الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢

مع أنه لم يستوف كل شيء ، وإنما اكتفى بذكر بعض منهم .. وكذلك إلى ما ذكره ابن الساعي في مختصر أخبار الخلفاء ص ٢٦ ، وغيرها. وغير ذلك من كتب التاريخ والرواية ، ليعلم مقدار الظلم والعسف الذي حاق بأبناء علي ، وشيعتهم في تلك الحقبة من الزمن ..

وحسبنا هنا بعد كل الذي قدمناه ، أن نذكر فقرات من رسالة أبي بكر الخوارزمي ، التي أرسلها إلى أهل نيشابور ، يقول أبو بكر ، بعد أن ذكر كثيرا من الطالبيين ، الذين قتلهم الامويون ، والعباسيون ـ ومنهم الرضا الذي سم بيد المأمون ـ :

« فلما انتهكوا ذلك الحريم ، واقترفوا ذلك الاثم العظيم ، غضب الله عليهم ، وانتزع الملك منهم ، فبعث عليهم « أبا مجرم » ، لا أبا مسلم ، فنظر لانظر الله إليه إلى صلابة العلوية ، وإلى لين العباسية ، فترك تقاه ، واتبع هواه ، وباع آخرته بدنياه ، بقتله عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. وسلط طواغيت خراسان ، واكراد أصفهان ، وخوارج سجستان على آل أبي طالب ، يقتلهم تحت كل حجر ومدر ، ويطلبهم في كل سهل وجبل ، حتى سلط عليه أحب الناس إليه ، فقتله كما قتل الناس في طاعته ، وأخذه بما أخذ الناس في بيعته ، ولم ينفعه : أن أسخط الله برضاه ، وأن ركب ما لا يهواه. وخلت من الدوانيقي (١) الدنيا ، فخبط فيها عسفا ، وتقضى فيها جورا وحيفا. وقد امتلأت سجونه بأهل بيت الرسالة ، ومعدن الطيب والطهارة ، قد تتبع غائبهم ، وتلقط حاضرهم ، حتى قتل عبد الله بن محمد بن عبد الله الحسني بالسند ، على يد عمر بن هشام الثعلبي ، فما ظنك بمن قرب متناوله عليه ، ولان مسه على يديه.

__________________

(١) في مجمع الفوائد : « وخلت إلى الدوانيقي » ولعله هو الصواب.

١٠١

وهذا قليل في جنب ما قتله هارون منهم ، وفعله موسى قبله بهم ، فقد عرفتم ما توجه على الحسن (١) بن علي بفخ من موسى ، وما اتفق على علي بن الافطس الحسيني من هارون ، وما جرى على احمد بن علي الزيدي ، وعلى القاسم بن علي الحسيني من حبسه ، وعلى غسان بن حاضر الخزاعي ، حين أخذ من قبله ، والجملة أن هارون مات وقد حصد شجرة النبوة ، واقتلع غرس الإمامة.

وأنتم أصلحكم الله ، أعظم نصيبا في الدين من الأعمش ، فقد شتموه ، ومن شريك ، فقد عزلوه ، ومن هشام بن الحكم ، فقد أخافوه ، ومن علي بن يقطين ، فقد اتهموه .. ».

إلى أن يقول ، بعد كلام له عن بني أمية :

« .. وقل في بني العباس ، فإنك ستجد بحمد الله مقالا ، وجل في عجائبهم ، فانك ترى ما شئت مجالا.

يجبى فيؤهم ، فيفرق على الديلمي ، والتركي ، ويحمل إلى المغربي ، والفرغاني. ويموت إمام من أئمة الهدى ، وسيد من سادات بيت المصطفى ، فلا تتبع جنازته ، ولا تجصص مقبرته ، ويموت ( ضراط ) لهم ، أو لاعب أو مسخرة ، أو ضارب ، فتحضر جنازته العدول والقضاة ، ويعمر مسجد التعزية عنه القواد والولاة ..

ويسلم فيهم من يعرفونه دهريا ، أو سوفسطائيا ، ولا يتعرضون لمن يدرس كتابا فلسفيا ومانويا ، ويقتلون من عرفوه شيعيا ، ويسفكون دم من سمى ابنه عليا ..

ولو لم يقتل من شيعة أهل البيت غير المعلى بن خنيس ، قتيل داود

__________________

(١) الظاهر أن الصحيح هو : « الحسين » كما في مجمع الفوائد.

١٠٢

ابن علي ، ولو لم يحبس فيهم غير أبي تراب المروزي ، لكان ذلك جرحا لا يبرأ ، وثائرة لا تطفأ ، وصدعا لا يلتئم ، وجرحا لا يلتحم.

وكفاهم أن شعراء قريش قالوا في الجاهلية أشعارا يهجون بها أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ويعارضون فيها أشعار المسلمين ، فحملت أشعارهم ، ودونت أخبارهم ، ورواها الرواة ، مثل : الواقدي ، ووهب بن منبه التميمي ، ومثل الكلبي ، والشرقي ابن القطامي ، والهيثم بن عدي ، ودأب بن الكناني. وأن بعض شعراء الشيعة يتكلم في ذكر مناقب الوصي ، بل ذكر معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فيقطع لسانه ، ويمزق ديوانه ، كما فعل بعبد الله بن عمار البرقي ، وكما أريد بالكميت بن زيد الأسدي ، وكما نبش قبر منصور بن الزبرقان النمري ، وكما دمر على دعبل بن علي الخزاعي. مع رفقتهم من مروان بن أبي حفصة اليمامي ، ومن علي بن الجهم الشامي ؛ ليس إلا لغلوهما في النصب ، واستيجابهما مقت الرب ؛ حتى إن هارون بن الخيزران ، وجعفرا المتوكل على الشيطان ، لا على الرحمن ، كانا لا يعطيان مالا ، ولا يبذلان نوالا ، إلا لمن شتم آل أبي طالب ، ونصر مذهب النواصب ، مثل : عبد الله ابن مصعب الزبيري ، ووهب بن وهب البختري ، ومن الشعراء مثل : مروان بن أبي حفصة الاموي ، ومن الادباء مثل : عبد الملك بن قريب الأصمعي. فأما في أيام جعفر فمثل : بكار بن عبد الله الزبيري ، وأبي السمط ابن أبي الجون الاموي ، وابن أبي الشوارب العبشمي .. »

وبعد كلام له عن بني أمية أيضا قال :

« وما هذا بأعجب من صياح شعراء بني العباس على رءوسهم بالحق ، وإن كرهوه ، وبتفضيل من نقصوه وقتلوه ، قال المنصور بن الزبرقان على بساط هارون :

١٠٣

آل النبي ومن يحبهم

يتطامنون مخافة القتل

أمن النصارى واليهود وهم

من أمة التوحيد في أزل

وقال دعبل ، وهو صنيعة بني العباس وشاعرهم :

ألم تر أني مذ ثمانين حجة

أروح ، وأغدو دائم الحسرات

أرى فيئهم في غيرهم متقسما

وأيديهم من فيئهم صفرات

وقال علي بن العباس الرومي ، وهو مولى المعتصم :

تأليت أن لا يبرح المرء منكم

يشل على حر الجبين فيعفج

كذاك بني العباس تصبر منكم

ويصبر للسيف الكمي المدجج (١)

لكل أوان للنبي محمد

قتيل زكي بالدماء مضرج (٢)

وقال ابراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا لما قربه المأمون :

يمن عليكم بأموالكم

وتعطون من مائة واحدا

وكيف لا يتنقصون قوما يقتلون بني عمهم جوعا وسغبا ويملئون ديار الترك والديلم فضة وذهبا ، يستنصرون المغربي والفرغاني ، ويجفون المهاجري والأنصاري ، ويولون أنباط السواد وزراتهم ، وتلف العجم والطماطم قيادتهم ، ويمنعون آل أبي طالب ميراث أمهم ، وفيء جدهم. يشتهي العلوي الاكلة ، فيحرمها ، ويقترح على الايام الشهوة فلا يطعمها ، وخراج مصر والاهواز ، وصدقات الحرمين والحجاز ، تصرف إلى ابن أبي مريم المديني ، وإلى إبراهيم الموصلي ، وابن جامع السهمي ، وإلى زلزل الضارب ، وبرصوما الزامر ، وأقطاع بختيشوع النصراني قوت أهل

__________________

(١) في مقاتل الطالبيين : « لذاك بني العباس يصبر مثلكم ويصبر للموت ».

(٢) في مقاتل الطالبيين : « أكل أوان » ..

١٠٤

بلد ، وجاري بغا التركي ، والافشين الأشروسني كفاية أمة ذات عدد ..

والمتوكل زعموا يتسرى باثني عشر الف سرية ، والسيد من سادات أهل البيت يتعفف بزنجية ، أو سندية. وصفوة مال الخراج مقصورة على أرزاق الصفاعنة ، وعلى موائد المخاتنة ، وعلى طعمة الكلابين ، ورسوم القرادين ، وعلى مخارق وعلوية المغني ، وزرزر ، وعمر بن بانة المهلبي ، ويبخلون على الفاطمي بأكلة أو شربة ، ويصارفونه على دانق وحبة ، ويشترون العوادة بالبدر ، ويجرون لها ما يفي برزق عسكر. والقوم الذين أحل لهم الخمس ، وحرمت عليهم الصدقة ، وفرضت لهم الكرامة والمحبة ، يتكففون ضرا ، ويهلكون فقرا ، ويرهن أحدهم سيفه ، ويبيع ثوبه ، وينظر إلى فيئه بعين مريضة ، ويتشدد على دهره بنفس ضعيفة. ليس له ذنب إلا أن جده النبي ، وأبوه الوصي ، وأمه فاطمة ، وجدته خديجة ، ومذهبه الايمان ، وإمامه القرآن .. وحقوقه مصروفة إلى القهرمانة والمضرطة وإلى المغمزة ، إلى المزررة ، وخمسه مقسوم على نقار الديكة الدمية ، والقردة ، وعلى رءوس اللعبة واللعبة ، وعلى مرية الرحلة ..

وما ذا أقول في قوم حملوا الوحوش على النساء المسلمات ، وأجروا لعبادة وذويه الجرايات ، وحرثوا تربة الحسين عليه‌السلام بالفدان ، ونفوا زواره إلى البلدان. وما أصف من قوم هم : نطف السكارى في أرحام القيان؟ وما ذا يقال في أهل بيت منهم نبع البغا ، وفيهم راح التخنيث وغدا ، وبهم عرف اللواط؟!. كان ابراهيم بن المهدي مغنيا ، وكان المتوكل مؤنثا موضعا ، وكان المعتز مخنثا ، وكان ابن زبيدة معتوها مفركا ، وقتل المأمون أخاه ، وقتل المنتصر أباه ، وسم موسى بن المهدي أمه ، وسم المعتضد عمه. ولقد كان في بني أمية مخازي تذكر ، ومعايب تؤثر .. ».

١٠٥

وبعد أن عدد بعض مخازي بني أمية ، ومعايبهم قال :

« .. وهذه المثالب مع عظمها وكثرتها ، ومع قبحها وشنعتها ، صغيرة وقليلة في جنب مثالب بني العباس ، الذين بنوا مدينة الجبارين ، وفرقوا في الملاهي والمعاصي أموال المسلمين .. إلى آخر ما قال .. » (١).

هذا جانب من رسالة الخوارزمي ، وقد كنت أود أن أثبتها بتمامها ، لكنني رأيت أن المجال لا يتسع لذلك .. وعلى كل فإن :

ذلك كله غيض من فيض .. ولعل فيما ذكرناه كفاية ..

__________________

(١) راجع : رسائل الخوارزمي طبع القسطنطينية سنة ١٢٩٧ من ص ١٣٠ ، إلى ص ١٤٠. ونقل شطرا كبيرا منها : سعد محمد حسن في كتابه : المهدية في الاسلام ابتداء من ص ٥٨ وذكر شطرا منها أيضا الدكتور احمد امين في كتابه ضحى الاسلام ج ٣ ص ٢٩٧ فما بعدها ؛ فراجع. وهي موجودة بتمامها في مجموعة خطية من تأليف سيدي الوالد أيده الله ، سماها : « مجمع الفوائد ، ومجمل العوائد » ابتداء من ص ٤٥ ..

١٠٦

سياسة العباسيين مع الرعية

نظرة عامة :

لا نريد في هذا الفصل أن نعرض لأنواع القبائح ، التي كان العباسيون يمارسونها ؛ فإن ذلك مما لا يمكن الالمام به واستقصاؤه في هذه العجالة.

وإنما نريد فقط أن نعطي لمحة سريعة عن سيرتهم السيئة في الناس ، ومدى اضطهادهم وظلمهم لهم ، وجورهم عليهم ، الأمر الذي أسهم إسهاما كبيرا في كشف حقيقتهم ، وبيان واقعهم أمام الملأ .. حتى لقد قال الشعراء في وصف الحالة العامة في زمن خلفائهم الشيء الكثير ؛ فمن ذلك قول سليم العدوي في الثورة على الوضع القائم :

حتى متى لا نرى عدلا نسرّ به

ولا نرى لولاة الحق أعوانا

مستمسكين بحق قائمين به

إذا تلون أهل الجور ألوانا

يا للرجال لداء لا دواء له

وقائد ذي عمى يقتاد عميانا (١)

وقال سديف :

__________________

(١) المستطرف ج ١ ص ٩٧ ، وطبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٢ ، وضحى الاسلام ج ٢ ص ٣٧.

١٠٧

إنا. لنأمل أن ترتد ألفتنا

بعد التباعد والشحناء والإحن

وتنقضي دولة أحكام قادتها

فينا كأحكام قوم عابدي وثن

فكتب المنصور إلى عبد الصمد بن علي بأن : يدفنه حيا ؛ ففعل (١).

وقد ذكر أبو الفرج ابياتا كثيرة بالاضافة الى هذين البيتين ، ونسبها يحيى بن عبد الله بن الحسن ، بحضرة الرشيد ، إلى عبد الله بن مصعب الزبيري ، ومن جملتها قوله :

فطالما قد بروا في الجور اعظمنا

بري الصناع قداح النبع بالسفن (٢)

وقال آخر ، وهو أحمد بن أبي نعيم ، الذي نفاه المأمون بسبب هذا البيت إلى السند :

ما أحسب الجور ينقضي وعلى الن

اس أمير من آل عباس (٣)

وقد تقدم قول أبي عطاء السندي ، المتوفى سنة ١٨٠ ه‍ :

يا ليت جور بني مروان دام لنا

وليت عدل بني العباس في النار

وقال الدكتور أحمد محمود صبحي : « .. لكن ذلك المثل الاعلى للعدالة ، والمساواة الذي انتظره الناس من العباسيين ، قد أصبح وهما من الاوهام ، فشراسة المنصور والرشيد ، وجشعهم ، وجور أولاد علي بن

__________________

(١) راجع : العمدة لابن رشيق ج ١ ص ٧٥ ، ٧٦ ، والعقد الفريد ، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ ص ٨٧ ، وهامش طبقات الشعراء ص ٤١.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٤٧٦ ، ٤٧٧.

(٣) راجع : وفيات الأعيان ، ترجمة يحيى بن أكثم ، ومروج الذهب ج ٣ ص ٤٣٥ ، وضحى الاسلام ج ٢ ص ٣٨ ، ونهاية الارب ج ٨ ص ١٧٥ ، وطبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٣ ، وطبقات الشعراء ص ٣٧٨ ، لكنه نسبه لابن أبي خالد ، لكن في العقد الفريد ج ٦ ص ٤١٨ ، قد نسب يحيى بن أكثم هذا البيت إلى دعبل. وفيه : أنه هو الذي نفي إلى السند ..

١٠٨

عيسى ، وعبثهم بأموال المسلمين ، يذكرنا بالحجاج ، وهشام ، ويوسف ابن عمرو الثقفي ، وعم الاستياء أفراد الشعب ، بعد أن استفتح أبو عبد الله ، المعروف بـ « السفاح » ، وكذلك المنصور بالاسراف في سفك الدماء ، على نحو لم يعرف من قبل (١) .. ».

ويقول صاحب امبراطورية العرب : « .. إنه بالرغم من أن جيش خراسان هو الذي أوصل العباسيين إلى الملك ، فان الفتن في خراسان ظلت قائمة في عهد العباسيين ، كما كانت في عهد الامويين. وكان الشعار الذي رفعه الخراسانيون الآن : أنهم هم الذين أوصلوا « آل البيت » إلى الحكم ، لإقامة عهد من الرحمة والعدل ، لا لإقامة عهد آخر من الطغيان ، المتعطش إلى سفك الدماء .. إلى أن يقول :

لكن الشيء الذي لا ريب فيه : هو أن الاحلام باقامة عهد السلام والعدل ، التي كانت السبب في الثورة العامة ضد الامويين قد تبخرت الآن ، ولو لم يكن العباسيون أسوأ حالا من الامويين ، فانهم لم يكونوا ـ على أي حال ـ خيرا منهم (٢) .. ». وقريب منه كلام غيره (٣)

وستأتي في فصل : آمال المأمون إلخ .. عبارة فان فلوتن الهامة ، والقيمة عن الحكم العباسي ، وسياساته مع الرعية .. فانتظر ..

ولعل قصيدة أبي العتاهية ، التي مطلعها :

من مبلغ عني الاما

م نصائحا متوالية

__________________

(١) نظرية الامامة ص ٣٨١. لكن كنية السفاح هي : « أبو العباس » ، لا أبو عبد الله.

وعبد الله هو : اسمه ، واسم المنصور أيضا ، الذي كان أكبر من السفاح.

(٢) امبراطورية العرب ص ٤٥٢.

(٣) راجع : حياة الامام موسى بن جعفر ج ٢ ص ١٦٢ عن كتاب : « النكبات » للريحاني ، وضحى الاسلام ج ١ ص ١٢٧ حتى ١٣١.

١٠٩

تعبر تعبيرا صادقا عن الحالة العامة ، التي كانت سائدة آنذاك ، وهي معروفة ومشهورة ، ومذكورة في ديوانه ص ٣٠٤. وهي بحق من الوثائق الهامة ، المعبرة عن واقع الحياة في تلك الفترة من الزمن ..

تفصيل مواقف الخلفاء مع الرعية :

وبعد هذا .. وإذا ما أردنا أن نقف عند بعض جنايات وجرائم كل واحد منهم فإننا نقول :

أما السفاح :

الذي أظهر نفسه في صورة مهدي (١) ..

فهو الذي يقول عنه المؤرخون : إنه : « كان سريعا إلى سفك الدماء ؛ فاتبعه عماله في ذلك ، في المشرق والمغرب ، واستنوا بسيرته ، مثل : محمد بن الأشعث بالمغرب ، وصالح بن علي بمصر ، وخازم بن خزيمة ، وحميد بن قحطبة ، وغيرهم .. » (٢).

حتى لقد خرج عليه شريك بن شيخ المهري ، الذي كان ـ على ما يظهر ـ من دعاة العباسيين ـ خرج عليه ـ ببخارا ، في أكثر من ثلاثين ألفا ؛ فقال : « ما على هذا بايعنا آل محمد ، تسفك الدماء ،

__________________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٦٩ ، والتنبيه والاشراف ص ٢٩٢.

(٢) مروج الذهب للمسعودي ج ٣ ص ٢٢٢ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٥٩.

ومشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص ٢٢ ، وليراجع امبراطورية العرب ص ٤٣٥.

١١٠

ويعمل بغير الحق (١) .. » ، فوجه إليه السفاح أبا مسلم ، فقتله ، ومن معه ..

وقضية عامل السفاح ـ وهو أخوه ، وقيل : ابن اخيه ، يحيى ـ مع أهل الموصل ، حيث ذبح الآلاف الكثيرة منهم في المسجد .. هذه القضية معروفة ومشهورة.

وينص المؤرخون ، على أنه : لم يبق من أهل الموصل على كثرتهم إلا أربع مائة إنسان ، صدموا الجند ، فأفرجوا لهم .. كما أنه أمر جنده ، فبقوا ثلاثة أيام يقتلون النساء ، لأنه سمع أنهن يبكين رجالهن .. وينص المؤرخون أيضا : على أن نفوس أهل الموصل قد ذلت بعد تلك المذبحة ، ولم يسمع لهم بعدها صوت ، ولا قامت لهم قائمة (٢) ..

وعند ما سألت السفاح زوجته أم سلمة ، بنت يعقوب بن سلمة : « لأي شيء استعرض ابن أخيك أهل الموصل بالسيف؟!. قال لها : وحياتك ما أدري (٣) ... »!!.

وقد تقدمت عبارة الدكتور أحمد محمود صبحي عن السفاح والمنصور معا عن قريب ..

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٤٢ ، والامامة والسياسة ج ٢ ص ١٣٩ ، وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٣٥٤ طبع صادر ، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٥٦ ، وتاريخ التمدن الاسلامي ج ٢ ص ٤٠٢ ، وغيرهم .. وفي كتاب طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٣٠ قال : إنه « لذلك نقل ولاءه للعلويين ، وثار ببخارا ، وانضم إليه أنصار العلويين في خراسان ، وكذلك ولاة العباسيين على بخارا ، وبرزم ، وكانت حركته شعبية. وجابه أبو مسلم صعوبات كبيرة في القضاء عليها .. » انتهى.

(٢) راجع تفاصيل هذه القضية في : النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٤٨ ، ٤٩ ، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢ ، حوادث سنة ١٣٢ ، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٧٧ ، وغاية المرام للموصلي ص ١١٥ ، وتاريخ اليعقوبي ، طبع صادر ج ٢ ص ٣٥٧ ، وشرح ميمية أبي فراس ص ٢١٦.

(٣) النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٤٩ ، وغير ذلك ..

١١١

وأما المنصور :

الذي أظهر نفسه في صورة مهدي كما يظهر من قول أبي دلامة مخاطبا أبا مسلم الذي قتله المنصور :

أبا مجرم ما غير الله نعمة

على عبده حتى يغيرها العبد

أفي دولة المهدي حاولت غدرة

ألا إن أهل الغدر آباؤك الكرد (١)

والذي قتل خلقا كثيرا حتى استقام له الأمر (٢) ..

فأمره في الظلم والجور وانتهاك الحرمات أشهر من أن يذكر ، حتى لقد أنكر عليه ذلك : « .. رجل من أعظم الدعاة قدرا ، وأعظمهم غناء. وهو أبو الجهم بن عطية ، مولى باهلة. وهو الذي أخرج أبا العباس السفاح من موضعه الذي أخفاه فيه أبو سلمة ، حفص بن سليمان الخلال ، وحرسه ، وقام بأمره حتى بويع بالخلافة ؛ فكان أبو العباس يعرف له ذلك. وكان أبو مسلم يثق به ، ويكاتبه ..

فلما استخلف أبو جعفر المنصور ، وجار في أحكامه ؛ قال أبو الجهم : ما على هذا بايعناهم ، إنما بايعناهم على العدل ؛ فأسرّها أبو جعفر في نفسه ، ودعاه ذات يوم ؛ فتغدى عنده ، ثم سقاه شربة من سويق اللوز ؛ فلما وقعت في جوفه هاج به وجع ؛ فتوهم : أنه قد سم ؛ فوثب ، فقال له المنصور : إلى أين يا أبا الجهم؟! فقال : إلى حيث أرسلتني. ومات بعد يوم أو يومين فقال :

__________________

(١) عيون الأخبار لابن قتيبة ج ١ ص ٢٦ والكنى والألقاب ج ١ ص ١٥٨. ويحتمل أن يقصد بالمهدي هنا : السفاح.

(٢) فوات الوفيات ج ١ ص ٢٣٢ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٥٩ ، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٣٢٤.

١١٢

احذر سويق اللوز لا تشربنه

فان سويق اللوز أردى أبا الجهم (١).

وأنكر عليه ذلك أيضا ـ بالاضافة إلى عمه كما تقدم ـ جماعة من قواده ، فقاموا عليه ، ودعوا الناس إلى موالاة أهل البيت ، فحاربهم عبد الرحمن الازدي سنة ١٤٠ ه‍. فقتل طائفة منهم ، وحبس آخرين (٢) ..

وقال الطبري في حوادث سنة ١٤٠ ه‍. أيضا : « .. وفيها ولي أبو جعفر عبد الجبار بن عبد الرحمن خراسان ، فقدمها ، فأخذ بها ناسا من القواد ، وذكر أنه اتهمهم بالدعاء إلى ولد علي بن أبي طالب ، منهم : مجاشع بن حريث الانصاري ، وأبو المغيرة ، مولى لبني تميم ، واسمه خالد ابن كثير ، وهو صاحب قوهستان ، والحريش بن محمد الذهلي ، ابن عم داود ، فقتلهم وحبس الجنيد بن خالد بن هريم التغلي ، ومعبد بن الخليل المزني ، بعد ما ضربهما ضربا مبرحا ، وحبس عدة من وجوه قواد أهل خراسان (٣) .. ».

ولعل من الامور الجديرة بالملاحظة هنا : أن المنصور كان يعاشر الراوندية القائلين بالوهيته ، ولا ينهاهم ولا يردعهم عن مقالتهم تلك ، وعند ما سأله أحد المسلمين عن ذلك قال له ـ على ما في تاريخ الطبري ـ : « لأن يكونوا في معصية الله وطاعتنا ، أحب إليّ من أن يكونوا في طاعة الله ومعصيتنا. ».

ولكنه عند ما ثاروا عليه في الهاشمية ، وضع فيهم السيف وقتلهم ، ولكن لا لاجل مقالتهم الشنيعة تلك ، وإنما لأجل عدم طاعتهم له!! ..

__________________

(١) النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٥٢ ، وليراجع : الوزراء والكتاب ص ١٣٦ ـ ١٣٧ وفيه : أن أبا الجهم كان وزيرا للسفاح.

(٢) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٧٥.

(٣) الطبري ، طبع ليدن ج ١٠ ص ١٢٨.

١١٣

هذا .. وعند ما قال لعبد الرحمن الافريقي ، رفيق صباه :

« كيف رأيت سلطاني من سلطان بني أمية؟ ».

أجابه عبد الرحمن : « ما رأيت في سلطانهم شيئا من الجور إلا رأيته في سلطانك .. » (١).

وعند ما قدم عليه عبد الرحمن هذا من إفريقيا ، ودخل عليه ، بعد أن بقي ببابه شهرا ، لا يستطيع الوصول إليه ، قال له عبد الرحمن :

« ظهر الجور ببلادنا ، فجئت لا علمك ؛ فإذا الجور يخرج من دارك. ورأيت أعمالا سيئة ، وظلما فاشيا ، ظننته لبعد البلاد منك ، فجعلت كلما دنوت منك كان الأمر أعظم ».

فغضب المنصور ، وأمر باخراجه (٢) ..

وقال لابن أبي ذؤيب : « أي الرجال أنا؟ ».

فأجابه : « أنت والله عندي شر الرجال ، استأثرت بمال الله ، ورسوله ، وسهم ذوي القربى ، واليتامى. والمساكين ، وأهلكت الضعيف ، وأتعبت القوي ، وأمسكت أموالهم .. » (٣) .. وحج أبو جعفر فدعا ابن أبي ذئب ، فقال : نشدتك الله ، ألست أعمل بالحق؟ أليس تراني أعدل؟ فقال ابن أبي ذئب : أما إذ نشدتني بالله فأقول : اللهم لا ، ما أراك تعدل ، وإنك لجائر ، وإنك لتستعمل الظلمة ، وتترك أهل الخير (٤).

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٦٨ ، وغيره.

(٢) تاريخ بغداد ج ١٠ ص ٢١٥ ، والامام الصادق ، والمذاهب الأربعة المجلد الأول جزء ٢ ص ٤٧٩.

(٣) الامامة والسياسة ج ٢ ص ١٤٥.

(٤) صفة الصفوة ج ٢ ص ١٧٥.

١١٤

وعند ما كان يطوف بالبيت سمع أعرابيا يقول : « اللهم إني أشكو إليك ظهور الفساد ، وما يحول بين الحق وأهله ، من الطمع. » ؛ فطلبه المنصور ، فأتي به ، فاستمع المنصور منه إلى شرح واف عن الظلم ، والجور ، والفساد ، الذي كان فاشيا آنذاك ، وهي قصة طويلة لا مجال لذكرها ، وعلى مريدها المراجعة إلى مظانها (١).

ولا بأس بمراجعة ما قاله له عمرو بن عبيد ، في موعظته الطويلة له ، ومن جملتها : « .. إن وراء بابك نيرانا تتأجج من الجور ، والله ، ما يحكم وراء بابك بكتاب الله ، ولا بسنة نبيه إلخ .. » (٢).

وقد لقي أعرابيا بالشام ؛ فقال له المنصور : « احمد الله يا أعرابي ، الذي رفع عنكم الطاعون بولايتنا أهل البيت ».

فأجابه الاعرابي : « إن الله أعدل من أن يجمعكم علينا والطاعون ».

فسكت ، ولم يزل يطلب له العلل حتى قتله (٣).

__________________

(١) المحاسن والمساوي من ص ٣٣٩ ، إلى ص ٣٤١ ، والعقد الفريد للملك السعيد ص ١١٦ ، ١١٧ ، ١١٨ ، وحياة الحيوان للدميري ج ٢ ص ١٩٠ ، ١٩١ ، طبع سنة ١٣١٩ ، وعيون الأخبار ، لابن قتيبة ج ٢ ص ٣٣٣ ، إلى ص ٣٣٦ ، والعقد الفريد ج ٢ ص ١٠٤ ، ١٠٥ ، طبع سنة ١٣٤٦ ، وضحى الاسلام ج ٢ ص ٤٠ ، والامام الصادق والمذاهب الأربعة ج ٢ ص ٤٨٠ ، نقلا عن : تاريخ ابن الساعي ص ١٩ ، والفتوحات الاسلامية لدحلان ج ٢ ص ٤٤٥ حتى ٤٤٨ مطبعة مصطفى محمد. والموفقيات ص ٣٩٢ ، ٣٩٣.

(٢) مرآة الجنان لليافعي ج ١ ص ٣٣٦ ، ٣٣٧ ، والمحاسن والمساوي ، طبع صادر ص ٣٣٨ ، ٣٣٩ ، وعيون الأخبار ، لابن قتيبة باختصار ج ٢ ص ٣٣٧ ، ونور القبس ص ٤٤.

(٣) روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار ص ٨٦ وأساس الاقتباس ، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ١٢٣ ، تاريخ الخلفاء للسيوطى ص ٢٦٥ ، وفي كتاب ربيع الابرار ج ١ ص ٦٨٨ ، طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٣ ، نقلا عن تاريخ دمشق لابن عساكر III ص ٣٩١ : أن الذي قال للمنصور ذلك هو منصور بن جعونة الكلابي : وأن قوله له هو : « إن الله أعدل من أن يسلط علينا الطاعون والعباسيين معا .. ».

١١٥

وقد كتب له سديف ، الذي كان من المتحمسين للدولة العباسية :

أسرفت في قتل الرعية ظالما

فاكفف يديك اظلها « مهديها » (١)

ويريد بـ « مهديها » محمد بن عبد الله بن الحسن على ما يظهر ..

وقضية الرجل الهمداني ، الذي أراد عامل المنصور أن يسلبه ضيعته ؛ فأبى عليه ذلك ؛ فكبله بالحديد ، وسيره إلى المنصور ، فأودعه السجن أربعة أعوام ، لا يسأل عنه أحد ، هذه القضية معروفة ، ومشهورة (٢) ..

وعند ما بنى مدينة : « المصصية » قد أخذ أموال الناس ، حتى ما ترك عند أحد فضلا (٣) ، وعند ما أراد أن يبني مدينة أخرى ثار الناس عليه ووقع القتال ؛ لأنهم علموا أنه سوف لا يبقي عندهم فضلا أيضا.

وأما ما فعله عبد الوهاب ابن أخي المنصور في أهل فلسطين ؛ فذلك يفوق كل وصف ويتجاوز كل بيان (٤).

بعض ما يقال عن المنصور :

وأخيرا .. فقد قال عنه البيهقي إنه : « كان يعلق الناس من أرجلهم ، حتى يؤدّوا ما عليهم .. » (٥).

__________________

(١) العقد الفريد ، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ / ٨٨. ويقال : إن هذا هو سبب قتل سديف ..

(٢) شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون ص ٢٨١ ، ٢٨٢ ، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٨٨.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٣ / ١٢١.

(٤) الوزراء والكتاب ص ١٣٧.

(٥) المحاسن والمساوي ص ٣٣٩.

١١٦

هذا .. وقد وصف اليافعي والذهبي المنصور بأنه كان : « فيه جبروت وظلم » (١).

ووصفه السيد أمير علي بأنه : « كان غادرا خداعا ، لا يتردد البتة في سفك الدماء .. إلى أن قال : وعلى الجملة : كان أبو جعفر سادرا في بطشه ، مستهترا في فتكه ، وتعتبر معاملته لأولاد علي من أسوأ صفحات التاريخ العباسي » (٢).

ولا بأس بمراجعة ما قاله الريان ، مولى المنصور لجعفر بن أبي جعفر ، حيث ينص على أنه قتل أهل الدنيا ، ممن لا يعد ولا يحصى ، وان فرعون لا يقاس به (٣).

وأما المهدي.

الذي اتخذ الزندقة ذريعة للفتك بالأبرياء .. فقد كفانا الجهشياري مؤونة الحديث عنه ؛ حيث قال : إنه في زمن المهدي هذا :

« كان أهل الخراج يعذبون بصنوف من العذاب ، من السباع ، والزنابير والسنانير .. » (٤) .. وقد خرج عليه يوسف البرم بخراسان ، منكرا عليه أحواله ، وسيرته ، وما يتعاطاه (٥).

__________________

(١) العبر للذهبي ج ١ / ٢٣٠ ، ومرآة الجنان لليافعي ج ١ / ٣٣٤.

(٢) مختصر تاريخ العرب والتمدن الاسلامي ص ١٨٤. وليراجع تاريخ التمدن الاسلامي ج ٤ / ٣٩٩ ، والتاريخ الإسلامي والحضارة الاسلامية ج ٣ / ٦١.

(٣) الوزراء والكتاب ص ١٣٠.

(٤) الوزراء والكتاب ص ١٤٢.

(٥) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٣١.

١١٧

وأما الهادي :

فقد كان : « يتناول المسكر ، ويجب اللهو والطرب ، وكان ذا ظلم وجبروت » (١).

وكان « سيّئ الأخلاق ، قاسي القلب ، جبارا ، يتناول المسكر ، ويلعب. » (٢).

وقد قال عنه الجاحظ : « كان الهادي شكس الأخلاق ، صعب المرام ، سيئ الظن. قل من توقاه ، وعرف أخلاقه إلا أغناه ، وما كان شيء أبغض إليه من ابتدائه بسؤال. وكان يأمر للمغني بالمال الخطير الجزيل .. » (٣).

وقال الجهشياري : « كان فظا قاسيا ، غير مأمون على وفاء بوعد » (٤).

نعم .. لقد كان يأمر للمغني بالمال الجزيل الخطير ـ من بيت مال المسلمين ـ كما يقول الجاحظ .. وقد بلغ من إسرافه في إجازة الخلعاء والمغنين ، أن دفع إسحاق الموصلي لأن يقول : « لو عاش لنا الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب والفضة » (٥).

وأخيرا .. فقد قال عنه الذهبي : « قد كان جبارا ظالم النفس » (٦). إلى آخر ما هنالك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه ..

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ / ٣٣١.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٧٩ ، وغيره.

(٣) التاج للجاحظ ص ٨١.

(٤) الوزراء والكتاب ص ١٧٤.

(٥) الأغاني ، طبع دار الكتب بالقاهرة ج ٥ / ١٦٣.

(٦) العبر للذهبي ج ١ / ٢٥٨. ولا بأس بمراجعة : مشاكلة الناس لزمانهم ص ٢٤.

١١٨

وأما الرشيد :

فسيرته تكفي عن كل بيان .. ويكفيه أنه ـ كما ينص المؤرخون ـ يشبه المنصور في كل شيء إلا في بذل المال (١) ؛ حيث يقولون إن المنصور كان بخيلا ..

وقد تسلط ـ كالمنصور ـ بعد مدة من خلافته على الامور ؛ فأفسد الصنائع ، وأحب جمع الأموال (٢).

« وكان جبارا سفاكا للدماء ، على نمط من ملوك الشرق المستبدين » (٣).

وقد عسف عامله أهل خراسان ، وقتل ملوكها ، ووجوه أهلها وأشرافها وصناديدها ، وأخذ أموالهم ، فأرسلها إلى الرشيد ، الأمر الذي كان سببا في انتقاضها عليه (٤).

وكان يعذب الناس في الخراج ؛ حيث : « أخذ العمال ، والتنّاء ، والدهاقين ، وأصحاب الصنائع ، والمبتاعين للغلات ، والمقبلين. وكان عليهم أموال مجتمعة ؛ فولى مطالبتهم عبد الله بن الهيثم بن سام ، فطالبهم بصنوف من العذاب .. إلى أن دخل عليه ابن عياض ؛ فرأى الناس يعذبون في الخراج ؛ فقال : ارفعوا عنهم ؛ إني سمعت عن رسول الله (ص) يقول : من عذب الناس في الدنيا عذبه الله يوم القيامة. ؛ فأمر بأن يرفع العذاب عن الناس ؛ فرفع .. » (٥).

__________________

(١) ولكن لا في سبيل الله ، وإنما على ملذاته وشهواته ، وعلى المغنين والمضرطين كما في رسالة الخوارزمي المتقدمة ، وكما ينص عليه أي كتاب تاريخي يتحدث عن سيرته وأفعاله.

(٢) التنبيه والإشراف ص ٢٩٩.

(٣) هذا قول الأمير شكيب أرسلان ، في تعليقته على : حاضر العالم الإسلامي ، نقلها عنه : محمد بن عقيل هامش ص ٢٠ من كتابه : العتب الجميل .. وهو من منشورات هيئة البحوث الاسلامية في اندونيسيا.

(٤) الوزراء والكتاب ص ٢٢٨.

(٥) تاريخ اليعقوبي ج ٣ / ١٤٦.

١١٩

وكان قد ولى رجلا يضرب الناس ، ويحبسهم ، ليؤدوا ما عليهم من الخراج (١).

وقال أبو يوسف ، في عرض وصيته للرشيد بشأن عمال الخراج : « بلغني أنه : قد يكون في حاشية العامل ، أو الوالي جماعة ، منهم من له حرمة ، ومنهم من له إليه وسيلة ، ليسوا بأبرار ولا صالحين ، يستعين بهم ، ويوجههم في أعماله ، يقتضي بذلك الذمامات. فليس يحفظون ما يوكلون بحفظه ، ولا ينصفون من يعاملونه. إنما مذهبهم أخذ شيء ، من الخراج كان ، أو من أموال الرعية. ثم انهم يأخذون ذلك كله ـ فيما بلغني ـ بالعسف ، والظلم ، والتعدي (٢) ..

وقال : وبلغني أنهم يقيمون أهل الخراج في الشمس ، ويضربونهم الضرب الشديد ، ويعلقون عليهم الجرار ، ويقيدونهم بما يمنعهم من الصلاة ، وهذا عظيم عند الله ، شنيع في الاسلام .. » (٣).

وبعد .. فقد كان في قصره أربعة آلاف امرأة : من الجواري والحظايا (٤)

وكان على حد تعبير بعضهم : « حريصا على اللذات المحرمة ، وسفك

__________________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٨٤.

(٢) الخراج لأبي يوسف ص ١١٦ ط سنة ١٣٩٢ ه‍.

(٣) المصدر نفسه ص ١١٨.

(٤) البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٢٠ ، نقلا عن الطبري .. وفي نفس الجزء من البداية والنهاية ص ٢٢٢ قال : « قال بعضهم : إنه كان في داره أربعة آلاف جارية سراري حسان » .. وجاء في ضحى الاسلام ج ١ / ٩. أنه : « كان للرشيد زهاء ألفي جارية : من المغنيات ، والخدمة في الشراب في أحسن زي ، من كل نوع من أنواع الثياب والجوهر .. ». وإذن فكيف بالسراري الذين هم أربعة آلاف ، وبقية الجواري ، اللواتي يحتاج إليهن في كثير من الشؤون .. فالرقم الحقيقي أكثر من أربعة آلاف بكثير ، بل لعله يزيد عما كان عند المتوكل ، الذي كان يتسرى باثني عشر ألف سرية ، كما نص عليه الخوارزمي فيما تقدم ، وجبور عبد النور في كتاب الجواري ص ٣٦ من سلسلة اقرأ.

١٢٠