دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

عدمى لا يلحظ أمرا زائدا عرفا ، ولهذا لا يرى فى المقام أن النسبة عرفا بين الوجوب والاستحباب نسبة الاقل والاكثر ، بل النسبة بين مفهومين متباينين ، فلا موجب لتعيين أحدهما بالاطلاق.

ثالثها : ان صيغة الأمر تدل على الارسال والدفع بنحو المعنى الحرفى ، ولما كان الارسال والدفع مساوقا لسد تمام أباب العدم للتحرك والاندفاع ، فمقتضى اصالة التطابق بين المدلول التصورى والمدلول التصديقى ان الطلب والحكم المبرز بالصيغة سنخ حكم يشتمل على سد تمام ابواب العدم ، وهذا يعنى عدم الترخيص فى المخالفة. ولعل هذا التقريب أوجه من سابقيه ، فان تم فهو ، وان لم يتم يتعين كون الدلالة على الوجوب بالوضع.

وتترتب فوارق عملية عديدة بين هذه الاقوال على الرغم من اتفاقها على الدلالة على الوجوب ، ومن جملتها ان ارادة الاستحباب من الأمر مرجعها على القول الأول الى التجوز واستعمال اللفظ فى غير ما وضع له ، ومرجعها على القول الاخير الى تقييد الاطلاق ، وأما على القول الوسط فلا ترجع الى التصرف فى مدلول اللفظ أصلا.

وعليه فاذا جاءت أوامر متعددة فى سياق واحد وعلم ان أكثرها أمرامر استحبابية ، اختل ظهور الباقى فى الوجوب على القول الاول ، إذ يلزم من إرادة الوجوب منه حينئذ تغاير مدلولات تلك الأوامر معد وحدة سياقها ، وهو خلاف ظهور السياق الواحد فى ارادة المعنى الواحد من الجميع.

وأما على القول الثانى ، فالوجوب ثابت فى الباقى ، لعدم كونه دخيلا فى مدلول اللفظ لتثلم وحدة المعنى فى الجميع. وكذلك الحال على القول

٨١

الثالث ، لان التفكيك بين الأوامر وكونه بعضا وجوبية وبعضها استحبابية لا يعنى على هذا القول تغيار مدلولاتها ، بل كلها ذات معنى واحد ، ولكنه اريد فى بعضها ملطقا وفى بعضها مقيدا.

الاوامر الارشادية :

ومهما يكن فالأصل فى دلالة الأمر انه يدل على طلب المادة وايجابها ، ولكنه يستعمل فى جملة من الاحيان للارشاد ، فالأمر فى قولهم : استقبل القبلة بذبيحتك ، ليس مفادها الطلب والوجوب ، لوضوح أن شخصا لو لم يستقبل القبلة بالذبيحة لم يكن آثما ، وانما تحرم عليه الذبيحة. فمفاد الأمر اذن الارشاد الى شرطية الاستقبال فى التذكية ، وقد يعبر عن ذلك بالوجوب الشرطى ، باعتبار ان الشرط واجب فى المشروط. والأمر فى : اغسل ثوبك من البول ، ليس مفاده طلب الغسل ووجوبه ، بل الارشاد الى نجاسته بالبول ، وأن مطهره هو الماء. وأمر الطبيب للمريض باستعمال الدواء ليس مفاده الا الارشاد الى ما فى الدواء من نفع وشفاء.

وفى كل هذه الحالات تحتفظ صيغة الأمر بمدلولها التصورى الوضعى ، وهو النسبة الارسالية ، غير ان مدلولها التصديقى الجدى يختلف من مورد الى آخر.

القسم الثانى

ونقصد به الجملة الخبرية المستعملة فى مقام الطلب ، والكلام حولها

٨٢

يقع فى مرحلتين :

الاولى : فى تفسير دلالتها على الطلب ، مع انها جملة خبرية مدلولها التصورى يشتمل على صدور المادة من الفاعلى والمدلول التصديقى قصد الحكاية ، فما هى العناية التى تعمل لافادة الطلب بها؟ وفى تصويره هذه العناية وجوه :

الأول : أن يحافظ على المدلول التصورى والتصديقى معا ، فتكون الجملة إخبارا عن وقوع الفعل من الشخص ، غير انه يقيد الشخص الذى يقصد الحكاية عنه بمن كان يطبق عمله على الموازين الشرعية ، وهذا التقييد قرنيته نفس كونه المولى فى مقام التشريع ، لا نقل أنباء خارجية.

الثانى : ان يحافظ على المدلول التصورى وعلى إفادة قصد الحكاية ، ولكن يقال : إن المقصود حكايته ليس نفس النسبة الصدورية المدلولة تصورا ، بل أمر ملزوم لها ، وهو الطلب من المولى ، فتكون من قبيل الاخبار عن كرم زيد بجلملة « زيد كثير الرماد » على نحو الكناية.

الثالث : ان يفرض استعمال الجملة الخبرية فى غير مدلولها التصورى الوضعى مجازا ، وذلك بان تستعمل كلمة أعاد أو يعيد فى نفس مدلول أعد ، أى النسبة الارسالية.

ولا شك فى ان الاقرب من هذه الوجوه هو الأول ، لعدم اشتماله على أى عناية سوى التقييد الذى تتكفل به القرنية المتصلة الحالية.

الثانية : فى دلالتها على الوجوب ، اما بناء على الوجه الأول فى إعمال العناية ، فدلالتها على الوجوب واضحة ، لأن افتراض الاستحباب يستوجب تقييد زائدا فى الشخص الذى يكون الاخبار بلحاظه ، إذ لا يكفى فى صدق الاخبار فرضه ممن يطبق عمله على الموازين الشرعية ،

٨٣

بل لابد من فرض انه يطبقه على أفضل تلك الموازين.

وأما بناء على الوجه الثانى فتدل الجملة على الوجوب أيضا ، لأن الملازمة بين الطلب والنسبة الصدورية المصححة للاخبار عن الملزوم بيان اللازم ، انما هى فى الطلب الوجوبى ، وأما الطلب الاستحبابى فلا ملازمة بينه وبين النسبة الصدورية ، أو هناك ملازمة بدرجة اضعف.

وأما بناء على الالتزام بالتجوز فى مقام استعمال الجملة الخبرية كما هو مقتضى الوجه الأخير فيشكل دلالتها على الوجوب ، إذ كما يمكن ان تكون مستعملة فى النسبة الارسالية الناشئة من داع لزومى ، كذلك يمكن ان تكون مستعملة فى النسبة الارسالية الناشئة من داع غير لزومى.

وكل ما قلناه فى جانب مادة الأمر وهيئته والجملة الخبرية المستعملة فى مقام الطلب ، يقال عن مادة النهى وهيئته والنفى الخبرى المستعمل فى مقام النهى ، غير أن مفاد الأمر طلب الفعل ، ومفاد النهى الزجر عنه. وكما توجد أوامر ارشادية ، توجد نواه إرشادية أيضا ، والمرشد اليه تارة يكون حكما شرعيا ، كالمانعية فى : لا تصل فيما لا يؤكل لحمه ، واخرى نفى حكم شرعى من قبيل : لا تعمل بخبر الواحد ، فانه ارشاد الى عدم الحكم بحجيته. وثالثة يكون المرشد اليه شيئا تكوينيا ، كما فى نواهى الاطباء للمريض عن استعمال بعض الاطعمة ، ارشادا الى ضررها.

ثم إن الأمر لا يدل على الفور ولا على التراخى ، أى انه لا يستفاد منه لزوم الاسراع بالاتيان بمتعلقه ، ولا لزوم التباطؤ ، لا الأمر لا يقتضى الا الاتيان بمتعلقه ، ومتعلقه هو مدلول المادة ، ومدلول المادة طبيعى الفعل

٨٤

الجامع بين الفرد الانى والفرد المتباطأ فيه.

كما ان الأمر لا يدل على المرة ولا على التكرار ، أى انه لا يستفاد منه لزوم الاتيان بفرد واحد أو بافراد كثيرة ، وانما تلزم به الطبيعة ، والطليعة بعد إجراء قرينة الحكمة فيها ، يثبت اطلاقها البدلى ، فتصدق على ما يأتى به المكلف من وجود لها ، سواء كان فى ضمن فرد واحد أو اكثر. فلو قال الامر : تصدق ، تحقق الامتثال باعطاء فقير واحد درهما ، كما يتحقق باعطاء فقيرين درهمين فى وقت واحد ، وأماإذا تصدق المكلف بصدقتين مترتبتين زمانا ، فالامتثال يتحقق بالفرد الأول خاصة.

٨٥

الاطلاق واسم الجنس

الاطلاق يقابل التقييد ، فان تصورت معنى وأخذت فيه وصفا زائدا أو حالة خاصة ، كالانسان العالم ، كان ذلك تقييدا. وأذا تصورت مفهوم الانسان ولم تضف اليه شيئا من ذلك ، فهذا هو الاطلاق. وقد وقع الكلام فى ان اسم الجنس هل هو موضوع للمعنى الملحوظ بنحو الاطلاق ، فيكون الاطقلا قيدا فى المعنى الموضوع له ، أو الذات المعنى الذى يطرأ عليه الاطلاق تارة والتقييد اخرى.

ولتوضيح الحال تقدم عادة مقدمة لتوضيح انحاء لحاظ المعنى واعتبار الماهية فى الذهن ، لكى تحدد نحو المعنى الموضوع له اللفظ على اساس ذلك ، وحاصلها مع أخذ ماهية الانسان وصفة العلم كمثال ، ان ماهية الانسان اذا تتبعنا انحاء وجودها فى الخارج ، نجد أن هناك حصتين ممكنتين لها من ناحية صفة العلم ، وهما : الانسان الواجد للصفة خارجا ، والانسان الفاقد لها خارجا. ولا يتصور لها حصة ثالثة ينتفى فيها الوجدان والفقدان معا ، لاستحالة ارتفاع النقيضين.

ومن هنا نعرف ان مفهوم الانسان الجامع بين الواجد والفاقد ليس

٨٦

حصة ثابتة فى الخارج فى عرض الحصتين السابقتين. ولكن اذا تجاوزنا الخارج الى الذهن وتتبعنا عالم الذهن فى معقولاته الاولية التى ينتزعها من الخارج مباشرة ، نجد ثلاث حصص أو ثلاثة انحاء من لحاظ الماهية ، كل واحد يشكل صورة للماهية فى الذهن تختلف عن الصورتين الاخريين ، لأن لحاظ ماهية الانسان فى الذهن تارة يقترن مع لحاظ صفة العلم ، وهذا ما يسمى بالمقيد ، أو لحاظ الماهية بشرط شىء. واخرى يقترن مع لحاظ عدم صفة العلم ، وهذا نحو آخر من المقيد ، ويسمى لحاظ الماهية بشرط لا. وثالثة لا يقترن بأى واحد من هذين اللحاظين ، وهذا ما يسمى بالمطلق أو لحاظ الماهية لا بشرط ، وهذه حصص ثلاث عرضية فى اللحاظ فى وعاء الذهن.

واذا دققنا النظر وجدنا ان هذه الحصص الثلاث من لحاظ الماهية تتميز بخصوصيات ذهنية وجودا وعدما ، وهى لحاظ الوصف ولحاظ عدمه وعدم اللحاظين. واما الحصتان الممكنتان للماهية فى الخارج فتتميز كل واحدة منهما بخصوصية خارجية وجودا وعدما ، وهى وجود الوصف خارجا وعدمه كذلك.

وتسمى الخصوصيات التى تتميز بها الحصص الثلاث للحاظ الماهية فى الذهن بعضها عن بعض بالقيود الثانوية ، وتسيم الخصوصيات التى تتميز بها الحصتان فى الخارج احداهما عن الاخرى بالقيود الأولية.

ونلاحظ ان القيد الثانوى المميز للحاظ الماهية بشرط شىء ، وهو لحاظ صفة العلم ، مرآة لقيد أولى ، وهو نفس صفة العلم المميز لاحدى الحصتين الخارجيتين ، ومن هنا كان لحاظ الماهية بشرط شىء مطابقا للحصة الخارجية الاولى.

٨٧

كما نلاحظ ان القيد الثانوى المميز للحاظ الماهية بشرط لا ، وهو لحاظ عدم صفة العلم ، مرآة لقيد أولى ، وهو عدم صفة العلم المميز للحصة الخارجية الاخرى ، ومن هنا كان لحاظ الماهية بشرط لا مطابقا للحصة الخارجية الثانية.

وأما القيد الثانوى المميز للحاظ الماهية لا بشرط وهو عدم كلا اللحاظين فليس مرآة لقيد أولى ، لأنه عدم اللحاظ ، وعدم اللحاظ ليس مرآة لشىء.

ومن هنا كان المرئى بلحاظ الماهية لا بشرط ذات الماهية المحفوظة فى ضمن المطلق والمقيد. وعلى هذا الأساس صح القول بأن المرئى والملحوظ باللحاظ الثالث اللابشرطى جامع بين المرئيين والملحوظين باللحاظين السابقين ، لانخفاظه ، فيهما ، وان كانت نفس الرؤية واللحاظ متباينة فى اللحاظات الثلاثة. فاللحاظ اللابشرطى بما هو لحاظ يقابل اللحاظين الاخرين وقسم ثالث لهما ، ولهذا يسمى باللابشرط القسمى ، ولكن اذا التفت الى ملحوظه مع الملحوط فى اللحاظين الاخرين ، كان جامعا بينهما ، لا قسما فى مقابلهما ، بدليل انفخاظه فيهما معا ، والقسم لا يحفظ فى القيم المقابل له.

ثم اذا تجاوزنا وعاء المعقولات الاولية للذهن الى وعاء المعقولات الثانية التى ينتزعها الذهن من لحاظاته وتعقلاته الاولية ، وجدنا ان الذهن ينتزع جامعا بين اللحاظات الثلاثة للماهية المتقدمة ، وهو عنوان لحاظ الماهية من دون ان يقيد هذا اللحاظ بلحاظ الوصف ولا بلحاظ عدمه ولا بعدم اللحاظين ، وهذا جامع بين لحاظات الماهية الثلاثة فى الذهن ، ويسمى بالماهية اللابشرط المقسمى ، تمييزا له عن لحاظ

٨٨

الماهية اللابشرط القسمى ، لأن ذاك أحد الاقسام الثلاثة للماهية فى الذهن ، وهذا هو الجامع بين تلك الاقسام الثلاثة.

اذا توضحت هذه المقدمة فنقول : لا شك فى ان اسم الجنس ليس موضوعا للماهية اللابشرط المقسمى ، لأن هذا جامع كما عرفت بين الحصص واللحاظات الذهنية ، لا بين الحصص الخارجية. كما انه ليس موضوعا للماهية المأخوذة بشرط شىء أو بشرط لا ، لوضوح عدم دلالة اللفظ على القيد غير الداخل فى حاق المفهوم ، فيتعين كونه موضوعا للماهية المعتبرة على نحو اللابشرط القسمى.

وهذا المقدار مما لا ينبغى الاشكال فيه ، وانما الكلام فى انه هل هو موضوع للصورة الذهنية الثالثة التى تمثل الماهية اللابشرط القسمى بحدها الذى تتميز به عن الصورتين الاخريين ، أو لذات المفهوم المرئى بتلك الصورة ، وليست الصورة بحدهاإلا مرآة لما هو الموضع له. فعلى الأول يكون الاطلاق مدلولا وضعيا للفظ ، وعلى الثانى لا يكون كذلك ، لأن ذات المرئى والملحوظ بهذه الصورة لا يشتمل الا على ذات الماهية الحفوطة فى ضمن المقيد أيضا ، ولهذا أشرنا سابقا الى أن المرئى باللحاظ الثالث جامع بين المرئيين والملحوظين باللحاظين السابقين لانحفاظه فيهما.

ولا شكل فى أن الثانى هو المتعين ، وقد استدل عليه ذلك :

أولا : بالوجدان العرفى واللغوى.

وثانيا : بأن الاطلاق حد للصورة الذهنية الثالثة ، فأخذه قيدا ، معناه وضع اللفظ للصورة الذهنية المحددة به ، وهذا يعنى ان مدلول اللفظ أمر ذهنى ولا ينطبق على الخارج.

٨٩

وعلى هذا فاسم الجنس لا يدل بنفسه على الاطلاق ، كما لا يدل على التقييد ، ويحتاج إفادة كل منهما الى دال ، والدال على التقييد خاص عادة ، وأما الدال على الاطلاق فهو قرينة عامة تسمى بقرينة الحكمة ، على ما يأتى ان شاء الله تعالى.

التقابل بين الاطلاق والتقييد :

عرفنا ان الماهية عند ملاحظتها من قبل الحاكم أو غيره ، تارة تكون مطلقة ، واخرى مقيدة ، وهذان الوصفان متقابلان ، غير ان الأعلام اختلفوا فى تشخيص هوية هذا التقابل ، فهناك القول بأن من تقابل التضاد ، وهو مختار السيد الاستاذ (١) ، وقولة خر : بانه من تقابل العدم والملكة ، وقول ثالث بأنه من تقابل التناقض ، وذلك لأن الاطلاق إن كان هو مجرد عدم لحاظ وصف العلم وجودا وعدما ، تم القول الثالث. وإن كان عدم لحاظه حيث يمكن لحاظه ، تم القول الثانى. وإن كان الاطلاق لحاظ رفض القيد ، تم القول الأول.

والفوارق بين هذه الاقوال تظهر فيما يلى :

١ ـ لا يمكن تصور حالة ثالثة غير الاطلاق والتقييد على القول الثالث ، لاستحالة ارتفاع النقيضين ، ويمكن افتراضها على القولين الأولين ، وتسمى بحالة الاهمال.

٢ ـ يرتبطإمكان الاطلاق بامكان التقييد على القول الثانى ، فلا يمكن الاطلاق فى كل حالة لا يمكن فيها التقييد. ومثال ذلك : ان

ـــــــــــــــ

(١) المحاضرات : ج ٢ ص ١٧٢.

٩٠

تقييد الحكم بالعلم به مستحيل ، فيستحيل الاطلاق أيضا على القول المذكور ، لان الاطلاق بناء عليه هو عدم التقييد فى الموضع القابل ، فحيث لا قابلية للتقييد لا اطلاق.

وهذا خلافا لماإذا قيل بأن مرد التقابل بين الاطلاق والتقييد الى التناقض ، فان استحالة أحدهما حينئذ تستوجب كون الاخر ضروريا لاستحالة ارتفاع النقيضين.

وأما اذا قيل بان مرده الى التضاد ، فتقابل التضاد بطبيعته لا يفترض امتناع احد المتقابلين بامتناع الاخر ولا ضرورته.

والصحيح هو القول الثالث دون الأولين ، وذلك لأن الاطلاق نريد به الخصوصية التى تقتضى صلاحية المفهوم للانطباق على جميع الافراد ، وهذه الخصوصية يكفى فيها مجرد عدم لحاظ اخذ القيد الذى هو نقيض للتقييد ، لأن كل مفهوم له قابلية ذاتية للانطباق على كل فرد يحفظ فيه ذلك المفهوم ، وهذه القابلية تجعله صالحا لاسراء الحكم الثابت له الى افراده شموليا أو بدليا.

وهذه القابلية بحكم كونها ذاتية ، لازمة له ، ولا تتوقف على لحاظ عدم أخذ القيد ، ولا يمكن ان تنفك عنه. والتقييد لا يفكك بين هذا اللازم وملزومه ، وانما يحدث مفهوما جديدا مباينا للمفهوم الأول لان المفاهيم كلها متباينة فى عالم الذهن ، حتى ما كان بينهما عموم مطلق فى الصدق وهذا المفهوم الجيد له قابلية ذاتية اضيق دائرة من قابلية المفهوم الأول ، وهكذا يتضح ان الاطلاق يكفى فيه مجرد عدم التقييد.

وبهذا الصدد يجب ان نميز التقابل بين الاطلاق الثبوتى والتقييد المقابل له وهذا ما كنا نتحدث عنه فعلا عن التقابل بين الاطلاق

٩١

الاثباتى أى عدم ذكر القيد الكاشف عن الاطلاق بقرينة الحكمة والتقييد المقابل له ، فان مرد التقابل بين الاطلاق الاثباتى والتقييد المقابل له الى تقابل العدم والملكة ، فعدم ذكر القيدإنما يكشف عن الاطلاق فى حالة يمكن فيها للمتكلم ذكر القيد ، كما مر فى الحلقة السابقة (١).

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٢٣٧.

٩٢

احترازية القيود وقرينة الحكمة

قد يقول المولى ( اكرم الفقير العادل ) وقد يقول ( اكرم الفقير ) ففى الحالة الاولى يكون موضوع الحكم فى مرحلة المدلول التصورى للكلام حصة خاصة من الفقير ، أى الفقير العادل. وبحكم الدلالة التصديقية الاولى نثبت ان المتكلم قد استعمل الكلام لاخطار صورة حكم متعلق بالحصة الخاصة. وبحكم الدلالة التصديقية الثانية نثبت ان المولى جاد فى هذا الكلام ، بمعنى ان هذا الحكم مجعول وثابت فى نفسه حقيقة وليس هازلا.

وبحكم ظهور الحال فى التطابق بين الدلالة التصديقية الاولى والدلالة التصديقية الثانية ، يثبت ان الحكم الجدى المدلول للدلالة التصديقية الثانية متعلق بالحصة الخاصة ، كما هو كذلك فى الدلالة التصديقية الاولى ، وبههذا الطريق نستكشف من أخذ قيد العدالة فى المثال ، أو أى قيد من هذا القبيل فى مرحلة المدلول التصورى والتصديقى الاولى ، كونه قيدا فى موضوع ذلك الحكم المدلول عليه بالخطاب جدا ، وذلك ما يسمى بقاعدة احترازية القيود.

٩٣

ومرجع ظهور التطابق الذى يبرز هذه القاعدة ، الى ظاهر حال المتكلم ان كل ما يقوله يريده جدا. والدلالة التصورية والدلالة التصديقية الاولى بمجموعهما يكونان الصغرى لهذا الظهور ، إذ يثبتان ما يقوله المتكلم ، فتنطبق حينئذ الكبرى التى هى مدلول لظهور التطابق المذكور.

وقاعدة الاحترازية التى تقوم على أساس هذا الظهور ، تقتضى انتفاء الحكم بانتفاء القيد ، إلا انها انما تنفى شخص الحكم المدلول لذلك الخطاب ، ولا تنفى أى حكمة خر من قبيله ، وبهذا اختلفت عن المفهوم فى موارد ثبوته ، حيث انه يقتضى انتفاء طبيعى الحكم وسنخه بانتفاء الشرط ، على ما تقدم فى الحلقة السابقة (١).

واما فى الحالة الثانية ، فقد انيط الحكم فى مرحلة المدلول التصورى بذات الفقير ، وقد تقدم ان مدلول اسم الجنس لا يدخل فيه التقييد ولا الاطلاق ، والدلالة التصديقية الاولية انما تنطبق على ذلك بمقتضى التطابق بينها وبين الدلالة التصصورية للكلام. وبهذا ينتج ان المتكلم قد أفاد بقوله ثبوت الحكم للفقير ، ولم يفد دخل قيد العدالة فى الحكم ولم يقل ذلك ، لا انه افاد الاطلاق وقال به ، لأن صدق ذلك يتوقف على ان يكون الاطلاق دخيلا فى مدلول اللفظ وضعا ، وقد عرفت عدمه ، فقصارى ما يمكن تقريره انه لم يذكر القيد ولم يقله. وهذا يحقق صغرى لظهور حالى سياقى ، وهو ظهور حال المتكلم فى انه فى مقام بيان موضوع حكمه الجدى بالكامل ، وهو يستتبع ظهور حاله فى أن ما لا يقوله من

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٢٣١.

٩٤

القيود لا يريده فى موضوع حكمه. وبذلك نثبت ان قيد العدالة غير مأخوذ فى موضوع الحكم فى الحالة الثانية ، وهو معنى الاطلاق ، وهذا ما يسمى بقرينة الحكمة ( أو مقدمات الحكمة ).

وبالمقارنة نجد ان الظهور الذى يعتمد عليه الاطلاق غير الظهور الذى تعتمد عليه قاعدة احترازية القيود ، فتلك تعتمد على ظهور حال المتكلم فى ان ما يقوله يريده؟ والاطلاق يعتمد على ظهور حاله فى ان ما لا يقوله لا يريده.

ويمكن القول بأن الظهور الأول هو ظهور التطابق بين المدلول اللفظى للكلام والمدلول التصديقى الجدى ايجابيا ( نريد بالمدلول اللفظى المدلول المتحصل من الدلالة التصورية والدلالة التصديقية الاولى ). وان الظهور الثانى هو ظهور التطابق بينهما سلبيا.

ويلاحظ ان ظهرو حال المتكلم فى التطابق الايجابى أى فى أن ما يقوله يريده أقوى من ظهور حاله فى التطابق السلبى أى فى ان ما لا يقوله لا ريده.

ومن هنا صح القول بأنه متى ما تعارض المدلول اللفظى لكلام مع اطلاق كلام آخر ، قدم المدلول اللفظى على الاطلاق ، وفقا لقواعد الجمع العرفى.

ويتضح مما ذكرناه ان جوهر الاطلاق يتمثل فى مجموع أمرين :

الأول : يشكل الصغرى لقرينة الحكمة ، وهو ان تمام ما ذكره وقيل موضوعا للحكم بحسب المدلول اللفظى للكلام ، هو الفقير ، ولم يؤخذ فيه قيد العدالة.

والثانى : يشكل الكبرى لقرينة الحكمة ، وهو ان ما لم يقله ولم يذكره

٩٥

إثباتا ، لا يريده ثبوتا ، لأن ظاهر حال المتكلم إنه فى مقام بيان تمام موضوع حكمه الجدى بكلام ، وتسمى هاتان المقدمتان بمقدمات الحكمة.

فاذا تمت هاتان المقدمتان ، تكونت للكلام دلالة على الاطلاق وعدم دخل أى قيد لم يذكر فى الكلام.

ولا شك فى ان هذه الدلالة لا توجد فى حالة ذكر القيد فى نفس الكلام ، لأن دخله فى موضوع الحكم يكون طبيعيا حينئذ ما دام القيد داخلا فى جملة ما قيله ، وتختل بذلك المقدمة الصغرى.

وانما وقع الشك والبحث فى حالتين :

الاولى : اذا ذكر القيد فى كلام منفصلة خر ، فهل يؤدى ذلك الى عدم دلالة الكلام الأول على الاطلاق رأسا ، كما هى الحالة فى ذكره متصلا ، أو أن دلالة الكلام الأول على الاطلاق تستقر بعدم ذكر القيد متصلا ، والكلام المنفصل المفترض يعتبر معارضا لظهور قائم بالفعل ، وقد يقدم عليه وفقا لقواعد الجمع العرفى؟

ويتحدد هذا البحث على ضوء معرفة ان ذلك الظهور الحالى الذى يشكل الكبرى ، هل يقتضى كون المتكلم فى مقام بيان تمام موضوع الحكم بشخص كلامه أو بموجموع كلماته؟ فعل الأول يكون صغراه عدم ذكر القيد متصلا بالكلام ، ويكون ظهور الكلام فى الاطلاق منوطا بعدم ذكره القيد فى شخص ذلك الكلام ، فلا ينهدم بمجىء التقييد فى كلام منفصل. وعلى الثانى يكون صغراه عدم ذكر القيد ولو فى كلام منفصل ، فينهدم اصل الظهور بمجىء القيد فى كلام آخر.

والمتيعن بالوجدان العرفى الأول ، بل يلزم على الثانى عدم امكان

٩٦

التمسك بالاطلاق فى موارد احتمال البيان المنفصل ، لأن ظهور الكلام فى الاطلاق اذا كان منوطا بعدم ذكر القيد ولو منفصلا ، فلا يمكن احرازه مع احتمال ورود القيد فى كلام منفصل.

الثانية : إذا كان هناك قدر متيقن فى مقام التخاطب ، فهل يمنع عن دلالة الكلام على الاطلاق أو لا؟ وتوضيح ذلك ان المطلق اذا صدر من المولى ، فتارة تكون حصصه متكافئة فى الاحتمال ، فيكون من الممكن اختصاص الحكم بهذه الحصة دون تلك ، أو بالعكس ، أو شموله لهما معا ، وهذا معناه عدم وجود قدر متيقين ، وفى مثل ذلك تتم قرينة الحكمة بلا اشكال.

وثانية تكون إحدى الحصتين أولى بالحكم من الحصة الاخرى ، غير انها اولوية علمت من خارج ذلك الكلام الذى اشتمل على المطلق ، وهذا ما يسمى بالقدر المتيقن من الخارج ، والمعروف فى مثل ذلك تمامية قرينة الحكمة أيضا.

وثالثة يكون نفس الكلام صريحا فى تطبيق الحكم على إحدى الحصتين ، كما اذا كانت هى مورد السؤال وجاء المطلق كجواب على هذا السؤال ، من قبيل ان يسأل شخص من المولى عن إكرام الفقير العادل ، فيقول له : أكرم الفقير ، وهذا ما يسمى بالقدر المتيقن فى مقام التخاطب.

وقد اختار صاحب الكفاية رحمه الله (١) ان هذا يمنع من دلالة الكلام على الاطلاق ، إذ فى هذه الحالة قد يكون مراده مختصا بالقدر

ـــــــــــــــ

(١) كفاية الاصول : ج ١ ص ٣٧٤.

٩٧

المتيقن ، وهو الفقير العادل فى المثال ، لأن كلامه واف ببيان القدر المتيقن ، فلا يلزم حينئذ ان يكون قد أراد ما لم يقله.

والجواب على ذلك : ان ظاهر حال المتكلم كما عرفت فى كبرى قرينة الحكمة انه فى مقام بيان تمام الموضوع لحكمه الجدى بالكلام ، فاذا كانت العدالة جزء من الموضوع ، يلزم ان لا يكون تمام الموضوع بينا ، إذ لا يوجد ما يدل على قيد العدالة.

ومجرد ان الفقير العادل هو المتيقن فى الحكم ، لا يعنى أخذ قيد العدالة فى الموضوع ، فقرينة الحكمة تقتضى اذن عدم دخل قيد العدالة حتى فى هذه الحالة.

وبذلك يتضح ان قرينة الحكمة أى ظهور الكلام فى الاطلاق لا تتوقف على عدم المقيد المنفصل ولا على عدم القدر المتيقن ، بل على عدم ذكر القيد متصلا.

هذا هو البحث فى اصل الاطلاق وقرينة الحكمة. وتكميلا لنظرية الاطلاق لابد من الاشارة الى عدة تنبيهات :

التنبية الأول : إن اساس الدلالة على الطلاق كما عرفت هو الظهور الحالى السياقى ، وهذا الظهور دلالته تصديقية. ومن هنا كانت قرينة الحكمة الدالة على الاطلاق ناظرة الى المدلول التصديقى للكلام ابتداء ، ولا تدخل فى تكوين المدلول التصورى ، خلافا لما اذا قيل بأن الدلالة على الاطلاق وضعية ، لأخذه قيدا فى المعنى الموضوع له ، فانها تدخل حينئذ فى تكوين المدلول التصورى.

التنبيه الثانى : إن الاطلاق تارة يكون شموليا يستدعى تعدد الحكم بتعدد ما لظرفه من افراد ، واخرى بدليا يستدعى وحدة الحكم. فاذا

٩٨

قيل : اكرم العالم ، كان وجوب الاكرام متعددا بتعدد افراد العالم ، ولكنه لا يتعدد فى كل عالم بتعدد افراد الاكرام.

وقد يقال : إن قرينة الحكمة تنتج تارة الاطلاق الشمولى ، واخرى الاطلاق البدلى ، ويتعترض على ذلك بأن قرينة الحكمة واحدة ، فكيف تنتج تارة الاطلاق الشمولى ، واخرى الاطلاق الشمولى ، واخرى الاطلاق البدلى؟

وقد اجيب على هذا الاعتراض بعدة وجوه :

الأول : ما ذكره السيد الاستاذ (١) من أن قرينة الحكمة لا تثبت الا الاطلاق بمعنى عدم القيد ، واما البدلية والاستغراقية فيثبت كل منهما بقرينة اضافية. فالبدلية فى الاطلاق فى متعلق الأمر مثلا ، تثبت بقرينة اضافية ، وهى ان الشمولية غير معقولة ، لأن ايجاد جميع افراد الطبيعة غير مقدور للمكلف عادة. والشمولية فى الاطلاق فى متعلق النهى مثلا ، تثبت بقرينة اضافية ، وهى ان البدلية غير معقولة ، لأن ترك أحد افراد الطبيعة على البدل ثابت بدون حاجة الى النهى.

ولا يصلح هذا الجواب لحل المشكلة ، اذ توجد حالات يمكن فيها الاطلاق الشمولى والبدلى معا ، ومع هذا يعين الشمولى بقرينة الحكمة ، كما فى كلمة عالم فى قولنا : أكرم العالم ، فلابدإذن من اساس لتعيين الشمولية أو البدلية غير مجرد كون بدلية مستحيلا.

الثانى : ما ذكره المحقق العراقى رحمه الله (٢) من ان الأصل فى قرينة الحكمة انتاج الاطلاق البدلى ، والشمولى عناية اضافية بحاجة الى قرينة ، وذلك لان هذه القرينة تثبت ان موضوع الحكم ذات الطبيعة بدون

ـــــــــــــــ

(١) المحاضرات : ج ٤ ص ١٠٧.

(٢) راجع : مقالات الاصول : ج ١ ص ١٦٩.

٩٩

قيد ، والطبيعة بدون قيد تنطبق على القليل والكثير وعلى الواحد والمتعدد. فلو قيل : اكرم العالم وجرت قرينة الحكمة لا ثبات الاطلاق ، كفى فى الامتثال ، إكرام الواحد ، لانطباق الطبيعة عليه.

وهذا معنى كون الاطلاق من حيث الاساس بدليا دائما ، وأما الشمولية فتحتاج الى ملاحظة الطبيعة سارية فى جميع افرادها ، وهى مؤونة زائدة تحتاج الى قرينة.

الثالث : أن يقال خلافا لذلك ان الماهية عندما تلحظ بدون قيد وينصب عليها حكم ، انما ينصب عليها ذلك بما هى مرآة للخارج ، فيسرى الحكم نتيجة لذلك الى كل فرد خارجى تنطبق عليه تلك المرآة الذهنية ، وهذا معنى تعدد الحكم وشموليته.

وأما البدلية ، كما فى متعلق الأمر ، فهى التى تحتاج الى عناية ، وهى تقييد الماهية بالوجود الأول. فقول ( صل ) يرجع الى الأمر بالوجود الأول ، ومن هنا لا يجب الوجود الثانى.

وعلى هذا فالأصل فى الاطلاق ، الشمولية ، ما لم تقم قرينة على البدلية ، وتحقيق الحال فى المسألة يوافيك فى بحث أعلى إن شاء الله تعالى.

التنبيه الثالث : إذا لاحظنا متعلق النهى فى « لا تكذب » ، ومتعلق الأمر فى « صل » ، نجد أن الحكم فى الخطاب الأول يشتمل على تحريمات متعددة بعدد افراد الكذب ، وكل كذب حرام بحرمة تخصه ، ولو كذب المكلف كذبتين يعصى حكمين ويستحق عقابين.

وأما الحكم فى الخطاب الثانى ، فلا يشتمل إلا على وجوب واحد ، فلو ترك المكلف الصلاة ، لكان ذلك عصيانا واحدا ويستحق بسببه

١٠٠