دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

لا يرى التزامه بعلمه مفوتا للملاكات الاقتضائية للاباحة ، لأنه قاطع بعدمها فى مورد علمه ، والترخيص الطريقى إنما ينشأ من أجل الحفاظ على تلك الملاكات ، وهذا يعنى أنه يرى عدم توجه ذلك الترخيص اليه جدا. وهذا خلافا للقاطع فى موارد العلم الاجمالى ، فانه يرى ان الزامه بترك المخالفة القطعية قد يعنى إلزامه بفعل المباح ، لكى لا تتحقق المخالفة القطعية ، وعلى هذا الأساس يتقبل توجه ترخيص جاد اليه من قبل المولى فى كلا الطرفين ، لضمان الحقاظ على الملاكات الاقتضائية للاباحة.

ويبقى بعد ذلك سؤال إثباتى وهو : هل ورد الترخيص فى المخالفة القطعية للعلم الاجمالى؟ وهل يمكن إثبات ذلك باطلاق أدلة الاصول؟

والجواب هو النفى ، لأن ذلك يعنى افتراض أهمية الغرض الترخيصى من الغرض الالزامى ، حتى فى حالة العلم بالالزام وصوله إجمالا ، أو مساواته له على الأقل ، وهو وإن كان اتفراضا معقولا ثبوتا ، ولكنه على خلاف الارتكاز العقلائى ، لأن الغالب فى الأغراض العقلائية عدم بلوغ الاغراض الترخيصية الى تلك المرتبة ، وهذا الارتكاز بنفسه ، يكون قرينة لبية متصلة على تقييدإطلاق أدلة الاصول ، وبذلك نثبت حرمة المخالفة القطعية للعلم الاجمالى عقلا.

ويسمى الاعتقاد بمنجزية العلم الاجمالى لهذه المرحلة ، على نحو لا يمكن الرجع عنها عقلا أو عقلائيا بالقول بعلية العلم الاجمالى لحرمة المخالفة القطعية. بينما يسمى الاعتقاد بمنجزيته لهذه المرحلة مع افتراض امكان الردع عنها عقلا وعقلائيا بالقول باقتضاء العلم الاجمالى للحرمة المذكورة.

٤١

وأما المرحلة الثانية فيقع الكلام عنها فى مباحث الاصول العلمية ان شاء الله تعالى.

حجية القطع غير المصيب ( وحكم التجرى ) :

هناك معنيان للاصابة :

أحجهما : إصابة القطع للواقع ، بمعنى كون المقطوع به ثابتا.

والاخر : إصابة القاطع فى قطعه ، بمعنى انه كان يواجه مبررات موضوعية لهذا القطع ، ولم يكن متأثرا بحالة نفسية ، ونحو ذلك من العوامل.

وقد يتحقق المعنى الأول من الاصابة دون الثانى ، فلو أن مكلفا قطع بوفاة إنسان لاخبار شخص بوفاته ، وكان ميتا حقا ، غير ان هذا الشخص كانت نسبة الصدق فى إخباراته عموما بدرجة سبعين فى المائة ، فقطع المكلف مصيب بالمعنى الأول ، ولكنه غير مصيب بالمعنى الثانى ، لأن درحة التصديق بوفاة ذلك الانسان يجب ان تتناسب مع نسبة الصدق فى مجموع إخباره.

ونفس المعنيين من الاصابة يمكن افتراضهما فى درجات التصديق الاخرى أيضا ، فمن ظن بوفاة إنسان ، لاخبار شخص بذلك ، وكان ذلك الانسان حيا ، فهو غير مصيب فى ظنه بالمعنى الأول ، ولكنه مصيب بالمعنى الثانى اذا كانت نسبة الصدق فىة خبارات ذلك الشخص اكثر من خمسين فى المائة.

ونطلق على التصديق المصيب بالمعنى الثانى اسم التصديق الموضوعى واليقين الموضوعى ، وعلى التصديق غير المصيب بالمعنى الثانى

٤٢

اسم التصديق الذاتى والقطع الذاتى.

وانحراف التصديق الذاتى عن الدرجة التى تفترضها المبررات الموضوعية ، له مراتب ، وبعض مراتب الانحراف الجزئية مما ينغمس فيه كثير من الناس ، وبعض مراتبه يعتبر شذوذا ، ومنه قطع القطاع ، فالقطاع انسان يحصل له قطع ذاتى وينحرف غالبا فى قطعه هذا انحرافا كبيرا عن الدرجة التى تفترضها المبررات الموضوعية.

وحجية القطع من وجهة نظر اصولية ، وبما هى معبرة عن المنجزية والمعذرية ، ليست مشروطة بالاصابة بأى واحد من المعنيين :

أما المعنى الأول فواضح ، إذ يعتبر القطع بالتكليف تمام الموضوع لحق الطاعة ، كما ان القطع بعدمه تمام الموضوع لخروج المورد عن هذا الحق. ومن هنا كان المتجرى مستحقا للعقاب كاستحقاق العاصى ، لأن انتهاكهما لحق الطاعة على نحو واحد ( ونقصد بالمتجرى من ارتكب ما يقطع بكونه حراما ولكنه ليس بحرام فى الواقع ) ويستحيل سلب الحجية أو الرجع عن العمل بالقطع غير المصيب للواقع ، لأن مثل هذا الرجع يستحيل تأثيره فى نفس أى قاطع ، لأنه يرى نفسه مصيبا ، والالم يكن قاطعا.

وكما يستحق المتجرى العقاب كالعاصى ، كذلك يستحق المنقاد الثواب بالنحو الذى يفترض للممتثل ، لأن قيامهما بحق المولى على نحو واحد ( ونقصد بالمنقاد من أتى بما يقطع بكونه مطلوبا للمولى فعلا أو تركا رعاية لطلب المولى ، ولكنه لم يكن مكلوبا فى الواقع ).

وأما المعنى الثانى فكذلك ايضا ، لأن عدم التحرك عن القطع الذاتى بالتكليف يساوى عدم التحرك عن اليقين الموضوعى فى تعبيره

٤٣

عن الاستهانة بالمولى وهدر كرامته ، فيكون للمولى حق الطاعة فيهما على السواء ، والتحرك عن كل منهما وفاء بحق المولى وتعظيم له.

وقد يقال : إن القطع الذاتى وإن كان منجزا لما ذكرناه ، ولكنه ليس بمعذر ، فالقطاع اذا قطع بعدم التكليف وعمل بقطعه وكان التكليف ثابتا فى الواقع ، فلا يعذر فى ذلك لأحد وجهين :

الأول : إن الشارع ردع عن العمل بالقطع الذاتى أو ببعض مراتبه المتطرفة على الاقل ، وهذا الردع ليس بالنهى عن العمل بالقطع بعد حصوله ، بل بالنهى عن المقدمات التى تؤدى الى نشوء القطع الذاتى للقطاع ، أو الأمر بترويض الذهن على الأتزان. وهذا حكم طريقى يراد به تنجيز التكاليف الواقعية الى يخطئها قطع القطاع وتصحيح العقاب على مخالفتها ، وهذا أمر معقول ، غير أنه لا دليل عليه إثباتا.

الثانى : إن القطاع فى بداية أمره اذا كان ملتفتا الى كونه إنسانا غير متعارف فى قطعه ، كثيرا ما يحصل له العلم الاجمالى بان بعض ما سيحدث لديه من قطوع نافية غير مطابقة للواقع ، لأجل كونه قطاعا ، وهذا العلم الاجمالى منجز.

فان قيل : إن القطاع حين تتكون لديه قطوع نافية يزول من نفسه ذلك العلم الاجمالى ، لأنه لا يمكنه ان يشك فى قطعه وهو قاطع بالفعل.

كان الجواب : ان هذا بمنى على ان يكون الوصول كالقدرة ، فكما انه يكفى فى دخول التكليف فى دائرة حق الطاعة كونه مقدورا حدوثا ، وان زالت القدرة بسوء اختيار المكلف ، كذلك يكفى كونه واصلا حدوثا ، وان زال الوصول بسوء اختياره.

٤٤

الأدلة المحرزة

٤٥
٤٦

مبادىء عامة

تأسيس الأصل عند الشك فى الحجية :

الدليل اذا كان قطعيا ، فهو حجة على أساس حجية القطع. واذا لم يكن كذلك ، فان قام دليل قطعى على حجيته ، أخذ به ، وأما اذا لم يكن قطعيا وشك فى جعل الحجية له شرعا مع عدم قيام الدليل على ذلك ، فالأصل فيه عدم الحجية. ونعنى بهذا الأصل ان احتمال حجية ليس له أثر عملى ، وان كان ما كان مرجعا لتحديد الموقف بقطع النظر عن هذا الاحتمال يظل هو المرجع معه أيضا.

ولتوضيح ذلك نطبق هذه الفكرة على خبر محتمل الحجية يدل على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا ، وفى مقابله البراءة العقلية قاعدة قبح العقاب بلا بيان عند من يقول بها ، والبراءة الشرعة والاستصحاب واطلاق دليل اجتهادى تفرض دلالته على عدم وجوب الدعاء.

أما البراءة العقلية فلو قيل بها ، كانت مرجعا مع احتمال حجية الخبر أيضا ، لأن احتمال الحجية لا يكمل البيان ، والا لتم باحتمال الحكم الواقعى. ولو أنكرناها وقلناإن كل حكم يتنجز بالاحتمال ما لم

٤٧

يقطع بالترخيص الظاهرى فى مخالفته ، فالواقع منجز باحتماله من دون أثر لاحتمال الحجية.

وأما البراءة الشرعية فاطلاق دليلها شامل لموارد احتمال الحجية أيضا ، لأن موضوعها عدم العلم بالتكليف الواقعى ، وز هو ثابت مع احتمال حجية أيضا ، بل حتى مع قيام الدليل على الحجية ، غير أنه فى هذه الحالة يقدم دليل حجية الخبر على دليل البراءة ، لأنه أقوى منه وحاكم عليه مثلا ، واما مع عدم ثبوت الدليل الأقوى فيؤخذ بالدليل البراءة ، وكذلك الكلام فى الاستصحاب.

وأما الدليل الاجتهادى المفترض دلالته بالاطلاق على عدم الوجوب ، فهو حجة مع احتمال حجية الخبر المخصص أيضا ، لأن مجرد احتمال التخصيص لا يكفى لرفع اليد عن الاطلاق.

ونستخلص من ذلك ان الموقف العملى لا يتغير باحتمال الحجية ، وهذا يعنى ان احتمالها يساوى عمليا القطع بعدمها.

ونضيف الى ذلك أن بالامكان اقامة الدليل على عدم حجية ما يشك فى حجيته ، بناء على تصورنا المتقدم للاحكام الظاهرية ، حيث مر بنا انه يقتضى التنافى بينها بوجدوداتها الواقعية ، وهذا يعنى ان البراءة عن التكليف المشكوك وحجية الخبر الدال على ثبوته ، حكمان ظاهريان متنافيان ، فالدليل الدال على البراءة ، دال بالدلالة الالتزامية على نفى الحجية المذكورة ، فيؤخذ بذلك ما لم يقم دليل أقوى على الحجية.

وقد يقام الدليل على عدم حجية ما يشك فى حجيته من الامارات بما اشتمل من الكتاب الكريم على النهى عن عالعمل بالظن وغير العلم ، فان كل ظن يشك فى حجيته يشمله اطلاق هذا النهى.

٤٨

وقد اعترض المحقق النائينى (١) قدس الله روحه على ذلك ، بان حجية الامارة معناها جعلها علما ، لأنه بنى على مسلك جعل الطريقية ، فمع الشك فى الحجية يشك فى كونها علما ، فلا يمكن التمسك بدليل النهى عن العمل بغير العلم حينئذ ، لأن موضوعه غير محرز.

وجواب هذا الاعتراض : أن النهى عن العمل بالظن ليس نهيا تحريميا ، وإنما هو ارشاد الى عدم حجيته ، غذ من الواضح ان العمل بالظن ليس من المحرمات النفسية ، وانما محذوره احتمال التورط فى مخالفة الواقع ، فيكون مفاده عدم الحجية ، فاذا كانت الحجية بمعنى اعتبار الامارة علما ، فهذا يعنى ان مطلقات النهى تدل على نفى اعتبارها علما ، فيكون مفادها فى رتبة مفاد حجية الامارة ، وبهذا تصلح لنفى الحجية المشكوكة.

مقدار ما يثبت بدليل الحجية :

وكلما كان الكريق حجة ثبت به مدلوله المطابقى ، وأما المدلول الالتزامى فيثبت فى حالتين بدون شك ، وهما :

أولا : فيما اذا كان الدليل قطيعا.

وثانيا : فيما اذا كان الدليل على الحجية يترتب الحجية على عنوان ينطبق على الدلالة المطابقية والدلالة الالتزامية على السواء ، كما اذا قام الدليل على حجية عنوان الخبر ، وقلناإن كلا من الدلالة المطابقية والدلالة الالتزامية مصداق لهذا العنوان.

ـــــــــــــــ

(١) أجود التقريرات : ج ٢ ص ٧٨.

٤٩

وأما فى غير هاتين الحالتين فقد يقع الاشكال ، كما فى الظهور العرفى الذى قام الدليل على حجيتع ، فان ليس قطعيا ، كما ان دلالاته الالتزامية ليست ظهورا عرفيا. فقد يقال : إن أمثال دليل حجية الظهور لا تقتضى بنفسهاإلا اثبات المدلول المطابقى ما لم تقم قرينة خاصة على اسراء الحجية الى الدلالات الالتزامية أيضا.

ولكن المعروف بين العلماء التفصيل بين الامارات والاصول ، فكل ما قام دليل على حجيته من باب الامارية ثبتت به مدلولاته الالتزامية أيضا ، ويقال حينئذ : إن مثبتاته حجة. وكل ما قام دليل على حجيته بوصفه أصلا عمليا ، فلا تكون مثبتاته حجة ، بل لا يتعدى فيه من اثبات المدلول المطابقى إلا إذا قامت قرينة خاصة فى دليل الحجية على ذلك.

وقد فسر المحقق النائينى (١) ذلك على ما تبناه من مسلك جعل الطريقية فى الامارات بأن دليل الحجية يجعل الامارة علما ، فيترتب على ذلك كلة ثار العلم ، ومن الواضح ان من شؤون العلم بشىء ، العلم بلوازمه. ولكن أدلة الحجية فى باب الاصول ليس مفادهاإلا التعبد بالجرى العملى على وفق الأصل ، فيتحدد الجرى بمقدار مؤدى الأصل ، ولا يشمل الجرى العملى على طبق اللوازم إلا مع قيام قرينة.

واعترض السيد الاستاذ (٢) على ذلك بأن دليل الحجية فى باب الامارات ، وان كان يجعل الامارة علما ، ولكنه علم تعبدى جعلى ، والعلم الجعلى يتقدر بمقدار الجعل. فدعوى ان العلم بالمؤدى يستدعى العلم بلوازمه ، انما تصدق على العلم الوجدانى لا العلم الجعلى. ومن هنا

ـــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ص ٤٨٧.

(٢) مصباح الاصول : ج ٣ ص ١٥٤.

٥٠

ذهب الى أن الأصل فى الامارات أيضا عدم حجية مثبتاتها ومدلولاتها الالتزامية ، وان مجرد جعل شىء حجة من باب الامارية لا يكفى لاثبات حجيته فى المدلول الالتزامى.

والصحيح ما عليه المشهور من أن دليل الحجية فى باب الامارات يقتضى حجية الامارة فى مدلولتها الالتزامية أيضا ، ولكن ليس ذلك على اساس ما ذكره المحقق النائينى من تفسير ، فانه فسر ذلك بنحو يتناسب مع مبناه فى التمييز بين الامارات والاصول ، وقد مر بنا سابقا انه قدس الله روحه يتميز بين الامارات والاصول بنوع المجهول والمنشأ فى أدلة حجيتها ، فضابط الامارة عند كون مفاد دليل حجيتها جعل الطريقية والعلمية ، وضابط الأصل كون دليله خاليا من هذا المفاد ، وعلى هذا الأساس أراد أن يفسر حجية مثبتات الامارات بنفس النكتة التى تميزها عنده عن الاصول ، أى نكتة جعل الطريقية.

مع اننا عرفنا سابقا ان هذا ليس هو جوهر الفرق بين الامارات والاصول ، وانما هو فرق فى مقام الصياغة والانشاء ، ويكون تعبيرا عن فرق جوهرى أعمق ، وهو ان جعل الحكم الظاهرى على طبق الامارة بملاك الأهمية الناشئة من قوة الاحتمال ، وجعل الحكم الظاهرى على طبق الأصل بملاط الأهمية الناشئة من قوة المحتمل ، فكلما جعل الشارع شيئا حجة بملاك الأهمية النائة من قوة الاحتمال كان إمارة ، سواء كان جعله حجة بلسان انه علم ، أو بلسان الأمر بالجرى على وفقه.

وإذا اتضحت النكتة الحقيقية التى تميز الامارة ، أمكننا أن نستنتج أن مثبتاتها ومدلولالتها الالتزامية حجة على القاعدة ، لأن ملاك الحجية فيها حيثية الكشف التكوينى فى الامارة الموجبة لتعيين الأهمية وفقال لها ،

٥١

وهذه الحيثية نسبتها الى المدلول المطابقى والمداليل الالتزامية نسبة واحدة ، فلا يمكن التفكيك بين المداليل فى الحجية ما دامت الحيثية المذكورة هى تمام الملاك فى جعل الحجية ، كما هو معنى الامارية ، وهذا يعنى انا كلما استظهرنا الامارية من دليل الحجية ، كفى ذلك فى البناء على حجية مثبتاتها بلا حاجة الى قرينة خاصة.

تبعية الدلالاة الالتزامية للدلالة المطابقية :

اذا كان اللازم المدلول عليه من قبل الامارة بالدلالة الالتزامية من قبيل اللازم الأعم ، فهو محتمل الثبوت حتى مع عدم ثبوت المدلول المطابقى ، وحينئذ اذا سقطت الامارة عن الحجية فى المدلول المطابقى لوجود معارض أو للعلم بخطئها فيه ، فهل تسقط حجيتها فى المدلول الالتزامى أيضا أو لا؟

قد يقال : إن مجرد تفرع الدلالة الالتزامية على الدلالة المطابقية وجودا ، لا يبرر تفرعها عليها فى الحجية أيضا ، وقد يقرب التفرع فى الحجية بأحد الوجهين التاليين :

الأول : ما ذكره السيد الاستاذ (١) من ان المدلول الالتزامى مساو دائما للمدلول المطابقى ، وليس أعم منه. فكل ما يوجب إبطال المدلول المطابقى أو المعارضة معه ، يوجب ذلك بشأن المدلول الالتزامى أيضا. والوجه فى المساواة مع ان ذات اللازم قد يكون أعم من ملزومه ان اللازم الأعم له حصتان : إحداهما مقارنة مع الملزوم الأخص ، والاخرى

ـــــــــــــــ

(١) مصباح الاصول : ج ٣ ص ٢٦٩.

٥٢

غير مقارنة ، والامارة الدالة مطابقة على ذلك الملزوم ، إنما تدل بالالتزام على الحصة الاولى من اللازم ، وهى مساوية دائما.

ونلاحظ على هذا الوجه : ان المدلول الالتزامى هو طرف الملازمة ، فان كان طرف الملازمة هو الحصة ، كانت هى المدلول الالتزامى. وإن كان طرفها الطبيعى ، وكانت مقارنته للملزوم المحصصة له من شؤون الملازمة وتفرعاتها ، كان المدلول الالتزامى ذات الطبيعى.

ومثال الأول : اللازم الأعم المعلول ، بالنسبة الى احدى علله ، كالموت بالاحتراق بالنسبة الى دخول زيد فى النار. فاذا أخبر مخبر بدخول زيد فى النار ، فالمدلول الالتزامى له حصة خاصة من الموت ، وهى الموت بالاحتراق ، لأن هذا هو طرف الملازمة للدخول فى النار.

ومثال الثانى : الملازم الأعم بالنسبة الى ملازمة ، كعدم أحد الاضداد بالنسبة الى وجود ضد معين من اضداده ، فاذا أخبر مخبر بصفرة ورقة ، فالمدلول الالتزامى له ، عدم سوادها ، لا حصة خاصة من عدم السواد ، وهى العدم المقارن للصفرة ، لأن طرف الملازمة لوجود أحد الاضداد ذات عدم ضده ، لا العدم المقيد بوجود ذاك ، وانما هذا التقيد يحصل بحكم الملازمة نفسها ومن تبعتها ، لا انه مأخوذ فى طرف الملازمة وتطرأ الملازمة عليه.

الثانى : إن الكشفين فى الدلالتين قائمان دائما على اساس نكتة واحدة ، من قبيل نكتة استبعاد خطأ الثقة فى ادراكه الحسى للواقعة ، فاذا أخبر الثقة عن دخول شخص للنار ، ثبت دخوله واحتراقه وموته بذلك ، بنكتة استبعاد اشتباهه فى رؤية دخول الشخص الى النار ، فاذا علم بعدم دخوله وان المخبر اشتبه فى ذلك ، فلا يكون افتراض أن

٥٣

الشخص لم يمت أصلا ، متضمنا لاشتباه أزيد مما ثبت. وبذلك يختلف المقام عن خبرين عرضيين عن الحريق من شخصين ، اذا علم باشتباه أحدهما فى رؤية الحريق ، فغن ذلك لا يبرر سقوط الخبر الاخر عن الحجية ، لأن افتراض عدم صحة الخبر يتضمن اشتباها وراء الاشتباه الذى علم.

فالصحيح ان الدلالة الالتزامية مرتبطة بالدلالة المطابقية فى الحجية ، وأما الدلالة التضمنية فالمعروف بينهم انها غير تابعة للدلالة المطابقية فى الحجية.

وفاء الدليل بدور القطع الطريقى والموضوعى :

اذا كان الدليل قطعيا فلا شك فى وفائه بدور القطع الطريقى والموضوعى معا ، لانه يحقق الطقع حقيقة.

وأما إذا لم يكن الدليل قطعيا ، وكان حجة بحكم الشارع ، فهناك بحثان :

الأول : بحث نظرى فى تصوير قيامه مقام القطع الطريقى ، مع الاتفاق عمليا على قيامه مقامه فى المنجزية والمعذرية.

والثانى : بحث واقعى فى ان دليل حجية الامارة هل يستفاد منه قيامها مقام القطع الموضوعى ، أو لا.

أما البحث الأول فقد يستشكل تارة فى إمكان قيام غير القطع مقام القطع فى المنجزية والمعذرية ، بدعوى انه على خلاف قاعدة قبح العقاب بلا بيان. ويستشكل اخرى فى كيفية صياغة ذلك تشريعا ، وما هو الحكم الذى يحقق ذلك.

٥٤

أما الاستشكال الأول فجوابه :

أولا : إننا ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان راسا.

وثاينا : انه لو سلمنا بالقاعدة ، فهى مختصة بالاحكام المشكوكة التى لا يعلم بأهميتها على تقدير ثبوتها. وأما المشكوك الذى يعلم بأنه على تقدير ثبوته مما يهتم المولى بحفظه ولا يرضى بتضييعه ، فليس مشمولا للقاعدة من أول الأمر ، والخطاب الظاهرى أى خطاب ظاهرى يبرز اهتمام المولى بالتكاليف الواقعية فى مورده على تقدير ثبوتها ، وبذلك يخرجها عن دائرة قاعجة قبح العقاب بلا بيان.

وأما الاستشكال الثانى فينشأ من أن الذى ينساق اليه النظر ابتداءإن اقامة الامارة مقام القطع الطريقى فى المنجزية والمعذرية تحصل بعملية تنزيل لها منزلته ، من قبيل تنزيل الطواف منزلة الصلاة. ومن هنا يعترض عليه بان التنزيل من الشارع انما يصح فيما اذا كان للمنزل عليه اثر شرعى بيد المولى توسيعه وجعله على المنزل ، كما فى مثال اللطواف والصلاة ، وفى المقام ، القطع الطريقى ليس له أثر شرعى بل عقلى ، وهو حكم العقل بالمنجزية والمعذرية ، فكيف يمكن التنزيل؟

وقد تخلص بعض المحققين عن الاعتراض برفض فكرة التنزيل واستبدالها بفكرة جعل الحكم التكليفيى على طبق المؤدى ، فاذا دل الخبر على وجوب السورة ، حكم الشارع بوجوبها ظاهرا ، وبذلك يتنجز الوجوب. وهذا هو الذى يطلق عليه مسلك جعل الحكم المماثل.

وتخلص المحقق النائينى (١) بمسلك جعل الطريقية قائلا : إن اقامة

ـــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ص ٢١.

٥٥

الامارة مقام القطع الطريقى لا تتمثل فى عملية تنزيل ، لكى يرد الاعتراض السابق ، بل فى اعتبار الظن علما ، كما يعتبر الرجل الشجاع أسدا عليطريقة المجاز العقلى ، والمنجزية والمعذرية ثابتتان عقلا للقطع الجامع بين الوجود الحقيقى والاعتبارى.

والصحيح إن قيام الامارة مقام القطع الطريقى فى التنجيز ، وإخراج مؤداها عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان على تقدير القول بهاإنما هو بابراز اهتمام المولى بالتكليف المشكوك على نحو لا يرضى بتفويته على تقدير ثبوته ، كما تقدم. وعليه فالمهم فى جعل الخطاب الظاهرى أن يكون مبرزا لهذا الاهتمام من المولى ، لأن هذا هو جوهر المسألة ، وأما لسان هذا الابراز وصياغته وكون ذلك بصيغة تنزيل الظن منزلة العلم ، أو جعل الحكم المماثل للمؤدى ، أو جعل الطريقية ، فلا دخل لذلك فى الملاك الحقيقى ، وانما هو مسألة تعبير فحسب ، وكل التعبيرات صحيحة ما دامت وافية بابراز الاهتمام المولوى المذكور ، لأن هذا هو المنجز فى الحقيقة.

وأما البحث الثانى فان كان القطع مأخوذا موضوعا لحكم شرعى بوصفه منجزا ومعذرا ، فلا شك فى قيام الامارة المعتبرة شرعا مقامه ، لأنها تكتسب من دليل الحجية صفة المنجزية والمعذرية ، فتكون فردا من الموضوع ، ويعتبر دليل الحجية فى هذه الحالة واردا على دليل ذلك الحكم الشرعى المرتب على القطع ، لأنه يحقق مصداقا حقيقيا لموضوعه.

وأما اذا كان القطع مأخوذا بما هو كاشف تام ، فلا يكفى مجرد اكتساب الامارة صفة المنجزية والمعذرية من دليل الحجية ، لقيامها مقام القطع الموضوعى ، فلا بد من عناية اضافية فى دليل الحجية ، وقد

٥٦

التزم المحقق النائينى قدس سره (١) بوجود هذه العناية بناء على ما تبناه من مسلك جعل الطريقية ، فهو يقول : إن مفاد دليل الحجية جعل الامارة علما ، وبهذا يكون حاكما على دليل الحكم الشرعى المرتب على القطع ، لانه يوجد فردا جعليا وتعبديا لموضوعه ، فيسرى حكمه إليه.

غير انك عرفت فى بحث التعارض من الحلقة السابقة (٢) ان الدليل الحاكم إنما يكون حاكما اذا كان ناظرا الى الدليل المحكوم ، ودليل الحجية لم يثبت كونه ناظرا الى أحكام القطع الموضوعى ، وانما المعلوم فيه نظرة الى تنجيز الاحكام الواقعية المشكوكة ، خاصة اذا كان دليل الحجية للامارة هو السيرة العقلائية ، إذ لا انتشار للقطع الموضوعى فى حياة العقلاء لكى تكون سيرتهم على حجية الامارة ناظرة الى القطع الموضوعى والطريقى معا.

اثبات الامارة لجواز الاسناد :

يحرم إسناد ما لم يصدر من الشاعر اليه ، لأنه كذب. ويحرم أيضا إسناد ما لا يعلم صدوره منه اليه ، وان كان صادرا فى الواقع ، وهذا يعنى إن القطع بصدور الحكم من الشارع ، طريق لنفى موضوع الحرمة الاولى ، فهو قطع طريقى. وموضوع لنفى الحرمة الثانية ، فهو من هذه الناحية قطع موضوعى.

وعليه فاذا كان الدليل قطعيا انتفت كلتا الحرمتين ، لحصول القطع ، وهو طريق الى أحد النفيين وموضوع للاخر. واذا لم يكن الدليل

ــــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ص ٢٥.

(٢) راجع : ج ١ ص ٤٥٧.

٥٧

قطعيا بل إمارة معتبرة شرعا ، فلا ريب فى جواز اسناد نفس الحكم الظاهرى الى الشارع ، لانه مقطوع به. وأما اسناد المؤدى ، فالحرمة الاولى تنتفى بدليل حجية الامارة ، لأن القطع بالنسبة اليها طريقى ، ولا شك فى قيام الامارة مقام الطقع الطريقى. غير أن انتفاء الحرمة الاولى كذلك مرتبط بحجية مثبتات الامارات ، لان موضوع هذه الحرمة عنوان الكذب ، وهو مخالفة الخبر للواقع ، وانتفاء هذه المخالفة مدلول التزامى للامارة الدالة على ثبوت الحكم ، لأن كل ما يدل على شىء مطابقة ، يدل التزاما على ان الاخبار عنه ليس كذبا.

وأما الحرمة الثانية فموضوعها وهو عدم العلم ، ثابت وجدانا ، فانتفاؤها يتوقف إما على استفادة قيام الامارة مقام القطع الموضوعى من دليل حجيتها ، أو على إثبات مخصص لما دل على عدم جواز الاسناد بلا علم من إجماع أو سيرة يخرج موارد قيام الحجة الشرعية.

إبطال طريقة الدليل :

كل نوع من أنواع الدليل حتى لو كان قطعيا يمكن للشارع التدخل فى إبطال حجيته ، وذلك عن طريق تحويله من الطريقية الى الموضوعية ، بأن يأخذ عدم قيام الدليل الخاص على الجعل الشرعى فى موضوع الحكم المجعول فى ذلك الجعل ، فيكون عدم قيام دليل خاص على الجعل الشرعى قيدا فى الحكم المجعول ، فاذا قام هذا الدليل الخاص على الجعل الشرعى ، انتفى المجعول بانتفاء قيد ، وما دام المجعول منتفيا فلا منجزية ولا معذرية.

وليس ذلك من سلب المنجزية عن القطع بالحكم الشرعى ، بل من

٥٨

الحيلولة دون وجود هذا القطع ، لأن القطع المنجز هو القطع بفعلية المجعول لا القطع بمجرد الجعل ، ولا قطع فى المقام بالمجعول ، وان كان القطع بالجعل ثابتا ، غير ان هذا القطع الخاص بالجعل بنفسه يكون نافيا لفعلية المجعول ، نتيجة لتقيد المجعول بعدمه ، وقد سبق فى ابحاث الدليل العقلى فى الحلقة السابقة (١) انه لا مانع من أخذ علم مخصوص بالجعل شرطا فى المجعول ، أو أخذ عدمه قيدا فى المجعول ، ولا يلزم من كل ذلك دور.

وقد ذهب جملة من العلماء الى ان العلم المستند الى الدليل العقلى فقط ليس بحجة. وقيل فى التعقيب على ذلك : إنه ان اريد بهذا تحويله من طريقى الى موضوعى بالطريقة التى ذكرناها ، بأن يكون عدم العلم العقلى بالجعل قد أخذ قيدا فى المجعول ، فهو ممكن ثبوتا ، ولكنه لا دليل على هذا التقييد اثباتا. وان اريد بهذا سلب الحجية عن العلم العقلى بدون التحويل المذكور ، فهو مستحيل ، لأن القطع الطريقى لا يمكن تجريده عن المنجزية والمعذرية ، وسيأتى الكلام عن ذلك فى مباحث الدليل العقلى إن شاء الله تعالى.

تقسيم البحث فى الأدلة المحرزة :

وسنقسم البحث فى الأدلة المحرزة وفقا لما تقدم فى الحلقة السابقة الى قسمين :

أحدهما : فى الدلى الشرعى.

ــــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص٢٣٣٤.

٥٩

والاخر : فى الدليل العقلى.

كما ان القسم الأول نوعان :

أحدهما : الدليل الشرعى اللفظى.

والبحث فى الدليل الشرعى تارة فى تحديد ضوابط عامة لدلالته وظهوره. واخرى فى ثبوت صغراه. أى فى حيثية الصدور وثالثة فى حجية ظهوره.

وعلى هذا المنوال تجرى البحوث فى هذه الحلقة.

٦٠