دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

على بقائه المتمثلة فى استصحاب الكلى.

والتحقيق : انه تارة يكون وجود الكلى بما هو وجود له كافيا فى ترتب الأثر على نحو لو فرض ولو محالا وجود الكلى لا فى ضمن حصة خاصة لترتب الاثر. واخرى لا يكون الأثر مترتبا على وجود الكلى الا بما هو وجود لهذه الحصة ولتلك الحصة على نحو تكون كل حصة موضوعا للاثر الشرعى بعنوانها.

فعلى الأول يجرى استصحاب الكلى لاثبات موضوع الاثر ، ولا يمكن نفى صرف الوجود للكلى باستصحاب عدم الفرد الطويل مع ضمه الى الوجدان ، لان انتفائصرف الوجود للكلى بانتفاء هذه الحصة وتلك عقلى وليس شرعيا.

وعلى الثانى لا يجرى استصحاب الكلى فى نفسه ، لانه لا ينقح موضوع الاثر ، بل بالامكان نفى هذا الموضوع باستصحاب عدم الفرد الطويل الأمد مع ضمه الى الوجدان القاضى بعدم الفرد الاخر ، لأن الاثر اثر للحصص فينفى باحراز عدمها ولو بالتلفيق من التعبد والوجدان.

وأما الحالة الثانية من القسم الثانى فهى أن يكون الشك فى حدوث الفرد المسبب للشك فى بقاء الكلى شكا بدويا ، ومثاله : أن يعلم بوجود الكلى ضمن فرد ، ويعلم بارتفاعه تفصيلا ، ويشك فى انحفاظ وجود الكلى فى ضمن فرد آخر يحتمل حدوثه حين ارتفاع الفرد الأول أو قبل ذلك. ويسمى هذا فى كلماتهم بالقسم الثالث من استصحاب الكلى.

وقد يتخيل جريانه على اساس تواجد أركانه فى العنوان الكلى وإن

٥٢١

لم تكن متواجدة فى كل من الفردين بالخصوص ، ولكن يندفع هذا التخيل بان العنوان الكلى وإن كان هو مصب الاستصحاب ولكن بما هو مرآة للواقع ، فلا بد أن يكون متيقن الحدوث مشكوك البقاء بما هو فان فى واقعه ومرآة للوجود الخارجى ، ومن الواضح انه بما هو كذلك ليس جامعا للاركان ، إذ ليس هناك واقع خارجى يمكن ان نيشير اليه بهذا العنوان الكلى ونقول بانه متيقن الحدوث مشكوك البقاء لنستصحبه بتوسط العنوان الحاكى عنه وبمقدار حكايته ، خلافا للحالة السابقة التى كانت تشتمل على واقع من هذه القبيل.

٥٢٢

٤ ـ الاستصحاب فى الموضوعات المركبة

إذا كان الموضوع للحكم الشرعى بسيطا وتمت فيه أركان الاستصحاب جرى استصحابه بلا اشكال. وأماإذا كان الموضوع مركبا من عناصر متعددة ، فتارة نفترض ان هذه العناصر لوحظت بنحو التقيد أو انتزع منها عنوان بسيط وجعل موضوعا للحكم ، كعنوان ( المجموع ) أو ( اقتران هذا بذاك ) ونحو ذلك. واخرى نفترض ان هذه العناصر بذواتها أخذت موضوعا للحكم الشرعى بدون أن يدخل فى الموضوع أى عنوان انتزاعى من ذلك القبيل.

ففى الحالة الاولى لا مجال لا جراء الاستصحاب فى ذوات الاجزاء ، لانه إن اريد به اثبات الحكم مباشرة فهو متعذر ، لترتبه على العنوان البسيط المتحصل. وإن اريد به اثبات الحكم باثبات ذلك العنوان المتحصل فهو غير ممكن ، لأن عنوان الاجتماع والاقتران ونحوه لازم عقلى لثبوت ذوات الاجزاء فلا يثبت باستصحابها. فالاستصحاب فى هذه الحالة يجرى فى نفس العنوان البسيط المتحصل ، فمتى شك فى حصوله جرى استحصاب عدمه حتى ولو كان أحد الجزئين محرزا وجدانا والاخر

٥٢٣

معلوم الثبوت سابقا ومشكوك البقاء فعلا.

وأما فى الحالة الثانية فلا بأس بجريان الاستصحاب فى الجزء ثبوتا أو عدما إذا تواجد فيه اليقين بالحالة السابقة والشك فى بقائها.

ومن هنا يعلم بأن الاستصحاب يجرى فى أجزاء الموضوع المركب وعناصره بشرط ترتب الحكم على ذوات الاجزاء أولا ، وتوفر اليقين بالحدوث والشك فى البقاء ثانيا.

هذا على نحو الاجمال. وأما تحقيق المسألة على وجه كامل فبالبحث فى ثلاث نقاط :

إحداها : فى أصل هذه الكبرى القائلة بجريان الاستصحاب فى اجزاء الموضوع ضمن الشرطين.

والنقطة الثانية : فى تحقيق صغرى الشرط الأول وانه متى يكون الحكم مترتبا على ذوات الاجزاء.

والنقطة الثالثة : فى تحقيق صغرى الشرط الثانى وانه متى يكون الشك فى البقاء محفوظا.

أما النقطة الاولى : فالمعروف بين المحققين انه متى كان الموضوع مركبا وافترضنا ان أحد جزئيه محرز بالوجدان أو بتعبد ما فبالامكان إجراء الاستصحاب فى الجزء الاخر ، لانه ينتهى الى أثر عملى وهو تنجيز الحكم المترتب على الموضوع المركب.

وقد يواجه ذلك باعتراض ، وهو ان دليل الاستصحاب مفاده جعل الحكم المماثل للمستصحب ، والمستصحب هنا وهو الجزء ليس له حكم ليجعل فى دليل الاستصحاب مماثلة ، وما له حكم وهو المركب ليس مصبّاً للاستصحاب.

٥٢٤

وهذا الاعتراض يقوم على الاساس القائل بجعل الحكم المماثل للمستصحب فى دليل الاستصحاب ، ولا موضع له على الاساس القائل بأنه يكفى فى تنجيز الحكم وصول كبراه ( الجعل ) وصغراه ( الموضوع ) كما عرفت سابقا ، إذ على هذا لا نحتاج فى جعل استصحاب الجزء ذا أثر عملى إلى التعبد بالحكم المماثل ، بل مجرد وصول أحد الجزئين تعبدا مع وصول الجزء الاخر بالوجدان كاف فى تنجيز الحكم الواصلة كبراه ، لأن احراز الموضوع بنفسه منجز لا بما هو طريق الى إثبات فعلية الحكم المترب عليه ، وبهذا نجيب على الاعتراض المذكور.

وأماإذا أخذنا بفكرة جعل الحكم المماثل فى دليل الاستصحاب فقد يصعب التخلص الفنى من الاعتراض المذكور وهناك ثلاثة اجوبة على هذا الاساس :

الجواب الاول : إن الحكم بعد وجود أحد جزئى موضوعه وجدانا لا يكون موقوفا شرعا الا على الجزء الاخر ، فيكون حكما له ويثبت بالاستصحاب هذا الجزء ما يماثل حكمه ظاهرا.

ونلاحظ على ذلك : ان مجرد تحقق أحد الجزئين وجدانا لا يخرجه عن الموضوعية واناطة الحكم به شرعا ، لان وجود الشرط للحكم لا يعنى بطلان الشركية ، فلا ينقلب الحكم الى كونه حكما للجزء الاخر خاصة.

الجواب الثانى : ان الحكم المترتب على الموضوع المركب ينحل تبعا لاجزاء موضوعه ، فينال كل جزء مرتبة وحصة من وجود الحكم ، واستصحاب الجزء يقتضى جعل المماثل لتلك المرتبة التى ينالها ذلك الجزء بالتحليل.

ونلاحظ على ذلك : ان هذا التقسيط تبعا لاجزاء الموضوع غير

٥٢٥

معقول ، لوضوح ان الحكم ليس له الا وجود واحد لا يتحقق الا عند تواجد تلك الأجزاء جميعا.

الجواب الثالث : إن كل جزء موضوع لحكم مشروط ، وهو الحكم بالوجوب مثلا على تقدير تحقق الجزء الاخر ، فاستصحاب الجزء يتكفل جعل الحكم المماثل لهذا الحكم المشروط.

ونلاحظ على ذلك : ان هذا الحكم المشروط ليس مجعولا من قبل الشارع ، وانما هو منتزع عن جعل الحكم على الموضوع المركب ، فيواجه نفس الاعتراض الذى واجهه الاستصحاب فى الاحكام المعلقة.

وأما النقطة الثانية : فقد ذكر المحقق النائينى رحمه الله (١) : ان الموضوع تارة يكون مركبا من العرض ومحله ، كالانسان العادل ، واخرى مركبا من عدم العرض ومحله ، كعدم القرشية والمرأة ، وثالثة مركبا على نحو آخر ، كالعرضين لمحل واحد ، مثل الاجتهاد والعدالة فى المفتى ، أو العرضين لمحلين ، كموت الأب واسلام الابن.

ففى الحالة الاولى يكون التقيد مأخوذا ، لأن العرض يلحظ بما هو وصف لمحله ومعروضه وحالة قائمة به ، فالاستصحاب يجرى فى نفس التقيدإذ كان له حالة سابقة.

وفى الحالة الثانية يكون تقيد المحل بعدم العرض مأخوذا فى الموضوع ، لان عدم العرض إذا أخذ مع موضوع ذلك العرض لوحظ بما هو نعت ووصف له ، وهو ما يسمى بالعدم النعتى تمييزا له عن العدم المحمولى الذى يلاحظ فيه العدم بما هو ويترتب على ذلك ان الاستصحاب انما

ــــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ص ٥٠٤.

٥٢٦

يجرى فى نفس التقيد والعدم النعتى ، لأنه الدخيل فى موضوع الحكم ، فاذا لم يكن العدم النعتى واجدا لركنى اليقين والشك وكان الركنان متوفرين فى العدم المحمولى لم يجر استصحابه ، لان العدم المحمولى لا اثر شرعى له بحسب الفرض.

ومن هنا ذهب المحقق النائينى (١) الى عدم جريان استصحاب عدم العرض المتيقن قبل وجود الموضوع ويسمى باستصحاب العدم الازلى فاذا شك فى نسب المرأة وقرشيتها لم يجر استصحاب عدم قرشيتها الثابت قبل وجودها ، لان هذا ادم محمولى وليس عدما نعتيا ، إذ ان العدم النعتى وصف والوصف لا يثبت الا عند ثبوت الموصوف ، فاذا اريد اجراء استصحاب العدم المحمولى لترتيب الحكم عليه مباشرة فهو متعذر ، لأن الحكم مترتب بحسب الفرض على العدم النعتى لا المحمولى. واذا اريد بذلك اثبات العدم النعتى ، لأن استمرار العدم المحمولى بعد وجود المرأة ملازم للعدم النعتى ، لأن استمرار العدم المحمولى بعد وجود المرأة ملازم للعدم النعتى ، فهذا أصل مثبت.

وأما فى الحالة الثالثة فلا موجب لافتراض أخذ التقيد واتصاف أحد جزئى الموضوع بالاخر ، لأن أحدهما ليس محلا وموضوعا للاخر ، بل بالامكان أن يفرض ترتب الحكم على ذات الجزئين ، وفى مثل ذلك يجرى استصحاب الجزئلتوفر الشرط الأول.

هذا موجز عما افاده المحقق النائينى رحمه الله نكتفى به على مستوى هذه الحلقة تاركين التفاصيل والمناقشات الى مستوى أعلى من الدراسة.

وأما النقطة الثالثة : فتوضيح الحال فيها ان الجزء الذى يراد اجراء

ــــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ص ٥٠٧.

٥٢٧

الاسصحاب فيه تارة يكون معلوم الثبوت سابقا ويشك فى بقاءه الى حين اجراء الاستصحاب. واخرى يكون معلوم الثبوت سابقا ويعلم بارتفاعه فعلا ولكن يشك فى بقائه فى فترة سابقة هى فترة تواجد الجزء الاخر من الموضوع. ومثاله الحكم بانفعال الماء ، فان موضوعه مركب من ملاقات النجس للماء وعدم كريته ، فنفترض ان الماء كان مسبوقا بعدم الكرية ويعلم الان بتبدل هذا العدم وصيرورته كرا ، ولكن يحتمل بقاء عدم الكرية فى فترة سابقة هى فترة حصول ملاقاة النجس لذلك الماء.

ففى الحالة الاولى لا شك فى توفر اليقين بالحدوث والشك فى البقاء ، فيجرى الاستصحاب.

وأما فى الحالة الثانية فقد يستشكل فى جريان الاستصحاب فى الجزء بدعوى عدم توفر الركن الثانى وهو الشك فى البقاء ، لانه معلوم الارتفاع فعلا بحسب الفرض فكيف يجرى استصحابه؟

وقد اتجه المحققون فى دفع هذا الاستشكال الى التمييز بين الزمان فى نفسه والزمان النسبى أيى زمان الجزء الاخر ، فيقال : ان اجزء المراد استصحابه إذا لوحظ حاله فى عمود الزمان المتصل الى الان فهو غير محتمل البقاء ، للعلم بارتفاعه فعلا. وإذا لوحظ حاله بالنسبة الى زمان الجزء الاخر فقد يكون مشكوك البقاء الى ذلك الزمان ، مثلا عدم الكرية فى المثال المذكور لا يحتمل بقاؤه الى الان ولكن يشكل فى بقاءه الى حين وقوع الملاقاة ، فيجرى استصحابه الى زمان وقوعها.

وتفصيل الكلام فى ذلك : انه إذا كان زمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه وهو عدم الكرية فى المثال معلوما ، وكان زمان تواجد الجزء الاخر وهو الملاقاة فى المثال معلوما أيضا ، فلا شك لكى يجرى

٥٢٨

الاستصحاب ، ولهذا لابد أن يفرض الجهل بكلا الزمانين ، أو بزمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه خاصة ، أو بزمان تواجد الجزء الاخر خاصة. فهذه ثلاث صور وقد اختلف المحققون فى حكمها ، فذهب جماعة من المحققين منهم السيد الاستاذ (١) إلى جريان الاستصحاب فى الصور الثلاث ، وإذا وجد له معارض سقط بالمعارضة.

وذهب بعض المحققين الى جريان الاستصحاب فى صورتين وهما : صورة الجهل بالزمانين أو الجهل بزمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه ، وعدم جريانه فى صورة العلم بزمان الارتفاع.

وذهب صاحب الكفاية (٢) الى جريان الاستصحاب فى صورة واحدة وهى صورة الجهل بزمان الارتفاع مع العلم بزمان تواجد الجزء الاخر ، وأما فى صورتى الجهل بكلا الزمانين أو العلم بزمان الارتفاع فلا يجرى الاستصحاب. فهذه أقوال ثلاثة :

أما القول الأول فقد علله اصحابه بما اشرنا اليه آنفا من أن بقاء الجزء المراد استصحابه الى زمان تواجد الجزء الاخر مشكوك حتى لو لم يكن هناك شك فى بقاءه إذ لوحظت قطعات الزمان بما هى ، كماإذا كان زمان الارتفاع معلوما ، ويكفى فى جريان الاستصحاب تحقق الشك فى البقاء بلحاظ الزمان النسبى ، لأن الاثر الشرعى مترتب على وجوده فى زمان وجود الجزء الاخر لا على وجوده فى ساعة كذا بعنوانها.

ونلاحظ على هذا القول ان زمان ارتفاع عدم الكرية فى المثال إذا كان معلوما فلا يمكن ان يجرى استصحاب عدم الكرية الى زمان

ــــــــــــــــ

(١) راجع : مصباح الاصول : ج ٣ ص ١٧٧.

(٢) راجع : كفاية الاصول : ج ٢ ص ٣٣٣.

٥٢٩

الملاقاة ، لان الحكم الشرعى إما أن يكون مترتبا على عدم الكرية فى زمان الملاقاة ، بما هو زمان الملاقاة ، أو على عدم الكرية فى واقع زمان الملاقاة ، بمعنى ان كلا الجزئين لوحظا فى زمان واحد دون أن يقيد أحدهما بزمان الاخر بعنوانه. فعلى الأول لا يجرى استصحاب بقاء الجزء فى جميع الصور ، لانه يفترض تقيده بزمان الجزء الاخر بهذا العنوان ، وهذا التقيد لا يثبت بالاستصحاب ، وقد شرطنا منذ البداية فى جريان استصحاب الجزء فى باب الموضوع المركبة عدم أخذ التقيد بين اجزائها فى موضوع الحكم.

وعلى الثانى لا يجرى استصحاب بقاء الجزء فيماإذا كان زمان الارتفاع معلوما ولنفرضه الظهر ، لأن استصحاب بقاءه إلى زمان وجود الملاقات التى هى الجزئ الاخر فى المثال إن اريد به استصحاب بقائه إلى الزمان المعنون بانه زمان الملاقاة بما هو زمان الملاقاة ، فهذا الزمان بهذا العنوان وإن كان يشك فى بقاء عدم الكرية إلى حينه ولكن المفروض انه لم يؤخذ عدم الكرية فى موضوع الحكم مقيدا بالوقوع فى زمان الجزء الاخر بما هو كذلك.

وان اريد به استصحاب بقاءه الى واقع زمان الملاقاة على نحو يكون قولنا ( زمان الملاقاة ) مجرد مشير الى واقع ذلك الزمان ، فهذا هو موضوع الحكم ولكن واقع هذا الزمان يحتمل أن يكون هو الزوال ، للتردد فى زمان الملاقاة ، والزوال زمان يعلم فيه بارتفاع عدم الكرية فلا يقين إذن بثبوت الشك فى البقاء فى الزمان الذى يراد جر المستصحب إليه.

وعلى هذا الضوء نعرف : ان ما ذهب اليه القول الثانى من عدم جريان استصحاب بقاء الجزء فى صورة العلم بزمان ارتفاعه هو الصحيح

٥٣٠

بالبيان الذى حققناه. ولكن هذا البيان يجرى بنفه أيضا فى بعض صور مجهولى التاريخ ، كماإذا كان زمان التردد فيهما متطابقا ، كماإذا كانت الملاقاة مرددة بين الساعة الواحدة والثانية ، وكذلك ارتفاع عدم الكرية بحدوث الكرية ، فان هذا يعنى ان ارتفاع عدم الكرية بحدوث الكرية مردد بين الساعة الاولى والثانية ، ولازم ذلك أن تكون الكرية معلة مة فى الساعة الثانية على كل حال وانما يشك فى حدوثها وعدمه فى الساعة الاولى ، ويعنى أيضا ان الملاقاة متواجدة إما فى الساعة الاولى أو فى الساعة الثانية ، فاذا استصحبت عدم الكرية الى واقع زمان تواجد الملاقاة فحيث ان هذا الواقع يحتمل أن يكون هو الساعة الثانية ، يلزم على هذا التقدير ان نكون قد تعبدنا ببقاء عدم الكرية الى الساعة الثانية مع انه معلوم الانتفاء فى هذه الساعة.

ومن هنا يتبين ان ما ذهب اليه القول الثالث من عدم جريان استصحاب بقاء عدم الكرية فى صورة الجهل بالزمانين وصورة العلم بزمان ارتفاع هذا العدم معا ، هو الصحيح.

وأما صورة الجهل بزمان الارتفاع مع العلم بزمان الملاقاة لا بأس بجريان استصحاب عدم الكرية فيها الى واقع زمان الملاقاة ، إذ لا علم بارتفاع هذا العدم فى واقع هذا الزمان جزما.

ولكننا نختلف عن القول الثالث فى بعض النقاط ، فنحن مثلا نرى جريان استصحاب عدم الكرية فى صورة الجهل بالزمانين مع افتراض ان فترة تردد زمان الارتفاع أوسع من فترة تردد حدوث الملاقاة فى المثال المذكور ، فاذا كانت الملاقاة مرددة بين الساعة الاولى والثانية ، وكان تبدل عدم الكرية بالكرية مرددا بين الساعات الاولى والثانية والثالثة

٥٣١

فلا محذور فى اجراء استصحاب عدم الكرية الى واقع زمان الملاقاة ، لانه على أبعد تقدير هو الساعة الثانية ، ولا علم بالارتفاع فى هذه الساعة ، لاحتمال حدوث الكرية فى الساعة الثالثة ، فليس من المحتمل أن يكون جر بقالء الجزء الى واقع زمان الجزء الاخر جرا له الى زمان اليقين بارتفاعه ابدا.

شبهة انفصال زمان الشك عن زمان اليقين :

بقى علينا أن نشير الى أن ما اخترناه وان كان قريبا جدا من القول الثالث الذى ذهب اليه صاحب الكفاية ، غير انه ( قدس الله نفسه ) قد فسر موقفه واستدل على قوله ببيان يختلف بظاهره عما ذكرناه ، إذ قال : بان استصحاب عدم الكرية انما لا يجرى فى حالة الجهل بالزمانين لعدم احراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، وقد فسر هذا الكلام بما يمكن توضيحه كما يلى :

إذا افترضنا ان الماء كان قليلا قبل الزوال ثم مرت ساعتان حدثت فى إحداهما الكرية وفى الاخرى الملاقاة للنجاسة ، فهذا يعنى ان كلا من حدوث الكرية والملاقاة معلوم فى احدى الساعتين بالعلم الاجمالى ، فهناك معلومان اجماليان واحدى الساعتين زمان احدهما والساعة الاخرى زمان الاخر ، وعليه فالملاقاة المعلومة إذا كانت قد حدثت فى الساعة الثانية فقد حدثت الكرية المعلومة فى الساعة الاولى ، وستصحاب عدم الكرية الى زمان الملاقاة على هذا التقدير يعنى ان زمان الشك الذى يراد جر عدم الكرية اليه هو الساعة الثانية وزمان اليقين بعدم الكرية هو ما قبل الزوال ، وأما الساعة الاولى فهى زمان

٥٣٢

الكرية المعلومة اجمالا ، وهذا يؤدى إلى افنصال زمان اليقين بعدم الكرية عن زمان الشك فيه بزمان اليقين بالكرية ، وما دام هذا التقدير محتملا فلا يجرى الاستصحاب لعدم ارحاز اتصال زمان الشك بزمان اليقين.

ونلاحظ على ذلك :

أولا : ان الساعة الاولى على هذا التقدير هى زمان الكرية واقعا لاز مان الكرية المعلومة بما هى معلومة ، لان العلم بالكرية كان على نحو العلم الاجمالى من ناحية الزمان وهو علم بالجامع فلا احتمال للانفصال اطلاقا.

وثانيا : ان البيان المذكور لو تم لمنع عن جريان استصحاب عدم الكرية حتى فى الصورة التى اختار صاحب الكفاية جريان الاستصحاب فيها ، وهى صورة الجهل بزمان حدوث الكرية مع العلم بزمان الملاقاة وانه الساعة الثانية مثلا ، لان الكرية معلومة بالاجمال فى هذه الصورة ويحتمل انطباقها على الساعة الاولى ، فاذا كان انطباق الكرية المعلومة بالاجمال على زمان يوجب تعذر استصحاب عدم الكرية الى ما بعد ذلك الزمان ، جرى ذلك فى هذه الصورة أيضا وتعذر ، استصحاب عدم الكرية الى الساعة الثانية ، لاحتمال الفصل بين زمان اليقين وزمان الشك بزمان العلم بالكرية.

وهناك تفسيرة خر لكلام صاحب الكفاة ى اثكر انسجاما مع عبارته ، ولنأخذ المثال السابق لتوضيحه وهو الماء الذى كان قليلا قبل الزوال ثم مرت ساعتان حدثت فى أل حداهما كلرية وفى الاخرى الملاقاة للنجاسة ، وحاصل التفسير ان ظرف اليقين بعدم الكرية فى هذا المثال هو ما قبل

٥٣٣

الزوال ، وظرف الشك مردد بين الساعة الاولى بعد الزوال والساعة الثانية ، لان عدم الكرية له اعتباران ، فتارة نأخذه بما هو مقيس الى قطعات الزمان وبصورة مستقلة عن الملاقاة. واخرى ناخذه بما هو مقيس الى زمان الملاقاة ومقيد به :

فاذا أخذناه بالاعتبار الأول وجدنا ان الشك فيه موجود فى الساعة الاولى وهى متصلة بزمان اليقين مباشرة ، فبالامكان أن نستصحب عدم الكرية الى نهاية الساعة الاولى ، ولكن هذا لا يفيدنا شيئا لان الحكم الشرعى وهو انفعال الماء ليس مترتبا على مجرد عدم الكرية بل على عدم الكرية فى زمان الملاقاة.

واذا أخذنا عدم الكرية بالاعتبار الثانى أى مقيسا ومنسوبا الى زمان الملاقاة فمن الواضح ان الشك فيه انما يكون فى زمان الملاقاة ، إذ لا يمكن الشك قبل زمان الملاقاة فى عدم الكرية المنسوب الى زمان الملاقة ، واذا تحقق ان زمان الملاقة هو زمان الشك ترتب على ذلك ان زمان الشك مردد بين الساعة الاولى والساعة الثانية تبعا لتردد نفس زمان الملاقاة بين الساعتين ، وهذا يعنى عدم احراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين لان زمان اليقين ما قبل الزوال وزمان الشك محتمل الانطباق على الساعة الثانية ومع انطباقه عليها يكون مفصولا عن زمان اليقين بالساعة الاولى.

ونلاحظ على ذلك :

أولا : ان الاثر الشرعى اذا كان مترتبا على عدم الكرية المقيد بالملاقاة ، أى على اجتماع أحدهما بالاخر ، فقد يتبادر الى الذهن ان الشك فى هذا العدم المقيد بالملاقاة لا يكون الا فى زمان الملاقاة ، وأما

٥٣٤

الشك قبل زمان الملاقاة فى عدم الكرية فهو ليس شكا فى عدم الكرية المقيد بالملاقاة.

ولكن الصحيح ان الاثر الشرعى مترتب على عدم الكرية والملاقاة بنحو التركيب بدون أخذ التقيد والاجتماع ط والا لما جرى استصحاب عدم الكرية رأسا ، كما تقدم. وهذا يعنى ان عدم الكرية بذاته جزء الموضوع لا فرق فى ذلك بين ما كان منه فى زمان الملاقاة أو قبل زمانها ، غير أنه فى زمانها يكون الجزء الاخر موجودا أيضا ، وعليه فعدم الكرية مشكوك منذ الزوال والى زمان الملاقاة.

وان كان الاثر الشرعى لا يترتب فعلا الا اذا استمر هذا العدم الى زمان الملاقاة ، فيجرى استصحاب عدم الكرية من حين ابتداء الشك فى ذلك الى الزمان الواقعى للملاقاة ، وبهذا نثبت بالاستصحاب عدما للكرية متصلا بالعدم المتيقن ، وان كان الاثر الشرعى لا يترتب على هذا العدم الا فى مرحلة زمنية معينة قد تكون متأخرة عن زمان اليقين ، فان المناط اتصال المشكوك الذى يراد اثباته استصحابا بالمتيقن لا اتصال فترة ترتب الأثر بالمتيقن ، فاذا كنت على يقين من اجتهاد زيد فجرا ، وشككت فى بقاء اجتهاده بعد طلوع الشمس ، ولم يكن الأثر الشرعى مترتبا على اجتهاده عند الطلوع ، إذ لم يكن عادلا وانما أصبح عادلا بعد ساعتين ، أفلا يجرى استصحاب الاجتهاد الى ساعتين بعد طلوع الشمس؟ فكذلك فى المقام.

ثانيا : ان ما ذكر لو تم لمنع عن جريان استصحاب عدم الكرية فيما اذا كان زمان حدوثها مجهولا مع العلم بتاريخ الملاقاة ، كما اذا كان عدم الكرية وعدم الملاقاة معلوين عند الزوال وحدثت الملاقاة بعد

٥٣٥

ساعة ولا يدرى متى حدثت الكرية ، فان استصحاب عدم الكرية الى زمان الملاقاة يجرى عند صاحب الكفاية ، مع انه يواجه نفس الشبهة الانفة الذكر ، لأن الشك فى عدم الكرية المنسوب الى زمان الملاقاة انما هو فى زمان الملاقاة بحسب تصور هذا الشبهة ، أى بعد ساعة من الزوال مع ان زمان اليقين بعد الكرية هو الزوال.

ولا نرى حاجة للتوسع أكثر من هذا فى استيعاب نكات الاستصحاب فى الموضوعات المركبة ، كما أن ما تقدم من بحوث الاستصحاب أحاط بالمهم من مسائله ، وهناك مسائل فى الاستصحاب لم نتناولها بالحبث هنا كالاستصحاب فى الامور التدريجية ، والأصل السببى والمسببى وذلك اكتفاء بما تقدم من حديث عن ذلك فى الحلقة السابقة وبذلك نختم الكلام عن الاصول العملية.

٥٣٦

الخاتمه فى تعارض الادلة

٥٣٧
٥٣٨

الحلقة الثالثة

٣

١ ـ تمهيد.

٢ ـ قاعدة الجمع العرفى.

٣ ـ التعارض المستقر على ضوء دليل الحجية.

٤ ـ حكم التعارض على ضوء الاخبار الخاصة.

٥٣٩
٥٤٠