دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

١ ـ الدليل الشرعى

البحث الأول

تحديد دلالات الدليل الشرعى

١ ـ الدليل الشرعى اللفظى

الدلالات الخاصة والمشتركة :

هناك فى الالفاظ دلالات خاصة لا تشكل عناصر مشتركة فى عمليات الاستنباط تتولاها علوم اللغة ، ولا تدخل فى علم الاصول. وهناك دلالات عامة تصلح للدخول فى استنباط مسائل مختلفة ، وهذه يبحث عنها علم الاصول بوصفها عناصر مشتركة فى عملية الاستنباط ، كدلالة صيغة إفعل على الوجوب ، ودلالة اسم الجنس الخالى من القيد على ارادة المطلق ونحو ذلك.

وقد يقال : إن غرض الاصولى إنما هو تعيين ما يدل عليه اللفظ من معنى ، أو ما هو المعنى الظاهر للفظ عند تعدد معانيه لغة ، وإثبات هذا الغرض إنما يكون عادة بنقل أهل اللغة ، أو بالتبادر الذى هو عملية عفوية يمارسها كل انسان بلا حاجة الى تعمل ومزيد عناية ، فاى مجال يبقى للبحث العلمى ولاعمال الصناعة والتدقيق فى هذه المسائل ، لكى يتولى ذلك علم الاصول؟

والتحقيق اان البحوث اللفظية التى يتناولها علم الاصول على قسمين :

٦١

أحدهما : البحوث اللغوية.

والاخر : البحوث التحليلة.

أما البحوث اللغوية فهى بحوث يراد بهاإكتشاف دلالة اللفظ على معنى معين ، من قبيل البحث عن دلالة صيغة الأمر على الوجوب ، ودلالة الجملة الشرطية على المفهوم.

وأما البحوث التحليلية فيفترض فيها مسبقا ان معنى الكلام معلوم ، ودلالة الكلام عليه واضحة ، غير أن هذا المعنى مستفاد من مجموع اجزاء الكلام على طريقة تعدد الدال والمدلول ، فكل جزء من المعنى يقابله جزء فى الكلام ، ومن هنا قد يكون ما يقابل بعض أجزاء الكلام من أجزاء المعنى واضحا ، ولكن ما يقابل بعضها الاخر غير واضح ، فيبحث بحثا تحليليا عن تعيين المقابل.

ومثال ذلك : البحث عن مدلول الحرف والمعانى الحرفية ، فاننا حين نقول « زيد فى الدار » نفهم معنى الكلام بوضوح ، ونستطيع بسهولة ان ندرك ما يقابل كلمة ( زيد ) وما يقابل كلمة ( دار ) وأما ما يقابل كلمة ( فى ) فلا يخلو من غموض ، ومن أجل ذلك يقع البحث فى معنى الحرف ، وهو ليس بحثا لغويا ، إذ لا يوجد فيمن يفهم العربية من لا يتصور معنى ( فى ) ضمن تصوره لمدلول جملة ( زيد فى الدار ) وانما هو بحث تحليلى بالمعنى الذى ذكرناه.

ومن الواضح ان البحث التحليلى بهذا المعنى لا يرجع فيه الى مجرد التبادر أو نص علماء اللغة ، بل هو بحث علمى تولاه علم الاصول فى حدود ما يترتب عليه أثر فى عملية الاستنباط ، على ما يأتى ان شاء الله تعالى.

٦٢

وأما البحوث اللغوية فهى يمكن ان تقع موضعا للبحث العلمى فى إحدى الحالات التالية :

الحالة الاولى : ان تكون هناك دلالة كلية ، كقرينة الحكمة ، ويراد اثبات ظهور الكلام فى معنى كتطبيق لتلك القرنية الكلية.

ومثال ذلك : أن يقال بان ظاهر الأمر هو الطلب النفسى لا الغيرى ، والتعيينى لا التخييرى ، تمسكا بالاطلاق وتطبيقا لقرينة الحكمة ، عن طريق إثبات ان الطلب الغيرى والتخييرى طلب مقيد ، فينفى بتلك القرينة ، كما تقدم فى الحلقة السابقة (١) ، فان هذا بحث فى التطبيق ، يستدعى النظر العلمى فى حقيقة الطلب الغيرى والطلب التخييرى ، واثبات انهما من الطلب المقيد.

الحالة الثانية : ان يكون المعنى متبادرا ومفروغا عن فهمه من اللفظ ، وإنما يقع البحث العلمى فى تفسير هذه الدلالة ، وهل هى تنشأ من الوضع أو من قرينة الحكمة ، أو من منشأ ثالث؟

ومثال ذلك : إنه لا اشكال فى تبادر المطلق من اسم الجنس مع عدم ذكر القيد ، ولكن يبحث فى علم الاصول ان هذا هل هو من أجل وضع اللفظ للمطلق ، أو من أجل دلال آخر كقرينة الحكمة؟ وهذا بحث لا يكفى فيه مجرد الاحساس بالتبادر الساذج ، بل لابد من جمع ظواهر عديدة ، ليستكشف من خلالها ملاك الدلالة.

الحالة الثالثة : ان يكون المعنى متبادرا ، ولكن يواجه ذلك شبهة تعيق الاصولى عن الأخذ بتبادره ما لم يجد حلا فنيا لتلك الشبهة.

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٢٤٢.

٦٣

ومثال ذلك : إن الجملة الشرطية تدل بالتبادر العرفى على المفهوم ، ولكن فى مقابل ذلك تحس أيضا بأن الشرط فيهاإذا لم يكن علة وحيدة ومنحصرة للجزاء ، لا يكون استعمال أداة الشرط مجازا ، كاستعمال لفظ الاسد فى الرجل الشجاع ، ومن هنا يتحير الانسان فى كيفية التوفيق بين هذين الوجدانين ، ويؤدى ذلك الى الشك فى الدلالة على المفهوم ما لم يتوصل الى تفسير يوفق فيه بين الوجدانين.

وهناك أيضا بعض الحالات الاخرى التى يجدى فيها البحث التحقيقى.

وعلى هذا الأساس وبما ذكرنا من المنهجة والاسلوب يتناول علم الاصول دراسة الدلالات المشتركة الاتية ، ويبحثها لغويا أؤ تحليليا.

٦٤

المعانى الحرفية

المعنى الحرفى مصطلح اصولى تقدم توضيحه فى الحلقة السابقة (١) ، وقد وقع البحث فى تحديد المعانى الحرفية ، إذ لو حظ منذ البدء ان الحرف يختلف عن الاسم المناظر له ، كما مر بنا سابقا ، ففى تخريج ذلك وتحديد المعنى الحرفى وجدإتجاهان :

الاتجاه الأول : ما ذهب اليه صاحب الكفاية (٢) رحمه الله من أن معنى الحرف هو نفس معنى الاسم الموازى له ذاتا ، وانما يختلف عنه اختلافا طارئا وعرضيا ف ( من ) و( الابتداء ) يدلان على مفهوم واحد. وهذا المفهوم اذا لوحظ وجوده فى الخارج فهو دائما مرتبط بالمبتدىء والمبتدأ منه ، إذا لوحظ وجوده فى الذهن ، فله نحوان من الوجود ، فتارة يلحظ بما هو ، ويسمى باللحاظ الاستقلالى ، واخرى يلحظ بما هو حالة قائمة بالطرفين مطابقا لواقعه الخارجى ، ويسمى باللحاظ الالى ، وكلمة ابتداء تدل عليه ملحوظا بالنحو الأول ، و( من ) تدل عليه ملحوظا

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٢١٩.

(٢) كفاية الاصول : ج ١ ص ١٤ وص ٦٣.

٦٥

باللحاظ الثانى.

فالفارق بين مدلولى الكلمتين فى نوع اللحاظ مع وحدة ذات المعنى الملحوظ فيهما معا ، إلا ان هذا لا يعنى إن اللحاظ الاستقلالى أو الالى مقوم للمعنى الموضوع له أو المستعمل فيه وقيد فيه ، لان ذلك يجعل المعنى أمرا ذهنيا غير قابل للانطباق على الخارج ، وانما يؤخذ نحو اللحاظ قيدا لنفس العلقة الوضعية المجعولة للواضع ، فاستعمال الحرف فى الابتداء حالة اللحاظ الاستقلالى ، استعمال فى معنى بلا وضع ، لأن وضعه له مقيد بغير هذه الحالة ، لا استعمال فى غير ما وضع له.

والاتجاه الثانى : ما ذهب اليه مشهور المحققيين بعد صاحب الكفاية ، من أن المعنى الحرفى والمعنى الاسمى متباينان ذاتا ، وليس الفرق بينهما باختلاف كيفية اللحاظ فقط ، بل ان الاختلاف فى كيفية اللحاظ ناتج عن الاختلاف الذاتى بين المعنيين ، على ما سيأتى توضيحه ان شاء الله تعالى.

أما الاتجاه الأول ، فيرد عليه أن البرهان قائم على التغاير السنخى والذاتى بين معانى الحروف ومعانى الاسماء ، وملخصه أنه لا اشكال فى أن الصورة الذهنية التى تدل عليها جملة « سار زيد من البصرة الى الكوفة » مترابطة ، بمعنى أنها تشتمل على معان مرتبطة بعضها ببعض ، فلابد من افتراض معان رابطة فيها لايجاد الربط بين « السير » و « زيد » و « البصرة » و « الكوفة ».

وهذه المعانى الرابطة ان كانت صفة الربط عرضية لها وطارئة ، فلابد أن تكون هذه الصفة مستمدة من غيرها ، لان كل ما بالغرض ينتهى الى ما بالذات ، وبهذا ننتهى الى معان يكون الربط ذاتيا لها ،

٦٦

وليس شىء من المعانى الاسمية يكون الربط ذاتيا له ، لأن ما كان الربط ذاتيا ومقوما له وبعبارة أخرى عين حقيقته يستحيل تصوره مجردا عن طرفيه ، لأنه مساوق لتجرده عن الربط ، وهو خلف ذاتيته له ، وكان مفهوم إسمى ، قابل لأن يتصور بنفسه مجردا عن أى ضميمة ، وهذا يثبت أن المفاهيم الاسمية غير تلك المعانى التى يكون الربط ذاتيا لها ، وهذه المعانى هى مداليل الحروف إذ لا يوجد ما يدل على تلك المعانى بعد استثناء الاسماءإلا الحروف.

وحتى نفس مفهوم النسبة ومفهوم الربط المدلول عليهما بكلمتى النسبة والربط ، ليسا من المعانى الحرفية ، بل من المعانى الاسمية ، لامكان تصورها بدون اطراف ، وهذه يعنى انهما ليسا نسبة وربطا بالحمل الشاءع ، وإن كان كذلك بالحمل الاولى ، وقد مر عليك فى المنطق أن الشىء يصدق على نفسه بالحمل الاولى ، ولكن قد لا يصدق على نفسه بالحمل الشاءع ، كالجزئى ، فانه جزئى بالحمل الأولى ، ولكنه كلى بالحمل الشائع.

وهذا البيان كما يبطل الاتجاه الأول ، يبرهن على صحة الاتجاه الثانى إجمالا ، وتوضيح الكلام فى تفصيلات الاتجاه الثانى يقع فى عدة مراحل :

المرحلة الاولى : انا حين نواجه نارا فى الموقد مثلا ننتزع فى الذهن عدة مفاهيم :

الأول : فمهوم بازاء النار. والثانى : مفهوم بازاء الموقد. والثالث : مفهوم بازاء العلاقة والنسبة الخاصة القائمة بين النار والموقد.

غير ان الغرض من إحضار مفهومى النار والموقد فى الذهن ، التمكن

٦٧

بتوسط هذه المفاهيم من الحكم على النار والموقد الخارجيين ، وليس الغرض ايجاد خصائص حقيقة النار فى الذهن. وواضح أنه يكفى لتوفير الغرض الذى ذكرناه أن يكون الحاصل فى الذهن نارا بالنظر التصورى وبالجمل الاولى ، لما تقدم منا سابقا فى البحث عن القضايا الحقيقية والخارجية من كفاية ذلك فى إصدار الحكم على الخارج.

وأما الغرض من إحضار المفوم الثالث الذى هو بازاء النسبة الخارجية ، والربط المخصوص بين النار والموقد ، فهو الحصول على حقيقة النسبة والربط ، لكى يحصل الارتباط حقيقة بين المفاهيم فى الذهن. ولا يكفى أن يكون المفهوم المنتزع بازاء النسبة نسبة بالنظر التصورى وبالحمل الاولى أى مفهوم النسبة وليس كذلك بالحمل الشائع والنظر التصديقى ، إذ لا يتم حينئذ ربط بين المفاهيم ذهنا.

وبذلك يتضح أول فرق أساسى بين المعنى الاسمى والمعنى الحرفى ، وهو أن الأول سنخ مفهوم يحصل الغرض من إحضاره فى الذهن بأن يكون عين الحقيقة بالنظر التصورى ، والثانى سنخ مفهوم لا يحصل الغرض من إحضاره فى الذهن إلا بأن يكون عين حقيقته بالنظر التصديقى.

وهذا معنى عميق لايجادية المعانى الحرفية ، بأ يراد بايجادية المعنى الحرفى كونه عين حقيقة نفسه ، لا مجرد عنوان ومفهوم يرى الحقيقة تصورها ويغايرها حقيقة ، والأنسب ان تحمل ايجادية المعانى الحرفية التى قال بها المحقق النائينى (١) على هذا المعنى ، لا على ما تقدم فى الحلقة

ـــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ١ ص ٣٧.

٦٨

السابقة (١) ، من انها بمعنى ايجاد الربط الكلامى.

المرحلة الثانية : ان تكثر النوع الواحد من النسبة ، كنسبة الظرفية مثلا لا يعقل إلا مع فرض تغاير الطرفين ذاتا ، كما فى نسبة النار الى الموقد ، ونسبة الكتاب الى الرف ، أو موطنا ، كما فى نسبة الظروف بين النار والموقد فى الخارج وفى ذهن المتكلم وفى ذهن السامع.

وكلما تكثرت النسبة على احد هذين النحوين ، استحال انتزاع جامع ذاتى حقيقى بينها ، وذلك إذا عرفنا ما يلى :

أولا : إن الجامع الذاتى الحقيقى ما تحفظ فيه المقومات الذاتية للافراد ، خلافا للجامع العرضى الذى لا يستبطن تلك المقومات. ومثال الأول : الانسان بالنسبة الى زيد وخالد. ومثال الثانى : الابيض بالنسبة اليهما.

ثانيا : ان انتزاع الجامع يكون بحفظ جهة مشتركة بين الافراد مع الغاء ما به الامتياز.

ثالثا : إن ما به امتياز النسب الظرفية المذكورة بعضها على بعض انما هو اطرافها ، وكل نسبة متقومة ذاتا بطرفيها ، أى انها فى مرتبة ذاتها لا يمكن تعقلها بصوة ر مستقلة عن طرفيها ، والا لم تكن نسبة وربطا فى هذه المرتبة.

وعلى هذا الأساس نعرف ان انتزاع الجامع بين النسب الظرفية مثلا ، يتوقف على إلغاء ما به الامتياز بينها ، وهو الطرفان لكل نسبة ، ولما كان طرفا كل نسبة مقومين لها ، فما يحفظ من حيثية بعد الغاء الاطراف

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٢٢٠.

٦٩

لا تتضمن المقومات الذاتية لتلك النسب ، فلا تكون جامعا ذاتيا حقيقيا. وهذا برهان على التغاير الماهوى الذاتى بين الافراد النسب الظرفية وان كان بينها جامع عرضى إسمى ، وهو نفس مفهوم النسبة الظرفية.

المرحلة الثالثة : وعلى ضوء ما تقدم ، أثبت المحققون ان الحروف موضوعة بالوضع العام والموضوع له الخاص ، لأن المفروض عدم تعقل دامع ذاتى بين النسب ليوضع الحرف له ، فلابد مع وضع الحرف لكل نسبة بالخصوص ، وهذاإنما يتأتى باستحضار جامع عنوانى عرضى مشير ، فيكون الوضع عاما والموضوع له خاصا. وليس المراد بالخاص هنا بالجزئى بمعنى ما لا يقبل الصدق على كثيرين ، لأن النسبة كثيرا ما تقبل الصدق على كثيرين بتبع كلية طرفيها ، بل كون الحرف موضوعا لكل نسبة بما لها من خصوصية الطرفين ، فجزئية المعنى الحرفى جزئية بلحاظ الطرفين لا بلحاظ الانطباق على الخارج.

هيئات الجمل :

كما ان الحروف موضوعة للنسبة على انحائها ، كذلك هيئات الجمل ، غير ان هيئة الجملة الناقصة موضوعة لنسبة ناقصة ، وهيئة الجملة التامة موضوعة لنسبة تامة يصح السكوت عليها.

وخالف فى ذلك السيد الاستاذ (١) ، إذ ذهب الى أن هيئة الجملة الناقصة موضوعة لما هو مدلول الدلالة التصديقية الاولى ، أى لقصد

ـــــــــــــــ

(١) راجع : المحاضرات : ج ١ ص ٧٦ وص ٨٦.

٧٠

اخطار المعنى. وإن هيئة الجملة التامة موضوعة لما هو مدلول الدلالة التصديقية الثانية ، وهو قصد الحكاية فى الجملة الخبرية ، أو الطلب وجعل الحكم فيه الجملة الانشائية ، وهكذا.

وقد بنى ذلك على مسلكه فى تفسير الوضع بالتعهد الذى يقتضى ان تكون الدلالة الوضعية تصديقية ، والمدلول الوضعى تصديقيا كما تقدم.

والصحيح ما عليه المشهور من أن المدلول الوضعى تصديقيا كما تقدم.

والصحيح ما عليه المشهور من أن المدلول الوضعى تصورى دائما فى الكلمات الافرادية وفى الجمل ، وإن الجملة حتى التامة لا تدل بالوضع إلا على النسبة دلالة تصورية ، واما الدلالتان التصديقيتان فهما سياقيتان ناشئتان من ظهور حال المتكلم.

الجملة التامة والجملة الناقصة :

ولا شكل فى الفرق بين الجملة التامة والجملة الناقصة فى المعنى الموضوع له ، فمن اعتبر نفس المدلول التصديقى موضوعا له ، ميز بينهما على أساس اختلاف المدلول التصديقى ، كما تقدم فى الحلقة السابق (١). وأما بناء على ما هو الصحيح من عدم كون المدلول التصديقى هو المعنى الموضوع له ، فنحن بين أمرين :

إما أن نقول : إنه لا اختلاف بين الجملتين فى مرحلة المعنى الموضوع له والمدلول التصورى ، ونحصر الاختلاف بينهما فى مرحلة المدلول التصديقى.

وإما أن نسلم باختلافهما فى مرحلة المدلول التصويرى.

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٢٢٢.

٧١

والاول باطل ، لأن المدلول التصورى اذا كان واحدا وكانت النسبة التى تدل عليها الجملة التامة هى بنفسها مدلول للجملة الناقصية ، فكيف امتازت الجملة التامة بمدلول تصديقى من قبيل قصد الحكاية على الجملة الناقصة ، ولماذا لا يصح ان يقصد الحكاية بالجملة الناقصة؟

واما الثانى فهو يفترض الاختلاف فى المدلول التصورى ، ولما كان المدلول التصورى لهيئة الجملة هو النسبة ، فلابد من افتراض نحوين من النسبة بهما تتحقق التمامية والنقصان.

والتحقيق أن التمامية والنقصان من شؤونه النسبة فى عالم الذهن لا فى عالم الخارج. ف ( مفيد ) و( عالم ) تكون النسبة بينهما تامة إذا جعلنا منهما مبتدأ وخبرا ، وناقصة اذا جعلنا منهما موصوفا ووصفا. وجعل « مفيد » مبتدأ تارة وموصوفا اخرى امر ذهنى لا خارجى ، لأن حالة فى الخارج لا يتغير ، كما هو واضح.

وتكون النسبة فى الذهن تامة ، اذا جاءت الى الذهن ووجدت بما هى نسبة فعلا ، وهذا يتطلب ان يكون لها طرفان متغايران فى الذهن ، إذ لا نسبة بدون طرفين. وتكون النبة ناقصة اذا كانت اندماجية تدمج احد طرفيها بالاخر وتكون منهما مفهوما افراديا واحدا وحصة خاصة ، إذ لا نسبة حينئذ حقيقة فى صقع الذهن الظاهر ، وانما هى مستترة وتحليلية. ومن هنا قلنا سابقاإن الحروف وهيئات الجمل النقاصة موضوعة لنسب إندماجية اى تحليلية ، وإن هيئات الجمل التامة موضوعة لنسب غير اندماجية.

٧٢

الجملة الخبرية والانشائية :

وتنقسم الجملة التامة الى خبرية وانشائية ، ولا شك فى اختلاف إحداهما عن الاخرى ، حتى مع اتحاد لفظيهما ، كما فى « بعت » الخبرية و « بعت » الانشائية ، فضلا عن « عاد » و « أعد » ، وقد وجدت عدة اتجاهات فى تفسيره هذا الاختلاف :

الأول : ما تقدم من الحلقة الاولى (١) عن صاحب الكفاية وغيره من وحدة الجملتين فى مدلولهما التصورى ، واختلافهما فى المدلول التصديقى فقط ، وقد تقدم الكلام عن ذلك.

الثانى : إن الاختلاف بينهما ثابت فى مرحلة المدلول التصورى ، وذلك فى كيفية الدلالة ، فقد يكون المدلول التصورى واحدا ، ولكن كيفية الدلالة تختلف ، فان جملة « بعت » الانشائية دلالتها على مدلولها بمعنى إيجادها له باللفظ ، وجملة « بعت » الأخبارية دلالتها على مدلولها بمعنى اخطارها للمعنى وكشفها عنه.

فكما ادعى فى الحروف أنها ايجادية ، كذلك يدعى فى الجمل الانشائية ، لكن مع فارق الايجاديتين ، فتلك بمعنى كون الحرف موجودا للربط الكلامى ، وهذه بمعنى كون « بعت » موجدة للتمليك بالكلام ، فما هو الموجد بالفتح فى باب الحروف حالة قائمة بنفس الكلام ، وما هو الموجد بالفتح فى باب الانشاء أمر اعتبارى مسبب عن الكلام.

وريد على ذلك ان التمليك اعتبار تشريعى يصدر من البائع ويصدر

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٩١.

٧٣

من العقلاء ومن الشارع. فان اريد بالتمليك الذى يوجد بالكلام ، الأول ، فمن الواضح سبقه على الكلام ، الأول ، فمن الواضح سبقه على الكلام ، وان البائع بالكلام يبرز هذا الاعتبار القائم فى نفسه ، وليس الكلام هو الذى يخلق هذه الاعتبار فى نفسه. وان ارآيد الثانى أو الثالث ، فهو وإن كان مترتبا على الكلام ، غير انه انما يترتب عليه بعد فرض استعمال فى مدلوله التصورى وكشفه عن مدلوله التصديقى ، ولهذا لو أطلق الكلام بدون قصد أو كان هازلا ، لم يترتب عليه أثر ، فترتب الأثر اذا ناتج عن استعمال « بعت » فى معناها وليس محققا لهذا الاستعمال.

الثالث : إن الجملتين مختلفتان فى المدلول التصورى ، حتى فى حالة اتحاد لفظهما ودلالتهما على نسبة واحدة ، فان الجملة الخبرية موضوعة لنسبة تامة منظورا اليها بما هى نسبة يراد تحقيقها ، كما تقدم فى الحلقة الاولى (١).

ويمكن ان نفسر على هذا الأساس إيجادية الجملة الانشائية ، فليست هى بمعن أن استعمالها فى معناها هو بنفسه إيجاد للمعنى باللفظ ، بل بمعنى ان النسبة المبرزة بالجملة الانشائية نسبة منظور اليها لابما هى ناجزة ، بل بما هى فى طريق الانجاز والايجاد.

الثمرة :

قد يقال : إن من ثمرات هذا البحث أن الحروف بالمعنى الاصولى

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٩٠.

٧٤

الشامل للهيئات إذا ثبت انها موضوعة بالوضع العام والموضوع له الخاص ، فهذا يعنى أن المعنى الحرفى خاص وجزئى ، وعليه فلا يمكن تقييده بقرينة خاصة ، ولا اثبات اطلاقه بقرينة الحكمة العامة ، لان التقييد والاطلاق من شؤون المفهوم الكلى القابل للتحصيص.

ومما يترتب عليه ذلك ان القيد اذا كان راجعا فى ظاهر الكلام الى مفاد الهيئة ، فلابد من تأويله ، كما فى الجملة الشرطية ، فان ظاهرها كون الشرط قيدا لمدلول هيئة الجزاء ، وحيث ان هيئة الجزاء موضوعة لمعنى حرفى ، وهو جزئى ، فلا يمكن تقييده ، فلابد من تأويل الظهور المذكور. فاذا قيل اذا جاءك زيد فاكرمه ، دل الكلام بظهوره الاولى على أن المقيد بالمجىء مدلول هيئة الامر فى الجزاء ، وهو الطلب والوجوب الملحوظ بنحو المعنى الحرفى ، فيكون الوجوب مشروطا ، ولكن حيث يستحيل التقييد فى المعانى الحرفية ، فلابد من إرجاع الشرط إلى متعلق الوجوب لا غلى الوجوب نفسه ، فيكون الوجوب مطلقا ومتعلقه مقيدا بزمان المجىء على نحو الواجب المعلق الذى تقدم الحديث عن تصويره فى الحلقة السابقة (١).

ولكن الصحيح ان كون المعنى الحرفى جزئيا ليس بمعنى ما لا يقبل الصدق على كثيرين لكى يستحيل فيه التقييد والاطلاق ، بل هو قابل لذلك تبعا لقابلية طرفيه ، وانما هو جزئى بلحاظ خصوصية طرفيه ، بمعنى ان كل نسبة مرهونة بطرفيها ، ولا يمكن الحفاظ عيها مع تغيير طرفيها.

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٣٢٩.

٧٥

الأمر أو أدوات الطلب

ينقسم ما يدل على الطلب الى قسمين :

أحدهما : ما يدل بلا عناية ، كمادة الأمر وصيغته.

والاخر : ما يدل بالعناية ، كالجملة الخبرية المستعملة فى مقام الطلب ، فيقع الكلام فى القسمين تباعا :

القسم الأول

الطلب هو السعى نحو المقصود ، فان كان سعيا مباشرا ، كالعطشان يتحرك نحو الماء ، فهو طلب تكوينى. وإن كان بتحريك الغير وتكليفه ، فهو طلب تشريعى.

ولا شك فى دلالة مادة الأمر على الطلب بمفهومه الاسمى ، ولكن ليس كل طلب ، بل الطلب التشريعى من العالى. كما لاإشكال فى دلالة صيغة الأمر على الطلب ، وذلك لأن مفاد الهيئة فيها هو النسبة الارسالية ، والارسال ينتزع منه مفهوم الطلب ، حيث إن الارسال سعى

٧٦

نحو المقصود من قبل المرسل ، فتكون الهيئة دالة على الطلب بالدلالة التصورية ، تبعا لدلالتها تصورا على منشأ انتزاعه ، كما ان الصيغة نفسها بلحاظ صدورها بداعى تحصيل المقصود تكون مصداقا حقيقيا للطلب ، لانها سعى نحو المقصود.

ومما اتفق عليه المحصلون من الاصوليين تقريبا ، دلالة الأمر مادة وهيئة على الوجوب بحكم التبادر وبناء العرف العام على كون الطلب الصادر من المولى بلسان الأمر مادة أو هيئة ، وجوبا ، وانما اختلفوا فى توجيه هذه الدلالة وتفسيرها الى عدة اقوال :

القول الأول : إن ذلك بالوضع ، بمعنى أن لفظ الأمر موضوع للطلب الناشىء من داع لزومى ، وصيغة الأمر موضوعة للنسبة الارسالية الناشئة من ذلك ، ودليل هذا القول هو التبادر مع إبطال سائر المناشىء الاخرى المدعاة لتفسير هذا التبادر.

القول الثانى : ما ذهب اليه المحقق النائينى رحمه الله (١) من أن ذلك بحكم العقل ، بمعنى ان الوجوب ليس مدلولا للدليل اللفظى ، وانما مدلوله الطلب ، وكل طلب لا يقترن بالترخيص فى المخالفة ، يحكم العقل بلزوم امتثاله ، وبهذا اللحاظ يتصف بالوجوب. بينما اذا اقترن بالترخيص المذكور ، لم يلزم العقل بموافقته ، وبهذا اللحاظ يتصف بالاستحباب.

ويرد عليه أولا : إن موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال لا يكفى فيه مجرد صدور الطلب مع عدم الاقتران بالترخيص ، لوضوح ان المكلف اذا اطلع بدون صدور ترخيص من قبل المولى على أن طلبه نشأ من ملاك

ـــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ١ ص ١٣٦.

٧٧

غير لزومى ولا يؤذى المولى فواته ، لم يحكم العقل بلزوم الامتثال. فالوجوب العقلى فرع مرتبة معينة فى ملاك الطلب ، وهذه المرتبة لا كاشف عنها الا الدليل اللفظى ، فلابد من فرض أخذها فى ملدلول اللفظ لكى يتنقح بذلك موضوع الوجوب العقلى.

وثانيا : ان لازم القول المذكور ان يبنى على عدم الوجوب فيما اذا اقترن بالأمر عام يدل على الاباحة فى عنوان يشمل بعمومه مورد الامر ، وتوضيح ذلك انه اذا بنينا على ان اللفظ بنفسه يدل على الوجوب ، فالأمر فى الحالة التى اشرنا اليها يكون مخصصا لذلك العام الدال على الاباحة ومخرجا لمورده عن عمومه ، لانه أخص منه ، والدال الأخص يقدم على الدال العام ، كما تقدم.

وأمّا اذا بنينا على مسلك المحقق النائينى المذكور ، فلا تعارض ولو بنحو غير مستقر بين الأمر والعام ، ليقدم الأمر بالأخصية ، وذلك لان الأمر لا يتكفل الدلالة على الوجوب بناء على هذا المسلك ، بل المتعين بناء عليه ان يكون العام رافعا لموضوع حكم العقل بلزوم الامتثال ، لأن العام ترخيض وارد من الشارع ، وحكم العقل معلق على عدم ورود الترخيص من المولى ، مع ان بناء الفقهاء والارتكاز العرفى على تخصيص العام فى مثل ذلك والالتزام بالوجوب.

وثالثا : إنه قد رفرض ان العقل يحكم بلزوم امتثال طلب المولى معلقا على عدم ورود الترخيص من الشارع ، وحينئذ نتساءل : هل يراد بذلك كونه معلقا على عدم اتصال الترخيص بالامر ، أو على عدم صدور الترخيص من المولى واقعا ولو بصورة منفصلة عن الامر ، أو على عدم احراز الترخيص ويقين المكلف به؟ والكل لا يمكن الالتزام به.

٧٨

أمام الأول فلأنه يعنى أن الأمر اذا ورد ولم يتصل به ترخيص ، تم تم بذلك موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال. وهذا يستلزم كون الترخيص المنفصل منافيا لحكم العقل باللزوم ، فيمتنع ، هذا اللازم واضح البطلان.

وأما الثانى : فلأنه يستلزم عدم احراز الوجوب عند الشك فى الترخيصص المنفصل واحتمال وروده ، لان الوجوب من نتائج حكم العقل بلزوم الامتثال ، وهو معلق بحسب الفرض على عدم ورود الترخيص ولو منفصلا ، فمع الشك فى ذلك يشك فى الوجوب.

وأما الثالث : فهو خروج عن محل الكلام ، لأن الكلام فى الوجوب الواقعى الذى يشترك فيه الجاهل والعالم لا فى المنجزية.

القول الثالث : ان دلالة الأمر على الوجوب بالاطلاق وقرينة الحكمة ، وتقريب ذلك بوجوه :

أحدهما : ان الأمر يدل على ذات الارادة ، وهى تارة شديدة ، كما فى الواجبات ، واخرى ضعيفة ، ما فى المستحبات.

وحيث ان شدة الشىء من سنخه ، بخلاف ضعفه ، فتتعين بالاطلاق الارادة الشديدة ، لانها بحدها لا تزيد على الارادة بشىء ، فلا يحتاج حدها الى بيان زائد على بيان المحدود ، بينما تزيد الارادة الضعيفة بحدها عن حقيقة الرادة ، فلو كانت هى المعبر عنها بالأمر ، لكان اللازم نصب القرينة على حدها الزائد ، لأن الأمر لا يدل إلا على ذات الارادة.

وقد أجيب على ذلك : بأن اختلاف حال الحدين أمر عقلى بالغ الدقة وليس عرفيا ، فلا يكون مؤثرا فى اثبات إطلاق عرفى يعين أحد الحدين.

٧٩

ثانيها : وهو مركب من مقدمتين :

المقدمة الاولى : ان الوجوب ليس عبارة عن مجرد طلب الفعل ، لان ذلك ثابت فى المستحبات أيضا ، فلابد من فرض عناية زائدة بها يكون الطلب وجوبا ، وليست هذه العناية عبارة عن انضمام النهى والمنع عن الترك الى طلب الفعل ، لأن النهى عن شىء ثابت فى باب المكروهات أيضا ، وانما هى عدم ورود الترخيص فى الترك ، لأن هذا الأمر العدمى هو الذى يميز الوجوب عن باب المستحبات والمكروهات. ونتيجة ذلك إن الميز للوجوب أمر عدمى وهو طلب الفعل ، وأمر عدمى وهو عدم الترخيص فى الترك ، والمميز للاستحباب أمر وجودى وهو الترخيص فى الترك ، فيكون مركبا من أمرين وجوديين.

المقدمة الثانية : إنه كلما كان الكلام وافيا بحيثية مشتركة ويتردد أمرها بين حقيقتين المميز لاحداهما أمر عدمى والمنميز للاخرى أمر وجودى ، تعين بالاطلاق ، الحمل على الأول ، لأن الأمر العدمى أسهل مؤونة من الأمر الوجودى.

فاذا كان المقصود ما يتميز بالأمر الوجودى مع انه لم يذكر الأمر الوجودى ، فهذا خرق عرفى واضح لظهور حال المتكلم فى بيا تمام المراد بالكلام. واما اذا كان المقصود ما يتميز بالأمر العدمى ، فهو ليس خرقا لهذا الظهور بتلك المثابة عرفا ، لأن المميز حينما يكون أمرا عدميا ، كأنه لا يزيد على الحيثية المشتركة التى يفى بها الكلام.

ومقتضى هاتين المقدمتين تعين الوجوب بالاطلاق.

ويرد عليه المنع من اطلاق المقدمة الثانية ، فانه ليس كل أمر

٨٠