الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢

رغم أن المأمون كان أسن من الأمين بستة أشهر ، وعلى أقل الأقوال بشهر واحد ..

وأصبح الرشيد حينئذ أمام الأمر الواقع ، حيث إن الذي أقدم على هذا الأمر ، هو ذلك الرجل ، الذي لا يمكن رد كلمته ، والذي له من النفوذ والسلطان ، والخدمات الجلى ، والأيادي البيضاء عليه ، ما لا يمكن له ، ولا لأحد غيره أن يجحده أو أن يتجاهله ..

ويلاحظ هنا : أن عيسى بن جعفر قد ذكر أن أخته زبيدة ، تسأله أن يقدم على هذا الأمر ، وزبيدة التي تحظى باحترام كبير عند العباسيين ، ولها نفوذ واسع ، وتأثير كبير على الرشيد ـ زبيدة هذه ـ يهتم البرامكة جدا بأن تكون معهم ، وإلى جانبهم ؛ وذلك ليبقى لهم سلطانهم ، ويدوم لهم حكمهم ، الذي أشار إليه عيسى بقوله : « فانه ولدك ، وخلافته لك » فإن في هذا القول دليلا واضحا للفضل على سلامة وصحة ما يقدم عليه بالنسبة لمصالحه هو ، ومصالح البرامكة بشكل عام ، وبالنسبة لدورهم في مستقبل الخلافة العباسية .. وهو في الحقيقة يشتمل على إغراء وترغيب واضح بالعمل لهذا الأمر ، وفي سبيله ..

كما أن قول عيسى الآنف الذكر يلقي لنا ضوءا على الدور الذي لعبته زبيدة في مسألة البيعة لولدها بولاية العهد .. فهو يشير إلى أنها كانت قد استخدمت نفوذها في اقناع رجال الدولة بتقديم ولدها .. هذا بالاضافة إلى أنها كانت تحرض الرشيد على ذلك باستمرار (١) ، حتى لقد صرح الرشيد نفسه بأنه : « لو لا أم جعفر وميل بني هاشم لقدم عبد الله على محمد ، كما أشرنا إليه » ..

قال محمد فريد وجدي مشيرا إلى أن الرشيد لم يكن يريد جرح عاطفة

__________________

(١) النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٨١ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٩٠.

١٦١

زبيدة : « كانت ولاية الأمين بعهد من أبيه ، قدمه على إخوته لمكان والدته. وكان الأحق بالتقديم المأمون لعلمه وفضله وسنه .. » (١).

وبعد .. فإننا لا نستبعد أنها كانت بالاضافة إلى ذلك قد استخدمت أموالها ، من أجل ضمان ولاية العهد لولدها الأمين ، ولعل مما يشير إلى ذلك قول الفضل بن سهل للمأمون : « وهو ابن زبيدة ، وأخواله بنو هاشم ، وزبيدة وأموالها .. » ..

وأخيرا .. فإنّ من المحتمل جدا أن يكون الرشيد ـ بملاحظة الدور الذي كانت تلعبه الأنساب في التفكير العربي ـ قد لاحظ سمو نسب الأمين على المأمون ، وكان لذلك أثر في تقديمه له عليه ، وقد ألمح بعض المؤرخين إلى ذلك فقال : « وفيها ( أي في سنة ١٧٦ ه‍ ) عقد الرشيد لابنه المأمون عبد الله العهد بعد أخيه الأمين .. إلى أن قال : وكان المأمون أسن من الأمين بشهر واحد ، غير أن الأمين أمه زبيدة بنت جعفر هاشمية ، والمأمون أمه أم ولد اسمها « مراجل » ماتت أيام نفاسها به .. » (٢).

محاولات الرشيد لصالح المأمون :

ومن كل ما تقدم يتضح لنا حقيقة موقف العباسيين ، وأهل بيت المأمون ، ورجال الدولة من المأمون .. ويظهر إلى أي حد كان مركز أخيه قويا ، ونجمه عاليا ، وأنه لم يكن له مثل ذلك الحظ الذي كان لأخيه الأمين.

__________________

(١) دائرة المعارف الاسلامية ج ١ ص ٦٠٦.

(٢) النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٨٤ ، وقريب منه ما في تاريخ الخلفاء للسيوطي.

١٦٢

إلا أن أباه الرشيد ، الذي كان يدرك حقيقة الموقف كل الادراك ، قد حاول أن يضمن له نصيبه من الخلافة ، فجعله ولي العهد بعد أخيه الأمين ، وكتب بذلك العهود والمواثيق ، وأشهد عليها ، وعلقها في جوف الكعبة ، ولا نعلم خليفة ، قبله ولا بعده فعل ذلك مع أولياء عهده ، من أولاده أو من غيرهم ، رغم أن غيره من الخلفاء قد أخذوا البيعة لأكثر من واحد بعدهم.

كما أنه قد حاول بطرق شتى أن يشد من عضد المأمون ، ويقوي مركزه في مقابل أخيه الأمين ؛ لأنه كان يخاف منه على أخيه المأمون ؛ فنراه يجدد أخذ البيعة للمأمون أكثر من مرة ، ويوليه الحرب ، ويولي أخاه السلم (١) ويهب المأمون كل ما في العسكر من كراع وسلاح ، ويأمر الفضل بن الربيع ، الذي كان يعرف أنه سوف يتآمر مع الأمين ـ يأمره ـ بالبقاء مع المأمون في خراسان. إلى غير ذلك من مواقفه ، التي لا نرى حاجة لتتبعها واستقصائها.

مركز المأمون ظل في خطر :

ولكن رغم كل محاولات الرشيد فقد ظل مركز المأمون في خطر والكل كان يشعر بذلك ، وكيف لا يعرف الجميع ذلك ، ولا يشعرون به ، وهم يرون الأمين يصرح بعد أن أعطى العهود والمواثيق ، وحلف الايمان ، بأنه : كان يضمر الخيانة لأخيه المأمون (٢).

لقد كان الكثيرون يرون بأن هذا الأمر لا يتم ، وأن الرشيد قد أسس العداء والفرقة بين أولاده ، « وألقى بأسهم بينهم ، وعاقبة ما صنع

__________________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٣ ، والطبري حوادث سنة ١٨٦ ه‍.

(٢) الوزراء والكتاب ص ٢٢٢.

١٦٣

في ذلك مخوفة على الرعية » ، وقالت الشعراء في ذلك الشيء الكثير. ومن ذلك قول بعضهم :

أقول لغمة في النفس مني

ودمع العين يطرد اطرادا

خذي للهول عدته بحزم

ستلقي ما سيمنعك الرقادا

فإنك إن بقيت رأيت أمرا

يطيل لك الكآبة والسهادا

رأى الملك المهذب شر رأي

بقسمته الخلافة والبلادا

رأى ما لو تعقبه بعلم

لبيض من مفارقه السوادا

أراد به ليقطع عن بنيه

خلافهم ويبتذلوا الودادا

فقد غرس العداوة غير آل

وأورث شمل الفتهم بدادا

والقح بينهم حربا عوانا

وسلس لاجتنابهم القيادا

فويل للرعية عن قليل

لقد أهدى لها الكرب الشدادا

وألبسها بلاء غير فان

وألزمها التضعضع والفسادا

ستجري من دمائهم بحور

زواخر لا يرون لها نفادا

فوزر بلائهم أبدا عليه

أغيا كان ذلك أم رشادا (١)

و المأمون وحزبه كانوا يدركون ذلك :

وبعد .. فإنه من الطبيعي جدا أن نرى أن المأمون وحزبه كانوا يدركون أن مركز المأمون كان في خطر ، وأن الأمين كان ينوي الخيانة لأخيه. ولقد رأينا الفضل بن سهل عند ما عزم الرشيد على الذهاب إلى خراسان ، وأمر المأمون بالمقام في بغداد ـ رأيناه ـ يقول للمأمون : « لست تدري ما يحدث بالرشيد ، وخراسان ولايتك ، والأمين مقدم عليك. وإن أحسن ما يصنع بك أن يخلعك ؛ وهو ابن زبيدة ، وأخواله

__________________

(١) الطبري حوادث سنة ١٨٦ ه‍.

١٦٤

بنو هاشم ، وزبيدة ، وأموالها .. » (١) .. وتقدم أيضا قوله له : إن أهل بيته وبني أبيه ، والعرب معادون له ..

والرشيد أيضا كان في قلق :

بل لقد صرح الرشيد نفسه بأنه كان يخشى من الأمين على المأمون ؛ فإنه قال لزبيدة ، عند ما عاتبته على اعطائه الكراع والسلاح للمأمون : « إنا نتخوف ابنك على عبد الله ، ولا نتخوف عبد الله على ابنك إن بويع .. » (٢).

هذا بالاضافة إلى تصريحات الرشيد السابقة ، والتي لا نرى حاجة إلى اعادتها ..

ولقد قال الرشيد ، عند ما بلغه ما يتهدد به محمد الأمين :

محمد لا تظلم أخاك فإنه

عليك يعود البغي إن كنت باغيا

ولا تعجلن الدهر فيه فإنه

إذا مال بالأقوام لم يبق باقيا (٣)

ومهما يكن من أمر ، فان الحقيقة التي لا يمكن الجدال فيها ، هي أن الرشيد كان في قضية ولاية العهد مغلوبا على أمره ، من مختلف الجهات .. وكان يشعر أن ما أبرمه سوف يكون عرضة للانتقاض بين لحظة وأخرى ، وكم كان يؤلمه شعوره هذا ، ويحز في نفسه .. حتى لقد ترجم مشاعره هذه شعرا فقال :

__________________

(١) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٢٩ ، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص ١٠٢ ، والكامل لابن الأثير ، طبعة ثالثة ج ٥ ص ١٢٧ ، والوزراء والكتاب ص ٢٦٦.

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٣. ولعله إنما فعل ذلك أيضا ، من أجل أن يطيب خاطر المأمون ، ويذهب ما في نفسه ـ وهو الأفضل ، والأكبر سنا من أخيه ـ من غل وحقد وضغينة ..

(٣) ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون ص ٢٤٥ ، وفوات الوفيات ج ٢ ص ٢٦٩.

١٦٥

لقد بان وجه الرأي لي غير أنني

غلبت على الأمر الذي كان أحزما

وكيف يرد الدّرّ في الضرع بعد ما

توزع حتى صار نهبا مقسما

أخاف التواء الأمر بعد استوائه

وأن ينقض الحبل الذي كان أبرما (١)

على من يعتمد المأمون؟

وهكذا .. وإذا كان أبوه قد استطاع أن يضمن له المركز الثاني بعد أخيه الأمين ، وإذا كان ذلك لا يكفي لأن يجعل المأمون يطمئن إلى مستقبله في الحكم ، وأن يأمن أخاه وبني أبيه العباسيين ، أن لا يحلوا العقدة ، وينكثوا العهد ؛ فهل يستطيع المأمون أن يعتمد على غيرهم ، لو تعرض مركزه ووجوده للتهديد في وقت ما؟!. ومن هم أولئك الذين يستطيع أن يعتمد عليهم؟! وكيف؟ .. وما هو موقفهم فعلا منه؟! وكيف يستطيع أن يصل الى الحكم ، والسلطان؟! ومن ثم .. كيف يستطيع أن يحتفظ به ، ويقوي من دعائمه؟!

إن نظرة شاملة على الفئات الاخرى في تلك الفترة من الزمن ، لكفيلة بأن تظهر لنا أنه لم يبق أمام المأمون غير العلويين ، والعرب ، والايرانيين ..

فما هو موقف هؤلاء منه ، وأي الفئات تلك هي التي يستطيع أن يعتمد عليها؟. وكيف يستطيع أن يغير ماجريات الامور لتكون في صالحه ، وعلى وفق مراده؟! ..

هذا هو السؤال الذي لا بد للمأمون من أن يضع الحل والاجابة عليه ، بكل دقة ووعي وإدراك ، وأن يتحرك من ثم على وفق تلك الاجابة ،

__________________

(١) ابن بدرون أيضا ص ٢٤٥ ، وزهر الآداب ، طبع دار الجيل ج ٢ ص ٥٨١ ، وفوات الوفيات ج ٢ ص ٢٦٩.

١٦٦

وعلى مقتضى ذلك الحل .. ولنلق أولا نظرة سريعة على مواقف كل من هؤلاء من المأمون ، ولنخلص من ثم إلى معرفة الفئة التي يستطيع المأمون أن يعتمد عليها في مواجهة الأخطار والتحديات ، التي تنتظره ، وتنتظر نظام حكمه ، بصورة عامة .. فنقول :

موقف العلويين من المأمون :

أما العلويون .. فإنهم ـ بالطبع ـ لن يرضوا بالمأمون ـ كما لن يرضوا بغيره من العباسيين ، خليفة وحاكما لأن من بينهم من هو أجدر من كل العباسيين ، وأحق بهذا الأمر ، ولأن المأمون ، وغيره ، كانوا من تلك السلالة ، التي لا يمكن أن تصفو لها قلوب آل علي ؛ لأنها قد فعلت بهم أكثر من فعل بني أمية معهم ، كما تقدم .. فقد سفكت دماءهم ، وسلبتهم أموالهم ، وشردتهم عن ديارهم ، وأذاقتهم شتى صنوف العذاب والاضطهاد .. ويكفي المأمون عندهم : أنه ابن الرشيد ، الذي حصد شجرة النبوة ، واجتث غرس الإمامة ، والذي قد عرفت طرفا من سيرته السيئة معهم فيما تقدم من الفصول ..

موقف العرب من المأمون ، ونظام حكمه :

وأما العرب : فإنهم لا يرضون بالمأمون خليفة وحاكما أيضا ، كما أشار إليه الفضل بن سهل فيما تقدم ..

أما أولا : فلأن أمه ، ومؤدبه ، والقائم بأمره ، غير عربيين. ولقد عانى العرب ما الله أعلم به ، من تقديم أسلافه للموالي ، حتى لم يعد لهم معهم أي شأن يذكر ، وأصبح العربي أذل من نعجة ، وأحقر من الحيوان ..

قال المسعودي : « .. وكان ( أي المنصور ) أول خليفة استعمل

١٦٧

مواليه وغلمانه في أعماله ، وصرفهم في مهماته ، وقدمهم على العرب ؛ فامتثل ذلك الخلفاء من بعده ، من ولده ، فسقطت ، وبادت العرب ، وزالت رئاستها ، وذهبت مراتبها .. » (١).

وقال ابن حزم ، وهو يتحدث عن العباسيين : « .. فكانت دولتهم أعجمية ، سقطت فيها دواوين العرب ، وغلبت عجم خراسان على الأمر ، وعاد الأمر كسرويا ، إلا أنهم لم يعلنوا بسبب أحد من الصحابة رضوان الله عليهم .. وافترقت في دولة بني العباس كلمة المسلمين (٢) .. ».

ويقول الجاحظ : « .. دولة بني العباس أعجمية ، خراسانية ، ودولة بني مروان عربية (٣) .. ».

إلى آخر ما هنالك ، مما يدل على سقوط العرب في تلك الفترة ، وامتهانهم. ويبدو أن ذلك من المسلمات. وقد استوفى الباحثون ـ ومنهم أحمد أمين ، في الجزء الأول من ضحى الاسلام ـ البحث في هذا الموضوع ؛ فمن أراد فليراجع مظان وجوده ..

وإذا ما عرفنا : أن من الطبيعي أن يكون ذهاب رئاسة العرب ، وإبادتها ، واضطهادها على يد الفرس ، الذين كانوا هم أصحاب القدرة والسلطان آنذاك .. فلسوف نجد أن من الطبيعي أن يحقد العرب ، الذين كانوا في وقت ما هم أصحاب الجبروت والقوة ، على الفرس ، وعلى كل من يتصل بهم ، ويمت إليهم بسبب ؛ من قريب أو من بعيد ..

__________________

(١) مروج الذهب ، طبع بيروت ج ٤ ص ٢٢٣ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٤ ، وص ٢٦٩ ، ٢٧٠ ، وص ٢٥٨ ، وفي طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٩ ، نقلا عن المقريزي في : السلوك لمعرفة دول الملوك ج ١ ص ١٤ مثل ذلك. وليراجع أيضا كتاب : مشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص ٢٣.

(٢) البيان المغرب ، طبع صادر ص ٧١.

(٣) البيان والتبيين ج ٣ ص ٣٦٦.

١٦٨

وأما ثانيا : فلسيرة أسلافه ، وأبيه الرشيد بالخصوص ، في الناس عامة ، ومع أهل بيت نبيهم خاصة ، والتي قدمنا شطرا منها في الفصول التي سبقت.

أما الأمين : فقد كان له ـ إلى حدّ ما ـ شافع عندهم ؛ حيث إنه كان من أب وأم عربيين من جهة. وكان قد منحهم ثقته وحبه ، وقربهم إليه ، حتى كان وزيره الفضل بن الربيع منهم .. من جهة ثانية ؛ فتوسموا فيه أن يجعل لهم ، شأنا وأن ينظر إليهم بغير العين ، التي كان أبوه وأسلافه ينظرون إليهم بها. أو على الأقل : سوف لا تكون نظرته إليهم ، على حد نظرة المأمون نحوهم. وذلك ما يجعلهم يرجحونه ـ على الأقل ـ على أخيه المأمون ، وإن كان المأمون أفضل ، وأسن منه ؛ فلقد كان عليهم أن يختاروا أهون الشرين ، وأقل الضررين .. حتى إن نصر بن شبث ، الذي كان هواه مع العباسيين ، لم يقم بثورته ضد المأمون ، التي بدأت سنة ١٩٨ ه‍. واستمرت حتى سنة ٢١٠ ه‍. إلا انتصارا للعرب ، ومحاماة عنهم ؛ لأن العباسيين كانوا يفضلون عليهم العجم ، حسب تصريحات نصر بن شبث نفسه (١).

وحتى في مصر أيضا ، قد ثارت الفتن بين القيسية ، المناصرة للأمين ، واليمانية المناصرة للمأمون ..

وقال أحمد أمين : « .. إن أغلب الفرس تعصب للمأمون ، وأغلب العرب تعصبوا للأمين .. » (٢).

كما أننا نكاد لا نشك في أن تعصب العرب للأمين ليس إلا للسببين المتقدمين ، الذين أشرنا إليهما ، وأشار إلى أحدهما نصر بن شبث ..

__________________

(١) التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج ٣ ص ١٠٤.

(٢) ضحى الاسلام ج ١ ص ٤٣.

١٦٩

ولكن فردينان توتل يرى في منجد الاعلام : أن تعصب العرب للأمين يرجع إلى أن : « المأمون لم يستطع أن يجعل العرب يحبونه ؛ حيث إنه كان يظهر ميلا للايرانيين ، ويقربهم إليه. وقد أعانه الايرانيون في مبارزاته ، وحروبه ، وخصوصا الخراسانيين منهم .. ».

ولكن الذي يبدو لي هو أن تعصب العرب للأمين لم يكن نتيجة تقريب المأمون للايرانيين ، وتحببه للخراسانيين ، وانما عكس ذلك هو الصحيح ؛ فإن المأمون لم يتقرب من الخراسانيين إلا بعد أن فرغت يده من العرب ، وأهل بيته ، والعلويين ..

لا بد من اختيار خراسان :

وبعد أن فرغت يد المأمون من بني أبيه ، والبرامكة (١) ، والعرب ، والعلويين ، اضطر أن يلتجئ إلى جهات أخرى لتمد له يد العون والمساعدة ، وتكون سلما لأغراضه ، واداة لتحقيق أهدافه ومآربه .. ولم يبق أمامه غير خراسان ؛ فاختارها ، كما اختارها محمد بن علي العباسي من قبل. فأظهر لهم الميل والحب ، وتقرب إليهم ، وقربهم إليه ، وأراهم : أنه محب لما ولمن يحبون ، وكاره لما ولمن يكرهون. حتى إنه عند ما علم منهم الميل إلى العلويين ، والتشيع لهم ، أظهر هو بدوره أنه محب للعلويين ، ومتشيع لهم ..

كما أنه كان من جهة ثانية قد قطع لهم على نفسه الوعود والعهود ، بأن يرفع

__________________

(١) ذكرنا للبرامكة هنا ليس عفويا ؛ فان محط نظرنا يشمل حتى الأيام الاولى ، التي فتح بها المأمون عينيه ، وعرف واقعه ، وأدرك الأخطار ، التي تتهدده ، وتتهدد مستقبله في الخلافة مع أخيه الأمين ؛ فلا يرد علينا : أن البرامكة قد نكبهم الرشيد قبل خلافة المأمون بزمان .. مضافا إلى الدور الكبير الذي لعبه البرامكة في تقديم أخيه الأمين عليه ، حسبما قدمنا ..

١٧٠

الظلم والحيف عنهم ، ويرد عنهم الكيد ، الأمر الذي جعلهم يثقون به ، ويطمئنون إليه ، ويعلقون كل آمالهم عليه ..

تشيع الايرانيين :

هذا .. وليس تشيع (١) الايرانيين بالأمر الذي يحتاج إلى اثبات ، بعد أن تقدم معنا : أن دولة العباسيين ما قامت إلا على أساس الدعوة للعلويين ، وأهل البيت .. وبعد أن رأينا الخراسانيين يظهرون النياحة على « يحيى بن زيد » سبعة أيام ، وكل مولود ولد في خراسان في سنة قتل يحيى سمي بـ « يحيى » (٢) .. بل يذكر البلاذري : أنه لما استشار المنصور عيسى بن موسى في أمر محمد وابراهيم ابني عبد الله بن الحسن ، فأشار عليه بأن يولي المدينة رجلا خراسانيا ، قال له المنصور : « يا أبا موسى إن محبة آل أبي طالب في قلوب أهل خراسان ممتزجة بمحبتنا ، وإن وليت أمرها رجلا من أهل خراسان حالت محبته لهما بينه وبين طلبهما ، والفحص عنهما ، ولكن أهل الشام قاتلوا عليا على أن لا يتأمر عليهم لبغضهم إياه الخ .. » (٣).

وقد تقدم معنا : كيف وصف المؤرخون ما جرى في نيشابور ، حين دخلها الإمام الرضا ، وسيأتي في فصل : خطة الإمام ، وصف ما جرى في مرو حينما خرج الإمام ليصلي بالناس .. ولقد عرفنا أيضا : كيف فرق الإمام الرضا الناس عن المأمون. عند ما أرادوا قتله ، انتقاما للفضل بن سهل ..

__________________

(١) قد تقدم منا ما نقصده بكلمة « التشيع » في هذا الكتاب ؛ فلا نعيد.

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٢١٣ ، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٥٧ ، وليراجع أيضا نزهة الجليس ج ١ ص ٣١٦ ؛ فان فيه ما يشير إلى ذلك ..

(٣) أنساب الأشراف للبلاذري ج ٣ ص ١١٥.

١٧١

بل لقد بلغ من حب الايرانيين لأهل البيت أن المأمون كان يخشى على نفسه أن يقتلوه ، لو أنه أراد أن يرجع عن البيعة للامام الرضا بولاية العهد (١).

ويقول جرجي زيدان : « وكان الخراسانيون ، ومن والاهم من أهل طبرستان والديلم ، قبل قيام الدولة العباسية ، من شيعة علي ؛ وإنما بايعوا للعباسيين مجاراة لأبي مسلم أو خوفا منه .. » (٢).

وقال أحمد أمين : « .. إن الفرس يجري في عروقهم التشيع .. » (٣).

ويقول الدكتور الشيبي : « .. إن الفرس قد عادوا إلى التشيع ، بعد أن نزلت بهم ضربة السفاح أولا ، ثم المنصور ، ثم الرشيد .. » (٤).

ويقول أحمد شلبي : « .. إنه ربما كان سبب أخذ المأمون للرضا العهد ، هو أنه يريد أن يحقق آمال الخراسانيين ، الذين كانوا إلى أولاد علي أميل .. » (٥).

ما هو سرّ تشيّع الايرانيين؟

يقول السيد أمير علي ، وهو يتحدث عن سر ارتباط الفرس بقضية بني فاطمة : « .. وقد أظهر الامام علي منذ بداية الدعوة الاسلامية

__________________

(١) تاريخ التمدن الاسلامي المجلد الثاني ، جزء ٤ ص ٤٤٠.

(٢) نفس المصدر والمجلد ، والجزء ص ٢٣٢. ولا يهمنا هنا مناقشة جرجي زيدان فيما جعله سببا لبيعتهم للعباسيين ، ولعل ما قدمناه في فصل : قيام الدولة العباسية كاف في ذلك ..

(٣) ضحى الاسلام ج ٣ ص ٢٩٥.

(٤) الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٠١.

(٥) التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج ٣ ص ١٠٧.

١٧٢

كل تقدير ، ومودة نحو الفرس ، الذين اعتنقوا الاسلام. لقد كان سلمان الفارسي ، وهو أحد مشاهير أصحاب الرسول ، رفيق علي وصديقه ، وكان من عادة الإمام أن يخصص نصيبه « النقدي » في الانفال لافتداء الأسرى. وكثيرا ما أقنع الخليفة عمر بمشورته ؛ فعمد إلى تخفيف عبء الرعية في فارس. وهكذا كان ولاء الفرس لأحفاده واضحا تمام الوضوح .. » (١).

ويرى فان فلوتن : ان من أسباب ميل الخراسانيين ، وغيرهم من الايرانيين للعلويين ، هو أنهم لم يعاملوا معاملة حسنة ، ولا رأوا عدلا إلا في زمن حكم الإمام علي (ع) (٢) ..

أما الاستاذ علي غفوري فيرى (٣) : أن الايرانيين كانوا قبل الاسلام يعاملون بمنطق : أن الناس قد خلقوا لخدمة الطبقة الحاكمة ، وأن عليهم أن ينفذوا الأوامر من دون : كيف؟ ولماذا؟. فجاء الإسلام بتعاليمه الفطرية السهلة السمحاء ؛ فاعتنقوه بكل رضى وأمل ، وبدأ جهادهم في سبيل اقامة حكومة اسلامية حقيقية.

وبما أن أولئك الذين تسلموا زمام الامور ـ باستثناء الإمام علي طبعا ـ كانوا منحرفين [ المقصود هنا بالطبع هو خلفاء الامويين ] عن الاسلام ، وتعاليمه ، ويحاولون تلبيس عاداتهم الجاهلية ، حتى التمييز القبلي ، والعرقي بلباس الاسلام ، واعطائها صفة القانونية والشرعية .. فان الايرانيين لم يجدوا أهداف الاسلام ، وتعاليمه في تلك الحكومات ؛ ولهذا كان من الطبيعي أن يتوجهوا إلى علي ، والأئمة من ولده ، الذين تعدى الآخرون على حقوقهم بالخلافة ، والذين كان سلوكهم المثالي هو

__________________

(١) روح الاسلام ص ٣٠٦.

(٢) السيادة العربية والشيعة والاسرائيليات ..

(٣) يادبود هشتمين امام « فارسي ».

١٧٣

المرآة الصافية ، التي تنعكس عليها تعاليم الإسلام وأهدافه ، ويمثلون الصورة الحقيقية للاسلام على مدى التاريخ ، وكان صدى علمهم ، وزهدهم ، واستقامتهم يطبق الخافقين ، وخصوصا الصادق والرضا ، الذي اهتبل والفرصة إبان الخلاف بين الأمين والمأمون لنشر تعاليم الإسلام ، وتعريف الناس على الحقائق ، التي شاء الآخرون أن لا يعرفها أحد.

لكن لم يكن يروق للقوى الحاكمة ، أن تظهر تلك الوجوه الطاهرة على الصعيد العام ، وتتعرف عليها الامة الإسلامية ، وعلى فضائلها ، وكمالاتها ؛ لأن الناس حينئذ سوف يدركون الواقع المزري لأولئك الحكام ، والمتزلفين لهم. والذين كانوا يتحكمون بمقدرات الامة ، وامكاناتها ؛ وإذا أدركوا ذلك فان من الطبيعي أن لا يترددوا في تأييد الأئمة ، ومساعدة أية نهضة ، أو ثورة من قبلهم ؛ ولهذا فقد جهد الحكام في أن يزووهم ويبعدوهم ما أمكنهم عن الناس ، ووضعوهم تحت الرقابة الشديدة ، وفي أحيان كثيرة في غياهب السجون .. حتى إذا ما سنحت لهم فرصة ، تخلصوا منهم بالطريقة التي كانوا يرون أنها لا تثير الكثير من الشكوك والظنون ..

عود على بدء :

وعلى كل حال .. فان ما يهمنا هنا هو مجرد الاشارة إلى تشيّع الايرانيين ، الذي حاول المأمون أن يستغله لمصالحه وأهدافه .. حيث قد أثمرت وعود المأمون للخراسانيين ، وتحببه لهم ، وتقربه منهم ، وتظاهره بالحب لعلي (ع) وذريته ، الثمار المرجوة منها ؛ لأن الخراسانيين كانوا يريدون التخلص من أولئك الحكام الذين انقلبوا عليهم يقتلون ، ويضطهدون كل من عرفوه مواليا لأهل البيت محبا لهم ، ابتداء من المنصور ، بل السفاح ، وانتهاء بالرشيد ، الذي لم يستطع يحيى بن خالد البرمكي أن

١٧٤

يسمع لعلوي ذكرا في خراسان في زمانه .. رغم أنه جهد كل الجهد من أجل ذلك ، وفي سبيله ، حسبما تقدم ..

كما أنهم ـ أعني الخراسانيين ـ قد توسموا في المأمون أن يكون المنقذ لهم من أولئك الولاة ، الذين ساموهم شتى ضروب العسف ، والظلم والعذاب. والذين لم يكن يهمهم غير مصالحهم ، وارضاء شهواتهم وملذاتهم ، يعلم ذلك بأدنى مراجعة للتأريخ ..

قد وثقوا إلى حد ما بوعود المأمون تلك ، التي كان يغدقها عليهم ، وعلى غيرهم بدون حساب ، وأمنوا جانبه ؛ فكانوا جنده ، وقواده ، ووزراءه المخلصين ، الذين اخضعوا له البلاد ، وأذلوا له العباد ، وبسطوا نفوذه وسلطانه على كثير من الولايات والأمصار ، التي كان يطمح إلى الوصول إليها ، والسيطرة عليها ..

كيف يثق العرب بالمأمون؟!

وهكذا إذن .. يتضح أن ميل المأمون للايرانيين ما كان إلا دهاء منه وسياسة ، استغلها المأمون أحسن ما يكون الاستغلال ، حتى استطاع أن يصل إلى الحكم ، ويتربع على عرش الخلافة ، بعد أن قتل أخاه العزيز على العباسيين والعرب ، وقضى على اشياعه بسيوف غير العرب ، وذلك ذنب آخر لن يسهل على العرب الاغضاء عنه أو غفرانه.

ثم ولى على بغداد رجلا غير عربي ، هو الحسن بن سهل ، أخو الفضل بن سهل ، الذي تكرهه بغداد والعرب كل الكره ..

ثم إنه بعد هذا كله جعل مقر حكمه مروا الفارسية ، وليس بغداد العاصمة العربية الاولى التي خربها ودمرها .. وكان ذلك من شأنه أن يثير المخاوف لدى العرب في أن تتحول الإمبراطورية العربية إلى امبراطورية

١٧٥

فارسية ، وخصوصا إذا لاحظنا : أن الفرس هم الذين أوصلوا المأمون إلى الحكم .. وقد اثبتوا جدارتهم ، وأهليتهم في مختلف المجالات ، وخصوصا السياسة ، وشئون الحكم.

قتل الأمين وخيبة الأمل :

وإن قتل الأمين ، وإن كان يمثل ـ في ظاهره ـ انتصارا عسكريا للمأمون إلا أنه كان في الحقيقة ذا نتائج سلبية وعكسية بالنسبة للمأمون ، وأهدافه ، ومخططاته .. سيما بملاحظة الأساليب التي اتبعها المأمون للتشفي من أخيه الأمين ، الذي كان قد أصدر الأمر لطاهر بالأمس بأن يقتله (١) .. حيث رأيناه قد أعطى الذي جاءه برأس أخيه ـ بعد أن سجد لله شكرا!! ـ ألف ألف « أي مليون » درهم (٢) .. ثم أمر بنصب رأس أخيه على خشبة في صحن الدار ، وأمر كل من قبض رزقه أن يلعنه ؛ فكان الرجل يقبض ، ويلعن الرأس ، ولم ينزله حتى جاء رجل فلعن الرأس ، ولعن والديه ، وما ولدا ، وأدخلهم في « كذا وكذا » من أمهاتهم. وذلك بحيث يسمعه المأمون ؛ فتبسم ، وتغافل ؛ وأمر بحط الرأس (٣)!!.

ويا ليته اكتفى بكل ذلك .. بل إنه بعد أن طيف برأس الأمين بخراسان (٤)

__________________

(١) لقد نص بعض المؤلفين في كتابه الفارسي « يادبود هشتمين إمام » ص ٢٩ على أن المأمون : « لم يرض بقتل الأمين فحسب ، بل أنه هو الذي أمر بقتله .. ».

(٢) فوات الوفيات ج ٢ ص ٢٦٩ ، والطبري ، طبع دار القاموس الحديث ج ١٠ ص ٢٠٢ ، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٣ ، وحياة الحيوان ج ١ ص ٧٢ ، وتجارب الامم ج ٦ ص ٤١٦ المطبوع مع العيون والحدائق.

(٣) مروج الذهب ج ٣ ص ٤١٤ ، وتتمة المنتهى ص ١٨٦ والموفقيات ص ١٤٠.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٩٨.

١٧٦

أرسل إلى ابراهيم بن المهدي يعنفه ويلومه على أنه أسف على قتل الأمين ، ورثاه (١)!!

فما ذا ننتظر بعد هذا كله ، وبعد ما قدمناه : أن يكون موقف العباسيين ، والعرب ، بل وسائر الناس منه ..

إن أيسر ما نستطيع أن نقوله هنا هو : أنه كان لقتله أخاه ، وفعاله الشائنة تلك .. أثر سيّئ على سمعته ، ومن أسباب زعزعة ثقة الناس ، به ، وتأكيد نفورهم منه ، سواء في ذلك العرب ، أو غيرهم ..

وقد استمر ذلك الأثر أعواما كثيرة ، حتى بعد أن هدأت ثائرة الناس ، ورجع إلى بغداد ..

فقد جلس مرة يستاك على دجلة ، من وراء ستر ؛ فمر ملاح ، وهو يقول : « أتظنون أن هذا المأمون ينبل في عيني ، وقد قتل أخاه؟! ».

قال : فسمعه المأمون ؛ فما زاد على أن تبسم ، وقال لجلسائه :

« ما الحيلة عندكم ، حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل .. » (٢).

وقال له الفضل بن سهل ، عند ما عزم على الذهاب إلى بغداد :

« ما هذا بصواب ؛ قتلت بالأمس أخاك ، وأزلت الخلافة عنه ، وبنو أبيك معادون لك ؛ وأهل بيتك والعرب .. إلى أن قال : والرأي ،

__________________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٤٤٣.

(٢) تاريخ بغداد ج ١٠ ص ١٨٩ ، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٧٧ ، وتاريخ الخلفاء ص ٣٢٠ ، وروض الأخيار في منتخب ربيع الأبرار ص ١٨٦ ، وفوات الوفيات ج ١ ص ٢٤٠.

١٧٧

أن تقيم بخراسان ، حتى تسكن قلوب الناس على هذا ، ويتناسوا ما كان من أمر أخيك .. » (١).

المأمون في الحكم :

وإذا ما أردنا أن نعطف نظرنا على ناحية أخرى في سياسة النظام المأموني ؛ فإننا سوف نرى أنه لم يكن موفقا في سياسته مع الناس ، سواء في ذلك العرب أو الإيرانيون ، بالأخص أهل خراسان ؛ حيث لم يحاول أن يتجنب سياسة الظلم والعسف والاضطهاد ، التي كان يمارسها أسلافه مع الرعية .. بل لعله زاد عليهم ، وسبقهم أشواطا بعيدة في ذلك.

أما سياسته مع العرب :

فالمأمون ، وان استطاع أن يصل الى الحكم إلا أنه فشل في مهمة الفوز بثقة العرب ، خصوصا إذا لاحظنا بالاضافة إلى ما قدمناه تحت عنوان « كيف يثق العرب بالمأمون ». ما نالهم منه ، ومن عماله ، من صنوف العسف والظلم ـ عدا عما فعلته فيهم تلك الحروب الطاحنة ، التي شنها ضد أخيه الأمين ـ فان ذلك يفوق كل وصف ، ويتجاوز كل تقدير ؛

__________________

(١) البحار ج ٤٩ ص ١٦٦ ، ومسند الامام الرضا ج ١ ص ٨٥ ، وأعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٣٨ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٠.

هذا .. وتجدر الاشارة هنا : إلى أن بعض المحققين يرى : أن قتل الأخ في سبيل الملك ، لم يكن من الامور التي يهتم لها الناس كثيرا في تلك الفترة ، ولا سيما إذا كان المقتول هو المعتدي اولا ، والأمين هنا هو المعتدي على المأمون ، بخلعه أولا ، ثم بارساله جيشا إلى إيران لمحاربته ، والذي هزم على يد طاهر بن الحسين.

ولكننا مع ذلك .. لا نزال نصر على رأينا في هذا المجال ؛ سيما وأننا نرى في النصوص التاريخية ما يدعم هذا الرأي ويقويه ..

١٧٨

حتى لقد وصف : « ديونيسيوس » جباة الخراج في العراق في سنة ( ٢٠٠ ه‍. ) بأنهم : « قوم من العراق ، والبصرة ، والعاقولاء. وهم عتاة ، ليس في قلوبهم رحمة ، ولا إيمان ، شر من الأفاعي. يضربون الناس ، ويحبسونهم. ويعلقون الرجل البدين من ذراع واحد ، حتى يكاد يموت » (١).

والايرانيون أيضا لم يكونوا أحسن حالا :

ولم يكن حال الايرانيين من هذه الجهة بأفضل من حال أهل العراق.

ويذكره الجاحظ : أن المأمون ولى محمود بن عبد الكريم التصنيف « فتحامل على الناس ، واستعمل فيهم الأحقاد والدمن ؛ فخفض الأرزاق ، وأسقط الخواص ، وبعث في الكور ، وأنحى على أهل الشرف والبيوتات ، حسدا لهم ، وإشفاء لغليل صاحبه منهم ، فقصد لهم بالمكروه والتعنت فامتنعت طائفة من الناس من التقدم إلى العطاء ، وتركوا أسماءهم ، وطائفة انتدبوا مع طاهر بن الحسين بخراسان ، فسقط بذلك السبب بشر كثير .. » (٢).

يقول الجنرال جلوب وهو يتحدث عن المأمون : « .. وراح يلقي خطبته الاولى في الناس ؛ فيعدهم بأن يكون حكمه فيهم طبقا للشرع ، وأن يكرس نفسه لخدمة الله وحده. وقد أثارت هذه الوعود التقية حماسة عند الناس. وكانت من أهم أسباب انتصاره. لكن هذه الوعود ما لبثت أن تحولت إلى فجيعة نزلت بالناس ؛ إذ أن الخليفة ما لبث أن نسيها .. » (٣).

__________________

(١) الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري ، لآدم متز ج ١ ص ٢٣٢.

(٢) رسائل الجاحظ ج ٢ ص ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

(٣) امبراطورية العرب ، ترجمة ، وتعليق خيري حماد ص ٥٧٠.

١٧٩

ويكفي أن نشير هنا إلى المجاعة التي أصابت أهل خراسان ، والري ، وأصبهان ، وعزّ الطعام ، ووقع الموت ، وذلك في سنة ٢٠١ للهجرة ..

المأمون مع الرعية عموما :

وعن حالة المأمون العامة مع الناس يقول فان فلوتن :

« .. ولم يكن جور النظام العباسي وعسفه ، منذ قيام الدولة العباسية بأقل من النظام الاموي المختل. وتذكرنا شراهة المنصور ، والرشيد ، والمأمون ، وجشعهم ، وجور أولاد علي بن عيسى ، وعبثهم بأموال المسلمين بزمن الحجاج ، وهشام ، ويوسف بن عمر الثقفي. ولدينا البراهين الكثيرة على فجيعة الناس في هذا العرش الجديد ، ومقدار انخداعهم به .. » ، ثم يضرب أمثلة من الخارجين على سياسات العباسيين تلك ، ثم يقول : « .. كل ذلك يبين أن ما كان يشكو منه المسلمون من الجور والعسف لم يزل على ما كان عليه في عهد بني أمية الأول .. » (١).

قال ابن الجراح : إن ابراهيم بن المهدي كان : « يرمي المأمون بأمه (٢) ، وإخوته ، وأخواته ، ومن أيسر ذلك قوله :

صدّ عن توبة وعن إخبات

ولها بالمجون والقينات

ما يبالي إذا خلا بأبي عي

سى وسرب من بدّن أخوات

أن يغص المظلوم في حومة الجو

ر بداء بين الحشا واللهاة (٣)

__________________

(١) السيادة العربية والشيعة والاسرائيليات ص ١٣٢.

(٢) ولكن أمه كانت قد ماتت أيام نفاسها به!!. ولعله يريد أن أمه كانت متهمة ، فكان يعير بها ..

(٣) الورقة ، لابن الجراح ص ٢١ ، ولا بأس بمراجعة كتاب : أشعار أولاد الخلفاء.

١٨٠