دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

محرزة ، لعدم العلم بانطباق عنوان المخصص عليه ، وكلما أحرزنا دلالة معتبرة فى نفسها ولم نحرز دلالة على خلافها وجب الأخذ بها ، وهذا هو معنى التمسك بالعام فى الشبهة المصداقية.

والاجابة الثانية : ترفض التمسك بالعام ، لاننا بالعام إن أردنا أن نثبت وجوب اكرام زيد على تقدير عدم فسقه فهذا واضح وصحيح ولكن لا يثبت الوجوب فعلا ، للشك فى التقدير المذكور. وإن أردنا أن نثبت وجوب اكرامه حتى لو كان فاسقا فهذا ما نحرز وجود دلالة أقوى على خلافه وهى دلالة القرينة. وإن أردنا أن نثبت الوجوب الفعلى للاكرام لاجل تحقق كل ما له دخل فى الوجوب بما فى ذلك عدم الفسق فهذا متعذر ، لان الدليل مفاده الجعل لا فعلية المجعول ، وهذا هو الصحيح.

القسم الثانى : أن يكون الشك فى الشمول ناشئا من شبهة مفهومية فى العنوان المأخوذ فى دليل القرينة ، كماإذا تردد عنوان الفاسق مفهوما فى المثال السابق بين مطلق المذنب ومرتكب الكبيرة خاصة فيشك حينئذ فى شمول دليل القرينة لمرتكب الصغيرة ، وفى مثل ذلك يصح التمسك بالعام لاثبات وجوب اكرام مرتكب الصغيرة ، لان دلالة العام على حكمه معلومة ووجود دلالة فى المخصص على خلاف ذلك غير محرز.

فان قيل : ألا يأتيى هنا نفس ما ذكر فى الاجابة الثانية فى القسم الأول لابطال التمسك بالعام؟

كان الجواب : ان ذلك لا يأتيى ، ويتضح ذلك بعد بيان مقدمة وهى : ان المخصص القائل : لا تكرم فساق الفقراء ، يكشف عن دخالة قيد فى موضوع وجوب الاكرام زائد على الفقر غير ان هذا القيد ليس هو أن

٥٦١

لا يسمى الفقير فاسقا ، فان التسمية بما هى ليس لها أثر اثباتا ونفيا ، ولهذا لو تغيرت اللغة ودلالاتها لما تغيرت الاحكام ، بل القيد هو أن لا تتواحد فيه الصفة الواقعية للفاسق سواء سميناه فاسقا أو لا ، وتلك الصفة الواقعية مرددة بحسب الفرض بين ارتكاب الذنب او ارتكاب الكبائر خاصة ، وحيث ان ارتبكاب الكبائر هو المتيقن فنحن نقطع بان عدم ارتكابها قيد دخيل فى موضوع الحكم بالوجوب. وأما عدم ارتكاب الصغيرة فنشك فى كونه قيدا فيه.

وهكذا نعرف ان هناك ثلاثة عناوين : أحدها نقطع بعدم كونه قيدا فى الوجوب ، وهو عدم التسمية باسم الفاسق. والاخر نقطع بكونه قيدا فيه ، وهو عدم ارتكاب الكبيرة. والثالث نشك فى قيديته ، وهو عدم ارتكاب الصغيرة.

إذا اتضحت هذه المقدمة فنقول : ان العام فى نفسه يثبت وجوب اكرام الفقير بدون دخالة أى قيد ، غير ان المخصص حجة لاثبات القيدية لعدم ارتكاب الكبيرة ، فيعود حكم العام بعد تحكيم القرينة وجوبا مقيدا بعدم ارتكاب الكبير ، ولا موجب لتقيده بعدم التسمية باسم الفاسق أو بعدم ارتكاب الصغيرة ، أما الأول فلقطع بعدم قيديته ، وأما الثانى فلعدم احراز دلالة المخصص على ذلك ، وعليه فيثبت بالعالم بعد التخصيص وجوب الاكرام لكل فقير منوطا بعدم ارتكاب الكبيرة ، وهذا الوجوب المنوط نثبته فى مرتكب الصغيرة بلا محذور اصلا ، ويسمى ذلك بالتسمك بالعام فى الشبهة المفهومية للمخصص.

٥٦٢

٥ ـ تطبيقات للمجمع العرفى

هناك حالات ادعى فيها تطبيق نظرية الجمع العرفى ووقع البحث فى صحة ذلك وعدمه نذكر فيما يلى جملة منها :

١ ـ إذا وردت جملتان شرطيتان لكل منهما شرط خاص ولهما جزاء واحد ، من قبيل : إذا خفى الاذان فقصر ، و: إذا خفيت الجدران فقصر ، وقع التعارض بين منطوق كل منهما ومفهوم الاخرى. وهناك قد يقال : بأن منطوق كل منهما يقدم على مفهوم الاخرى وينتج ان للتقصير علتين مستقلتين ، إما لأن دلالة المنطوق دائما أظهر من دلالة المفهوم ، وإما بدعوى أن المنطوق فى المقام أخص فيقدم تخصيصا ، لان المفهوم فى كل جملة يدل على انتفاء الجزاء بانتفاء شرطها ، وهذا مطلق لحالتى وجود شرط الجملة الاخرى وعدم وجوده ، والمنطوق فى الجملة الاخرى يدل على ثبوت الجزاء فى حالة وجود شرطها فيكون مخصصا.

ونلاحظ على ذلك منع الاظهرية ومنع الاخصية :

أما الأول : فلأن الدلالة على المفهوم مردهاإلى دلالة المنطوق على الخصوصية التى تستتبع الانتفاء عند الانتفاء ، فالتعارض دائما بين منطوقين.

٥٦٣

وأما الثانى : فلأننا لابد أن نلتزم إما بافتراض الشرطين علتين مستقلتين للجزاء ، وهذا يعنى تقييد المفهوم ، وإما بافتراض أن مجموع الشرطين علة واحدة مستقلة ، وهذا يعنى الحفاظ على اطلاق المفهوم وتقييد المنطوق فى كل من الشرطيتين بانشمام شرط الاخرى الى شرطها ، فالتعارض إذن بين اطلاق المنطوق واطلاق المفهوم والنسبة بينهما العموم من وجه ، فالصحيح انهما يتعارضان ويتساقطان ولا جمع عرفى.

٢ ـ إذا وردت جملتان شرطيتان متحدتان جزاء ومختلفتان شرطا ، وثبت بالدليل ان كلا من الشرطين علة تامة ووجد الشرطان معا فهل يتعدد الحكم أو لا؟ وعلى تقدير التعدد فهل يتطلب كل منهما امتثالا خاصا به أو لا؟ ومثاله : إذا أفطرت فاعتق ، وإذا ظاهرت فاعتق. والمشهور ان متقضى ظهرو الشرطية فى علية الشرط للجزاء أن يكون لكل شرط حكم مسبب عنه ، فهناك إذن وجوبان للعتق ، وهذا ما يسمى باصالة عدم التادخل فى الاسباب ، بمعنى ان كل سبب يبقى سببا تاما ولا يندمج السببان ويصيران سببا واحدا ، وحيث ان كل واحد من هذين الوجوبين يمثل بعثا وتحريكا مغايرا لاخر فلابد من انبعاثين وتحركين ، وهذا ما يسمى باصالة عدم التداخل فى المسببات ، بمعنى ان الوجوبين المسببين لا يكتفى بامتثال واحد لهما.

فان قيل : ان هذين الوجوبين إن كان متعلقهما واحدا ، وهو طبيعى العتق فى المثال ، لزم امكان الاكتفاء بعتق واحد. وان كان متعلق كل منهما حصة من العتق غير الحصة الاخرى ، لزم تقييد اطلاق مادة الأمر فى « أعتق » وهو خلاف الظاهر.

٥٦٤

كان الجواب أحد وجهين :

الأول : أن يؤخذ بالتقدير الأول بناء على امكان اجتماع بعثين على عنوان كلى واحد ويقال : ان تعدد البعث والتحريك بنفسه يقتضى تعدد الانبعاث والحركة ، وان كان العنوان الذى انصب عليه البعثان واحدا.

الثانى : أن يؤخذ بالتقدير الثانى بناء على عدم امكان اجتماع بعثين على عنوان واحد ويلتزم بتقييد اطلاق المادة ، والقرينة على التقييد نفس ظهور الجملتين فى تعدد الوجوب مع عدم امكان اجتماعهما على عنوان واحد بحسب الفرض ، وهذا نحو من الجمع العرفى.

٣ ـ إذا تعارض دليل الزامى ودليل ترخيصى بالعموم من وجه قدم الدليل الالزامى. وقد يقرب ذلك بان الدليل الترخيصى ليس مفاده عرفا الا أن العنوان المأخوذ فيه لا يقتضى الالزام ، فاذا فرض عنوان آخر أعم منه من وجه دل الدليل الالزامى على اقتضائه للالزام ، أخذ به ، لعدم التعارض بين الدليلين. وهذا فى الحقيقة ليس من الجمع العرفى ، لان الجمع العرفى يفترض وجود التعارض بين الدليلين قبل التعديل والبيان المذكور يوضح عدم التعراض رأسا.

٤ ـ إذا تعارض اطلاق شمولى وة خر بدلى بالعموم من وجه ، فان كان أحد الدليلين دالا على الاطلاق بالوضع والأداة ، والاخر بقرينة الحكمة ، قدم ما كان بالوضع ، سواء اتصل بالاطلاق الاخر أو انفصل عنه. أما فى حالة الاتصال فلانه بيان للقيد ، فلا يسمح لقرينة الحكمة بالجريان وتكوين الاطلاق. وأما فى حالة الانفصال فللأظهرية والقرينية.

٥٦٥

وإذا كان كلاهما بالوضع أو بقرينة الحكمة فهناك قولان ، أحدهما : انهما متكافئان فيتساقطان معا ، والاخر : تقديم الشمولى على البدلى ، ويمكن أن يفسر ذلك بعدة أوجه :

الأول : أن يقال بأقوائية الظهور الشمولى من الظهور البدلى فى اطلاقين متماثلين من حيث كونهما وضعيين أو حكميين ، وذلك لان الشمولى يتكفل أحكاما عديدة بنحو الانحلال بخلاف المطلق البدلى الذى لا يتكفل الا حكما واحدا وسيع الدائرة ، والاهتمام النوعى ببيان اصل حكم برأسه أشد من الاهتمام ببيان حدوده ودائرته سعة ذ وضيقا ، فيكون التعهد العرفى بعدم تخلف بيان اصل حكم عن ارادته اقوى من التعهد العرفى بعدم تخلف بيان سعة حكم عن ارادتها ، ولما كان تقديم البدلى يستدعى التخلف الأول وتقديم الشمولى يستدعى التخلف الثانى الأخف محذورا ، تعين ذلك.

الثانى : ان الأمر فى : أكرم فقيرا ، يختص بالحصة المقدورة عقلا وشرعا بناء على ان التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ليس معقولا ، وشمول لا تكرم الفاسق للفقير الفاسق يجعل اكرامه غير مقدور شرعا فيرتفع بذلك موضوع الاطلاق البدلى ويكون الشمولى واردا عليه.

ولكن تقدم فى محله ان تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره معقول.

الثالث : ان خطاب « لا تكرم الفاسق » لا يعارض فى الحقيقة وجوب اكرام فقير ما الذى هو مدلول خطاب « اكرم فقيرا » بل يعارض الترخيص فى تطبيق الاكرام الواجب على اكرام الفقير الفاسق ، وهذا يعنى ان التعارض يقوم فى الواقع بين دليل الالزام فى الخطاب الشمولى

٥٦٦

ودليل الترخيص فى الخطاب البدلى ، وقد تقدم انه متى تعارض دليل الترخيص مع دليل الالزام قدم الثانى على الأول.

ونلاحظ على ذلك ان حرمة اكرام الفقير الفاسق تنافى الوجوب بنفسه مع فرض تعلقه بصرف وجود الفقير بلا قيد العدالة بقطع النظر عما يترتب على ذلك من ترخيصات فى التطبيق ، فالتنافى إذن بين اطلاقى حكمين الزاميين.

اللهم الا ان يقال : ان الاطلاق البدلى للأمر بالاكرام حاله عرفا كحال اطلاق أدلة الترخيص فى انه لا يفهم منه اكثر من عدم وجود مقتض من ناحية الأمر للتقيد بحصة دون حصة ، فلا يكون منافيا لوجود مقتض لذلك من ناحية التحريم المجعول فى الدليل الاخر.

٥ ـ إذا تعارض اصل مع امارة ، كالرواية الصادرة من ثقة ، فالتعارض كما أشرنا سابقا انما هو بين دليل حجية الاصل ودليل حجية تلك الرواية ، وفى مثل ذلك قد يقال بالورود بتقريب : ان موضوع دليل الاصل هو عدم العلم بما هو دليل ، ودليل حجية الخبر يجعل الخبر دليلا فيرفع موضوع دليل الاصل حقيقة وهو معنى الورود ، ولكن أخذ العلم فى دليل الاصل بما هو دليل لا بما هو كاشف تام يحتاج الى قرينة ، لان ظاهر الدليل فى نفسه أخذ العلم فيه بوصفه الخاص.

وقد يقال بالحكومة بعد الاعتراف بان ظاره دليل الأصل أخذ عدم العلم فى موضوعه بما هو كاشف تام وذلك لان دليل حجية الامارة مفاده التعبد بكونها علما وكاشفا تاما ، وبذلك يوجب قيامها مقام القطع الموضوعى المأخوذ اثباتا أو نفيا موضوعا لحكم من الاحكام. ومن أمثلة ذلك قيامها مقام القطع المأخوذ عدمه فى موضوع دليل

٥٦٧

الاصل ، وبهذا يكون دليل الحجية رافعا لموضوع دليل الاصل تعبدا وهو معنى الحكومة.

فان قيل : هذا لا ينطبق على حالة التعارض بين الامارة والاستصحاب ، لان دليل الاستصحاب مفاده التعبد ببقاء اليقين أيضا ، فيكون بدوره رافعا لموضوع دليل حجية الامارة وهو الشك وعدم العلم.

كان الجواب : ان الشك لم يؤخذ فى موضوع دليل حجية الامارة لسانا بل اطلاق الدليل يشمل حتى حالة العلم الوجدانى بالخلاف ، غير ان العقل يحكم باستحالة جعل الحجية للامارة مع العلم بخلافها وجدانا ، وهذا الحكم العقلى انما يخرج عن اطلاق الدليل حالة العلم الوجدانى خاصة ، فلا يكون الاستصحاب رافعا لموضوع دليل حجية الامارة ، خلافا للعكس ، فان الشك وعدم العلم مأخوذ فى دليل الاستصحاب لسانا فيجعل الامارة علما يرتفع موضوعه بالحكومة.

ونلاحظ على ذلك كله : ان الدليل الحاكم لا تتم حكومته الا بالنظر الى مفاد الدليل المحكوم كما تقدم ودليل حجية الخبر فى المقام وكذلك الظهور هو السيرة العقلائية وسيرة المتشرعة. أما السيرة العقلائية فلم يثبت انعقادها على تنزيل الامارة منزلة القطع الموضوعى ، لعدم انتشار حالات القطع الموضوعى فى الحياة العقلائية على نحو يساعد على انتزاع السيرة المذكورة ، وامضاء السيرة العقلائية شرعا لا دليل على نظره الى اكثر مما تنظر السيرة اليه منة ثار. وأما سيرة المتشرعة فالمتيقن منها العمل بالخبر والظهور فى موارد القطع الطريقى ، ولا جزم بانعقادها على العمل بهما فى موارد القطع الموضوعى.

٥٦٨

والأصح أن نلتزم بأخصية دليل حجية الخبر والظهور ، بل كونه نصا فى مورد تواجد الاصول على الخلاف ، للجزم بانعقاد السيرة على تنجيز الواقع بالرواية والظهور ، وعدم الرجوع الى البراءة ونحوها من الاصول العلمية.

فالامارة بحكم هذه الاءخصية والنصية فى دليل حجيتها مقدمة على الاصل المخالف لها ، وان لم يثبت بدليل الحجية قيامها مقام القطع الموضوعى عموما.

٦ ـ إذا تعارض اصل سببى واصل مسببى كان الاصل السببى مقدما ، ولهذا يجرى استصحاب طهارة الماء الذى يغسل به الثواب المتنجس ولا يعارض باستصحاب نجاسة الثوب المغسول ، وقد فسر ذلك على أساس الحكومة لان استصحاب نجاسة الثوب فى المثال موضوعه الشك فى نجاسة الثوب بقاء ، واستصحاب طهارة الماء يغلى تعبدا الشك فى تمامة ثار طهارة الماء بما فيها تطهيره للثوب ، فيرتفع بالتعبد موضوع استصحاب النجاسة ، كما تقدم فى الحلقة السابقة (١).

ولكن يلاحظ من ناحية ان هذا البيان يتوقف على افتراض قيام الاحراز التعبدى بالاصل السببى مقام القطع الموضوعى ، وقد مرت المناقشة فى ذلك.

ومن ناحية اخرى ان التفسير المذكور غير مطرد فى سائر موارد تقديم الاصل السببى على المسببى ، لانه يختص بماإذا كان مفاد الاصل السببى إلقاء الشك وجعل الطريقية كما يدعى فى الاستصحاب مع ان

ــــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٤٤٨.

٥٦٩

الاصل السببى قد لا يكون مفاده كذلك ومع هذا يقدم على الاصل المسببى حتى ولو كان مفاده جعل الطريقية ، فالماء المغسول به الثوب فى المثال المذكور لو كان مرودا لأصالة الطهارة لا لاستصحابها لبنى على تقدمها بلا اشكال على استصحاب نجاسة الثوب المغسول ، مع ان دليل أصالة الطهارة ليس مفاده الغاء الشك لتجرى الحكومة بالبيان المذكور ، وهذا يكشف عن ان نكتة تقدم الاصل السببى على المسببى لا تكمن فى الغاء الشك ، بل فى كونه يعالج موضوع الحكم ، فكانه ذ يحل المشكلة فى مرتبة أسبق على نحو لا يبقى مجال للحل فى مرتبة متأخرة عرفا ، وهذا يعنى ان السببية باللحاظ المذكور نكتة عرفية تقتضى بنفسها التقديم فى مقام الجمع بين دليلى الاصلين السببى والمسببى.

٧ ـ إذا تعارض الاستصحاب مع اصل آخر كالبراءة وأصالة الطهارة تقدم الاستصحاب بالجمع العرفى ، والمشهور فى تفسير هذا التقديم وتبرير الجمع العرفى ان دليل استصحاب حاكم على أدلة تلط الاصول ، لان مفاده التعبد ببقاء اليقين وإلقاء الشك ، وتلك الأدلة اخذ فى موضوعها الشك ، فيكون رافعا لموضوعها بالتعبد.

فان قيل : كما ان الشك مأخوذ فى موضوع أدلة البراءة واصصالة الطهارة ، كذلك هو مأخذو فى موضوع دليل الاستصحاب.

كان الجواب : ان الشك وإن كان مأخوذا فى موضوع أدلتها جميعا ولكن دليل الاستصحاب هو الحاكم ، لان مفاده التعبد باليقين والغاء الشك بخلاف أدلة الاصول الاخرى.

وهذا البيان يواجه نفس الملاحظة التى علقناها على دعوى حكومة

٥٧٠

دليل حجية الامارة على أدلة الاصول ، فلاحظ.

والأحسن تخريج ذلك على أساس آخر من قبيل : ان العموم فى دليل الاستصحاب عموم الأداة ، لاشتماله على كلمة ( أبدا ) فيكون أقوى وأظهر فى الشمول لمادة الاجتماع.

٥٧١

ـ ٢ ـ

التعارض المستقر على ضوء دليل الحجية

نتناول الان التعارض المستقر الذى تقدم ان التنافى فيه بعد استقرار التعارض يسرى الى دليل الحجية ، إذ يكون من الممتنع شمول دليل الحجية لهما معا. وسنبحث هنا حكم هذا التعارض فى ضوء دليل الحجية وبقطع النظر عن الروايات الخاصة التى عولج فيها حكم التعارض ، وهذا معنى البحث عما تقتضيه القاعدة فى المقام.

والمعروف ان القاعدة تقتضى التساقط ، لأن شمول دليل الحجية للدليلين المتعارضين غير معقول ، وشموله لاحدهما المعين دون الاخر ترجيح بلا مرجح ، وشموله لهما على وجه التخيير لا ينطبق على مفاده العرفى وهو الحجية التعينية ، فيتعين التساقط.

ونلاحظ من خلال هذا البيان ان الانتهاء الى التساقط يتقوف على إبطال الشقوق الثلاثة الاولى ، فلنتكلم عن ذلك :

أما الشق الأول وهو شمول دليل الحجية لهما معا ، فقد يقال : ان الدليلين المتعارضين تارة يكون مفاد أحدهماإثبات حكم الامى ومفاد الاخر نفيه ، واخرى يكون مفاد كل منهما حكما ترخيصيا ، وثالثة مفاد

٥٧٢

كل منهما حكما الزاميا.

ففى الحالة الاولى يستحيل شمول دليل الحجية لهما ، لانه يؤدى الى تنجيز حكم الزامى والتعذير عنه فى وقت واحد.

وفى الحالة الثانية يستحيل الشمول ، لادائه مع العلم بمخالفة احد الترخيصين للواقع الى الترخيص فى المخالفة القطعية لذلك الواع المعلوم اجمالا.

واما فى الحالة الثالثة فان كان الحكمان الالزاميان متضادين ذاتا ، كما اذا دل دليل على وجوب الجمعة ودلة خر على حرمتها ، فالشمول محال أيضا ، لأداءه إلى تنجيز حكمين الزامين فى موضوع واحد. وان كانا متضادين بالعرض ، للعلم الاجمالى من الخارج بعدم ثبوت أحدهما ، كما إذا دل دليل على وجوب الجمعة وة خر على وجوب الظهر ، فلا استحالة فى شمول دليل الحجية لهما معا ، لأنه انما يؤدى الى تنجيز كلا الحكمين الالزاميين مع العلم بعدم ثبوت أحدهما ، ولا محذور فى ذلك.

ولكن الصحيح ان هذا التوهم يقوم على أساس ملاحظة المدلول المطابقى فى مقام التعارض فقط ، وهو خطأ ، فان كلا من الدليلين المفروضين يدل بالالتزام على نفى الوجوب المفاد بالاخر فيقع التعارض بين الدلالة المطابقية لاحدهما والدلالة الالتزامية للاخر ، وحجيتهما معا تؤدى الى تنجيز حكم والتعذير عنه فى وقت واحد.

فان قيل : هذا يعنى ان المحذور نشأ من ضم الدلالتين لالتزاميتين فى الحجية الى المطابقيتين فيتعين سقوطهما عن الحجية ، لانهما المنشأ للتعارض وتظل حجية الدلالة المطابقية فى كل من الدليلين ثابتة.

كان الجواب : اننا نواجه فى الحقيقة معارضتين ثنائيتين والدلالة

٥٧٣

الالتزامية تشكل أحد الطرفين فى كل منهما ، فلا مبرر لطرح الدلالة الالتلزامية الا التعارض ، وهو ذو نسبة واحدة الى كلا طرفى المعارضة ، فلابد من سقوط الطرفين معا.

فان قيل : المبرر لطرح الدلالة الالتزامية خاصة دون المطابقية انها ساقطة عن الحجية على أى حال سواء رفعنا اليد عنها ابتداء أو رفعنا اليد عن الدلالتين المطابقتين ، لان سقوط المطابقية عن الحجية يستتبع سقوط الالتزامية ، فالدلالة الالتزامية إذن ساقطة عن الحجية على أى حال إما سقوط مستقلا أو يتبع سقوط الدلالة المطابقية ، ومع هذا فلا موجب للالتزام بسقوط الدلالة المطابقية.

كان الجواب : ان الدلالة الالتزامية فى كل معارضة ثنائية تعارض الدلالة المطابقية للدليل الاخر ، وهى غير تابعة لها فى الحجية ليدور أمرها بين السقوط الابتدائى والسقوط التبعى ، فلا معين لحل المعارضة باسقاط الدلالتين الالتزاميتين خاصة.

وأما الشق الثانى وهو شمول دليل الحجية لاحدهما المعين ، فقد برهن على استحالته بأنه ترجيح بلا مرجح ، إلا ان هذا البرهان لا يطرد فى الحالات التالية :

الحالة الاولى : أن نعلم بأن ملاك الحجية والطريقية غير ثابت فى كل من الدليلين فى حالة التعارض ، وفى هذه الحالة لا شك فى سقوطهما معا بلا حاجة الى برهان ، لان المفروض ، وفى هذه الحالة لا شك فى سقوطهما معا بلا حاجة الى برهان ، لان المفروض عدم الملاك لحجيتهما.

الحالة الثانية : أن نعليم بقطع النظر عن دليل الحجية بوجود ملاكها فى كل منهما وبان الملاك فى أحدهما المعين أقوى منه فى الاخر ، ولا شك هنا فى شمول دليل الحجية لذلك المعين ولا يكون ترجيحا

٥٧٤

بلا مرجح ، للعلم بعدم شموله للاخر. وكذلك الأمرإذا احتملنا أقوائية الملاك الطريقى فى ذلك المعين لو لم نتمل الاقوائية فى الاخر ، فان هذا يعنى ان اطلاق دليل الحجية للاخر معلوم السقوط ، لأنه إما مغلوب أو مساو ملاكا لمعارضة ، وأما اطلاق دليل الحجية لمحتمل الاقوائية فهو غير معلوم السقوط ، فنأخذ به.

الحالة الثالثة : أن لا يكون الملاك محرزا بقطع النظر عن دليل الحجية لانفيا ولا اثباتا ، وانما الطريق الى إحرازه نفس دليل الحجية ، ونفترض اننا نعلم بأن الملاك لو كان ثابتا فى المتعارضين فهو فى أحدهما المعين أقوى ، وهذا يعنى العلم بسقوط اطلاق دليل الحجية للاخر ، لانه إما لا ملاك فيه وإما فيه ملاك مغلوب ، وأما اطلاق دليل الحجية للمعين فلا علم بسقوطه ، فيؤخذ به. ومثل ذلك ماإذا كان احدهما المعين محتمل الاقوائية على تقدير ثبوته دون الاخر. ومن أمثلة ذلك أن يكون احد الروايين أوثق وأفقه من الراوى الاخر ، فان نكتة الطريقية التى هى ملاك الحجية لا يحتمل كونها موجودة فى غير الاوثق والافقه خاصة.

وهكذا يتضح ان إبطال الشمول لاحدهما المعين ببرهان استحالة الترجيح بلا مرجح انما يتجه فى مثل ماإذا كان كل من الدليلين موردا لاحتمال وجود الملاك الاقوى فيه.

وأما الشق الثالث وهو اثبات الحجية التخييرية فقد أبطل بأن مفاد الدليل هو كون الفرد مركزا للحجية لا الجامع.

ويلاحظ ان الحجية التخييرية لا ينحصر أمرها بحيجة الجامع ، ليقال : بأن ذلك خلاف مفاد الدليل ، بل يمكن تصويرها بحجيتين

٥٧٥

مشروطتين ، بأن يلتزم بحجية كل من الدليلين لكن لا مطلقا بل شريطة أن لا يكون الاخر صادقا ، فمركز كل من الحجيتين الفرد لا الجامع ولكن نرفع اليد عن اطلاق الحجية لاجل التعارض ، ولا تنافى بين حجيتين مشروطتين من هذا القبيل ، ولا محذور فى ثبوتهماإذا لم يكن كذب كل من الدليلين مستلزما لصدق الاخر ، ولا رجعنا الى اناطة حجية كل منهما بصدق نفسه ، وهو غير معقول.

فان قيل : ما دمنا لا نعلم الكاذب من الصادق فلا نستطيع أن نميز ان أى الحجيتين المشروطتين تحقق شرطها لنعمل على أساسها ، فأى فائدة فى جعلهما؟

كان الجواب : ان الفائدة نفى احتمال ثالث ، لاننا نعلم بأن احد الدليلين كاذب ، وهذا يعنى العلم بأن احدى الحجيتين المشروطتين فعلية ، وهذا يكفى لنفى الاحتمال الثالث.

وعلى ضوء ما تقدم يتضح :

أولا : ان دليل الحجية يقتضى الشمول لاحدهما المعين إذا كان ملاك الحجية على تقدير ثبوته أقوى فيه أو محتمل الاقوائية دون احتمال ممثال فى الاخر.

ثانيا : انه فى غير ذلك لا يشمل كلا من المتعارضين شمول منجزا.

ثالثا : انه مع ذلك يشمل كلا منهما شمولا مشروكا بكذب الاخر لأجل نفى الثالث ، وذلك فيما اذا لم يكن كذب احدهما مساوقا لصدق الاخر.

هذه هى النظرية العامة للتعارض المستقر على مقتضى القاعدة.

٥٧٦

تنبيهات النظرية العامة للتعارض المستقر :

ومن أجل تكميل الصورة عن النظرية العامة للتعارض المستقر يجب أن نشير الى عدة امور :

الأول : ان دليل الحجية الذى يعالج حكم التعارض المستقر على ضوئه تارة يكون دليل واحدا واخرى يكون دليلين ، وتوضيح ذلك باستعراض الحالات التالية :

الاولى : اذا افترضنا دليلين لفظيين قطعيين صدورا ، ظنيين دلالة تعارضا معارضة مستقرة ، فالتنافى بينهما يسرى الى دليل الحجية ، كما تقدم ، وهو هنا دليل واحد وهو دليل حجية الظهور.

الثانية : إذا افترضنا دليلين لفظيين قطعيين دلالة ، ظنيين سندا تعارضنا معارضة مستقرة فالتنافى بينهما يسرى الى دليل الحجية ، كما تقدم ، وهو هنا دليل واحد وهو دليل حجية السند.

الثالثة : إذا افترضنا دليلين لفظيين ظنيين دلالة وسندا فلا شك فى سراية التنافى الى دليل حجية الظهور ، ولكن هل يسرى الى دليل حجية السند أيضا؟

قد يقال بعدم السريان ، إذ لا محذور فى التعبد بكلا السندين وانما المحذور فى التعبد بالمفادين.

ولكن الصحيح هو السريان ، لأن حجية الدلالة وحجية السند مرتبطتان إحداهما بالاخرى ، بمعنى ان دليل حجية السند مفاده هو التعبد بمفاد الكلام المنقول لا مجرد التعبد بصورد الكلام بقطع النظر عن مفاده.

٥٧٧

الرابعة : إذا افترضنا دليلين لفظيين أحدهما ظنى سندا ، قطعى دلالة ، والاخر بالعكس ولم يكن بالامكان الجمع العرفى بين الدلالتين فالتنافى الذى يسرى هنا لا يسرى الى دليل حجية الظهور بمفرده ولاإلى دليل حجية السند كذلك ، إذ لا توجد دلالتان ظنيتان ولا سندان ظنيان ، وانما يسرى إلى مجموع الدليلين بمعنى وقوع التعارض بين دليل حجية السند فى احدهما ودليل حجية الظهور فى الاخر ، فاذا لم يكن هناك مرجع لتقديم أحد الدليلين على الاخر طبقت النظرية السابقة.

الخامسة : إذا افترضنا دليلا ظنيا دلالة وسندا معارضا لدليل قطعى دلالة وظنى سندا ، وتعذر الجمع العرفى سرى التنافى بمعنى وقوع التعارض بين دليل جية الظهور فى ظنى الدلالة ودليل السند فى الاخر ، ويؤدى ذلك الى دخول دليل السند لظنى الدلالة فى التعارض أيضا ، لما عرفت من الترابط. والمحصل النهائى لذلك ان دليل السند فى أحدهما يعارض كلا من دليل حجية الظهور ودليل السند فى الاخر.

السادسة : إذا افترضنا دليلا ظنيا دلالة وسندا معارضا لدليل ظنى دلالة وقطعى سندا سرى التنافى الى دليل حجية الظهور ، لوجود ظهورين متعارضين ، ودخل دليل التعبد بالسند الظنى فى المعارضة ، لمكان الترابط المشار اليه.

الثانى : ان التعارض المستقر تراة يستوعب تمام مدلول الدليل ، كما فى الدليلين المتعارضين الواردين على موضوع واحد. وأخرى يشمل جزء من المدلول ، كما فى العامين من وجه. وما تقدم من نظرية التعارض كما ينطبق على التعارض المستوعب ، كذلك ينطبق على التعارض غير المستوعب ، ولكن يختلف هذان القسمان فى نقطة وهى : انه فى حالات

٥٧٨

التعارض المستوعب بين دليلين ظنيين دلالة وسندا يسرى التنافى الى دليل حجية الظهور وبالتالى الى دليل التعبد بالسند ، وأما فى حالات التعارض غير المستوعب بينهما فالتنافى يسرى الى دليل حجية الظهور ، ولكن لا يمتد الى دليل التعبد بالسند ، بمعنى انه لا موجب لرفع اليد عن سند كل من العامين من وجه رأسا.

فان قيل : ان التنافى فى دليل حجية الظهور يتوقف على افتراض ظهورين متعارضين ، ونحن لا نحرز ذلك فى المقام الا بدليل التعبد بالسند ، فالتنافى فى الحقيقة نشأ من دليل التعبد بالسند.

كان الجواب : ان هذا صحيح ولكنه لا يعنى طرح السند رأسا ، فان مفاد دليل التعبد بالسند ثبوت الكلام المنقول بلحاظ تمام ماله من آثاره ، ومن آثاره حجية عمومه فى مادة الاجتماع وحجية عمومه فى مادة الافتراق ، فاذا تعذر ثبوت الاثر الأول للتعارض ثبت الأثر الثانى ، وهو معنى عدم سقوط السند رأسا. وأما حين يتعذر ثبوت كل ما للكلام المنقول من آثار ، كما فى حالات التعارض المستوعب ، فيقوم التعارض بين السندين لا محالة.

ومن هنا نستطيع أن نعرف انه فى كل حالات التعارض بين مدلولى دليلين ظنيين سندا يقع التعارض ابتداء فى دليل التعبد بالسند لا فى دليل حجية الظهور لأننا لا نحرز وجود ظهورين متعارضين الا من ناحية التعبد بالسند فان كان التعارض مستوعبا سقط التعبد بالسند رأسا فى كل منهما والا سقط بمقداره.

وأما ما كنا نقوله من أن التنافى يسرى الى دليل حجية الظهور ويمتد منه إلى دليل التعبد بالسند فهو بقصد تبسيط الفكرة ، حيث ان التنافى

٥٧٩

بين السندين فى مقام التعبد متفرع على التنافى بين الظهورين فى مقام الحجية على تقدير ثبوتهما ، فكأن التنافى سرى من دليل حجية الظهورإلى دليل التعبد بالسند ، واما من الناحية الواقعية وبقدر ما نمسك بايدينا فالتعارض منصب ابتداء على دليل التعبد بالسند ، لأننا لا نمسك بايدينا سوى السندين.

الثالث : وقع البحث فى أن المتعارضين بعد عجز كل منهما عن اثبات مدلوله الخاص هل يمكن نفى الاحتمال الثالث بهما؟

وقد يقرب ذلك بوجوه :

أولهما : التمسك بالدولة الالتزامية فى كل منهما لنفى الثالث ، فانها غير معارضة فتبقى حجة. وهذا مبنى على انكار تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية فى الحجية.

ثانيها : التمسك بدليل الحجية لاثبات حجية غير ما علم اجمالا بكذبه ، فان المتعذر تطبيق دليل الحجية على هذا بعينه أو ذاك بعينه للمعارضة ، وأما تطبيقه على عنوان غير معلوم الكذب اجمالا فلا محذور فيه ، لانه غير معارض لا بتطبيقه على عنوان معلوم الكذب ، لوضوح ان جعل الحجية لهذا العنوان غير معقول ، ولا بتطبيقه على عنوان تفصيليى ، كهذا أو ذاك ، لعدم احراز مغايرة العنوان التفصيلى لعنوان غير المعلوم.

ونلاحظ على ذلك انّ الخبرين المتعارضين إما أن يحتمل كذبهما معاً أو لا ، فان احتمل ففى حالة كذبهما معا لا تعين للمعلوم بالاجمال ولا لغير المعلوم بالاجمال لتجعل الحجية له ، وان لم يحتمل كذبهما معا فهذا بنفسه ينفى احتمال الثالث بلا حاجة الى التمسك بدليل الحجية.

ثالثها : وهو تعميق للوجه الثانى وحاصله الالتزام بحجية كل من

٥٨٠