دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

المتعارضين ولكن على نحو مشروط بكذب الاخر ، وحيث يعلم بكذب أحدهم فيعلم بحجية أحدهما فعلا ، وهذا يكفى لنفى الثالث ، وقد تقدمت الاارة الى ذلك.

الرابع : ينبغى ان يعلم انا فى تنقيح القاعدة على ضوء دليل الحجية كنا نستبطن افتراضا وهو التعامل مع أدلة الحجية بوصفها أدلة لفظية لا ترفع اليد عن اطلاقها الا بقدر الضرورة ، إلا ان هذا الافتراض لا ينطبق على الواقع ، لأن دليل الحجية فى الغالب لبى مرجعه إلى السيرة العقلائية وسيرة المتشرعة والاجماع ، والألدة اللفظية إذا تمت تعتبر إمضائية فتنصرف الى نفس مفاد تلك الأدلة اللبية وتتحدد بحدودها.

وعلى هذا الاساس سوف تتغير نتيجتان من النتائج التى انتهينا اليها سابقا :

الأولى : ما كنا نفترضه من التمسك باطلاق دليل الحجية لاثبات حجية فى كل من المتعارضين مسروطة بكذب الاخر ، وكنا نستفيد من ذلك لنفى احتمال الثالث ، فان هذا الافتراض يناسب الدليل اللفظى الذى له اطلاق يشمل المتعارضين بحد ذاته. واماإذا كان مدرك الحجية الأدلة اللبية من السيرة العقلائية وغيرها فلا اطلاق فيها للمتعارضين بحد ذاته. واماإذا كان مدرك الحجية الأدلة اللبية من السيرة العقلائية وغيرها فلا اطلاق فيها للمتعارضين رأسا ، فلا يمكن أن نثبت بها حجيتين مشروطتين على النحو المذكور.

الثانية : ما كنا نفترضه فى حالة تعارض الدليل اللفظى القطعى سندا مع الدليل اللفظى الظنى سندا وعدم امكان الجمع العرفى ، من وقوع التعارض بين دليل حجية الظهور فى الأول ودليل حجية السند فى الثانى ، فان هذا يناسب الاقرار بتمامية كل من هذين الدليلين فى نفسه

٥٨١

وصلاحيته لمعارضة الاخر. مع ان الواقع بناء على ان دليل حجية السند أى حجية خبر الواحد السيرة ، قصوره فى نفسه عن الشمول لمورد المعارضة المستقرة لظاهر كلام قطعى الصدور من الشارع ، لعدم انعقاد السيرة فى مثل ذلك على التعبد بنقل المعارض.

٥٨٢

ـ ٣ ـ

حكم التعارض على ضوء الأخبار الخاصة

الروايات الخصاة الواردة فى علاج التعارض على قسمين :

أحدهما : ما يتصل بحالات التعارض بين الدليل القطعى السند والدليل الظنى السند ، إذ قد يقال : بوجود ما يدل على الغاء حجية الدليل الظنى السند فى هذه الحالة على نحو نرفع اليد بذلك عما قد يكون هو مقتضى القاعدة من تعارض دليل التعبد بالسند فى أحدهما مع دليل التعبد بالظهور فى الاخر وتساقطهما. ونسمى روايات هذا القسم بروايات العرض على الكتاب لانها تقتضى عرض الاخبار على الكتاب.

والقسم الاخر : ما يتصل بحالات التعارض بين الدليلين الظنيين سندا ، إذ قد يقال : بوجود ما يدل على عدم التساقط وثبوت الحجية لاحد المتعارضين تعيينا أو تخييرا على نحو نرفع اليد به عما تقتضيه القاعدة من التساقط ، ونسمى روايات هذا القسم بروايات العلاج.

وسنتكلم عن هذين القسمين تباعا :

٥٨٣

١ ـ روايات العرض على الكتاب

ويمكن تصنيف هذه الروايات الى ثلاث مجاميع :

المجموعة الاولى : ما ورد بلسان الاستنكار والتحاشى عن صدور ما يخالف الكتاب من المعصومين ، من قبيل رواية أيوب بن راشد عن أبى عبدالله عليه اسلام قال : ( ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف ) (١) فان التعبير بزخرف يدل على نفى الصدور مع الاستنكار والتحاشى. وهذه الروايات تدل على سقوط كل خبر مخالف للكتاب عن الحجية ، وبهذا تقيد دليل حجية السند على تقدير ثبوت الاطلاق فيه.

وقد يستشكل فى ذلك تارة : بأن الروايات المذكورة لا تنفى الحجية وليست ناظرة اليها ، وانما تنفى صدور الكلام المخالف ، فلا تعارض دليل حجية السند لتقيده وانما تعارض نفس الروايات الدالة على صدور الكلام المخالف.

واخرى : بأن موضوع هذه الرواية غير الموافق لا المخالف ، ولازم ذلك عدم العمل بالروايات التى لا تعرض فى القرآن الكريم لمضمونها.

وثالثة : بأن صدور الكلام المخالف من الأئمة معلوم وجدانا ، كما فى موارد التخصيص والتقييد ، وهذا يكشف عن لزوم تأويل تلك الروايات ولو بحملها على المخالفة فى اصول الدين.

والجواب : أما على الأول : فبأن نفى الصدور بروح الاستنكار يدل

ــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : باب ٩ من ابواب صفات القاضى ح ١٢ج ١٨ ص ٧٨؟.

٥٨٤

بالالتزام العرفى على نفى الحجية.

وأما على الثانى : فبأن ظاهر عدم الموافقة عدمها بنحو السالبة بانتفاء المحمول لا السالبة بانتفاء الموضوع التى تحصل بعدم تطرق القرآن للمضمون رأسا.

وأما على الثالث : فبأن نفس الاستنكار والتحاشى قرينة عرفية على تقييد المخالف بما كان يقتضى طرح الدليل القرآنى والغائه رأسا ، فلا يشمل المخالف بالتخصيص والتقييد ونحوهما مما لا استنكار فيه بعد وضحو بناء البيانات الشرعية على ذلك.

المجموعة الثانية : ما دل على إناطة العمل بالرواية بأن يكون موافقا مع الكتاب وعليه شاهد منه ، من قبيل رواية ابن أبى يعفور قال : ( سألت اباعبدالله عليه السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به ، قال : إذا ورد عليكم حديث فوجتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإلا فالذى جاء به أولى به ) (١).

وهذه الرواية ونظائرها تساوق فى الحقيقة الغائحجية خبر الواحد ، لأنها تنهى عن العمل به فى حالة عدم تطابقه مع القرآن الكريم ، ولا محصل عرفا لجعل الحجية له فى خصوص حالة التطابق ، لكفاية الدلالة القرآنية حينئذ.

وعليه فيرد على الاستدلال بها انها بنفسها اخبار آحاد ولا يمكن الاستدلال باخبار الاحاد على نفى حجية خبر الواحد. هذاإضافة إلى

ــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : باب ٩ من ابواب فات القاضى ح ١١ح ١٨ ص ٧٨.

٥٨٥

اننا لو سلمنا انها لا تلغى حجية خبر الواحد على الاطلاق فلا شك فى انها تسلب الحجية على الخبر الذى ليس له موافق من الكتاب الكريم ، ومضمونها نفسه لا يوافق الكتاب الكريم بل يخالفه ، بناء على دلالة الكتاب وغيره من الأدلة القطعية على حجية خبر الثقة ، فيلزم من حجيتها عدم حجيتها.

المجموعة الثالثة : ما دل على نفى الحجية عما يخالف الكتاب الكريم من قبيل رواية جميل بن دراج عن أبى عبدالله عليه السلام انه قال : ( الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام فى الهلكة ، إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه ) (١).

وتعتبر هذه المجموعة مخصصة لدليل حجية الخبر لا ملغية للحجية رأسا ، وتيجة ذلك عدم شمول الحجية للخبر المعارض للكتاب الكريم. وبعد اخذ الكتاب بوصفه مصداقا لمطلق الدليل القطعى على ضوء مناسبات الحكم والموضوع يثبت ان كل دليل ظنى يخالف دليلا قطعى السند يسقط عن الحجية ، والمخالفة هنا حيث لم ترد فى سياق الاستنكار بل فى سياق الوقوف عند الشبهة ، فلا تختص بالمخالفة التى تقتضى طرح الدليل القرآنى رأسا كما فى المجموعة الاولى بل تشمل كل حالات التعارض المستقر بما فى ذلك التباين والعموم من وجه.

وقد يعترض على ذلك باعتراضين :

الأول : ان هذه المجموعة لا تختص باخبار الاحاد بل تشمل كل

ــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : باب ٩ من ابواب صفات القاضى ح ٣٥ج ١٨ ص ٨٦.

٥٨٦

إمارة تؤدى الى مخالفة الكتاب ، فلا تكون أخص مطلقا من دليل حجية الخبر بل قد تكون النسبة هى العموم من وجه.

والجواب : ان الصحيح تقدم اطلاق هذه المجموعة عند التعارض على دليل حجية الخبر باعتبار حكومتها عليه ، إذ هى كأدلة المانعية والشرطية فرض فيها الفراغ عن اصل حجية بعض الامارات ليصح استثناء بعض الحالات من ذلك ، وهذا معنى النظر المستوجب للحكومة. أضف الى ذلك ان خبر الثقة هو القدر المتيقن منها باعتباره الفرد البارز من الامارات والمتعارف والداخل فى محل الابتلاء وقتئذ الذى كان يترقب مخالفته للكتاب تارة وموافقته اخرى.

الثانى : ان هذه المجموعة تدل على إسقاط ما يخالف الكتاب عن الحجية ، والمخالفة كما تشمل التنافى بنحو التباين أو المعلوم من وجه كذلك تشمل التنافى بنحو التخصيص أو التقييد أو الحكومة ، لأن ذلك كله يصدق عليه المخالفة ، فيكون مقتضى اطلاقها طرح ما يعارض الكتاب الكريم مطلقا سواء كان تعارضا مستقرا أو غير مستقر.

وقد اجيب على هذا الاعتراض بوجهين :

احدهما : ان المعارضة بنحو التخصيص أو التقييد ونحوهما ليست بمخالفة ، لان الخاص والمقيد والحاكم قرينة على المراد من العام والمطلق والمحكوم.

والاخر : اننا نعلم إجمالا بصدور كثير من المخصصات والمقيدات للكتاب عن الأئمة ، وهذاإن لم يشكل قرينة متصلة تصرف عنوان المخالفة فى هذه الروايات الى انحاء الاخرى من المخالفة ، أى التعارض المستقر ، فلا أقل من سقوط الاطلاقات القرآنية عن الحجية بالتعارض

٥٨٧

فيما بينها على اساس العلم الاجمالى ، فتبقى الاخبار المخصصة على حجيتها.

ونلاحظ على هذين الوجهين : ان المخالفة للقرآن المسقطة للخبر عن الحجية إن اريد بها المخالفة لدلالة قرآنية ولو لم تكن حجة فكلا الجوابين غير صحيح ، لان القرينة المنفصلة والتعارض على اساس العلم الاجمالى لا يرفع أصل الدلالة القرآنية ولا يخرج الخبر عن كونه مخالفا لها.

وان اريد بها المخالفة لدلالة قرآنية حجة فى نفسها وبقطع النظر عن الخبر المخالف لها فالجواب الثانى صحيح ، لان الدلالة القرآنية ساقطة عن الحجية بسبب العلم الاجمالى ما لم يدع انحلاله. وأما الجواب الأول فهو غير صحيح ، لان الخاص مخالف لدلالة العام التى هى حجة فى نفسها وبقطع النظر عن ورود الخاص.

وان اريد بها المخالفة لدلالة قرآنية واجدة لمقتضى الحجية حتى بعد ورود الخبر المخالف صح كلا الجوابين ، لان مقتضى الحجية فى العام غير محفوظ بعد ورود القرينة المنفصلة ، واختصت المخالفة المسقطة للخبر عن الحجية بالمخالفة على وجه لا يصلح للقرينية.

وأوجه هذه الاحتمالات اوسطها.

ويمكن أن يجاب أيضا بعد الاعتراف بتمامية الاطلاق فى روايات هذه المجموعة للمعارضة غير المستقرة ان هناك مخصصا لهذا الاطلاق وهو ما ورد فى بعض الاخبار العلاجية مما يستفاد منه الفراغ عن حجية الخبر المخالف مع الكتاب فى نفسه ، ففى رواية عبدالرحمن بن أبى عبدالله قال : ( قال الصادق عليه السلام : إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه ، فان لم تجدوهما فى كتاب الله فاعرضوهما على اخبار

٥٨٨

العامة ... ) (١) فان الظاهر من قوله : إذا ورد عليكم حديثان مختلفان ، ان الامام عليه السلام بصدد علاج مشكلة التعارض بين حديثين معتبرين فى نفسيهما لولا التعارض ، فيكون دليلا على عدم قدح المخالفة مع الكتاب فى الحجية الاقتضائية. نعم لا يوجد فيه اطلاق يشمل جيمع اقسام الخبر المخالف مع الكتاب ، لانه ليس فى مقام بيان هذه الحيثية ليتم فيه الاطلاق ، فلابد من الاقتصار على المتيقن من مفاده وهو مورد القرينة.

٢ ـ روايات العلاج

ويمكن تصنيف روايات العلاج إلى عدة مجاميع أهمها مجموعة التخيير ومجموعة الترجيح :

روايات التخيير :

المجموعة الاولى ما استدل به من الروايات على التخيير بمعنى جعل كل منهما حجة على سبيل التخيير ، والحديث عن ذلك يقع تارة فى مقام الثبوت وتصوير امكان جعل الحجية التخييرية ، واخرى فى مقام الاثبات ومدى دلالة الروايات على ذلك.

أما البحث الثبوتى ، فقد يقال فيه : ان الحجية التخييرية غير معقولة ، لانه إما أن يراد بها جعل حجية واحدة أو جعل حجيتين مشروطتين :

ــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : ج ١٨ ، ابواب صفات القاضى ، الباب ٩ ، حديث ٢٩.

٥٨٩

أما الأول : فهو ممتنع ، لان هذه الحجية الواحدة إن كانت ثابتة لأحد الخبرين بالخصوص فهو خلف تخييريتها. وإن كانت ثابتة للجامع بين الخبرين بنحو مطلق الوجود أى الجامع أينما وجد لزم سريان الحجية الى كلا الفردين مع تعارضهما. وإن كانت ثابتة للجامع بنحو صرف الوجود لم تسر الى كل من الخبرين ، لان ما يتعلق بصرف الوجود لا يسرى الى الفرد ، ومن الواضح ان صرف وجود الجامع بين الخبرين ليس له مدلول ليكون حجية فى اثباته.

وأما الثانى : فهو ممتنع أيضا ، لان حجية كل من المتعارضين إن كانت مشروطة بالالتزام به لزم عدم حجيتهما معا فى حالة ترك الالتزام بشىء منهما ، وان كانت مشروطة بترك الالتزام بالاخر لزمت حجيتهما معا فى الحالة المذكورة.

والجواب : ان بالامكان تصوير التخيير بالالتزام بحجية كل منهما بشرط ترك الالتزام بالاخر مع افتراض وجوب طريقى للالتزام بأحدهما.

وأما البحث الاثباتى فهناك روايات عديدة استدل بها على التخيير :

منها : رواية على بن مهزيار قال : ( قرأت فى كتاب لعبدالله بن محمد إلى أبى الحسن عليه السلام : اختلف اصحابنا فى رواياتهم عن أبى عبدالله عليه السلام فى ركعتى الفجر فى السفر ، فروى بعضهم أن صلهما فى المحمل ، وروى بعضهم لاتصلهما إلا على الأرض ، فأعلمنى كيف تصنع أنت لأقتدى بكفى ذلك؟ فوقع عليه السلام : موسع عليك بأية عملت ) (١).

ــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : باب ١٥ من ابواب القبلة ح ٨ج ٣ ص ٢٤٠.

٥٩٠

وفقرة الاستدلال منها قوله عليه السلام ( موسع عليك بأية عملت ) الواضح فى الدلالة على التخيير وامكان العمل بكل من الحديثين المتعارضين.

ولكن نلاحظ على ذلك :

أولا : ان الظاهر منهاإرادة التوسعة والتخيير الواقعى لا التخيير الظاهرى بين الحجيتين ، لظهور كل من سؤال الراوى وجواب الامام فى ذلك. أما ظهور السؤال فلانه مقتضى التنصيص من قبله على الحكم الذى تعارض فيه الخبران الظاهر فى استعلامه عن الحكم الواقعى. على ان قوله ( فأعلمنى كيف تصنع أنت لاقتدى بك ) كالصريح فى ان السؤال عن الحكم الواقعى لمسألة ، فيكون مقتضى التطابق بينه وبين الجواب كون النظر فى كلام الامام عليه السلام الى ذلك أيضا ، إذ لا وجه لصرف النظر مع تعيين الواقعة عن حكمها الواقعى الى الحكم الظاهرى العام.

واما ظهور الجواب فى التخيير الواقعى فباعتبار انه المناسب مع حال الامام عليه السلام العراف بالاحكام الواقعية والمتصدى فيما اذا كان السؤال عن واقعة معينة بالذات.

وثانيا : لو تنزلنا وافترضنا ان النظر الى مرحلة الحكم الظاهرى والحجية فلا يمكن ان يستفاد من الرواية التخيير فى حالات التعارض المستقر ، لأن موردها التعارض بين مضمونين بينهما جمع عرفى بحمل النهى على الكراهة بقرينة الترخيص ، فقد يراد بالتخيير حينئذ التوسعة فى مقام العمل بالأخذ بمفاد دليل الترخيص أو دليل النهى ، لعدم التنافى بينهما ، لكون النهى غير الزامى ، لاجعل الحجية التخييرية بالمعنى المدعى.

ومنها : مكاتبة الحميرى عن الحجة عليه السلام ، إذ جاء فيها

٥٩١

( يسألنى بعض الفقهاء عن المصلى إذا قام من التشهد الاول الى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبر ، فان بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه التكبير ويجزيه أن يقول : بحول الله وقوته اقوم واقعد؟ فكتب عليه السلام فى الجواب : أن فيه حديثين ، أما أحدهما فانه إذا انتقل من حالة الى حالة اخرى فعلية التكبير ، واما الاخر فانه روى : إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه فى القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهد الأول يجرى هذا المجرى ، وبأيهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا ) (١).

وفقرة الاستدلال منها قوله عليه السلام ( وبأيهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا ) والاستلدلا بها لعله أوضح من الاستدلال بالرواية السابقة باعتبار كلمة ( أخذت من جهة التسليم ) التى قد يستشعر منها النظر الى الحجية والتعبد بأحد الخبرين.

والصحيح ان الاستدلال بالرواية غير وجيه ، لان السائل فى هذه الرواية لم يفرض خبرين متعارضين وانما سأل عن رمسألة اختلف الفقهاء فى حكمها الواقعى. وانما يراد الاستدلال بها على التخيير باعتبار الفقهء فى حكمها الواقعى. وانما يراد الاستدلال بها على التخيير باعتبار ما فى جواب الامام عليه السلام من نقل حديثين متخالفين وترخيصه فى التسليم بأيهما شاء ، إلا ان هذا الجواب غير دال على التخير المدعى وذلك لعدة امور :

الأول : ظهور كلام الامام عليه السلام فى الرخصة الواقعية لا التخيير الظاهرى بين الحجتين ، كما تقدم فى الرواية السابقة.

ــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : باب ١٣ من ابواب السجودح ٨ ص ٩٧٤.

٥٩٢

الثانى : ان جملة ( وكذلك التشهد الأول يجرى هذا المجرى ) تارة تفترض جزء من الحديث الثانى واخرى تفترض كلاما مستقلا يضيفه الامام إلى الحديثين.

فاذا كانت جزء من الحديث ولو بقرينة انه مورد لسؤال الراوى الذى قال عنه الامام ان فيه حديثين كان الحديثان متعارضين ، إلا انهما من التعارض غير المستقر الذى فيه جمع عرفى واضح ، لا باعتبار اخصية الحديث الثانى فحسب ، بل باعتبار كونه ناظرا الى مدلول الحديث الأول وحاكما عليه ، وعدم استحكام التعارض بين الحاكم والمحكوم أمر واضح عرفا ومقطوع به فقهيا بحيث لا يحتمل أن يكون للشارع حكم على خلاف الجمع العرفى فيه ، فيكون هذا بنفسه قرينة على إن المقصود من التخيير الترخيص الواقعى.

وإذا كانت جملة مستقلة وكان الحديث الثانى متكفلا لحكم القيام من الجلوس بعد السجدة الثانية وانه ليس على المصلى تكبير فيه ، فلا تعارض بين الحديثين فى مورد سؤال الراوى وهو الانتقال من التشهد الى القيام ، فيكون هذا بنفسه قرينة على ان المراد هو الترخيص الواقعى.

الثالث : انه لو تمت دلالة الرواية على التخيير الظاهرى فى الحجية فموردها الحديثان القطعيان اللذان نقلهما الامام بنفسه كما يناسبه التعبير عنهما بالحديثين الظاهر فى كونهما سنة ثابتة عن آباءه المعصومين ، فلا يمكن التعدى منه الى التعارض بين خبرين ظنيين سندا ، لاحتمال أن يكون مزيد اهتمام الشراع بالقطعين موجبا لجعل الحجية التخييرية فى موردهما خاصة.

٥٩٣

ومنها : مرسلة الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السلام فى حديث قال : ( قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا نعلم أيهما الحق ، فقال : إذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت ) (١).

وهذه اوضح الروايات فى الدلالة على التخيير فى الحجية بالنحو المدعى الا انها ساقطة سندا بالارسال.

وقد تقدمت بعض الروايات المستدل بها على التخيير فى الحلقة السابقة مع مناقشة دلالتها.

روايات الترجيح :

المجموعة الثانية ما استدل به من الروايات على ترجيح احدى الروايتين على الاخرى لمرجح يعود الى صفات الراوى ، كالاوثقية ، أصفات الرواية ، كلاشهرة ، أو صفات المضمون ، كالمطابقة للكتاب الكريم أو المخالفة للعامة وهى روايات عديدة :

فمنها : رواية عبدالرحمن بن أبى عبدالله التى دلت عليه الترجيح أولا بموافقة الكتاب وثانيا بمخالفة العامة ، وقد تقدمت الرواية مع الحديث عنها فى الحلقة السابقة (٢) واتضح من خلال ذلك انها تامة فى دلالتها على المرجحين المذكورين.

ومنها : مقبولة عمر بن حنظلة قال : سألت أباعبدالله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة فى دين أو ميراث فتحاكما الى

ــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : باب ٩ من ابواب صفات القاضى ح ٤٠ح ١٨ ص ٨٦٧.

(٢) راجع : ج ١ ص ٤٦٢.

٥٩٤

السلطان او الى القضاة أيحل ذلك؟ قال عليه السلام : من تحاكم اليهم فى حق أو باطل فانما تحاكم الى الطاغوت ... ).

قلت : فكيف يصنعان؟

قال : ( ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر فى حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فانى قد جعلته عليكم حكما ، فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فانما بحكم الله استخف وعلينا رد ... ).

قلت : فان كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين فى حقهما واختلف فيما حكما وكلاهما اختلفا فى حديثكم.

قال : ( الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما فى الحديث وأورعهما ولا يلتفت الى ما يحكم به الاخر ).

قال : فقلت : فانهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه.

قال : فقال : ( ينظرإلى ما كان من روايتهما عنا فى ذلك الذى حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذى ليس بمشهور عند أصحابك ، فان المجمع عليه لا ريب فيه وانما الامور ثلاثة أمر بين رشده فيتبع وأمر بين غيه فيجتنب وأمر مشكل يرد حكمه الى الله ... ).

قال الراوى : ( قلت : فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاة عنكم. قال : ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة ... ) الى ان قال الراوى : قلت : فا وافق حكامهم ( أى العامة ) الخبرين جميعا ، قال : اذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى إمامك

٥٩٥

فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام فى الهلكات (١).

وهذه الرواية تشتمل على المرجحين السابقين غير انها تذكر قبل ذلك ترجيحين آخرين ، أحدهما الترجيح بصفات الراوى ، والاخر الترجيح بالشهرة ، فان تمت دلالتها على ذلك كانت مقيدة لا طلاق الرواية السابقة ودالة على ان الانتهاء الى المرجحين السابقين متوقف على عدم وجود هذين الترجيحين.

وقد يعترض على استفادة هذين الترجيحين بالصفات وبالشهرة من المقبولة بوجوه :

الأول : ان المقبولة مختصة موردا بعصر الحضور والتمكن من لقاء الامام عليه السلام بقرينة قوله فيها : ( ارجئه حتى تلقى إمامك ) فلا تدل على ثبوت الترجيحين فى عصر الغيبة.

ونلاحظ على هذا الوجه ان اختصاص الفقرة الاخيرة التى تأمر بالارجاء بعصر الحضور لا يوجب تقييد الاطلاق فى الفقرات السابقة خصوصا مع ملاحظة ان التمكن من لقاء الامام ليس من الخصوصيات التى يحتمل العرف دخلها فى مرجحية الصفات ، إذ لا يختلف حال الاوثقية فى كاشفيتها وتأكيد موردها بين عصرى الحضور والغيبة وكذلك الأمر فى الشهرة.

الثانى : ان الترجيح بالصفات وبالشهرة فى المقبولة ترجيح لأحد الحكمين على الاخر لا لأحدى الروايتين على الاخرى فى مقام التعارض.

وهذا الاعتراض وجيه بالنسبة الى الترجيح بالصفات وليس

ــــــــــــــــ

(١) جامع احاديث الشيعة : باب ٧ من ابواب المقدمات ح ١٢٤ج ١ ص ٣١٧ ٢١٨.

٥٩٦

صحيحا بالنسبة الى غيره مما ورد فى المقبولة ، كالترجيح بالشهرة.

اما وجاهته بالنسبة الى الترجيح بالصفات فلاننا نلاحظ اضافة الصفات فى المقبولة الى الحاكمين حيث قال عليه السلام : ( الحكم ما حكم به اعدلهما وافقههما فى الحديث واورعهما ) هذا مضافا الى ان الامام قد طبق الترجيح بالصفات على اول سلسلة السندين المتعارضين وهما الحكمان من دون أن يفرض انهما راويان مباشران للحديث ، بينما لو كان الترجيح بهما ترجيحا لاحدى الروايتين على الاخرى كان ينبغى تطبيقه على مجموع سلسلة الرواة أو على الراوى المباشر كما هو عمل المشهور ومقتضى الصناعة أيضا ، لان الراويين المباشرين إذا كان أحدهما أعدل وثبت الترجيح بالصفات فهذا يعنى ان رواية المفضول عدالة منهما انما تكون حجة فى حالة عدم معارضتها برواية الاعدل ، وعليه فالناقل لرواية الراوى المباشر الاعدل يكون مخبرا عن اختلاف شرط الحجية لرواية الراوى المباشر المفضول التى ينقلها الناقل الاخر وبهذا يكون حاكما على نقل الناقل الاخر ، إذ يخرج منقوله عن كونه موضوعا للحجية ، وهكذا نعرف ان تطبيق الامام للترجيح بالصفات على الحاكمين اللذين يمثلان أول سلسلة السند لا ينسجم الا مع افتراض كون الترجيح لأحد الحكمين بلحاظ صفات الحاكم.

وأما عدم صحة الاعتراض بالنسبة إلى الشهرة وغيرها فلأن سياق الحديث ينتقل من ملاحظة الحاكمين الى ملاحظة الرواية التى يستند اليها كل منهما حيث قال : ( ينظر ما كان من روايتهما عنا فى ذلك الذى حكما به المجمع عليه عند اصحابك .. ) فاضيفت المميزات الى الرواية لا الى الحكم.

٥٩٧

ولكن الشهرة فى المقبولة التى ورد الترجيح بها فى الدرجة الثانية ظاهرة فى الاشتهار والشيوع المساوق لاستفاضة الرواية وقطعيتها وليست بمعنى اشتهار الفتوى على طبقها ، لأن ظاهر الحديث اضافة الشهرة الى نفس الرواية لاإلى مضمونها وذلك يناسب ما ذكرناه ويعنى الترجيح بالشهرة على هذا الضوء تقديم الرواية القطعية سندا على الظنية ، وهذا مما لا اشكال فيه ، كما تقدم. وليس ذلك ترجيحا لاحدى الحجتين على الاخرى ، لما عرفت سابقا من أن حجية الخبر الظنى السند مشروطة فى نفسها بعدم المعارضة لقطعى السند.

فان قيل : إذا كان الأمر كذلك وجب تقديم الترجيح بالشهرة على الترجيح بالصفات ، لان الترجيح بالصفات يفترض حجية كل من الخبرين ويرجح إحدى الحجتين على الاخرى.

كان الجواب : ان الترجيح بالصفات ناظرإلى الحاكمين لاإلى الروايين كما تقدم فلا اشكال من هذه الناحية.

وهكذا يتضح ان المقبولة لا يمكن أنى ستفاد منها فى مجال الترجيح بين الحجتين من الروايات أكثر مما ثبت بالرواية السابقة.

ومنها : المرفوعة عن زرارة قال : سألت الباقر عليه السلام فقلت : جعلت فداك يأتى عنكم الخبران الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟. قال عليه السلام : يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك وجع الشاذ النادر. فقلت : يا سيدى انهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم. فقال عليه السلام : خذ بقول أعدلهما عندك واوثقهما فى نفسك. فقلت : انهما معا عدلان مرضيان موثقان. فقلت عليه السلام : انظر ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه وخذ بما خالفهم. قلت : ربما كانا معا موافقين لهم أو

٥٩٨

مخالفين فكيف أصنع؟. فقال عليه السلام : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينط واترك ما خالف الاحتياط. فقلت : انهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف اصنع؟ .. فقال عليه السلام : إذن فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الاخر (١).

وفى هذه المرفوعة ذكرت مرجحات وهى على التريب الشهرة ثم صفات الراوى ثم المخالفة للعامة ثم الموافقة للاحتياط ومع التكافؤ فى كل ذلك حكمت بالتخيير.

وقد يعترض على الترجيح بالشهرة هنا بنفس ما تقدم فى المقبولة من كونها بمعنى استفاضة الرواية وتواترها ، ولكن هذا الاعتراض غير وجيه هنا ، لأن المرفوعة بعد افتراض شهرة الروايتين معا تنتقل إلى الترجيح بالاوثقية ونحوها من صفات الراوى وذلك لا يناسب الروايتين القطعيتين. ولكن المرفوعة ساقطة سندا بالارسال فلا يمكن التعويل عليها.

وهكذا نعرف ان المستخلص مما تقدم ثبوت المرجحين المذكورين فى الرواية الاولى من روايات الترجيح وفى حالة عدم توفرهما نرجع إلى مقتضى القاعدة.

بقى علينا أن نشير فى ختام روايات العلاج الى عدة نقاط :

الاولى : ان العاملين بالمجموعة الاولى المستدل بها على التخيير اختلفوا فيما بينهم فى ان التخيير هل هو تخيير فى المسألة الاصولية أى فى الحجية أو فى المسألة الفقهية أى فى الجرى عملا على وفق أحدهما؟

ــــــــــــــــ

(١) جامع احاديث الشيعة : باب ٦ من ابواب المقدمات ح ٢ج ١ ص ٢٥٥.

٥٩٩

ومعنى الاول ان الانسان لابد له أن يلتزم بمضمون أحد الخبرين فيكون حجة عليه ويستند مؤداه الى الشارع. ومعنى الثانى ان الانسان لابد له أن يطبق عمله على مؤدى أحد الخبرين. ومن نتاج الفرق ان الفقيه على الأول يفتى بمضمون ما التزم به واختاره ، وعلى الثانى يفتى بالتخيير ابتداء. وهذا الخلاف لا موضوع له بعد انكار اصل التخيير.

الثانية : ان هؤلاء اختلفوا أيضا فى ان التخيير ابتدائى أو استمرارى ، بمعنى ان المكلف بعد اختيار احد الخبرين التزاما أو عملا هل يجوز له أن يعدل الى اختيار الاخر أو لا؟

وقد ذهب البعض الى كونه استمراريا وتمسك بالاستصحاب ، الا ان هذا الاستصحاب يبدو انه من استصحاب الحكم المعلق إذا كان التخيير فى الحجية ، لان مرجعه الى ان هذا كان حجة لو أخذنا به سابقا وهو الان كما كان استصحابا. وعلى أى حال فلا موضوع لهذا الخلاف بعد انكار التخيير.

الثالثة : إذا تمت روايات التخيير وروايات الترجيح المتقدمة فكيف يمكن التوفيق بينهما؟ فقد يقال : بحمل روايات الترجيح على الاستحباب.

ونلاحظ على ذلك ان الأمر فى روايات الترجيح ارشاد الى الحجية فلا معنى لحمله على الاستحباب ، بل المتعين الالتزام بتقييد روايات التخيير بحالة عدم وجود المرجح.

الرابعة : ان اخبار العلاج هل تشمل موارد الجمع العرفى؟

قد يقال : باطلاق لسان الروايات المذكورة لتلك الموارد فتكون رادعة بالاطلاق عما تقتضيه القاعدة العقلائية.

٦٠٠