الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢

وما يهمنا هنا هو البيت الأخير ، أما ما قبله ، فلا نملك إلا أن نقول : « أهل البيت أدرى بالذي فيه .. » ..

وعلى كل حال .. فإننا لا نستغرب على المأمون صفة الظلم والعسف والجور .. بعد أن رأينا أنه عند ما عرضت عليه سيرة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي (ع) ، يأبى أن يأخذ بها جميعا ، لأنه كان يجد في آخر كل منها : أنهم كانوا يأخذون الأموال من وجوهها ، ويضعونها في حقوقها. لكنه قبل سيرة معاوية ، الذي أراد الاعلان ببراءة الذمة ممن يذكره بخير ؛ لأن في آخرها يقول : إنه كان يأخذ الأموال من وجوهها ، ويضعها كيف شاء .. ، وقال المأمون حينئذ : « إن كان فهذا (١) »!! وفي رسالة عبد الله بن موسى للمأمون نفسه ما فيه الكفاية فلتراجع في أواخر هذا الكتاب.

وما ذا بعد الوصول إلى الحكم :

وهكذا .. فإن المأمون كان يحسب أنه إذا قتل أخاه ، وتخلص من من أشياعه ومساعديه ، وبعد أن تؤتي الحملة الدعائية ضدهم ثمارها ـ كان يحسب ويقدر ـ أن الطريق يكون قد مهد له للاستقرار في الحكم ، وأنه سوف يستطيع بعد هذا أن يطمئن ، وينام قرير العين.

ولكن فأله قد خاب ، وانقلبت ماجريات الامور في غير صالحه ؛ فإن الايرانيين قد : « انفضوا بعد الحرب الأهلية المفجعة بين الأمين والمأمون ، عن

__________________

(١) المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٤٩٥.

١٨١

تأييد العباسيين .. » (١). انفضوا عنه ليمنحوا العلويين عطفهم ومحبتهم ، وتأييدهم ؛ لأنهم يعرفون أنهم هم الذين يقيمون العدل ، ويعملون بشريعة الله ـ وما موقف نيسابور ، وصلاتي العيد ، إلا الدليل الواضح والقاطع على تلك العاطفة ، وذلك الحب والتقدير. وأيضا انفضوا عنه لأنه قد كشف لهم عن وجهه الحقيقي ، وعرفهم بواقعه الأناني البشع ، وخصوصا بعد أن عانوا ما عانوا هم وغيرهم من صنوف الظلم والجور والاضطهاد ، في ظل نظام الحكم الذي طالما عملوا من أجله ، وضحوا في سبيله ..

وحتى لو أنهم كانوا لا يزالون على تأييدهم له ، فإنه لا يستطيع بعد هذا أن يعتمد على ذلك التأييد ، وعلى ثقتهم به طويلا ؛ فإنه كان من السهل ـ بعد أن فعل بأخيه وأشياعه ، وغيرهم ، ما فعل ـ أن يكتشفوا أن ذلك منه ما كان إلا سياسة ودهاء .. كما أنه أصبح من الصعب عليهم ـ بعد تجربتهم الاولى معه ، ومع وعوده ، التي ما أسرع ما نسيها ـ أن يقتنعوا منه بالأقوال التي لا تدعمها الأفعال ، ولسوف لا يطمئنون إليه ، ولن ينقادوا له ـ بعد هذا ـ بالسهولة التي كان يتوقعها ..

الموقف الصعب :

كانت تلك لمحة خاطفة عن موقف العباسيين ، والعرب تجاه المأمون. ذلك الموقف ، الذي كان يزداد حساسية وتعقيدا ، يوما عن يوم. أضف إلى ذلك أيضا الخطر الذي كان يكمن في موقف الخراسانيين ، الذين رفعوا المأمون على العرش ، وسلموا إليه أزمة الحكم والسلطان ..

وإذا ما أضفنا إلى ذلك كله ، موقف العلويين ، الذين اغتنموا فرصة

__________________

(١) امبراطورية العرب ص ٦٤٩.

١٨٢

الصدام بينه وبين أخيه ، لتجميع صفوفهم ، ومضاعفة نشاطاتهم ، فلسوف تكتمل أمامنا ملامح الصورة لحقيقة الوضع والظروف ، التي كان يعاني منها المأمون ، ونظام حكمه آنذاك .. سيما ونحن نراه في مواجهة تلك الثورات العارمة ، وبالأخص ثورات العلويين أقوى خصوم الدولة العباسية ، والتي كانت تظهر من كل جانب ومكان ، وكل ناحية من نواحي مملكته ..

ثورات العلويين .. وغيرهم :

فأبو السّرايا ـ الذي كان يوما ما من حزب المأمون (١) ـ خرج بالكوفة. وكان هو وأتباعه لا يلقون جيشا إلا هزموه ، ولا يتوجهون إلى بلدة إلا دخلوها (٢).

ويقال : إنه قد قتل من أصحاب السلطان ، في حرب أبي السرايا فقط ، مائتا ألف رجل ، مع أن مدته من يوم خروجه إلى يوم ضربت عنقه لم تزد على العشرة أشهر (٣).

وحتى البصرة ، معقل العثمانية (٤) ، قد أيدت العلويين ، ونصرتهم ؛

__________________

(١) ففي الطبري ج ١٠ ص ٢٣٦ ، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٤٥ ، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٧٩ ، طبعة ثالثة : أن المأمون قال لهرثمة : « مالأت أهل الكوفة ، والعلويين ، وداهنت ، ودسست إلى أبي السرايا ، حتى خرج ، وعمل ما عمل ، وكان رجلا من أصحابك إلخ .. ». واتهام هرثمة بهذا مهم فيما نحن فيه أيضا.

(٢) ضحى الاسلام ج ٣ ص ٢٩٤ ، ومقاتل الطالبيين ص ٥٣٥.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ٥٥٠ ، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٣٤٥.

(٤) الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٧٣ ، وسيأتي كلام محمد بن علي العباسي ، المتعلق بهذا الموضوع ، عن قريب ..

١٨٣

فقد خرج فيها زيد النار (١) ، ومعه علي بن محمد ، كما خرج منها من قبل على المنصور ابراهيم بن عبد الله ..

وفي مكة ، ونواحي الحجاز : خرج محمد بن جعفر ، الذي كان يلقب ب : « الديباج » وتسمى ب : « أمير المؤمنين » (٢) ..

وفي اليمن : ابراهيم بن موسى بن جعفر ..

وفي المدينة : خرج محمد بن سليمان بن داود ، بن الحسن بن الحسين ، ابن علي بن أبي طالب ..

وفي واسط : التي كان قسم كبير منها يميل إلى العثمانية ـ خرج جعفر ابن محمد ، بن زيد بن علي. والحسين بن ابراهيم ، بن الحسن بن علي ..

وفي المدائن : محمد بن اسماعيل بن محمد ..

بل إنك قد لا تجد قطرا ، إلا وفيه علوي يمني نفسه ، أو يمنيه الناس بالثورة ضد العباسيين ـ حسبما نص عليه بعض المؤرخين ـ حتى لقد اتجه أهل الجزيرة ، والشام ، المعروفة بتعاطفها مع الامويين ،

__________________

(١) سمي بذلك ؛ لانه حرق دور العباسيين في البصرة بالنار ، وكان إذا اتي برجل من المسودة ، أحرقه بثيابه .. على ما ذكره الطبري ج ١١ ص ٩٨٦ ، طبع ليدن ، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٧٧ ، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٤٤ ، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٣٤٦.

وفي الروايات أن الرضا عليه‌السلام أظهر الاستياء من فعل أخيه زيد. ولعل سبب ذلك أنه بالاضافة إلى أنه أقدم في ثورته على أعمال تنافي أحكام الدين ، وتضر إضرارا بالغا بقضية العلويين العادلة .. كان يمالىء الزيدية ، .. أو لأنه أراد إبعاد شر المأمون عن زيد ، وابعاد التهمة عن نفسه ؛ بأنه هو المدبر لأمر أخيه أو لعل كل ذلك قد قصد ..

(٢) وليس في العلويين ـ باستثناء الامام علي (ع) طبعا ـ قبله ، ولا بعده ، من تسمى بـ « أمير المؤمنين » غيره ؛ كما في مروج الذهب ج ٣ ص ٤٣٩.

و « الديباجة » لقب لأكثر من واحد من العلويين ..

١٨٤

وآل مروان .. إلى محمد بن محمد العلوي ، صاحب أبي السرايا ؛ فكتبوا إليه : أنهم ينتظرون أن يوجه إليهم رسولا ؛ ليسمعوا له ، ويطيعوا (١) ..

وأما ثورات غير العلويين ، فكثيرة أيضا ، وقد كان من بينها ما يدعو إلى : « الرضا من آل محمد » ، كثورة الحسن الهرش سنة ١٩٨ (٢) ه‍. وسواها ولا مجال لنا هنا للتعرض إليها. ومن أرادها فعليه بمراجعة الكتب التاريخية المعترضة لها (٣) ..

الزعيم العباسي الأول يعترف :

هذا مع أن أكثر تلك الأقطار لم تكن تؤيد العلويين ، ولا تدين لهم بالولاء باعتراف الزعيم العباسي الأول : محمد بن علي بن عبد الله ، والد ابراهيم الامام ، حيث قال لدعاته :

« .. أما الكوفة وسوادها : فهناك شيعة علي ، وولده. وأما البصرة ، وسوادها : فعثمانية ، تدين بالكف. وأما الجزيرة : فحرورية مارقة ،

__________________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٥٣٤ .. راجع في بيان ثورات العلويين : البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٤ ، إلى ص ٢٤٧ ، واليعقوبي ج ٣ ص ١٧٣ ، ١٧٤ ، ومروج الذهب ج ٣ ص ٤٣٩ ، ٤٤٠ ، ومقاتل الطالبيين ، والطبري ، وابن الأثير ، وأي كتاب تاريخي شئت ؛ لترى كيف أن الثورات في الفترة الاولى من عهد المأمون ، قد عمت جميع الأقطار والامصار ..

(٢) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٤ ، والطبري ج ١١ ص ٩٧٥ ، طبع ليدن.

(٣) وقد تغلب حاتم بن هرثمة على أرمينية ، وكان هو السبب في خروج بابك الخرمي.

وتغلب نصر بن شبث على كيسوم ، وسميساط ، وما جاورها ، وعبر الفرات إلى الجانب الشرقي ، وكثرت جموعه ، ولم يستسلم إلا في سنة ٢٠٧ ه‍. وهناك أيضا حركات الزط. وثورة بابك ، وثورة المصريين التي كانت بين القيسية المناصرة للأمين واليمانية المناصرة للمأمون. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه ..

١٨٥

وأعراب كأعلاج ، ومسلمون أخلاقهم كأخلاق النصارى. وأما الشام : فليس يعرفون إلا آل أبي سفيان ، وطاعة بني مروان ، عداوة راسخة ، وجهل متراكم. وأما مكة والمدينة : فغلب عليهما أبو بكر ، وعمر ؛ ولكن عليكم بأهل خراسان الخ .. » (١).

ونقل عن الأصمعي أيضا كلام قريب من هذا (٢) ..

دلالة هامة :

ومن بعض ما قدمناه في الفصول المتقدمة ، سيما فصل : موقف العباسيين من العلويين ، وأيضا مما ذكرناه هنا نستطيع أن نستكشف أن حق العلويين بالخلافة والحكم ، قد أصبح من الامور المسلمة لدى الناس ، في القرن الثاني ، الذي يعد من خير القرون .. حيث لم تكن عقيدة عامة الناس قد استقرت بعد على هذه العقيدة المتداولة لدى أهل السنة اليوم ، والتي أشرنا إلى أنها العقيدة التي وضع أسسها معاوية .. وعليه .. فما يدعيه أهل السنة اليوم من أن عقيدتهم في الخلافة قد وصلت إليهم يدا بيد ، إلى عصر النبي (ص) غير صحيح على الاطلاق. بل إن الشيخ محمد عبده يرى : ان رسوخ عقيدة « ان حق الخلافة لأهل البيت ، وشيوع ذلك في العرب خاصة ». هو الذي دعا المعتصم إلى تشييد ملكه على الترك ، وغيرهم من العجم ، يقول الشيخ محمد عبده : « كان الإسلام دينا عربيا ، ثم لحقه العلم فصار علما عربيا ، بعد أن كان

__________________

(١) البلدان للهمداني ج ٢ ص ٣٥٢ ، وأحسن التقاسيم للمقدسي ص ٢٩٣ ، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج ١ ص ٢٠٤ ، والسيادة العربية ، والشيعة والاسرائيليات ص ٩٣ ، ولا بأس بمراجعة : الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري ج ١ ص ١٠٢.

(٢) روض الأخيار ، المنتخب من ربيع الأبرار ص ٦٧ ، والعقد الفريد ، طبع دار الكتاب العربي ج ٦ ص ٢٤٨.

١٨٦

يونانيا ، ثم أخطأ خليفة في السياسة ، فاتخذ من سعة الإسلام سبيلا إلى ما كان يظنه خيرا : ظن أن الجيش العربي قد يكون عونا لخليفة علوي ؛ لأن العلوي الصق ببيت النبي (ص) ؛ فأراد أن يتخذ له جيشا أجنبيا من الترك والديلم وغيرهم من الامم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه ، ويصطنعها باحسانه ؛ فلا تساعد الخارج عليه ، ولا تعين طالب مكانه من الملك .. » (١).

عود على بدء :

وعلى كل حال .. فإننا إذا أردنا تقييم تلك الثورات ، التي كانت تواجه الحكم العباسي ، فإننا سوف نجد : أن ما كان يكمن فيه الخطر الحقيقي هو ثورات العلويين ، لانها كانت تظهر في مناطق حساسة جدا في الدولة ؛ ولأنها كانت بقيادة أولئك الذين يمتلكون من قوة الحجة ، والجدارة الحقيقية ، ما ليس لبني العباس فيه أدنى نصيب ..

وكان في تأييد الناس لهم ، واستجابتهم السريعة لدعوتهم دلالة واضحة على شعور الامة ، بمختلف طبقاتها ، وفئاتها تجاه حكم العباسيين ، ونوعية تفكيرها تجاه خلافتهم ، وعلى مدى الغضب الذي كان يستبد بالنفوس ؛ نتيجة استهتار العباسيين ، وظلمهم ، وسياساتهم الرعناء ، مع الناس عامة ، ومع العلويين بشكل خاص ..

وقد كان المأمون يعلم أكثر من أي شخص آخر ، كم سوف يكون حجم الكارثة ، لو تحرك الإمام الرضا ـ الذي اهتبل فرصة الحرب بينه وبين أخيه ، لتحكيم مركزه ، وبسط نفوذه ضد الحكم القائم ..

__________________

(١) الاسلام والنصرانية للشيخ محمد عبده.

١٨٧

الناس لم يبايعوا المأمون كلهم بعد :

وبعد كل ما تقدم .. فإن من الأهمية بمكان ، أن نشير هنا ، إلى أن العلويين ، وقسما كبيرا من الناس ، بل وعامة المسلمين ، لم يكونوا قد بايعوا المأمون أصلا :

فأما أهل بغداد ؛ فحالهم في الخلاف عليه أشهر من أن يذكر ، وقد قدمنا في أول هذا الفصل عبارته في رسالته ، التي كان قد أرسلها للعباسيين في بغداد ..

وأما أهل الكوفة ـ التي كانت دائما شيعة علي وولده ـ فلم يبايعوا له ، بل بقوا على الخلاف عليه ، إلى أن ذهب أخو الإمام الرضا (ع)!! العباس بن موسى ، يدعوهم ، فقعدوا عنه ، ولم يجبه إلا البعض منهم ؛ وقالوا : « إن كنت تدعو للمأمون ، ثم من بعده لأخيك ؛ فلا حاجة لنا في دعوتك ، وإن كنت تدعو إلى أخيك ، أو بعض أهل بيتك ، أو إلى نفسك ؛ أجبناك .. » (١).

ويلاحظ هنا : كيف قد اختير رجل علوي ، وأخو الإمام الرضا (ع) بالذات ؛ ليرسل إلى الكوفة ، المعروفة بالتشيع للعلويين .. ويلاحظ أيضا : أن رفضهم الاستجابة له ، إنما كان لأجل أن الدعوة تتضمن الدعوة للمأمون العباسي.

وأما أهل المدينة ، ومكة ، والبصرة ، وسائر المناطق الحساسة في

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٩٠ ، وتجارب الامم ج ٦ المطبوع مع العيون والحدائق ص ٤٣٩. وفي تاريخ الطبري ج ١١ ص ١٠٢٠ ، طبع ليدن ، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٤٨ : أنه قد أجابه قوم كثير منهم ، ولكن قعد عنه الشيعة وآخرون .. لكن ظاهر حال الكوفة التي كانت دائما شيعة علي وولده هو أن المجيبين له كانوا قلة .. كما ذكر ابن الأثير.

١٨٨

الدولة ، فقد تقدم ما يدل على حقيقة موقفهم منه ، ومن نظام حكمه .. وقد كتب المأمون نفسه بخط يده ، في وثيقة العهد للامام يقول : « .. ودعا أمير المؤمنين ولده ، وأهل بيته ، وقواده ، وخدمه ؛ فبايعوا مسارعين .. إلى أن قال : فبايعوا معشر أهل بيت أمير المؤمنين ، ومن بالمدينة المحروسة ، من قواده ، وجنده ، وعامة المسلمين لأمير المؤمنين ، وللرضا من بعده ، علي بن موسى .. » والوثيقة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

فقوله : « لأمير المؤمنين ، وللرضا من بعده .. » يدل دلالة واضحة على أن عامة المسلمين ما كانوا قد بايعوا بعد : « لأمير المؤمنين » ، فضلا عن : « أهل المدينة المحروسة .. ».

وحتى لو أنهم كانوا قد بايعوا له ؛ فان بيعتهم هذه ، وجودها كعدمها ؛ إذ أن عصيانهم ، وتمردهم عليه ، وعلى حكمه ، لم يكن ليخفى على أحد .. بعد ما قدمناه من ثوراتهم تلك ، التي كانت تظهر من كل جانب ومكان ، وكان كلما قضى على واحدة منها تظهر أخرى داعية لما كانت تدعو إليه تلك ، أي إلى : « الرضا من آل محمد » ، أو إلى أحد العلويين ، الذين يشاهد المأمون عن كثب قدرتهم ، وقوتهم ، ونفوذهم الذي كان يتزايد باستمرار يوما عن يوم .. ولم تستقم له في الحقيقة سوى خراسان ..

نعم بعد أن عاد إلى بغداد ، وكان قد قوي أمره ، واتسع نفوذه ، بدأ الناس يبايعونه في الاقطار ، ويتعللون بأن امتناعهم إنما كان ظاهريا ، وأنهم كانوا في السر معه ، وعلى ولائه ، على ما صرح به اليعقوبي في تاريخه ..

١٨٩

المأمون يدرك حراجة الموقف :

تلك هي باختصار حالة الحكم العباسي بشكل عام ، وحالة المأمون ، وظروفه في الحكم بشكل خاص .. في تلك الفترة من الزمن .. وقد اتضح لنا بجلاء : أن الوضع كان بالنسبة إلى المأمون ، ونظام حكمه ، قد ازداد سوءا ، بعد وصول المأمون إلى الحكم ، وتضاعفت الأخطار ، التي كان يواجهها ، وأصبح ـ هو وعرشه ـ في مهب الريح ، وتحت رحمة الأنواء .. وإذا كان ليس من الصعب علينا : أن نتصور مدى الخطر الذي كان يتهدد المأمون ، وخلافته ، وبالتالي مستقبل الخلافة العباسية بشكل عام .. فإنه من الطبيعي أن لا يكون من الصعب على المأمون أفعى الدهاء والسياسة أن يدرك ـ بعمق ، إلى أي حد كان مركزه ضعيفا ، وموقفه حرجا ؛ حيث إنه هو الذي كان يعيش ـ أكثر من أي إنسان آخر ـ في ذلك الخضم الزاخر بالمشاكل ، والمتاعب ، والأخطار. وخصوصا وهو يواجه الثورات ، وبالأخص ثورات العلويين ، أقوى خصوم الدولة العباسية ، تظهر من كل جانب ومكان ، وكل ناحية من نواحي مملكته .. كما أنه لم يكن ليصعب عليه أن يدرك أن الكثير من المشاكل التي يعاني منها إنما كان نتيجة السياسات الرعناء ، التي انتهجها اسلافه ، مع الناس عامة ، ومع العلويين خاصة. وأن يدرك أن الاستمرار في تلك السياسة. أو حتى مجرد الإهمال ، والتواني في علاج الوضع ، سوف يكون من ابسط نتائجه أن تلقى خلافة العباسيين على ايدي العلويين نفس المصير الذي لقيته خلافة الامويين على أيدي أسلافه من قبل ..

ما ذا يمكن للمأمون أن يفعل :

ولكن .. وبعد أن نجح المأمون في الوصول إلى ما كان يتمناه ، وهو

١٩٠

الحكم والسلطان ، وإذا كان لا يرضى به بنو أبيه ، ولا العلويون ، ولا العرب ، وإذا كان حتى غير العرب ، ضعفت ثقتهم به ، وتزعزع مركزه في نفوسهم.

وأيضا .. إذا كانت ثورات العلويين ، فضلا عن غيرهم .. تظهر من كل جانب ومكان .. وإذا كان الكثيرون ، بل عامة المسلمين لم يبايعوا له بعد .. وهكذا إلى آخر ما تقدم .. فهل يمكن للمأمون أن يقف تجاه كل تلك العواصف ، والانواء التي تتهدده ، ونظام حكمه ، مكتوف اليدين؟!.

وما ذا يمكن للمأمون بعد هذا أن يفعل ، ليبقى محتفظا بالحكم والسلطان ، الذي هو أعز ما في الوجود عليه؟! ..

هذا ـ ما سوف نحاول الاجابة عليه في الفصل التالي.

١٩١

ظروف البيعة وأسبابها

إنقاذ الموقف!!. كيف؟!

قد قدمنا في الفصل السابق لمحة عن ظروف المأمون في الحكم ، وأشرنا إلى أن الوضع كان يزداد سوءا يوما عن يوم .. وإلى أنه كان لا بد للمأمون من التحرك ، والعمل بسرعة ، شرط أن لا يزيد الفتق اتساعا ، والطين بلة .. وأن يستعمل كل ما لديه من حنكة ودهاء ، في سبيل انقاذ نفسه ، ونظام حكمه ، وخلافة العباسيين بشكل عام ..

وكان المأمون يدرك : أن إنقاذ الموقف يتوقف على :

١ ـ إخماد ثورات العلويين ، الذين كانوا يتمتعون بالاحترام والتقدير ، ولهم نفوذ واسع في جميع الفئات والطبقات ..

٢ ـ أن يحصل من العلويين على اعتراف بشرعية خلافة العباسيين ، وليكون بذلك قد افقدهم سلاحا قويا ، لن يقر له قرار ، إلا إذا افقدهم إياه ..

٣ ـ استئصال هذا العطف ، وذلك التقدير والاحترام ، الذي كانوا يتمتعون به ، وكان يزداد يوما عن يوم ـ استئصاله ـ من نفوس الناس نهائيا ، والعمل على تشويهم أمام الرأي العام ، بالطرق ، والأساليب

١٩٢

التي لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات ؛ حتى لا يقدرون بعد ذلك على أي تحرك ؛ ولا يجدون المؤيدين لأية دعوة لهم ؛ وليكون القضاء عليهم بعد ذلك نهائيا ـ سهلا وميسورا ..

٤ ـ اكتساب ثقة العرب ومحبتهم ..

٥ ـ استمرار تأييد الخراسانيين ، وعامة الايرانيين له.

٦ ـ إرضاء العباسيين ، والمتشيعين لهم ، من أعداء العلويين.

٧ ـ تعزيز ثقة الناس بشخص المأمون ، الذي كان لقتله أخاه أثر سيّئ على سمعته ، وثقة الناس به ..

٨ ـ وأخيرا .. أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من تلك الشخصية الفذة ، التي كانت تملأ جوانبه فرقا ، ورعبا. وأن يتحاشى الصدام المسلح معها. ألا وهي شخصية الإمام الرضا (ع) ، وأن يمهد الطريق للتخلص منها ، والقضاء عليها ، قضاء مبرما ، ونهائيا ..

لا بد من الاعتماد على النفس :

وبعد هذا .. فإن من الواضح أن المأمون كان يعلم قبل كل أحد ، أنه :

لم يكن يستطيع أن يستعين في مواجهة تلك المشاكل بالعباسيين ، بني أبيه ، بعد أن كانوا ينقمون عليه ، قتله أخاه ، العزيز عليهم ، وعلى العرب ، وبعد مواقفه ، التي تقدم بيان جانب منها تجاههم .. وأيضا .. بعد أن كانوا لا يثقون به ، ولا يأمنون جانبه ، بسبب موقفهم السابق منه ..

والأهم من ذلك أنه لم يكن فيهم الرجال الكفاة ، الذين يستطيع

١٩٣

أن يعتمد عليهم (١). يدلنا على ذلك أنهم بعد أن ثاروا على المأمون ، بسبب بيعته للرضا عليه‌السلام ، لم يجدوا فيهم شخصا أعظم ، وأكفأ من ابن شكلة المغني ، فبايعوه ، مع أنه من أصحاب المزامير والبرابط .. وفيه يقول دعبل :

نعر ابن شكلة بالعراق وأهله

فهفا إليه كل أطلس مائق

إن كان ابراهيم مضطلعا بها

فلتصلحن من بعده لمخارق

ولتصلحن من بعد ذاك لزلزل

ولتصلحن من بعده للمارق

أنى يكون ، وليس ذاك بكائن

يرث الخلافة فاسق عن فاسق (٢)

كما أنه عند ما أصبح ابراهيم هذا خليفة ، قال بعض الأعراب ، عند ما جاء الخبر بأنه : لا مال عند الخليفة ليعطي الجند ، الذين ألحوا في طلب اعطياتهم ، قال : « فليخرج الخليفة إلينا ، فليغن لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات ، فتكون عطاءهم ، ولأهل هذا الجانب مثلها .. »

فقال في ذلك دعبل ـ شاعر المأمون ـ يذم ابراهيم بن المهدي :

يا معشر الاجناد لا تقنطوا

خذوا عطاياكم ، ولا تسخطوا

فسوف يعطيكم حنينية

لا تدخل الكيس ، ولا تربط

والمعبديات لقوادكم

وما بها من أحد يغبط

فهكذا يرزق أصحابه

خليفة مصحفه البربط (٣)

__________________

(١) وقد كان بينهم الكثيرون في أول عهد الدولة العباسية .. ونقصد بـ « الكفاءة » هنا : الكفاءة الظاهرية ، التي يقرها منطق الجبارين المتغطرسين. لا الكفاءة الحقيقية التي يريدها الله ، وجاء بها محمد. وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.

(٢) وفيات الأعيان ، طبع سنة ١٣١٠ ه‍ ج ١ ص ٨ ، والورقة لابن الجراح ص ٢٢ ، ومعاهد التنصيص ج ١ ص ٢٠٥ ، والشعر والشعراء ص ٥٤١ ، والكنى والألقاب ج ١ ص ٣٣٠ ، والأطلس : هو الرجل يرمى بالقبيح ..

(٣) معاهد التنصيص ج ١ ص ٢٠٥ ، ٢٠٦ ، وشرح ميمية أبي فراس ص ٢٨١ ، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٩٠ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٤٣ ، والغدير ج ٢ ص

١٩٤

وإذا كان لا يستطيع أن يستعين ببني أبيه العباسيين ، فبالأحرى أن لا يستطيع أن يستعين على حلّ مشاكله بالعلويين ، والمتشيعين لهم ، بعد أن كانوا هم أساس البلاء والعناء له ، والذين يخلقون له أعظم المشاكل ، ويضعون في طريق حكمه أشق العقبات ..

وأما العرب : فهو أعرف الناس بحقيقة موقفهم منه ..

والخراسانيون : لا يستطيع أن يعتمد على ثقتهم به طويلا ، بعد أن كشف لهم عن حقيقته وواقعه الاناني البشع ، بقتله أخاه ، وإبعاده طاهرا بن الحسين ، مشيد أركان حكمه ، عن مسرح السياسة : « ولقد ذكره الرضا بذلك ، عند ما استعرض معه حقيقة الوضع القائم آنذاك .. ». ثم هناك ما تعرضوا له من ظلم وحيف

أي الاساليب أنجع :

وبعد ذلك .. فانه من الواضح أنه :

لم يكن لينقذ الموقف القسوة والعنف ، وهو الذي يعاني المأمون من نتائجه السيئة ما يعاني ..

ولا المنطق والحجاج ، لأن العلويين ـ بناء على ما شاع عند الامة ، بتشجيع من خلفائها ، من أن السبب في استحقاق الخلافة ، هو القربى النسبية منه (ص) ـ إن العلويين بناء على هذا : أقوى حجة من العباسيين ، لأنهم يمتلكون اعترافا صريحا منهم بأن المستحق للخلافة هو

__________________

٣٧٧ ، والأغاني ج ١٨ ص ٦٨ ، وص ١٠١ طبع دار الفكر ، والورقة لابن الجراح ص ٢٢ ، ونزهة الجليس ج ١ ص ٤٠٤ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٦. والحنينيات : منسوبة إلى حنين النجفي العبادي ، المغني المشهور. والمعبديات : منسوبة إلى معبد المغني المشهور. والبربط : ملهاة ، تشبه العود. وهو فارسي معرب. وأصله : بربت ؛ لأن الضارب يضعه على صدره .. انتهى عن نزهة الجليس ..

١٩٥

الأقرب نسبا إلى النبي (ص) ..

هذا .. وإذا ما أراد العباسيون ، أو غيرهم الاحتجاج بالأهلية والجدارة لقيادة الامة ، فان العلويين لا يدانيهم أحد في ذلك ، وذلك لما كانوا يتمتعون به من الجدارة والاهلية الذاتية لقيادة الامة قيادة صالحة وسليمة ..

وأما النص فمن هو ذلك الذي يجرأ على الاستدلال به ، وهو يرى أنه كله في صالح آل علي ، وأئمة أهل البيت منهم بالخصوص.

وهكذا .. نرى ويرى المأمون : أنه لم يكن لينقذ الموقف أي من تلك الأساليب ، ولا غيرها من الطرق والاساليب الملتوية ، واللاإنسانية ، التي اتبعها أسلافة من قبل ..

وإذن .. فلا بد وأن يعود السؤال الأول ليطرح نفسه بكل جدية.

والسؤال هو : ما ذا يمكن للمأمون إذن أن يفعل؟! وكيف يقوي من دعائم حكمه ، الذي هو بالنسبة إليه كل شيء ، وليس قبله ، ولا بعده شيء .. حتى لا يطمع فيه طامع ، ولا تزعزعه العواصف ، ولا تنال منه الأنواء ، مهما كانت هو جاء وعاتية؟! ..

خطة المأمون :

وكان أن اتبع المأمون من أجل انقاذ موقفه ، الذي عرفت أنه يتوقف على نقاط ثمانية .. ومن أجل الاحتفاظ بالخلافة لنفسه ، وأن تبقى في بني أبيه ـ كان أن اتبع ـ أسلوبا جديدا ، وغريبا ، لم يكن مألوفا ، ولا معروفا من قبل .. وأحسب أنه لم يتوصل إليه إلا بعد تفكير طويل ، وتقييم عام وشامل للوضع الذي كان يعيشه ، والمشاكل التي كان يواجهها ..

لقد كانت خطته غريبة وفريدة من نوعها ، وكانت في غاية الاتقان ، والاحكام في نظره ..

١٩٦

فبينما نراه من جهة :

لا يذكر أحدا من الخلفاء ، ولا غيرهم من الصحابة بسوء ، بل هو يتخرج حتى من المساس بغير الصحابة ، وحتى بأولئك الذين كان حالهم في الخروج على الدين ، وتعاليم الشريعة ، معروفا ومشهورا « كالحجاج ابن يوسف »! وذلك من أجل أن لا يثير عواطف أولئك الذين يلتقي معهم فكريا وسياسيا ، ومصلحيا. والذين سوف يكونون له في المستقبل الدرع الواقي ، والحصن الحصين ..

فاستمع إليه يقول ـ كما يروي لنا التغلبي المعاصر له : « .. وظنوا أنه لا يجوز تفضيل علي إلا بانتقاص غيره من السلف! والله ، ما أستجيز أن أنتقص الحجاج بن يوسف ؛ فكيف بالسلف الطيب؟! » (١).

وكذلك نراه يركن إلى رأي يحيى بن أكثم ، الذي قال له ـ عند ما أراد الاعلان بسبب معاوية على المنابر ـ : « والرأي أن تدع الناس كلهم على ما هم عليه ، ولا تظهر أنك تميل إلى فرقة من الفرق ؛ فإن ذلك أصلح في السياسة ، وأحرى في التدبير .. » ، ثم يدخل عليه ثمامة ؛ فيقول له المأمون : « يا ثمامة ، قد علمت ما كنا دبرناه في معاوية. وقد عارضنا رأي هو أصلح في تدبير المملكة ، وأبقى ذكرا في العامة الخ .. » (٢).

وأيضا .. نرى شعره الذي يرويه لنا غير واحد :

أصبح ديني الذي أدين به

ولست منه الغداة معتذرا

حب علي بعد النبي ولا

أشتم صديقا ولا عمرا

__________________

(١) عصر المأمون ج ١ ص ٣٦٩ ، نقلا عن : تاريخ بغداد ، لابن طيفور ج ٦ ص ٧٥.

(٢) المحاسن والمساوي ص ١٤١ ، وضحى الاسلام ج ٢ ص ٥٨ ، وج ٣ ص ١٥٢ ، ١٥٦ ، وعصر المأمون ج ١ ص ٣٧١ ، والموفقيات ص ٤١ ، وكتاب بغداد ص ٥٤.

١٩٧

ثم ابن عفان في الجنان مع

الابرار ذاك القتيل مصطبرا

ألا ولا أشتم الزبير ولا

طلحة إن قال قائل غدرا

و عائش الام لست أشتمها

من يفتريها فنحن منه برا (١)

ونراه أيضا يتجسس على عبد الله بن طاهر ؛ ليعلم : هل له ميل إلى آل أبي طالب أولا (٢).

ونراه يقدم على قتل الرضا (ع) ، وإخوته ، وآلاف من العلويين غيرهم ، ويصدر أمرا لامرائه ، وقواده بالقضاء عليهم ، وفض جمعهم ، بعد أن منعهم من ملاقاته ، ومن الدخول عليه كما سيأتي.

ونراه كذلك .. يرسل إلى عامله على مصر ، يأمره بغسل المنابر ، التي دعي عليها لعلوي ( هو الإمام الرضا (ع) ) .. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لاستقصائه ..

بينما نراه كذلك ..

نراه من جهة ثانية

يقدم على الاعلان ببراءة الذمة ممن يذكر معاوية بن أبي سفيان بخير أي أنه أراد أن يجعل تفضيل علي (ع) ، والبراءة من معاوية دينا رسميا ، يحمل الناس كلهم عليه ، كما كان الحال بالنسبة لقضية خلق القرآن ..

والاعلان بسب معاوية ، وإن كان الاقدام عليه في سنة ٢١٢ ه‍. لكن تفضيله عليا ، على جميع الخلق ، وتقربه لولده ، وإظهاره التشيّع

__________________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٧٧ ، وفوات الوفيات ج ١ ص ٢٤١ ، ما عدا البيت الرابع.

(٢) الطبري ج ١١ ص ١٠٩٤ ، طبع ليدن ، والعقد الفريد للملك السعيد ص ٨٤ ، ٨٥. وتجارب الامم ج ٦ المطبوع مع العيون والحدائق ص ٤٦١.

١٩٨

والحب لهم (١) إنما كان من أول أيامه .. يدلنا على ذلك أمور كثيرة ، ويكفي هجاء ابن شكلة له ، وهجاؤه لابن شكلة شاهدا على ذلك .. فضلا عن الكثير من الامور الاخرى غيره.

ثم نراه بعد ذلك يبيح المتعة ، ويصف الخليفة الثاني ، عمر بن

__________________

(١) قال في النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٢٠١ ، ٢٠٢ ، ومثله في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٣٠٨ ، وغيرهما : « أن المأمون كان يبالغ في التشيع ، ويقول : إن أفضل الخلق بعد النبي علي بن أبي طالب. وأمر أن ينادى ببراءة الذمة ممن يذكر معاوية بخير ، لكنه لم يتكلم في الشيخين بسوء بل كان يترضى عنهما ، ويعتقد إمامتهما .. ».

وهذا بعينه هو مذهب معتزلة بغداد ابتداء من بشر بن المعتمر ، وبشر بن غياث المريسي وغيرهما من معتزلة بغداد ، حتى لقد قال بشر المريسي المعتزلي المعروف على ما في البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٧٩ :

قد قال مأموننا وسيدنا

قولا له في الكتب تصديق

إن عليا أعني أبا حسن

خير من قد أقلت النوق

بعد نبي الهدى ، وإن لنا

أعمالنا والقرآن مخلوق

وصرح بأنه يذهب مذهب المعتزلة كثيرون ، فليراجع : البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٧٥ ، وضحى الاسلام ج ٣ ص ٢٩٥ ، وامبراطورية العرب ص ٦٠٠ ، وغيرهم ، بل لقد قال خيري حماد ، في تعليقته على ص ٦٠١ من امبراطورية العرب : « أجمعت كتب التاريخ العربي على أن المأمون مال إلى الأخذ بمذهب المعتزلة ، فقرب أتباع هذا المذهب إليه إلخ .. ». ويدل على ذلك أيضا أقوال. وأشعار المأمون المتقدمة .. ولعل وصف بعض المؤرخين له بالتشيع هو الذي أوهم البعض بأن المأمون كان يتشيع بالمعنى المعروف للتشيع ، فجزم بذلك ، وبدأ يحشد الدلائل ، والشواهد ، التي لا تسمن ، ولا تغني من جوع ، وقد غفل عن أنهم يقصدون بكلمة « التشيع » المعنى اللغوي ، لا المعنى الخاص المعروف الآن ..

وبعد .. فان من الواضح : أن عقيدة المأمون تلك ، لم تكن تثمر على الصعيد العملي العام ؛ فانه كان من السياسيين ، الذين لا ينطلقون في سلوكهم ، ومواقفهم الخارجية من منطلقات عقائدية ، ومفاهيم انسانية .. وانما يكون المنطلق لهم في مواقفهم ، وتصرفاتهم ، هو ـ فقط ـ مصالحهم الشخصية ، وما له مساس في استمرار فرض سلطتهم ، وتأكيد سيطرتهم ..

١٩٩

الخطاب بـ « جعل » (١) ، أو نحو ذلك ..

ونراه أيضا أنه عند ما سأل أصحابه عن : أنبل من يعلمون نبلا ، وأعفهم عفة ، فقال له علي بن صالح : « أعرف القصة في عمر بن الخطاب ، فأشاح بوجهه ، وأعرض ، وذكر كلاما ليس من جنس هذا الكتاب ، فنذكره ، إلخ .. » (٢) على حد تعبير البيهقي .. وذكر طيفور : أن أبا عمر الخطابي دخل على المأمون ؛ فتذاكروا عمر بن الخطاب فقال المأمون : إلا أنه غصبنا ، فقال له أبو عمر يا أمير المؤمنين ، يكون الغصب الا بحق يد فهل كانت لكم يد ، قال فسكت المأمون عنه ، واحتملها له (٣).

ولكن اعتراض الخطابي اعتراض بارد وتوجيه فاسد فهل الخلافة من الأموال؟ أم هي حق جعله الله لهم؟ ولا ندري سر سكون المأمون عنه ، واحتماله منه ، إلا ما قدمناه ..

بل إن الأهم من ذلك كله .. أننا نراه يصف الخلفاء الثلاثة ، وغيرهم من الصحابة بأنهم : « ملحدين » ، ناسيا ، أو متناسيا كل أقواله السابقة ، وخصوصا شعره ، وقوله : إنه يتحرج حتى من تنقص

__________________

(١) وفيات الأعيان ترجمة يحيى بن أكثم ج ٢ / ٢١٨ ط سنة ١٣١٠ ه‍. والسيرة الحلبية ج ٣ / ٤٦ والنص والاجتهاد ص ١٩٣ ، وفي قاموس الرجال ج ٩ / ٣٩٧ ، نقلا عن الخطيب في تاريخ بغداد : أنه كان يقول : « ومن أنت يا أحول الخ .. » ، ولا يخفى أنهم أرادوا تلطيف العبارة بقدر المستطاع ؛ فحرفوها إلى ما ترى ..

هذا .. وقد يرى البعض : أن تفضيله عليا ، وأعلانه بسبب معاوية ، وإباحته المتعة ، وقوله بخلق القرآن ، ليس إلا لإشغال الناس بعضهم ببعض ، وصرف الناس عن التفكير بالخلافة ، التي هي أعز ما في الوجود عليه ، والتي ضحى من أجلها بأخيه ، وأشياعه ، ووزرائه ، وقواده .. وكذلك من أجل صرف الناس عن أهل البيت عليهم‌السلام ، وابعادهم عنهم .. ولعل هذا الرأي لا يعدم بعض الشواهد التاريخية ، التي تؤيده ، وتدعمه.

(٢) المحاسن والمساوي ص ١٥٠.

(٣) كتاب بغداد ص ٥١.

٢٠٠