دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

تمهيد

ما هو التعارض المصطلح؟ :

التعارض المصطلح هو التنافى بين مدلولى الدليلين ، ولما كان مدلول الدليل هو الجعل فالتنافى المحقق للتعارض هو التنافى بين الجعلين دون التنافى بين المجعولين أو الامتثالين ، لخروج مرتبة المجعول ومرتبة الامتثال عن مفاد الدليل كما تقدم فى الحلقة السابقة (١).

ولا يقع التعارض المصطلح إلا بين الأدلة المحرزة ، لأن الدليل المحرز هو الذى له مدلول وجعل يكشف عنه ، وأما الأدلة العملية المسماة بالاصول العملية فلا يقع فيها التعارض المذكور ، إذ ليس للاصل العملى مدلول يكشفه ، وجعل يحكى عنه ، بل الاصل بنفسه حكم شرعى ظاهرى. وحينما نقول فى كثير من الاحيان : ان الاصلين العمليين متعارضان ، لا نقصد التعارض المصطلح بمعنى التنافى بينهما فى المدلول بل التعارض فى النتيجة ، لأن كل اصل له نتيجة معلولة له ، من حيث التنجيز والتعذير ، فاذا كانت النتيجتان متنافيتين كان لاصلان متعارضين ، وكلما كانا كذلك وقع التعارض المصلح بين دليليهما

ــــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٤٥٤.

٥٤١

المحرزين لوقوع التنافى بينهما فى المدلول.

ومن هنا نعرف ان التعارض بين أصلين عمليين مرده الى وقوع التعارض المطلح بين دليليهما ، وكذلك الأمر فى التعارض بين اصل عملى ودليل محرز ، فان مرده الى وقوع التعارض المصطلح بين دليل الاصل العملى ودليل حجية ذلك الدليل المحرز.

وهكذا نعرف ان التعارض المصطلح يقوم دائما بين الأدلة المحرزة. ثم ان الدليلين المحرزين إذا كانا قطعيين فلا يعقل التعارض بينهما ، لانه يؤدى الى القطع بوقوع المتنافيين. وكذلك لا يتحقق التعارض بين دليل قطعى ودليل ظنى ، لان الدليل القطعى يوجب العلم ببطلان مفاد الدليل الظنى وزوال كاشفيته فلا يكون دليلا وحجة ، لاستحالة الدليلية والحجية لما يعلم ببطلانه.

وانما يتحقق التعارض بين دليلين ظنيين ، وهذا الدليلان إما أن يكونا دليلين لفظيين أو غير لفظيين أو مختلفين من هذه الناحية :

فان كانا دليلين لفظيين أى كلاميين للشارع فالتعارض بينهما على قسمين :

أحدهما : التعارض غير المستقر ، وهو التعارض الذى يمكن علاجه بتعديل دلالة أحد الدليلين وتأويلها بنحو ينسجم مع الدليل الاخر.

والاخر : التعارض المستقر الذى لا يمكن فيه العلاج. ففى حالات التعارض المستقر يسرى التعارض الى دليل الحجية ، لأن ثبوت الحجية لكل منهما كما لو لم يكن معارضا ، يؤدى الى إثبات كل منهما ونفيه فى وقت واحد نظراإلى أن كلا منهما يثبت مفاد نفسه وينفى مفاد الاخر ، ويبرهن ذلك على استحالة ثبوت الحجيتين على نحو ثبوتها فى غير

٥٤٢

حالات التعارض ، وهذا معنى سراية التعارض الى دليل الحجية لوقوع التنافى فى مدلولة.

وأما فى حالات التعارض غير المستقر فيعالج التعارض بالتعديل المناسب فى دلالة أحدهما أو كليهما ، ومعه لا يسرى التعارض الى دليل الحجية ، إذ لا يبقى محذور فى حجيتهما معا بعد التعديل.

ولكن هذا التعديل لا يجرى جزافا ، وانما يقوم على اساس قواعد الجمع العرفى التى مردها جميعاإلى أن المولى يفسر بعض كلامه بعضا ، فاذا كان أحد الكلامين صالحا لأن يكون مفسرا للكلام الاخر جمع بينهما بالنحو المناسب. ومثل الكلام فى ذلك ظهور الحال.

وإن كان الدليلان معا غير لفظيين أو مختلفين كان التعارض مستقرا لا محالة ، لان التعديل انما يجوز فى حالة التفسير ، وتفسير دليل بدليل انما يكون فى كلامين وما يشبههما ، وإذا استقر التعارض سرى الى دليلى الحجية ، فان كانا لفظيين لوحظ نوع التعارض بينهما وهل هو مستقر أو لا ، وان لم يكونا كذلك فالتعارض مستقر على أى حال.

والبحث فى التعارض الأدلة يشرح احكام التعارض غير المستقر والتعارض المستقر معا.

الورود والتعارض :

وعلى ضوء ما تقدم نعرف ان الورود بالمعنى الذى تقدم فى الحلقة السابقة (١) ليس من التعارض ، سواء كان الدليل الوارد محققا فى مورده لفرد حقيقى من موضوع الدليل المورود أو نافيا فى مورده حقيقة

ــــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٤٥٤.

٥٤٣

لموضوع ذلك الدليل. أما فى الأول فواضح. وأما فى الثانى فلأن التنافى انما هو بين المجعولين والفعليتين لا بين الجعلين ، فالدليلان ( الوارد والمورود ) كلاهما حجة فى اثبات مفادهما وتكون الفعلية دائما لمفاد الدليل الوارد ، لانه ناف لموضوع المجعول فى الدليل الاخر.

وعلى هذا صح القول بأن الدليلين إذا كان أحدهما قد أخذ فى موضوعه عدم فعلية مفاد الدليل الاخر فلا تعارض بينهما ، إذ لا تنافى بين الجعلين ويكون أحدهما واردا على الاخر فى مرحلة المجعول والفعلية.

ثم ان ورود أحد الدليلين على الاخر يتم كما عرفت برفعه لموضوعه ، وهذا الرفع على انحا :

منها : أن يكون رافعا له بفعلية مجعوله ، بأن يكون مفاد الدليل المورود مقيدا بعدم فعلية المجعول فى الدليل الوارد.

ومنها : أن يكون رافعا له بوصول المجعول لا بواقع فعليته ولو لم يصل.

ومنها : أن يكون رافعا له بامتثاله ، فما لم يمتثل لا يرتفع الموضوع فى الدليل المورود.

ومثال الأول : دليل حرمة إدخال الجنب فى المسجد الذى يرفع بفعلية مجعوله موضوع صحة إجارة الجنب للمكث فى المسجد ، إذ يجعلها إجارة على الحرام ، ودليل صحة الاجارة مقيد بعدم كونها كذلك.

ومثال الثانى : دليل الوظيفة الظاهرية الذى يرفع بوصوله مجعوله عنوان المسكل المأخوذ فى موضوع دليل القرعة.

ومثال الثالث : دليل وجوب الأهم الذى يرفع بامتثاله موضوع دليل وجوب المهم كما تقدم فى مباحث القدرة.

وقد يتفق التوارد من الجانبين ، وبعض أنحاء التوارد كذلك معقول

٥٤٤

ويأخذ مفعوله فى كلا الطرفين ، وبعض أنحائه معقول ويكون أحد الورودين هو المحكم دون الاخر ، وبعض انحائه غير معقول ، فيؤدى الى وقوع التعارض بين الدليلين المتواردين.

فمثال الأول : أن يكون الحكم فى كل من الدليلين مقيدا بعدم ثبوت الحكم الاخر فى نفسه ، وحينئذ حيث ان كلا من الحكمين فى نفسه ولولا الاخر ثابت ، فلا يكون الموضوع لكل منهما محققا فعلا ، وهذا معنى ان التوارد نفذ وأخذ مفعوله فى كلا الطرفين.

ومثال الثانى : أن يكون الحكم فى أحد الدليلين مقيدا بعدم ثبوت حكم على الخلاف ، وأما الحكم الثانى فهو مقيد بعدم امتثال حكم مخالف ، ففى مثل ذلك يكون دليل الحكم الثانى تاما ومدلوله فعليا وبذلك يرتفع موضوع دليل الحكم الأول. وأما دليل الحكم الأول فيستحيل أن ينطبق مدلوله على المورد ، لانه إن اريد به اثبات مفاده حتى فى غير حال امتثاله فهو مستحيل ، لان غير حال امتثاله هو حال فعلية الحكم الثانى التى لا يبقى معهال موضوع للحكم الأول. وإن اريد به اثبات مفاده فى حال امتثاله خاصة فهو مستحيل أيضا ، لامتناع اختصاص حكم بفرض امتثاله ، كما هو واضح.

ومثال الثالث : أن يكون الحكم فى كل من الدليلين مقيدا بعدم حكم فعلى على الخلاف ، ففى مثل ذلك يكون كل منهما صالحا لرفع موضوع الاخر لو بدأنا به ، ولما كان من المستحيل توقف كل منهما على عدم الاخر يقع التعارض بين الدليلين على الرغم من ورود كل منهما على الاخر ويشملهما احكام التعارض.

وسنتكلم فيما يأتى عن احكام التعارض ضمن عدة بحوث.

٥٤٥

ـ ١ ـ

قاعدة الجمع العرفى

ونتكلم فى بحث هذه القاعدة عن : النظرية العامة للجميع العرفى ، وعن اقسام الجمع العرفى أو اقسام التعارض غير المستقر وملاك الجمع فى كل واحد منهما ، وتكييفه على ضوء تلك النظرية العامة ، وعن احكام عامة للجمع العرفى تشترك فيها كل الاقسام ، وعن نتائج الجمع العرفى بالنسبة الى الدليل المغلوب ، وعن تطبيقات اللجمع العرفى وقع البحث فيها. فهذه خمس جهات رئيسية نتناولها بالبحث تباعا :

١ ـ النظرية العامة للجمع العرفى

تتلخص النظرية العامة للجمع العرفى فى : ان كل ظهور للكلام حجة ما لم يعد التكلم ظهورا آخر لتفسيره وكشف المراد النهائى له ، فانه فى هذه الحالة يكون المعول عقلائيا على الظهور المعد للتفسير وكشف المراد النهائى للمتكلم ، ويسمى بالقرينة ، ولا يشمل دليل الحجية فى هذه الحالة الظهور الاخر.

وهذا الاعداد تارة يكون شخصيا وتقوم عليه قرينة خاصة ، واخرى

٥٤٦

يكون نوعيا بمعنى ان العرف أعد هذا النوع من التعبير للكشف عن المراد من ذلك النوع من التعبير وتحديد المراد منه ، والظاهر من حال المتكلم الجرى وفق الاعدادات النوعية العرفية ، فمن الأول قرينية الدليل الحاكم على المحكوم ، ومن الثانى قرينية الخاص على العام.

وكل قرينة ان كانت متصلة بذى القرينة منعت عن انعقاد الظهور التصديقى أساسا ولم يحصل تعارض اصلا.

وإن كانت منفصلة لم ترفع اصل الظهور وانما ترفع حجيته ، لما تقدم ، وهذا هو معنى الجمع العرفى.

والقرينية الناشئة من الاعداد الشخصى يحتاج إثباتها الى ظهور فى كلام المتكلم على هذا الاعداد ، من قبيل أن يكون مسوقا مساق التفسير للكلام الاخر مثلا.

والقرينية الناشئة من الاعداد النوعى يحتاج اثباتها الى احراز البناء العرفى على ذلك ، والطريق إلى إحراز ذلك غالبا هو أن نفرض الكلامين متصلين ونرى هل يبقى لكل منهما فى حالة الاتصال اقتضاء الظهور التصديقى فى مقابل الكلام الاخر أو لا ، فان رأينا ذلك عرفنا ان أحدهما ليس قرينة على الاخر ، لان القرينة باتصالها تمنع عن ظهور الكلام الاخر وتعطل اقتضاءه ، وان رأينا ان أحد الكلامين بطل ظهوره أساسا عرفنا ان الكلام الثانى قرينة عليه.

وعلى هذا الضوء نعرف ان القرينية مع الاتصال توجب الغاء التعارض ونفيه حقيقة ، ومع الانفصال توجب الجمع العرفى بتقديم القرينة على ذى القرينة ، لما عرفت. كما ان بناء العرف قاءم على ان كل ما كان على فرض اتصاله هادما لأصل الظهور فهو فى حالة الانفصال

٥٤٧

يعتبر قرينة ويقدم بملاك القرينة.

هذه هى نظرية الجمع العرفى على وجه الاجمال ، وستتضح معالمها وتفاصيلها أكثر فأكثر من خلال استعراض اقسام التعارض غير المستقر التى يجرى فيها الجمع العرفى.

٥٤٨

٢ ـ أقسام الجمع العرفى والتعارض غير المستقر

الحكومة :

من أهم أقسام التعارض غير المستقر أن يكون أحد الدليلين حاكما على الدليل الاخر ، كما فى ( لا ربا بين الوالد وولده ) الحاكم على دليل حرمة الربا ، فانه فى مثل ذلك يقدم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم. والحكومة تعبير عن تلك النكتة التى بها استحق الدليل الحاكم التقديم على محكومه ، فلكى نحدد مفهومها لابد أن نعرف نكتة التقديم وملاكه ، وفى ذلك اتجاهان :

الاتجاه الأول : لمدرسة المحقق النائينى قدس الله روحه (١) وحاصله ان الأخذ بالدليل الحاكم انما هو من أجل انه لا تعارض فى الحقيقة بينه وبين الدليلى المحكوم ، لانه لا ينفى مفاد الدليل المحكوم وانما يضيف اليه شيئا جديدا ، فان مفاد الدليل المحكوم مرده دائما الى قضية شرطية مؤداها فى المثال المذكور : انه إذا كانت المعاملة ربا فهى محرمة. وكل قضية شرطية ، لا تتكفل إثبات شركها ، ولهذا يقال : ان صدق الشرطية لا يستبطن صدق طرفيها. ومفاد الدليل الحاكم قضية منجزة

ــــــــــــــــ

(١) راجع : أجود التقريرات : ج ٢ ص ٥٠٦.

٥٤٩

فعلية مؤداها فى المثال نفى الشرط لتلك القضية الشركية وان معاملة الأب مع ابنه ليست ربا ، فلابد من الأخذ بالدليلين معا.

وهذا الاتجاه غير صحيح ، لان دليل حرمة الربا موضوعة ما كان ربا فى الواقع سواء نفيت عنه الربوية ادعاء فى لسان الشارع أو لا ، والدليل الحاكم لا ينفى صفة الربوية حقيقة وانما ينفيها ادعاء ، وهذا يعنى انه لا ينفى الشرط فى القضية الشرطية المفادة فى الدليل المحكوم بل الشرط محرز وجدانا ، وبهذا يحصل التعارض بين الدليلين ، فلابد من تخريج لتقديم الدليل الحاكم مع الاعتراف بالتعارض.

الاتجاه الثانى : وهو الصحيح وحاصله انه بعد الاعتراف بوجود التعارض بين الدليلين يقدم الدليل الحاكم تطبيقا لنظرية الجمع العرفى المتقدمة ، لان الدليل الحاكم ناظر الى الدليل المحكوم ، وهذا النظر ظاهر فى أن المتكلم قد أعده لتفسير كلامه الاخر فيكون قرينة ، ومع وجود القرينة لا يشمل دليل الحجية ذا القرينة ، لأن دليل حجية الظهور مقيد بالظهور الذى لم يعد المتكلم قرينة لتفسيره ، فبالدليل الناظر المعد لذلك يرتفع موضوع حجية الظهور فى الدليل المحكوم ، سواء كان الدليل الحاكم متصلا أو منفصلا ، غير انه مع الاتصال لا ينقعد ظهور تصديقى فى الدليل المحكوم اصلا ، وبهذا لا يوجد تعارض بين الدليلين اساسا ، ومع الانفصال ينعقد ولكن لا يكون حجة ، لما عرفت.

ثم ان النظر الذى هو ملاك التقديم يثبت بأحد الوجوه التالية :

الأول : أن يكون مسوقا مساق التفسير ، بأن يقول : أعنى بذلك الكلام كذا. ونحو ذلك.

الثانى : أن يكون مسوقا مساق نفى موضوع الحكم فى الدليل الاخر ،

٥٥٠

وحيث انه غير منتف حقيقة فيكون هذا النفى ظارها فى ادعاء نفى الموضوع وناظراإلى نفى الحكم حقيقة.

الثالث : أن يكون التقبل العرفى لمفاد الدليل الحاكم مبنيا على افتراض مدلول الدليل المحكوم فى رتبة اسابقة ، كما فى ( لا ضرر ) أو لا ينجس الماء مالا نفس له ) بالنسبة الى أدلة الاحكام وأدلة التنجيس.

وإذا قارن بين الاتجاهين أمكننا أن ندرك فارقين أساسين :

أحدهما : ان حكومة الدليل الحاكم على الاتجاه الثانى تتوقف على إثبات النظر ، وأما على الاتجاه الأول فيكون الديل الحاكم بمثابة الدليل الوارد ، وقد مر بنا فى الحلقة السابقة (١) انه لا يحتاج تقدمه على دليل الى اثبات نظره الى مفاده بالخصوص ، بل يكفى كونه مصترفا فى موضوعه.

والفارق الاخر : ان الاتجاه الثانى يفسر حكومة مثل ( لا حرج ) و( لا ضرر ) و( لا ينجس الماء مالا نفس له ) لوجود النظر فيها ، وأما الاتجاه الأول فلا يمكنه أن يفسر الحكومة الا فيما كان لسانه لسان نفى الموضوع للدليل الاخر.

التقييد :

إذا جاء دليل مطلق ودليل على التقييد ، فدليل التقييد على أقسام :

القسم الأول : أن يكون دالا على التقييد بعنوانه ، فيكون ناظرا

٥٥١

بلسانه التقييدى الى المطلق ، ويقدم عليه باعتباره حاكما ويدخل فى القسم المتقدم.

القسم الثانى : أن يكون مفاده ثبوت سنخ الحكم الوارد فى الدليل المطلق للمقيد ، كماإذا جاء خطاب ( اعتق رقبة ) ثم خطاب ( اعتق رقبة مؤمنة ).

وفى هذه الحالة إن لم تعلم وحدة الحكم فلا تعارض ، وإن علمت وحدة الحكم المدلول للخطابين وقع التعارض بين ظهور الأول فى الاطلاق بقرنة الحكمة وظهور الثانى فى احترازية القيود ، وحينئذ فان كان الخطابان متصلين لم ينعقد للأول ظهور فى الاطلاق ، لأنه فرع عدم ذكر ما يدل على القيد فى الكلام ، والخطاب الاخر المتصل يدل على القيد ، فلا تجرى قرينة الحكمة لاثبات الاطلاق. وان كان الخطابان منفصلين انعقد الظهور فى كل منهما لما تقدم فى بحث الاطلاق من أن الاطلاق ينعقد بمجرد عدم مجىء القرينة على القيد فى شخص الكلام وقدم الظهور الثانى ، لأنه قرينة بدليل إعدامه لظهور الملطق فى فرض الاتصال ، وقد تقدم ان البناء العرفى على ان كل ما يهدم اصل الظهور فى الكلام عند اتصاله به فهو قرينة عليه فى فرض الانفصال ويقدم بملاك القرينية.

وهناك اتجاه يقول : ان دليل القيد حتى لو كان منفصلا يهدم أصل الظهور فى المطلق ، وهذا الاتجاه يقوم على الاعتقاد بان قرينة الحكمة التى هى أساس الدلالة على الاطلاق متقومة بعدم ذكر القيد ولو منفصلا ، وقد تقدم فى بحث الاطلاق إبطال ذلك.

القسم الثالث : أن يكون مفاده اثبات حكم مضاد فى حصة من

٥٥٢

المطلق ، كما اذا جاء خطاب ( اعتق رقبة ) ثم خطاب ( لا تعتق رقبة كافرة ) على أن يكون النهى فى الخطاب الثانى تكليفيا لا ارشادا الى ما نعية الكفر عن تحقق العتق الواجب ، والا دخل فى القسم الأول.

وهذا القسم يختلف عن القسم السابق فى أن التعارض هنا محقق على أى حال بلا حاجة الى افتراض من الخارج ، بخلاف القسم السابق ، فانه يحتاج الى افتراض العلم من الخارج بوحدة الحكم. ويتفق القسمان فى حكم التعارض بعد حصوله ، إذ يقدم المقيد على المطلق فى كلا القسمين بنفس الملاك السابق.

التخصيص :

إذا ورد عام يدل على العموم بالأداة وخاص ، جرت نفس الاقسام السابقة للمقيد هنا أيضا ، لان هذا الخاص تارة يكون ناظرا الى العام ، واخرى يكون متكفلا لا ثبات سنخ حكم العام ولكن فى دائرة أخص ، كما اذا قيل ( اكرم كل فقير ) وقيل ( اكرم الفقير العادل ) ، وثالثة يكون الخاص متكفلا لاثبات نقيض حكم العام أو ضده لبعض حصص العام ، كماإذا قيل : ( أكرم كل عالم ) وقيل : ( لا يجب اكرام النحوى ) أو ( لا تكرم النحوى ).

ولا شك فى ان الخاص من القسم الأول يعتبر حاكما ويقدم بالحكومة على عموم العالم.

وأما الخاص من القسم الثانى فمع عدم احراز وحدة الحكم لا تعارض ، ومع احرازها يكون الخاص معارضا للعموم هنا كما كان المقيد فى نظير ذلك معارضا للاطلاق فيما تقدم.

٥٥٣

وأما الخاص من القسم فلا شك فى انه معارض للعموم.

وعلى أى حال فلا خلاف فى تقدم الخاص على العام عند وقوع المعارضة بينهما ، فان كان الخاص متصلا لم يسمع بانعقاد ظهور تصديقى للعام فى العموم. وان كان منفصلا اعتبر قرينة على تخصيصه ، فيخرج ظهور العام عن موضوع دليل الحجية ، لوجود قرينة على خلافه ، وهذا على العموم مما لا خلاف فيه.

وانما الخلاف فى نقطة وهى ان قرينة الخاص على التخصيص هل هى بملاك الاخصية مباشرة أو بملاك انه أقوى الدليلين ظهورا ، فان ظهور الخاص فى الشمول لمورده أقوى دائما من ظهور العام فى الشمول له.

وتظهر الثمرة فيماإذا كان استخراج الحكم من الدليل الخاص موقوفا على ملاحظة ظهورة خر غير ظهوره فى الشمول المذكور ، إذ قد لا يكون ذلك الظهور الاخر أقوى ، ومثاله أن يرد : ( لا يجب إكرام الفقراء ) ويرد : ( اكرم الفقير القانع ) فان تخصيص العام يتوقف على مجموع ظهورين فى الخاص ، أحدهما : الشمول لمورده ، والاخر : كونه صيغة الأمر فيه بمعنى الوجوب ، والأول وإن كان اقوى من ظهور العام فى العموم ولكن قد لا يكون الثانى كذلك.

والصحيح ان الاخصية بنفسها ملاك للقرينية عرفا ، بدليل ان أى خاص نفترضه لو تصورناه متصلا بالعام لهدم ظهوره التصديقى من الاساس ، وهذا كاشف عن القرينة ، كما تقدم.

وهذا لا ينافى التسليم أيضا بأن الاظهرإذا كانت أظهريته واضحة عرفا يعتبر قرينة أيضا ، وفى حالة تعارضه مع الظاهر يجمع بينهما عرفا بتحكيم الاظهر على الظاهر وفقا لنظرية الجمع العرفى العامة.

٥٥٤

ثم ان المراد بالاءخصية التى هى ملاك القرينية ، الأخصية عند المقارنة بين مفادى الدليلين فى مرحلة الدلاة والافادة ، لا الأخصية عند المقارنة بين مفاديهما فى مرحلة الحجية. وتوضيح ذلك انه اذا ورد عامان متعارضان من قبيل : يجب اكرام الفقراء ، ولا يجب اكرام الفقراء ، وورد مخصص على العام الأول يقول : لا يجب إكرام الفقير الفاسق ، فهذا المخصص تارة نفرضة متصلا بالعام واخرى نفرض انفصاله :

ففى الحالة الاولى يصبح سببا فى هدم ظهور العام فى العموم وحصر ظهوره التصديقيى فى غير الفساق ، وبهذا يصبح أخص مطلقا من العام الثانى ، وفى مثل ذلك لا شك فى التخصيص به.

وأما فى الحالة الثانية فظهور العام الأول فى العموم منعقد ولكن الخاص قرينة موجية لسقوطه من الحجية بقدر يا يقتضية ، وحينئذ فان نظرنا الى هذا العام والعام الاخر المعارض له من زاوية المدلولين اللفظيين لهما فى مرحلة الدلالة فهما متساويان ليس أحدهما أخص من الاخر. وان نظرنا الى العامين من زاوية مدلوليهما فى مرحلة الحجية وجدنا ان العام الأول أخص من العام الثانى ، لانه بما هو حجة لم يعد يشمل كل أقسام الفقراء ، فبينما كان مساويا للعام الاخر انقلب الى الاخصية.

وقد ذهب المحقق النائينى (١) الى الأخذ بالنظرة الثانية وسمى ذلك بانقلاب النسبة ، بينما أخذ صاحب الكفاية (٢) بالنظرة الاولى.

واستدل الأول على انقلاب النسبة بانا حينما نعارض العام الثانى

ــــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ص ٧٤٦.

(٢) كفاية الاصول : ج ٢ ص ٤٠٦.

٥٥٥

بالعام الأول يجب أن ندخل فى المعارضة غير ما فرغنا عن سقوط حجيته من دلالة ذلك العام ، لأن ما سقطت حجيته لا معنى لأن يكون معارضا.

ونلاحظ على هذا الاستدلال ان المعارضة وإن كانت من شأن الدلالة التى لم تسقط بعد عن الحجية ولكن هذا أمر وتحديد ملاك القرينية أمر آخر ، لأن القرينية تمثل بناء عرفيا على تقديم الأخص ، وليس من الضرورى أن يراد بالاخص هنا الاخص من الدائرتين الداخلتين فى مجال المعارضة ، بل بالامكان أن يراد الاخص مدلولا فى نفسه منهما ، فالدليل الاخص مدلولا فى نفسه تكون أخصيته سببا فى تقديم المقدار الداخل منه فى المعارضة على معارضة ، بل هذا هو المطابق للمرتكزات العرفية ، لان النكتة فى جعل الاخصية قرينة هى ما تسببه الاخصية عادة من قوة الدلالة ، ومن الواضح ان قوة الدلالة انما تحصل من الاخصية مدلولا ، وأما مجرد سقوط حجية العام الأول فى بعض مدلوله فلا يجعل دلالته فى وضوح شمولها للبعض الاخر على حد خاص يرد فيه مباشرة ، فالصحيح ما ذهب اليه صصاحب الكفاية.

٥٥٦

٣ ـ أحكام عامة للجمع العرفى

للجمع العرفى بأقسامه أحكام عامة نذكر فيما يلى جملة منها :

١ ـ لابد لكى يعقل الجمع العرفى أن يكون الدليلان المتعارضان لفظيين أو ما بحكمهما ، وصادرين من متكلم واحد أو جهة واحدة ، وذلك لان ملاك الجمع العرفى كما تقدم هوإعداد أحد الدليلين لتفسير الاخرإعدادا شخصيا أو نوعيا ، وهذا انما يصح فى الكلام وعلى أن يكون المصدر واحدا ليفسر بعض كلامه بالبعض الاخر.

٢ ـ وأيضا انما يصح الجمع العرفى إذا لم يوجد علم اجمالى بعدم صدور أحد الكلامين من الشراع ، إذ فى هذه الحالة يكون التعارض فى الحقيقة بين السندين لا بين الدلالتين ، والجمع العرفى علاج للتعارض بين الدلالتين لابين السندين.

٣ ـ ولا يخلو الكلامان اللذان يراد تطبيق الجمع العرفى عليهما من إحدى أربع حالات :

الاولى : أن يكون صدور كل منهما قطعيا وفى مثل ذلك لا يترقب سريان التعارض الا الى دليل حجية الظهور ، والمفروض انه لا يشمل

٥٥٧

ذا القرينة مع وجود القرينة وبذلك يتم الجمع العرفى.

الثانية : أن يكون صدور كل منهما غير قطعى وانما يثبت بالتعبد وبدليل حجية السند مثلا ، كما فى أخبار الاحاد ، وفى مثل ذلك لا يسرى التعارض أيضا لا الى دليل حجية الظهور ولاإلى دليل حجية السند. أما الأول فلما تقدم ، وأما الثانى فلان مفاد دليل التعبد بالسند الأخذ بالمفاد العرفى الذى تعينه قواعد المحاورة العرفية لكل من المنقولين ، فاذا انحل الموقف على مستوى دليل حجية الظهور وعدل مفاد ذى القرينة على نحو اصبح المفاد العرفى النهائى للدليلين منسجما ، لم يعد مانع من شمول دليل التعبد بالسند لكل منهما استطراقا الى ثبوت المدلول النهائى لهما.

الثالثة : أن يكون صدور القرينة قطعيا وصدور ذى القرينة مرهون بدليل التعبد بالسند ، والأمر فيه يتضح مما تقدم فى الحالة السابقة ، فانه لا مانع من شمول دليل التعبد بالسند لذى القرينة استطراقا الى اثبات مدلوله المعدل حسب قواعد المحاورة العرفية والجمع العرفى.

الرابعة : أن يكون صدور القرينة مرهونا بدليل التعبد بالسند وصدور ذى القرينة قطعيا ، وفى هذه الحالة قد يقال : بأن ظهور ذى القرينة باعتباره امارة لا يعارض ظهور القرينة بالذات ليقال بتقدم ظهور القرينة عليه بالجمع العرفى ، بل هو يعارض المجموع المركب من أمرين ، هما ظهور القرينة وسندها ، إذ يكفى فى بقاء ظهور ذى القرينة أن يكون أحد هذين الأمرين خاطئا ، وعليه فما هو المبرر لتقديم القرينة الظنية السند فى هذه الحالة؟ ومجرد ان أحد الأمرين المذكورين له حق التقديم وهو ظهور القرينة لا يستوجب حق التقديم لمجموع الأمرين.

وان شئت قلت : ان شمول دليل حجية الظهور لذى القرينة وان

٥٥٨

كان لا يعارض شموله لظهور القرينة ولكنه يعارض شمول دليل التعبد بالسند لسند القرينة ، ومن هنا استشكل فى تخصيص العام الكتابى بخبر الواحد.

ويقال فى الجواب على ذلك : ان دليل حجية الظهور قد أخذ فى موضوعه عدم صدور القرينة على الخلاف ، ودليل التعبد بسند القرينة يثبت صدور القرينة على الخلاف ، فهو حاكم على دليل حجية الظهور ، لانه يثبت تعبدا انتفاء موضوعه فيقدم عليه بالحكومة.

نعم هناك ملاك آخر للاستشكال فى تخصيص العام الكتابى بخبر الواحد وهو إمكان دعوى القصور فى دليل التعبد بالسند للشمول لخبر مخالف للعام القطعى الكتابى ، لان أدلة حجية خبر الواحد مقيدة بأن لا يكون الخبر مخالفا للكتاب ، وسيأتيى الكلام عن ذلك ان شاء الله تعالى.

٥٥٩

٤ ـ نتائج لاجمع العرفى بالنسبة الى الدليل المغلوب

لا شك فى ان كل ما يحرز شمول القرينة له من الافراد التى كانت داخلة فى نطاق ذى القرينة لابد من تحكيم ظهور القرينة فيها وطرح الدلالة الاولية لذى القرينة بشأنها ، تطبيقا لنظرية الجمع العرفى ، كما ان ما يحرز عدم شمول القرينة له من تلك الافراد يبقى فى نطاق ذى القرينة ويطبق عليه مفاده ، وأما ما يشك فى شمول القرينة له من الافراد فهو على اقسام :

القسم الأول : أن تكون الشك فى الشمول ناشئا من شبهة مصداقية للعنوان المأخوذ فى دليل القرينة يشك بموجبها فى ان هذا الفرد هل هو مصداق لذلك العنوان أو لا ، كماإذا ورد : « اكرم كل فقير » وورد : « لا تكرم فساق الفقراء » وشك فى فسق زيد للجهل بحاله ، فيشك حينئذ فى شمول المخصص له فما هو الموقف تجاه ذلك؟

وتوجد اجابتان على هذا السؤال :

الاولى : ان هذا الفرد يعلم بانه مصداق للعام ، للقطع بفقره فدلالة العام على وجوب اكرامه محرزة ، ودلالة المخصص على خلاف ذلك غير

٥٦٠