الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢

الدماء ، وغصب حقوق الناس ، وكان ظالما لأهل البيت (ع) ، وكانت جوائزه خاصة لأهل اللهو ، واللعب ، والمغنين ، والراقصات .. ».

وستأتي عبارة فان فلوتن عنه في فصل : آمال المأمون الخ .. فانتظر ..

وحسب الرشيد .. رسالة سفيان ، التي أرسلها إليه من غير طي ، ولا ختم. والتي تلقي لنا ضوءا على جانب من سيرته وسلوكه .. ولسوف نثبتها ـ نظرا لا هميتها ـ مع الوثائق الهامة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ..

وأما الأمين.

« .. الذي رفض النساء ، واشتغل بالخصيان ، ووجه إلى البلدان في طلب الملهين ، واستخف حتى بوزرائه ، وأهل بيته .. » (١).

فقد كان : « قبيح السيرة ، ضعيف الرأي ، سفاكا للدماء ، يركب هواه ، ويهمل أمره ، ويتكل في جليلات الامور على غيره الخ .. » (٢).

ويضيف هنا القلقشندي قوله : منهمكا في اللذات واللهو .. » (٣).

ويكفيه أن كلا من العبري ، وابن الاثير الجزري يقول عنه : إنه : « لم يجد للأمين شيئا من سيرته يستحسنه ، فيذكره .. » (٤).

ولقد كانت أيامه على الناس ، أيام حروب ، وويلات ، وسلب

__________________

(١) مآثر الانافة ج ١ / ٢٠٥ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٠١ ، ومختصر تاريخ الدول ص ١٣٤ ، والكامل لابن الأثير ، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ / ١٧٠ ، والطبري ، وغير ذلك.

(٢) التنبيه والاشراف ص ٣٠٢.

(٣) مآثر الانافة في معالم الخلافة للقلقشندي ج ١ / ٢٠٤.

(٤) مختصر أخبار الدول ص ١٣٤ ، والفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٢.

١٢١

ونهب ، وما إلى ذلك ، مما لا تقره شريعة ، ولا يرضى به خلق كريم ..

وأما المأمون :

فإنه لم يكن في كل ما ذكرناه أفضل من أسلافه ، ولا كانت أيامه بدعا من تلك الأيام ، كما سنوضح ذلك في أواخر فصل : آمال المأمون وآلامه ، حيث سيتضح أن حال الرعية في أيامه كان قد تناهى في السوء ، وبلغ الغاية في التدهور.

وصية ابراهيم الإمام :

وبعد كل الذي قدمناه ، لم يعد يخفى على أحد ، كم سفك العباسيون من الدماء البريئة ـ عدا عما سفكوه من دماء بني عمهم العلويين ـ ونزيد هنا : أن إبراهيم الامام أرسل إلى أبي مسلم يأمره : « بقتل كل من شك فيه ، أو وقع في نفسه شيء منه ، وإن استطاع أن لا يدع بخراسان من يتكلم بالعربية إلا قتله فليفعل ، وأي غلام بلغ خمسة أشبار يتهمه فليقتله ، وأن لا يخلي من مضر ديارا » (١).

ولعل سر أمره له بقتل كل عربي يرجع إلى أنه كان يعلم أن ذلك يرضي الخراسانيين ، الذين كانوا مضطهدين على أيدي العرب .. كما أنه كان يعلم أن العرب لن يستجيبوا له استجابة واسعة ضد الامويين ، لأن الدولة الاموية كانت ترضي غرور العربي ، وتؤكد اعتزازه بجنسه ومحتده ..

__________________

(١) الطبري ، طبع ليدن ج ٩ / ص ١٩٧٤ ، وج ١٠ / ٢٥ ، والكامل لابن الأثير ، ج ٤ / ٢٩٥ ، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٨ ، وص ٦٤ ، والإمامة والسياسة ج ٢ ص ١١٤ ، والنزاع والتخاصم للمقريزي ص ٤٥ ، والعقد الفريد ، طبع دار الكتاب ج ٤ / ٤٧٩ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ٣ / ٢٦٧ ، وضحى الاسلام ج ١ ص ٣٢.

١٢٢

يضاف إلى ذلك ما كان يعانيه العرب من الانقسامات الداخلية ، التي كانت تمزق صفوفهم وتوهن قوتهم ..

وأما المضرية فقد كانوا جماعة نصر بن سيار الموالي للامويين ، واليمانية كانوا جماعة ابن الكرماني المناهض لنصر (١) ..

أبو مسلم ينفذ الوصية :

وقد حرص أبو مسلم على تنفيذ وصية ابراهيم الامام كل الحرص ..

حتى لقد قتل ـ كما يقول الذهبي واليافعي ـ : « خلقا لا يحصون محاربة وصبرا ، وكان حجاج زمانه (٢) .. ».

ويقول المؤرخون : إن من قتلهم أبو مسلم صبرا قد بلغ « ست مائة الف نفس » من المسلمين ، من المعروفين ، سوى من لم يعرف ، ومن قتل في الحروب ، وتحت سنابك الخيل (٣) ..

وقد اعترف المنصور نفسه بذلك ، عند ما عاتب أبا مسلم ، ثم قتله ، فكان من جملة ما عاتبه به قوله : « فأخبرني عن ست مائة الف من المسلمين ، قتلتهم صبرا؟! » .. ولم ينكر أبو مسلم ذلك ، وإنما أجابه بقوله :

__________________

(١) راجع : تاريخ الجنس العربي ج ٨ / ٤١٧.

(٢) العبر للذهبي ج ١ / ١٨٦ ، ومرآة الجنان ج ١ / ٢٨٥.

(٣) البداية والنهاية ج ١٠ / ٧٢ ، ووفيات الأعيان ج ١ / ٢٨١ ، طبع سنة ١٣١٠ ه‍. ومختصر تاريخ الدول ص ١٢١ ، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٥٤ ، وشرح شافية أبي فراس ص ٢١١ ، وغاية المرام في محاسن بغداد دار السلام للعمري الموصلي ص ١١٦ وتاريخ ابن الوردي ج ١ / ٢٦١ ، ومآثر الانافة في معالم الخلافة ج ١ / ١٧٨ ، والنزاع والتخاصم للمقريزي ص ٤٦.

١٢٣

« لتستقيم دولتكم » (١)!!.

واعترف جعفر البرمكي بذلك أيضا (٢).

وأبو مسلم نفسه نراه قد اعترف بمائة الف منها أيضا في مناسبة أخرى (٣).

وأما من قتلهم في حروبه مع بني أمية وقوادهم ، فقد أحصوا فوجدوا : ألف ألف وستمائة ألف (٤) ..

وكل ذلك غير بعيد .. إذا ما عرفنا أن ثورة أبي السرايا قد كلفت جيش المأمون فقط (٢٠٠) الف جندي ، كما سيأتي .. وكذلك إذا ما لاحظنا ما يذكره المؤرخون عن عدد القتلى في الوقائع المختلفة ، التي خاضها أبو مسلم ..

وبعد هذا .. فاننا نرى أبا مسلم نفسه يقول في رسالة منه للمنصور : « فوترت أهل الدنيا في طاعتكم ، وتوطئة سلطانكم .. » (٥).

وفي رسالة أخرى منه له أيضا يقول : « .. إن أخاك أمرني أن أجرد السيف ، وآخذ بالظنة ، وأقتل على التهمة ، ولا أقبل المعذرة ، فهتكت بأمره حرمات حتم الله صونها ، وسفكت دماء فرض الله حقنها ، وزويت الأمر عن أهله ، ووضعته في غير محله .. » (٦).

يقصد بـ « أهله » : أهل البيت (ع) ، وقد أوضح ذلك في رسالته

__________________

(١) طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٤٥ ، نقلا عن العيني في : دولة بني العباس والطولونيين والاخشيديين ص ٣٠ ، فما بعدها ..

(٢) تاريخ التمدن الاسلامي ج ٢ / ٤٣٥ ، نقلا عن : زينة المجالس ( فارسي ).

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٣ / ١٠٢ ، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ / ١٠٣.

(٤) شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون ص ٢١٤ ، وليراجع صبح الأعشى ج ١ / ٤٤٥ أيضا.

(٥) البداية والنهاية ج ١٠ / ٦٩.

(٦) تاريخ بغداد ج ١٠ / ٢٠٨ ، والبداية والنهاية ج ١٠ / ١٤ ، ولا بأس بمراجعة ص ٦٩ ، والنزاع والتخاصم ص ٥٣ ، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة جلد ١ ج ٢ / ٥٣٣.

١٢٤

الاخرى للمنصور التي يقول فيها : أن أخاه قد استخف بالقرآن وحرفه. وأنه أوطأه في غيرهم من أهل بيتهم العشوة ، بالإفك والعدوان ، وأنه ظهر له بصورة مهدي ..

أي أن أخا المنصور قد حرف الآيات الواردة في أهل البيت (ع) لتنطبق على العباسيين ، وأنه بذلك تمكن من إغراء أبي مسلم بالعلويين ؛ ففعل بهم ما فعل بالإفك والعدوان .. ويصرح بذلك في رسالة أخرى للمنصور ؛ فيقول : « وأوطات غيركم من كان فوقكم من آل رسول الله بالذل والهوان ، والإثم والعدوان .. » يشير بذلك إلى العلويين (١).

وعلى كل فإننا سوف لا نستغرب إذا رأينا أنه قد بلغ من ظلم أبي مسلم أنه عند ما حج : « هربت الأعراب عن المناهل ، التي يمر بها ذهابا وإيابا ؛ فلم يبق منهم أحد ؛ لما كانوا يسمعونه من سفكه للدماء » (٢).

وقال المقريزي : « وقتل ( يعني أبو مسلم ) زياد بن صالح ؛ من أجل أنه بلغه عنه أنه يقول : إنما بايعنا على اقامة العدل ، وإحياء السنن ، وهذا جائر ظالم ، يسير بسيرة الجبابرة ، وإنه مخالف.

وكان لزياد بلاء في إقامة الدولة ؛ فلم يرع له ؛ فغضب عيسى ابن ماهان ، مولى خزاعة لقتل زياد ، ودعا لحرب أبي مسلم سرا ؛ فاحتال عليه بأن دس إلى بعض ثقاته إلخ .. » ثم ذكر كيفية احتيال أبي مسلم عليه وقتله إياه (٣) ..

__________________

(١) طبيعة الدعوة العباسية ص ٣٣ ، الفتوح لابن أعثم الكوفي ، ج ٨ ص ٢٢٣ .. ولا بأس بمراجعة الرسائل المختلفة المعبرة عن ذلك فيما تقدم من المراجع ، وفي النزاع والتخاصم ص ٥٢ ، ٥٣ ، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة جلد ١ ج ٢ / ٥٣٣ ، ٥٣٤ ، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٦٩ ، والإمامة والسياسة ج ٢ / ١٣٢ ، ١٣٣ ، وغير ذلك.

(٢) النزاع والتخاصم ص ٤٦.

(٣) نفس المصدر والصفحة.

١٢٥

وقد قال أبو مسلم ليونس بن عاصم عند ما قال له : هذا جزائي؟! « ومن جازيناه بجزائه ؛ وضعت سيفي فلم يبق بر ولا فاجر إلا قتلته » (١).

وقال أبو مسلم أيضا : « إني أطفيت من بني أمية جمرة ، وألهبت من بني العباس نيرانا ، فإن أفرح بالاطفاء ، فوا حزنا من الالهاب » (٢).

وقال أبو مسلم أيضا : « إني نسجت ثوبا من الظلم لا يبلى ما دامت الدولة لبني العباس ، فكم من صارخ الخ. » (٣).

ولا مجال ثمة للشك :

كل ذلك يدل دلالة قاطعة على مدى الظلم الذي كان يمارسه العباسيون مع الناس بصورة عامة ، ومع العلويين بشكل خاص .. والمتتبع للأحداث التاريخية يرى أن الامة كانت تعيش في رعب دائم ومستمر ، خصوصا وأن كل أحد كان يرى ويعلم : كيف أن الآلاف من الناس ، كانوا يذبحون لأتفه الأسباب وأحقرها ..

وأعود فأذكر القارئ ببعض ما أوردناه من رسالة الخوارزمي ، التي تعتبر بحق من الوثائق الهامة ، كما اعترف به غير واحد من الباحثين ..

وبعد فلا بد لنا من كلمة اخرى :

كانت تلك ـ كما قلنا ـ لمحة خاطفة عن حالة العباسيين مع الناس عامة ، ومع العلويين خاصة .. ولعل من الظلم للحقيقة وللتاريخ هنا ،

__________________

(١) النزاع والتخاصم ص ٤٧.

(٢) المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٢٩٨ ، طبع صادر وشرح ميمية أبي فراس ص ٢١٤.

(٣) المحاسن والمساوي طبع مصر ج ١ / ٤٨٢ ، والكنى والألقاب ج ١ / ١٥٧ / ١٥٨ نقلا عن ربيع الأبرار للزمخشري.

١٢٦

أن نمضي ولا نعطي للقارئ لمحة عن حياتهم الخاصة ، وسلوكهم الخلقي.

ولذا نرى لزاما علينا : أن نلم المامة سريعة ببعض ما يحدثنا به التاريخ في هذا الموضوع ، فنقول :

العباسيون في حياتهم الخاصة :

أما حياتهم الخاصة ، وما كان يمر بها من رذائل وقبائح ، يندى لها جبين الانسان الحر الما وخجلا ، ويقطر قلبه لها دما وألما ، فتلك حدث عنها ولا حرج .. وقد تقدم في رسالة الخوارزمي بعض ما يشير إلى ذلك ..

وحيث أن الاستقصاء في هذا الموضوع مما تنوء به العصبة أولو القوة ، فاننا لن نحاول التصدي لذلك ، ولا سيما وأن هذا الكتاب غير معد لبحث هذا الموضوع فعلا.

ولعل الكلمة التي تجمع صفات بني العباس الخلقية هي الكلمة التي كتبها المأمون ، وهو في مرو في رسالة منه للعباسيين ، بني أبيه في بغداد ، والتي قلنا إننا سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب مع الوثائق الهامة ، إن شاء الله تعالى ..

والمأمون : هو من أهل ذلك البيت ، الذين هم أدرى من كل أحد بما فيه ؛ لأنهم عاشورا في خضم الأحداث ، وشاهدوا كل شيء ، وكل القضايا عن كثب .. يقول المأمون في تلك الرسالة :

« .. وليس منكم إلا لاعب بنفسه ، مأفون في عقله ، وتدبيره ، إما مغن ، أو ضارب دف ، أو زامر .. والله ، لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نشروا ؛ فقيل لهم : لا تأنفوا من معايب تنالوهم بها ، لما زادوا على ما صيرتموه لكم شعارا ودثارا ، وصناعة وأخلاقا. ليس منكم إلا من إذا مسّه الشر جزع ، وإذا مسّه الخير منع. ولا

١٢٧

تأنفون ، ولا ترجعون إلا خشية ؛ وكيف يأنف من يبيت مركوبا ، ويصبح باثمه معجبا ، كأنه قد اكتسب حمدا ، غايته بطنه وفرجه ، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل ، أو ملك مقرب. أحب الناس إليه من زين له معصية ، أو أعانه في فاحشة ، تنظفه المخمورة الخ .. ».

فهذه القطعة تبين لنا بجلاء ـ كما يتبين من كثير أمثالها ـ كيف كان خلفاء العباسيين منغمرين في الملذات والشهوات .. وتبين لنا نظرتهم للحياة وأهدافهم منها .. ولو لا أن المقام يطول لأوردنا سيلا من الشواهد والدلائل على مدى استهتارهم ، وانتهاكهم للحرمات ، وارتكابهم للموبقات ، ليعلم أن أقوال المأمون هذه ، وكذلك أقوال الخوارزمي ، وغيرهما مما تقدم غير مبالغ فيها ، وأن الحقيقة هي أعظم من ذلك بكثير وأن ذلك ليس إلا غيضا من فيض .. وكتب التاريخ والأدب خير شاهد على ذلك ، وإن حاولت بعض الأيدي الأثيمة تشويه الحقيقة ، والتستر على واقعهم ذاك المزري والمهين ..

وفي نهاية المطاف :

وإذا كانت تلك هي سيرة العباسيين في حياتهم الخاصة ، وتلك هي سياساتهم مع الناس ومع خصومهم ، فما ذا يمكن أن تكون حالة وزرائهم وقوادهم ، وسائر رجال دولتهم؟! التاريخ وحده هو الذي يتولى الاجابة على هذا السؤال ..

أما نحن .. فنكتفي بهذا القدر ، وننتقل إلى الحديث عن بعض نتائج سياسات العباسيين تلك .. وخصوصا ما كان منها يتعلق بالعلويين ..

١٢٨

فشل سياسة العباسيين ضد العلويين

سؤال لا بد منه :

والآن .. وبعد أن عرفنا موقف العباسيين من العلويين ، وقدمنا لمحة عن معاملتهم للرعية ، التي لم تكن أحسن حالا ، ولا أهدأ بالا من العلويين. سيما وأنهم من أول يوم من حكمهم سلطوا على الناس فئة لا تفقه للرحمة معنى ، ولا تجد الشفقة إلى قلوبها أي سبيل ، همها الدنيا ، وغايتها الاستئثار بكل شيء ، وتتمتع بحماية مطلقة من قبل الخلفاء ، حتى عند ما كانت تعبث بأموال الناس ، وحتى في دمائهم وأعراضهم .. وكيف لا!! والخلفاء أنفسهم ما كانوا أحسن حالا من تلك الفئة ، ولا أقل انحرافا ، وبعدا عن تعاليم السماء ، والخلق الانساني منها ..

بعد أن عرفنا ذلك .. وغيره مما تقدم ؛ فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو :

ما هي نتائج وآثار سياسات العباسيين تلك؟ .. وهل استطاعوا أن يجعلوا الناس راضين عن تلك السياسات؟ وعما كانوا يرونه منهم من تميعهم ، واستهتارهم بكل القيم ، والفضائل الأخلاقية؟ ..

وهل استطاعوا أن يكتسبوا عطف الامة ، بعد أن فعلوا بها ، وبأهل بيت نبيها ما فعلوا؟! ..

١٢٩

أما الجواب :

الواقع .. أن نتيجة ذلك كانت وبالا على العباسيين : « ولا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله .. ». فقد كان الناس مستائين جدا من سيرتهم السيئة وسيرة ولاتهم مع الرعية ، وكان من الطبيعي جدا أيضا : أن يثير الناس ويسوؤهم ما كانوا يرونه من تميعهم الشديد في حياتهم الخاصة ، وإيثارهم اللذات المحرمة على كل شيء ، حتى قد يبلغ الأمر بالخليفة منهم أن يحتجب عن الناس منهمكا بلذاته وشهواته .. وقد كان الرشيد يحمد الله على أن أراحه البرامكة من أعباء الحكم (١) ، وتركوه ينصرف إلى ما يندى له جبين الانسان الحر ألما وخجلا ، وكذلك كانت حال والده المهدي من قبل ، وعلى ذلك جرى ولده الأمين من بعد .. وغيرهم وغيرهم ممن لا نرى ضرورة لتعداد أسمائهم .. وحسبنا تلك الشواهد الكثيرة في التاريخ ، الذي قد لا تمر بصفحة منه ، فيها حديث عن الخلفاء ، إلا وتجد فيها ما لا يسر ، وما لا يغبط عليه أحد ..

وكان مما ساعد على إدراك الناس لحقيقة نوايا العباسيين ، وواقعهم ، الذي طالما جهدوا في التستر عليه ، واخفائه ، بحيث لم يعد ثمة شك في انهم ليسوا بأفضل من الامويين ، إن لم يكونوا اكثر منهم سوءا .. هو ما كانوا يرونه من معاملتهم لبني عمهم آل أبي طالب ، الذين ضحوا بكل شيء في سبيل هذا الدين ، وأعطوا وبذلوا حتى أرواحهم في سبيل هذه الامة .. والذين كانوا هم الأمل الحي لهذه الامة المضطهدة ، والمغلوبة على أمرها ، التي كانت ترى فيهم كل الفضائل ، والكمالات الانسانية .. والذين كان من الواضح لدى كل أحد أن وجود العباسيين في الحكم مدين لهم ، أكثر من غيرهم على الاطلاق ..

__________________

(١) الوزراء والكتاب ص ٢٢٥.

١٣٠

لقد رأوهم جميعا متفقين ـ حتى المأمون كما سيتضح ـ على العداء لهم ، ووجوب التخلص منهم ، لكن الفرق هو أن الخلفاء الذين سبقوا المأمون كانت أساليبهم تجاههم ، تتميز ـ عموما ـ بالعنف والقسوة ، بخلافه هو ، فإنه اتبع أسلوبا جديدا ، وفريدا في القضاء عليهم ، والتخلص منهم ..

ولقد كان هذا الموقف مفاجأة للامة ، وصدمة لها ، ولذا فمن الطبيعي أن يتسبب في ردود فعل عنيفة في ضمير الامة ووجدانها ، وبخيبة أمل قاسية لها في العباسيين ..

بل لقد كان ذلك سببا في زيادة تعاطفها مع آل على ، ومضاعفة احترامها لهم ـ ولو بدافع انساني بحت ـ ومن هنا نلاحظ أنهم كثيرا ما يذكرون في سبب نكبات الوزراء ، والعمال ، بل والعلماء أيضا ـ صدقا كان ذلك أو كذبا ـ أنه أجار علويا ، أو أطلقه من السجن ، ودله على طريق النجاة. وقد ذكرت هذه المنقبة للامام أحمد بن حنبل أيضا (١) ، وأما موقف أبي حنيفة ، والشافعي ، وغيرهم من العلماء ؛ فهو أشهر من أن يذكر.

ولعل الأهم من ذلك كله :

ولعل الأهم من ذلك كله أن الناس الذين كانوا يرون سلوك العباسيين مع العلويين ، ومع الناس عامة ، وأيضا سلوكهم اللاأخلاقي في حياتهم الخاصة .. كانوا يرون في مقابل ذلك : زهد العلويين ، وورعهم ، وترفعهم عن كل الموبقات والمشينات ، وخصوصا الأئمة منهم عليهم‌السلام. وقد جعلهم ذلك ينساقون معهم لا إراديا ؛ حيث رأوا أنهم هم الذين يمتلكون كل المؤهلات ، ويتمتعون بكافة الفضائل والمزايا ، التي

__________________

(١) راجع كتاب : شيخ الامة ، الإمام أحمد بن حنبل ، لعبد العزيز سيد الأهل.

١٣١

تجعلهم جديرين بخلافة محمد (ص) ، وأهلا لقيادة الامة ، قيادة صالحة وسليمة ، كما كان النبي (ص) يقودها من قبل ..

وواضح أن تلك الخصائص : وهاتيك المؤهلات والمميزات لأئمة أهل البيت (ع) ، وذلك السلوك المثالي لهم ـ كل ذلك ـ كان يغري العباسيين بمضايقتهم ، وملاحقتهم أشد الاغراء ، وكان أيضا يدفع الحساد للوشاية بهم ، وتحريض الخلفاء على الايقاع والتنكيل فيهم.

ولهذا نرى أن الخلفاء!! لم يكونوا يألون جهدا ، أو يدخرون وسعا في ملاحقتهم ، واضطهادهم ، وسجنهم. حتى إذا تمكنوا منهم قضوا عليهم ، بالوسائل التي تضمن ـ بنظرهم ـ عدم إثارة شكوك الناس وظنونهم ..

التشيع للعلويين :

وبعد كل الذي قدمناه ، فإن من الطبيعي أن نرى العلويين يتمتعون بالاحترام والتقدير من مختلف الفئات والطبقات ، وأن نرى ازدياد احترام الناس ، وتقديرهم لهم باستمرار .. حتى لقد كان لهم في نفوسهم من عميق الحب ، وصادق المودة ، ما أرهب العباسيين ، وأرعبهم .. وحتى لقد رأينا الرشيد نفسه ـ وهو طاغية بني العباس بلا منازع ـ يشكو لعظيم البرامكة ، يحيى بن خالد غمه وحيرته في أمر الإمام موسى (ع) ، رغم أنه (ع) كان في السجن. ونرى يحيى بن خالد يعترف بدوره بأن : الإمام « المسجون » قد أفسد عليهم قلوب شيعتهم!! (١)

ولا يجب أن نستغرب شكوى الرشيد تلك ، ولا اعتراف يحيى هذا بعد أن كان التشيع (٢) بحد سبيله الى كل قلب ، وكل فؤاد ، حتى

__________________

(١) الغيبة للشيخ الطوسي ص ٢٠ ، والبحار.

١٣٢

وزراء العباسيين ، وقوادهم ، بل وحتى نساء الخلفاء أنفسهم ..

فهذه أم الخليفة المهدي تقيم خادما لقبر الحسين (ع) ، وتجري عليه كل شهر ثلاثين درهما ، دون أن يعلم بها أحد (٢).

وهذه بنت عم المأمون ، التي كان لها نفوذ قوي عنده ، يذكر المؤرخون أنها كانت تميل إلى الإمام الرضا (ع) ..

بل وحتى « زبيدة » ، زوجة الرشيد ، وحفيدة المنصور ، وأعظم عباسية على الاطلاق ، يقال : إنها كانت تتشيع ، وعند ما علم الرشيد بذلك حلف أن يطلقها (٣) .. ولعل لهذا السبب أحرق أهل السنة قبرها مع ما أحرقوا من قبور بني بويه وقبر الكاظم (ع) وذلك عند ما وقعت الفتنة العظيمة بين السنة والشيعة سنة ٤٤٣ ه‍ (٤)

وأما وزراء العباسيين ، فأمرهم أظهر من أن يحتاج الى بيان ، فإن التاريخ يحدثنا : أن العباسيين ، ابتداء من السفاح ، كانوا غالبا يبطشون بوزرائهم ؛ بسبب اطلاعهم على تشيعهم ، وممالأتهم للعلويين. ابتداء بأبي سلمة ، فأبي مسلم ، فيعقوب بن داوود .. وهكذا الى أن ينتهي الأمر بالفضل بن سهل ، وغيره من بعده ، بل وحتى نكبة البرامكة يقال : إنّ سببها هو تشيعهم للعلويين!! وان كان يقال : إن الرضا عليه‌السلام دعا عليهم ، لأنّهم كانوا سبب قتل أبيه ..

إلا إذا كان تظاهرهم بمحبة العلويين مجاراة للرأي العام ، وسياسة منهم ؛ فاستغل ذلك الرشيد ضدهم نعم .. لقد بلغ الامر حدا اصبح معه :

__________________

(١) كلمة « التشيع » التي ترد في هذا الكتاب ، لا أقصد بها غالبا ـ التشيع بمفهومه الأخص والمذهب المعروف ، وإنما أقصد بها مجرد الولاء والحب للعلويين ، وتأييدهم ضد خصومهم ، سواء أكان ذلك من الشيعة بالمعنى المعروف ، أو من غيرهم من أهل الفرق الإسلامية الاخرى.

(٢) الطبري ج ١١ / ٧٥٢ ، طبع ليدن ..

(٣) ذكر ذلك الصدوق في المجالس ؛ فراجع : رجال المامقاني ، مادة : « زبيدة ».

(٤) الكنى والألقاب ج ٢ / ٢٨٩ نقلا عن ابن شحنة في روضة المناظر.

١٣٣

التسمي بـ « الوزير » يعتبر شؤما : وينفر الناس منه كل النفور ، كما سنشير إليه فيما يأتي إن شاء الله تعالى ..

وأما عن امرائهم وقوادهم ، فالأمر فيهم أوضح وأجلى ؛ حيث إنهم ما كانوا يرون إلا واليا أو قائدا يخرج عليهم داعيا للعلويين ، أو آخر قد خلع طاعتهم ، واستجاب لدعوة خصومهم آل علي ، أو ثالث يخشى أن يميل إليهم ، ويتعاطف معهم .. وقد بدأ قوادهم بالخروج عليهم من زمن السفاح ، الذي خرج عليه ابن شيخ المهري ، داعيا لآل علي ، وبعد ذلك كانت ثورة القواد على المنصور داعين إلى موالاة أهل البيت ، وقامت ثورة ضد المنصور ، وداعية للعلويين في نفس خراسان ، وذلك في سنة ( ١٤٠ ه‍ ). وبعد ذلك وفي زمن المهدي العباسي قامت ثورة اخرى في خراسان تدعو الى آل أبي طالب بقيادة صالح بن أبي حبال .. وعظم شأنه جدا ، ولم يمكنهم القضاء عليه إلا بإعمال الحيلة (١) وأما في زمن الرشيد ، فقد ثارت الفتن بين أهل السنة والرافضة ، على حد تعبير النجوم الزاهرة ..

الخطر الحقيقي :

وأما الذي كان يمكن فيه الخطر الحقيقي ، وكان يهز الدولة ، ويزعزع من أركانها .. فهو ثورات العلويين أنفسهم ؛ حتى ليقال : إنه قد بويع لمحمد بن عبد الله بن الحسن ، وأخيه ابراهيم في أكثر الأمصار ، وذلك في سنة ١٤٥ ه‍. وبعد ذلك كانت واقعة فخ المشهورة ، ثم استمر الحال على ذلك ، فلم يكن العباسيون يرون ، إلا علويا ثائرا ، أو أنه يدبر للثورة ، حتى أوائل زمن المأمون ؛ حيث بلغت الحالة فيه

__________________

(١) راجع : لطف التدبير ص ١٠٥.

١٣٤

في السوء والتدهور الغاية ، وأوفت على النهاية .. حتى ليقال : إن الثورات العلوية ، التي قامت فيما بين عهد السفاح ، وأوائل عهد المأمون ، وبالتحديد إلى حوالي سنة ٢٠٠ ه‍ أي فيما يقل عن سبعين عاما ، قد قاربت الثلاثين ثورة ، هذا بغض النظر عن الثورات الاخرى التي كانت تدعو لهم ، وإلى موالاتهم ..

وستأتي الاشارة إلى بعض الثورات العلوية التي قامت ضد المأمون بالخصوص ، وإلى أنه حتى قائده العظيم ، طاهر بن الحسين ، ـ بل وجميع آل طاهر (١) ـ وكذلك وزيره الفضل بن سهل ، وهرثمة بن أعين ، وغيرهم ، وغيرهم ، كانوا يتهمون بالتشيع للعلويين ..

ولسوف يتضح أن الوضع في عهده قد أصبح إلى حد كبير شبيها بالوضع الذي كان سائدا في أواخر عهد الامويين ، بفارق واحد بسيط ، لو استمر الحال لتسارع لذلك الفارق الضعف والوهن ، وهو : أنه لا يزال كثير من الناس المخدوعين بدعايات العباسيين يعتبرون تلك المنازعات طبيعية بين من يستحقون الخلافة!!!.

ويبقى هنا سؤال :

لماذا لم تكن ثورات العلويين ، أو الثورات الداعية لهم ، تصادف النجاح ، مع أنها كانت تحظى بالتأييد الواسع ، في مختلف فئات الشعب ، وطبقاته؟! ..

وجوابنا عن هذا السؤال هو : أن الذي يراجع التاريخ يرى ـ بما لا مجال معه للشك ـ : أن تلك الثورات لم يكن يسبقها التخطيط ،

__________________

(١) راجع : الكامل لابن الأثير ، حوادث سنة ٢٥٠ ه‍.

١٣٥

والاعداد الكافيان ، وما كان العباسيون ليعطوها الفرصة لتخطيط واعداد يمكن أن يصل إلى درجة تمكنه من أن يذهب بدولة الجبارين ..

هذا بالاضافة إلى فساد القيادة القبيلة آنذاك ، والتي كانت السبب الأول والأخير لنجاح أية ثورة أو فشلها .. وسيأتي تفصيل ذلك على النحو الكافي والشافي ، في فصل : مدى جدية العرض ، إن شاء الله.

ونتيجة كل ذلك :

وهكذا .. يتضح : أن سياسات العباسيين ، لم تستطع أن تحقق لهم الأهداف التي كانوا يتوخون تحقيقها ، وإنما كانت نتائجها عكسية بالنسبة إليهم ، ودمارا ووبالا عليهم ، قبل أن تكون وبالا على أي من خصومهم .. وبالأخص أبناء عمهم العلويين ..

١٣٦

القسم الثاني

ظروف البيعة وأسبابها :

١ ـ شخصية الإمام الرضا (ع).

٢ ـ من هو المأمون؟.

٣ ـ آمال المأمون ، وآلامه ..

٤ ـ ظروف البيعة وأسبابها.

٥ ـ أسباب البيعة لدى الآخرين.

١٣٧
١٣٨

شخصية الامام الرضا عليه‌السلام

لمحات :

الإمام الرضا (ع) ، هو ثامن الأئمة الاثني عشر ، الذين نص عليهم النبي (ص) : علي بن موسى ، بن جعفر ، بن محمد ، بن علي ، ابن الحسين ، بن علي ، بن أبي طالب ، صلوات الله عليهم أجمعين ..

ستة آباؤه من هم

أفضل من يشرب صوب الغمام

كنيته : أبو الحسن ..

ومن ألقابه : الرضا ، والصابر ، والزكي ، والولي ..

نقش خاتمه : حسبي الله ..

وقيل : بل نقشه : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله (١) ..

ولد في المدينة سنة ١٤٨ ه‍. أي : في نفس السنة التي توفي فيها

__________________

(١) لنا رأي بالنسبة للّقب ، ونقش الخاتم : وهو أنه كثيرا ما يعبر عن ظاهرة من نوع معين ، وظروف اجتماعية ، وسياسية ، ونفسية ، وغير ذلك .. وكذلك عن مميزات ، وملكات شخصية خاصة. ونأمل أن نوفق لبحث هذا الموضوع مستوفى في فرصة اخرى إن شاء الله.

١٣٩

جده الإمام الصادق (ع) على قول أكثر العلماء والمؤرخين مثل :

المفيد في الارشاد ، والشبراوي في الانحاف بحب الاشراف ، والكليني في الكافي ، والكفعمي في المصباح ، والشهيد في الدروس ، والطبرسي في أعلام الورى ، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين ، والصدوق في علل الشرائع ، وتاج الدين محمد بن زهرة في غاية الاختصار ، وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ، والاردبيلي في جامع الرواة ، والمسعودي في مروج الذهب ، وإن كان في كلامه اضطراب ، وأبو الفداء في تاريخه ، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب ، وابن الأثير في كامله ، وابن حجر في صواعقه ، والشبلنجي في نور الأبصار ، والبغدادي في سبائك الذهب ، وابن الجوزي في تذكرة الخواص ، وابن الوردي في تاريخه ، ونقل عن تاريخ الغفاري ، والنوبختي. وكان عتاب بن أسد يقول : إنه سمع جماعة من أهل المدينة يقولون ذلك ، وغير هؤلاء كثير وذهب آخرون ـ وهم الأقل ـ إلى أن ولادته (ع) ، كانت سنة ١٥٣ ه‍. منهم : الاربلي في كشف الغمة ، وابن شهر اشوب في المناقب ، والصدوق في عيون الأخبار ، وإن كان في كلامه اضطراب ، والمسعودي في إثبات الوصية ، وابن خلكان في وفيات الأعيان ، وابن عبد الوهاب في عيون المعجزات ، واليافعي في مرآة الجنان ..

وقيل : إن ولادته كانت سنة ١٥١ ه‍.

والقول الأول هو الأقوى والأشهر .. ولم يذهب إلى القولين الأخيرين إلا قلة ..

وتوفي (ع) في طوس سنة ٢٠٣ ه‍. على قول معظم العلماء ، والمؤرخين ، والشاذ النادر لا يلتفت إليه ..

١٤٠