام (ع) ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد ، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون ، بأمر من عمها المعتصم (١) ؛ فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد .. كما يقولون .. ويجب أن نتذكر هنا : أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل ؛ فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض ، وكان الرأي العام معه ، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئا ، كما سنشير إليه .. لكن الإمام (ع) لم يكن له إلى الرفض سبيل ، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج ؛ لأن الرأي العام لا يقيل ذلك منه بسهولة .. بل ربما كان ذلك الرفض سببا في تقليل ثقة الناس بالإمام ، حيث يرون حينئذ أنه لا مبرر لشكوكه تلك ، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة ..

وعلى كل حال : فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسيا ، مفروضا إلى حد ما .. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسيا أيضا ، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الايرانيين ، ويجعلهم يطمئنون إليه ، خصوصا بعد عودته إلى بغداد ، وتركه مروا ، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل ، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل ، المعروف بثرائه ونفوذه ..

ورابعا : وللسبب نفسه أيضا كان يظهر الاحترام والتبجيل للامام (ع) ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن (٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لاكرامه

__________________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية ، وما جرى له مع الإمام الحسن السبط عليه‌السلام.

(٢) وقد سبقه الى مثل ذلك سليمان عم الرشيد ، عند ما أرسل غلمانه ؛ فأخذوا جنازة الكاظم عليه‌السلام من غلمان الرشيد ، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف ، اللائق بشأنه ؛ فمدحه الرشيد ، واعتذر إليه ، ولام نفسه ، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب

٢١٠

للعلويين ، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء ، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة ؛ فقد قال في رسالته للعباسيين ، المذكورة في أواخر هذا الكتاب : « .. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى .. فما كان ذلك مني ، إلا أن اكون الحاقن لدمائكم ، والذائد عنكم ؛ باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في اكرام آل أبي طالب ، ومواساتهم في الفيء ، بيسير ما يصيبهم منه .. ».

ويذكرني قول المأمون : « ومواساتهم في الفيء إلخ .. » بقول ابراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عند ما قربه المأمون :

يمن عليكم بأموالكم

وتعطون من مائة واحدا

و ـ : إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم : أن ذلك كله ـ حتى البيعة للامام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل ، للخط من الإمام قليلا قليلا ، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه (١) ، وكما صرح بذلك أيضا عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون ، والتي سوف نوردها في أواخر هذا

__________________

على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة ، ومحبي أهل البيت عليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم.

وتبعه أيضا المتوكل ؛ حيث جاء بالإمام الهادي عليه‌السلام الى سامراء ؛ فكان يكرمه في ظاهر الحال ؛ ويبغي له الغوائل في باطن الأمر ؛ فلم يقدره الله عليه .. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦ ، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣ ، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب ، حول تصريحات المأمون ، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى ..

٢١١

الكتاب إن شاء الله ؛ حيث يقول له فيها : « .. وكنت الطف حيلة منهم ، بما استعملته من الرضا بنا ، والتستر لمحننا ، تختل واحدا فواحدا منا إلخ .. » (١).

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل ، التي لا تكاد تخفى على أي باحث ، أو متتبع ..

أهداف المأمون من البيعة :

هذا .. وبعد كل الذي قدمناه ، فاننا نستطيع في نهاية المطاف : أن نجمل أهداف المأمون ، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضا (ع) بولاية العهد بعده .. على النحو التالي :

الهدف الأول :

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة ، شخصية الامام الرضا (ع) ، الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب ، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ ، حيث لا يعود باستطاعة الامام (ع) أن يدعو الناس الى الثورة ولا ان يأتي بأيّة حركة ضد الحكم ، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها تكران للجميل ، لا مبرر لها ، ولا منطق يدعمها ..

وقد أشار المأمون إلى ذلك ، عند ما صرح بأنه : خشي إن ترك الامام على حاله : أن ينفتق عليه منه ما لا يسده ، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه

__________________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

٢١٢

فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل : مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى ..

الهدف الثاني :

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة ، والواعية من قرب ، من الداخل والخارج ، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة .. وقد أشرنا فيما سبق ، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته ، هو : أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو ، ويطمئن إليه الإمام نفسه ..

وإذا ما لا حظنا أيضا ، أن : « المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء (١) .. » ، وأنه كان : « للمأمون على كل واحد صاحب خبر (٢) .. » .. فاننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه الى الإمام الرضا (ع) بعنوان : هدية .. وقد أرجعها الإمام (ع) إليه مع عدة أبيات من الشعر ، عند ما رآها اشمأزت من شيبه (٣).

ولم يكتف بذلك ، بل وضع على الإمام (ع) عيونا آخرين ، يخبرونه بكل حركة من حركاته ، وكل تصرف من تصرفاته ..

فقد كان : « هشام بن ابراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضا (ع) ، وكانت امور الرضا تجري من عنده ، وعلى يده. ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن ابراهيم بذي الرئاستين ، والمأمون ؛

__________________

(١) تاريخ التمدن الاسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩ ، نقلا عن : العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الاسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١ ، نقلا عن : المسعودي ج ٢ / ٢٢٥ ، وطبقات الاطباء ج ١ / ١٧١.

(٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

٢١٣

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئا من أخباره ؛ فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ، وضيق على الرضا ؛ فكان من يقصده من مواليه ، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء الا أورده هشام على المأمون ، وذي الرئاستين .. » (١)

وعن أبي الصلت : أن الرضا « كان يناظر العلماء ، فيغلبهم ، فكان الناس يقولون : والله ، إنه أولى بالخلافة من المأمون ؛ فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه .. » (٢)

وأخيرا .. فإننا نلاحظ : أن جعفر بن محمد بن الاشعث ، يطلب من الإمام (ع) : أن يحرق كتبه إذا قرأها ؛ مخافة أن تقع في يد غيره ، ويقول الإمام (ع) مطمئنا له : « إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها .. » (٣).

إلي غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة ، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها ..

الهدف الثالث :

أن يجعل الإمام (ع) قريبا منه ؛ ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية ، وابعاده عن الناس ، وابعاد الناس عنه ؛ حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية ، وبما منحه الله إياه من العلم ،

__________________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩ ، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧ ، ٧٨ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤ ، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢ ، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

٢١٤

والعقل ، والحكمة. ويريد أن يحدّ من ذلك النفوذ له ، الذي كان يتزايد باستمرار ، سواء في خراسان ، أو في غيرها ..

وأيضا .. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه ؛ وخصوصا بالنسبة لرجال الدولة ؛ إذ قد يتمكن الإمام (ع) من قلوبهم ؛ ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم ، دون أن يشعر أحد ..

والأهم من ذلك كله : أنه كان يريد عزل الإمام (ع) عن شيعته ، ومواليه ، وقطع صلاتهم به ، وليقطع بذلك آمالهم ، ويشتت شملهم ، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره ، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون ، وخلافته.

وبذلك يكون أيضا قد مهد الطريق للقضاء على الإمام (ع) نهائيا ، والتخلص منه بالطريقة المناسبة ، وفي الوقت المناسب ..

وقد قال المأمون إنه : « يحتاج لأن يضع من الإمام قليلا قليلا ، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه .. » كما سيأتي ..

وقد قرأنا آنفا أنه : « كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ( أي هشام بن إبراهيم ) ، وضيق على الرضا ؛ فكان من يقصده من مواليه ، لا يصل إليه ».

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالة منه إلى أحمد بن محمد البزنطي ، يقول : « وأما ما طلبت من الإذن علي ؛ فان الدخول إلي صعب ، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن ؛ فلست تقدر الآن ، وسيكون إن شاء الله .. » (١).

__________________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

٢١٥

كما أننا نرى أنه عند ما وصل إلى القادسية ، وهو في طريقه إلى مرو ، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر : « اكتر لي حجرة لها بابان : باب إلى الخان ، وباب إلى خارج ؛ فانه استر عليك .. » (١).

ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمام (ع) ، ومن رجاء بن أبي الضحاك : أن يمرا عن طريق البصرة ، فالأهواز إلخ .. كما سيأتي :

ولا نستبعد أيضا أن يكون عزل الإمام عن الناس ، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين (٢) .. وللسبب نفسه أيضا فرق عنه تلامذته ، عند ما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس ، وحتى لا يظهر علم الإمام ، وفضله .. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء ..

الهدف الرابع :

إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الامام مجنا يتقي به سخط الناس على بني العباس ، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور .. يريد أيضا ؛ أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت

__________________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٤٦ ، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٥٥.

(٢) هذه القضية معروفة ومشهورة ؛ فراجع : الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤٦ ، ٢٤٧ ، ومطالب السئول ، لمحمد بن طلحة الشافعي ، طبعة حجرية ص ٨٥ ، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٥ ، ومعادن الحكمة ص ، ١٨٠ ، ١٨١ ، ونور الأبصار ص ١٤٣ ، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥ ، وإعلام الورى ص ٣٢٢ ، ٣٢٣ ، وروضة الواعظين ج ١ / ٢٧١ ، ٢٧٢ ، واصول الكافي ج ١ / ٤٨٩ ، ٤٩٠ ، والبحار ج ٤٩ / ١٣٥ ، ١٣٦ ، ١٧١ ، ١٧٢ ، وعيون أخبار الرضا ، وارشاد المفيد ، وأعيان الشيعة ، وكشف الغمة ، وغير ذلك ..

ولسوف يأتي في فصل : خطة الإمام ، وغيره من الفصول ، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

٢١٦

ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو ، وصالح الحكم العباسي بشكل عام ..

أي أنه : كان يهدف من وراء لعبته تلك ، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جدا ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية ، واسعة ، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر : أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد ، والقوة ، والنفوذ ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد ، والنفوذ والقوة .. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها ، فإنه يكون قد امن خطرا عظيما ، كان يتهدده من قبلها ، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر ..

إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلا يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات ، وله من النفوذ ، والكلمة المسموعة ، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون : أن الخلافة حق له ، وينظرون الى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق :

يقول الدكتور الشيبي ، وهو يتحدث عن الرضا (ع) : « إن المأمون جعله ولي عهده ، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين ، الذين حاربوه ، ونصروا أخاه (١) .. ».

ويقول : « .. وقد كان الرضا من قوة الشخصية ، وسمو المكانة : أن التف حوله المرجئة ، وأهل الحديث ، والزيدية ، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته .. » (٢).

__________________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٣ ، ٢٢٤ .. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين ، كما اتضح ، وسيتضح إن شاء الله ..

(٢) المصدر السابق ص ٢١٤.

٢١٧

وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ : « .. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم ، وإنما مرّ بنا : أن الناس ، حتى أهل السنة ، والزيدية ، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة .. قد اجتمعت على إمامته ، واتباعه ، والالتفاف حوله .. » (١).

وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون ، الذي نحن بصدد بيانه ..

ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيرا إلى ذلك ، في معرض حديثه عن الإمام الرضا (ع) : « .. نما إيمانه ، وعلا شأنه ، وارتفع مكانه ، وكثر أعوانه ، وظهر برهانه ، حتى أحله الخليفة المأمون محل مهجته ، وأشركه في مملكته .. » (٢).

وتقدم أنه (ع) كان ـ باعتراف المأمون ـ « الأرضى في الخاصة ، والعامة .. » وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب ، حتى إن البيعة له بولاية العهد ، لم تزده في النعمة شيئا .. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون : « هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله » إلى آخر ما هنالك ، مما قدمنا « غيضا من فيض منه ».

كما وتقدم أيضا قول المأمون في رسالته للعباسيين : « .. وإن تزعموا : أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ( يعني للعلويين ) ؛ فإنى في تدبيركم ، والنظر لكم ، ولعقبكم ، وأبنائكم من بعدكم .. » ، وأيضا عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد ؛ فلا نعيد ..

وهكذا .. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالا ، ويقروا عينا ؛ فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم .. وليس كما يقوله

__________________

(١) المصدر السابق ص ٢٥٦.

(٢) مطالب السئول ص ٨٤ ، ٨٥ ، وقريب منه ما في : الاتحاف بحب الأشراف ص ٥٨.

٢١٨

الدكتور الشيبي ، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع ؛ ليقابل العباسيين ، ويقف في وجههم.

إشارة هامة لا بد منها :

هذا .. ويحسن بنا أن نشير هنا : إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. والقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه .. فهو يقول :

لقد قال الروافض في علي

مقالا جامعا كفرا وموقا

زنادقة أرادت كسب مال

من الجهال فاتخذته سوقا

وأشهد أنه منهم بريّ

وكان بأن يقتلهم خليقا

كما كذبوا عليه وهو حي

فأطعم ناره منهم فريقا

وكانوا بالرضا شغفوا زمانا

وقد نفخوا به في الناس بوقا

وقالوا : إنه رب قدير

فكم لصق السواد به لصوقا (١)

وهذه الأبيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز ، وخيبة أمله في الروافض ، الذين ضايقه جدا امتداد دعوتهم في طول البلاد الاسلامية ، وعرضها. وخصوصا في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئا يستطيع أن يتنقص به إمامهم الرضا (ع) سوى أنه كان اسود اللون ؛ وأن الروافض قالوا : إنه رب قدير .. وسرّ حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في علي (ع) ـ التي كان يراها خطرا حقيقيا على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنه (ع) : يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين

__________________

(١) ديوان ابن المعتز ص ٣٠٠ ، ٣٠١ ، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٦.

٢١٩

وصفي الكفر والزندقة ، واتهامه لهم ، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضا (ع) ؛ فقالوا : إنه الإمام الثابت إمامته بالنص ، وشهّروا بذلك ، حتى علم به عامة الناس ، ونفخوا به في الناس بوقا .. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث ، والزيدية ، بل والمرجئة ، وأهل السنة ، على حد تعبير الشيبي ، وقالوا : بإمامة أبيه ، ثم بإمامته ..

وبديهي .. أن لا يرتاح ابن المعتز ، الذي كان في صميم الاسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع ، ولمقالة الروافض ، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة الذين هم بين الرضا ، وعلي أمير المؤمنين عليهما‌السلام ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص ..

ولقد بلغ من حنقه عليهم ، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصا في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد ، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه ، وبين عقيدة الغلاة ، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة اخرى ، هي : القول بألوهية علي (ع).

وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض ، وعقيدة الغلاة ، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز ، بل على من هو أقل منه بمراتب ، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك : أنه يقصد بهذا الخلط المعتمد : التشنيع على الروافض ، وتهجين عقيدتهم ، إذ أنه يقصد بـ « الروافض » ، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا ، وإمامة علي أمير المؤمنين ، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم : أنه ليس فيهم من يقول بالوهية أحدهما ، أو ألوهيتهما ، أو ألوهية غيرهما من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

وأخيرا .. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ

٢٢٠