دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

وهذا البيان يتوقف كما ترى على عدم استظهار الاطلاق اللفظى فى نفسه ، وظهور اللام فى كلمتى ( اليقين ) و( الشك ) فى الجنس.

الثانى : أن يسلم بالاطلاق اللفظى فى نفسه ولكن يدعى وجود قرنية متصلة على تقييده ، وهى كلمة ( النقض ) حيث انها لا تصدق فى موارد الشك فى المقتضى. وقد تقدم تحقيق الكلام فى ذلك فى الحلقة السابقة (١) واتضح ان كلمة ( النقض ) لا تصلح للتقييد.

والقول الاخر : ما ذهب اليه السيد الاستاذ (٢) من عدم جريان الاستصحاب فى الشبهات الحكمية واختصاصه بالشبهات الموضوعية ، وذلك بعد الاعتراف باطلاق دليل الاستصحاب فى نفسه لكلا القسمين من الشبهات بدعوى ان عدم جريان الاستصحاب فى الشبهة الحكمية ينشأ من التعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل.

وتوضيح ذلك ان الحكم الشرعى كما تقدم فى محله ينحل الى جعل ومجعول ، والشك فيه تارة يكون مصبه الجعل واخرى يكون مصبه المجعول ، فالنحو الأول من الشك : يعنى ان الجعل قد تعلق بحكم محدد واضح بكل ما له دخل فيه من الخصوصيات ، غير ان المكلف يشك فى بقاء نفس الجعل ويحتمل ان المولى ألغاه ورفع يده عنه ، وهذا هو النسخ بالمعنى الحقيقى فى عالم الجعل. والنحو الثانى من الشك : يعنى ان الجعل ثابت ولا يحتمل نسخه غير ان الشك فى مجعوله والحكم المنشأ به ، فلا يعلم مثلا هل ان المولى جعل النجاسة على الماء المتغير حتى إذا زال

ــــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٤٣٦.

(٢) مصباح الاصول : ج ٣ ص ٣٦.

٥٠١

تغيره من قبل نفسه ، أو جعل النجاسة منوطة بفترة التغير الفعلى ، فالمجعول مردد بين فترة طويلة وفترة قصيرة ، وكلما كان المجعول مرددا كذلك ، كان الجعل مرددا لا محالة بين الاقل والاكثر ، لان جعل النجاسة للفترة القصيرة معلوم وجعل النجاسة للفترة الاضافية مشكوك.

ففى النحو الأول من الشك إذا كان ممكنا يجرى استصحاب بقاء الجعل. واما فى النحو الثانى من الشك فيوجد استصحابان متعارضان : أحدهما استصحاب بقاء المجعلو ، أى بقاء النجاسة فى الماء بعد زوال التغير مثلا ، لانها معلومة حدوثا ومشكوكة بقاء ، والاخر استصحاب عدم جعل الزائدن أى عدم جعل نجاسة الفترة الاضافية مثلا ، لما اوضحناه من أن تردد المجعول يساوق الشك فى الجعل الزائد. وهذان الاستصحابان يسقطان بالمعارضة ، فلا يجرى استصحاب الحكم فى الشبهات الحكمية.

ولكى نعرف الجواب على شبهة المعارضة هذه ينبغى أن نفهم كيف يجرى استصحاب المجعول فى الشبهة الحكمية بحد ذاته قبل أن نصل الى دعوى معارضته بغيره. فنقول : ان استصحاب المجعول نحوان : أحدهما استصحاب المجعول الفعلى التابع لفعلية موضوعه المقدر الوجود فى جعله ، وهو لا يتحقق ولا يتصف باليقين بالحدوث والشك فى البقاءإلا بعد تحقق موضوعه خارجا ، فنجاسة الماء المتغير لا تكون فعلية إلا بعد وجود ماء متغير بالفعل ، ولا تتصف بالشك فى البقاءإلا بعد أن يزول التغير عن الماء فعلا وحينئذ يجرى استصحاب النجاسة الفعلية.

واستصحاب المجعول بهذا المعنى يتوقف جريانه كما ترى على

٥٠٢

وجود الموضوع ، وهذا يعنى انه لا يجرى بمجرد اتفراض المسألة على وجه كلى والالتفات الى حكم الشارع بنجاسة الماء المتغير. ويقضى ذلك بأن اجراء الاستصحاب من شأن المكلف المبتلى بالواقعة خارجا ، لا من شأن المجتهد الذى يستنبط حكمها على وجه كلى ، فالمجتهد يفتيه بجريان الاستصحاب فى حقه عند تمامية الاركان ، لا ان المجتهد يجريه ويفتى المكلف بمفاده.

والنحو الاخر لا ستصحاب المجعول : هوإجراء الاستصحاب فى المجعول الكلى على نحو تتم أركانه بمجرد التفات الفقيه الى حكم الشارع بنجاسة الماء التغير وشكه فى شمول هذه النجاسة لفترة ما بعد زوال التغير ، وعلى هذا الاساس يجرى الاستصحاب بدون توقف على وجود الموضوع خارجا ، ومن هنا كان بامكان المجتهد اجراؤه والاستناد اليه فى افتاء المكلف بمضمونه.

ولا شك فى انعقاد بناء الفقهاء والارتكاز العرفى على استفادة هذا النحو من استصحاب المجعول من دليل الاستصحاب ، غير انه قد يستشكل فى النحو المذكور بدعوى ان المجعول الفعلى التابع لوجود موضوعه له حدوث وبقاء تبعا لموضوعه ، وأما المجعول الكلى فليس له حدوث وبقاء بل تمام حصصه ثابتة ثبوتا عرضيا آنيا بنفس الجعل بلا تقدم وتأخر زمانى ، وهذا يعنى انا كلما لاحظنا المجعول على نهج كلى لم يكن هناك يقين بالحدوث وشك فى البقاء ليجرى الاستصحاب. فأركان الاستصحاب انما تتم فى المجعول بالنحو الأول لا الثانى. وقد أشرنا سابقاإلى هذا الاستشكال وعل قنا عليه بما يوحى باجراء استصحاب المجعول على النحو الأول ، غير ان هذا اكان تعليقا موقتا الى أن يحين

٥٠٣

الوقت المناسب.

وأما الصحيح فى الجواب فهو : ان المجعول الكلى وهو نجاسة الماء المتغير مثلا يمكن أن ينظر اليه بنظرين ، أحدهما : النظر اليه بما هو أمر ذهنى مجعول فى افق الاعتبار ، والاخر : النظر اليه بما هو صفة للماء الخارجى ، فهو بالحمل الشائع أمر ذهنى وبالحمل الاولى صفة للماء الخارجى. وبالنظر الأول ليس له حدوث وبقاء ، لأنه موجود بتمام حصصه بالجعل في آن واحد ، وبالنظر الثانى له حدوث وبقاء. وحيث ان هذا النظر هو النظر العرفى فى مقام تطبيق دليل الاستصحاب فيجرى استصحاب المجعول بالنحو الثانى لتمامية أركانه.

اذا اتضح ذلك فنقول لشبهة المعارضة بانه فى تطبيق دليل الاستصحاب على الحكم الكلى فى الشبهة الحكمية لا يعقل تحكيم كلا النظرين ، لتهافتهما ، فان سلم بالاخذ بالنظر الثانى تعين اجراء استصحاب المجعول ولم يجر استصحاب عدم الجعل الزائد ، إذ بهذا النظر لا نرى جعلا ومجعولا ولا أمرا ذهنيا ، بل صفة لأمر خارجى لها حدوث وبقاء. وان ادعى الأخذ بالنظر الأول فاستصحاب المجعول بالنحو الثانى الذى يكون من شأن المجتهد إجراؤه لا يجرى فى نفسه ، لا انه يسقط بالمعارضة.

إن قيل : لماذا لا نحكم كلا النظرين ونلتزم باجراء استصحاب عدم الجعل الزائد ، تحكيما للنظر الأول فى تطبيق دليل الاستصحاب ، واجراء استصحاب المجعول ، تحكيما للنظر الثانى ، ويتعارض الاستصحابان.

كان الجواب : إن التعارض لا نواجهه ابتداء فى مرحلة اجراء الاستصحاب بعد الفراغ عن تحكيم كلا النظرين ، وانما نواجهه فى مرتبة

٥٠٤

أسبق ، أى فى مرحلة تحكيم هذين النظرين ، فانهما لتهافتهما ينفى كل منهما ما يثبته الاخر من الشك فى البقاء ، ومع تهافت النظرين فى نفسيهما يستحيل تحكيمهما معا على دليل الاستصحاب لكى تنتهى النوبة إلى التعارض بين الاستصحابين ، بل لابد من جرى الدليل على أحد النظرين وهو النظر الذى يساعد عليه العرف خاصة.

٥٠٥

تطبيقات

١ ـ استصحاب الحكم المعلق

قد نحرز كون الحكم منوطا فى مقام جعله بخصوصيتين وهناك خصوصية ثالثة يحتمل دخلها فى الحكم أيضا ، وفى هذه الحالة يمكن أن نفترض : ان إحدى تلك الخصوصيتين معلومة الثبوت ، والثانية معلومة الانتفاء ، وأما الخصوصية الثالثة المحتمل دخلها فهى ثابتة. وهذا الافتراض يعنى ان الحكم ليس فعليا ولكنه يعلم بثبوته على تقدير وجود الخصوصية الثانية ، فالمعلوم هو الحكم المعلق والقضية الشرطية. فاذا افترضنا ان الخصوصية الثانية وجدت بعد ذلك ولكن بعد أن زالت الخصوصية الثالثة ، حصل الشك فى بقاء تلك القضية الشرطية ، لا حتمال دخل الخصوصية الثالثة فى الحكم.

وهنا تأتى الحاجة الى البحث عن إمكان استصحاب الحكم المعلق ، ومثال ذلك : حرمة العصير العنبى المنوكة بالعنب وبالغليان ويحتمل دخل الرطوبة وعدم الجفاف فيها : فاذا جف العنب ثم غلى كان موردا لاستصحاب الحرمة المعلقة على الغليان.

وقد وجه الى هذا الاستصحاب ثلاثة اعتراضات :

٥٠٦

الاعتراض الأول : ان أركان الاستصحاب غير تامة ، لأن الجعل لا شك فى بقائه ، والمجعول لا يقين بحدوثه ، والحرمة على نهج القضية الشرطية أمر منتزع عن جعل الحرمة على موضوعها المقدر الوجود ولا أثر للتعبد به. ومن أجل هذا الاعتراض بنت مدرسة المحقق النائينى (١) على عدم جريان الاستصحاب فى الحكم المعلق.

وقد يجاب على ذلك بجوابين :

أحدهما : انا نستصحب سببية الغليان للحرمة ، وهى حكم وضعى فعلى معلوم حدوثا ومشكوك بقاء.

والرد على هذا الجواب : انه إن اريد باستصحاب السببية اثبات الحرمة فعلا فهو غير ممكن ، لان الحرمة ليست من الاثار الشرعية للسببية بل من الاثار الشرعية لذات السبب الذى رتب الشارع عليه الحرمة. وإن اريد بذلك الاقتصار على التعبد بالسببية فهو لغو ، لانها بعنوانها لا تصلح للمنجزية والمعذرية.

والجواب الاخر : لمدرسة المحقق العراقى (٢) ، وهو يقول : ان الاعتراض المذكور يقوم على اساس ان المجعول لا يكون فعلياإلا بوجود تمام أجزاء الموضوع خارجا ، فانه حينئذ يتعذر استصحاب المجعول فى المقام ، إذ لم يصبح فعليا ليستصحب. ولكن الصحيح ان المجعول ثابت بثبوت الجعل ، ولانه منوط بالوجود اللحاظى للموضوع. لا بوجوده الخارجى فهو فعلى قبل تحقق الموضوع خارجا.

وقد أردف المحقق العراقى ناقضا على المحقق النائينى بانه أليس

ــــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ص ٤٦٦.

(٢) نهاية الافكار : القسم الاول من الجزء الرابع ص ١٦٧.

٥٠٧

المجتهد يجرى الاستصحاب فى المجعول الكلى قبل أن يتحقق الموضوع خارجا؟!

ونلاحظ على الجواب المذكور : ان المجعول إذا لوحظ بما هو أمر ذهنى فهو نفس الجعل المنوط بالوجود اللحاظى للشرط وللموضوع على ما تقدم فى الواجب المشروط ، إلا ان المجعول حينئذ لا يجرى فيه استصحاب الحكم بهذا اللحاظ ، إذ لا شك فى البقاء وانما الشك فى حدوث الجعل الزائد على ما عرفت سابقا. وإذا لوحظ المجعول بما هو صفة للموضوع الخارجى فهو منوط فى هذا اللحاظ بالخارج ، فما لم يوجد الموضوع بالكامل ولو تقديرا وافتراضا لا يرى للمجعول فعلية لكى يستحصب.

ومن ذلك يعرف حال النقض المذكور ، فان المجتهد يفترض تحقق الموضوع بالكامل فيشك فى البقاء مبنايا على هذا الفرض ، وأين هذا من إجراء استصحاب الحكم بمجرد افتراض جزء الموضوع؟. وبكلمة اخرى : ان كفاية ثبوت المجعول بتقدير وجود موضوعه فى تصحيح استصحابه شىء ، وكفاية الثبوت التقديرى لنف سالمجعول فى تصحيح استصحاب دون تواجد تمام الموضوع لا خارجا ولا تقديرا ، شىء آخر.

والتحقيق : ان إناطة الحكم بالخصوصية الثانية فى مقام الجعل تارة تكون فى عرض إناطته بالخصوصية الاولى ، بأن قيل : ( العنب المغلى حرام ) واخرى تكون على نحو مترتب وطولى بمعنى ان الحكم يقيد بالخصوصية الثانية وبما هو مقيد بها يناط بالخصوصية الاولى ، بأن قيل : ( العنب إذا غلى حرم ) فان العنب هنا يكون موضوعا للحرمة المنوطة بالغليان ، خلافا للفرضية الاولى التى كان العنب المغلى بما هو كذلك موضوعا للحرمة.

٥٠٨

ففى الحالة الاولى يتجه الاعتراض المذكور ، ولا يجرى الاستصحاب فى القضية الشرطية ، لانها أم منتزع عن الجعل وليست هى الحكم المجعول. وأما فى الحالة الثانية فلا بأس بجريان الاستصحاب فى نفس القضية الشرطية ومرتبة على عنوان العنب ، فالعنب موضوع للقضية الشرطية حدوثا يقينا ويشك فى استمرار ذلك بقاء فتستصحب.

الاعتراض الثانى : اناإذا سلمنا تواجد ركنى الاستصحاب فى القضية الشركية فلا نسلم جريان الاستصحاب مع ذلك ، لانه انما يثبت الحكم المشروط وهو لا يقبل التنجز. وأما ما يقبل التنجز فهو الحكم الفعلى ، فما لم يكن المجعول فعليا لا يتنجز الحكم ، واثبات فعلية المجعول عند وجود الشرك باستصحاب الحكم المشروك متعذر ، لان ترتب فعلية المجعول عند وجود الشرط على ثبوت الحكم المشروط عقلى وليس شرعيا.

ونلاحظ على ذلك :

أولا : انه يكفى فى التنجيز ايصال الحكم المشروط مع إحراز الشرط ، لأن وصول الكبرى والصغرى معا كاف لحكم العقل بوجوب الامتثال.

وثانيا : ان دليل الاستصحاب إذا بنينا على تكلفه لجعل الحكم المماثل كان مفاده فى المقام ثبوت حكم مشروط ظاهرى ، وتحول هذا الحكم الظاهرى الى فعلى عند وجود الشرط ، لازم عقلى لنفس الحكم الاستصحابى المذكور لا للمستصحب ، وقد مر بنا سابقا ان اللوازم العقلية لنفس الاستصحاب تترتب عليه بلا اشكال.

الاعتراض الثالث : ان استصحاب الحكم المعلق معارض باستصحاب الحكم المنجز ، ففى مثال العنب كما يعلم بالحرمة المعلقة

٥٠٩

على الغليان سابقا ، كذلك يعلم بالحلية الفعلية المنجزة قبل الغليان فتستصحب ، ويتعارض الاستصحابان.

وقد يجاب على ذلك بجوابين :

أحدهما : ما ذكره صاحب الكفاية (١) من أنه لا معارضة بين الاستصحابين ، إذ كما ان الحرمة كانت معلقة فتستصحب بما هى معلقة ، كذلك الحلية كانت فى العنب مقياة بالغليان فتستصحب بما هى مغياة ، ولا تنافى بين حلية مغياة وحرمة معلقة على الغاية.

ونلاحظ على ذلك : ان الحلية التى نريد استصحابها هى الحلية الثابتة بعد الجفاف وقبل الغليان ، ولا علم بأنها مغياة ، لاحتمال عدم الحرمة بالغليان بعد الجفاف ، فنستصحب ذات هذه الحلية.

فان قيل : ان الحلية الثابتة قبل الجفاف نعلم بأنها مغياة ، ونشك فى تبدلها الى الحلية غير المغياة بالجفاف ، فنستصحب تلك الحلية المغياة المعلة مة قبل الجفاف.

كان الجواب : ان استصحابها لا يعين حال الحلية المعلومة بعد الجفاف ، ولا يثبت انها مغياة إلا بالملازمة ، للعلم بعدم إمكان وجود حليتين ، وما دامت الحلية المعلومة بعد الجفاف لا مثبت لكونها مغياة ، فبالامكان استصحاب ذاتها الى ما بعد الغليان.

والجواب الاخر : ما ذكره الشيخ الأنصارى (٢) والمحقق النائيى (٣) من ان الاستحصاب التعليقى حاكم على الاستصحاب التنجيزى.

ــــــــــــــــ

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ص ٣٢٢.

(٢) فوائد الاصول : ص ٦٥٤.

(٣) فوائد الاصول : ج ٤ ص ٤٧٣.

٥١٠

ويمكن ان يقال فى توجيه ذلك : ان استصحاب القضية الشرطية للحكم إما أن يثبت فعلية الحكم عند تحقق الشرط ، وإما ان لا يثبت ذلك. فان لم يثبت لم يجر فى نفسه ، إذ أى أثر لاثبات حكم مشروط لا ينتهى الى الفعلية. وإن أثبت ذلك تم الملاك لتقديم استصحاب الحكم المعلق على استصحاب الحكم المنجز وحكومته عليه ، وفقا للقاعدة المتقدمة فى الحلقة السابقة (١) القائلة : انه كلما كان أحد الأصلين يعالج مورد الاصل الثانى دون العكس ، قدم الاصل الأول على الثانى ، فان مورد الاستصحاب التنجيزى مرحلة الحكم الفعلى ، ومورد استصحاب المعلق مرحلة الثبوت التقديرى للحكم ، والمفروض ان استصحاب المعلق يثبت حرمة فعلية وهو معنى نفى الحلية الفعلية ، وأما استصحاب الحلية الفعلية فلا ينفى الحرمة المعلقة ولا يتعرض الى الثبوت التقديرى.

ونلاحظ على ذلك : ان هذا لا يتم عند من لا يثبت الفعلية باستصحاب القضية المشروطة ويرى كفاية وصول الكبرى والصغرى فى حكم العقل بوجوب الامتثال ، فان استصحاب الحكم المعلق على هذا الاساس لا يعالج مورد الاستصحاب الاخر ليكون حاكما عليه.

ــــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٤٤٨.

٥١١

٢ ـ استصحاب عدم النسخ

تقدم فى الحلقة السابقة (١) ان النسخ بمعناه الحقيقى مستحيل بالنسبة الى مبادىء الحكم ، ومعقول بالنسبة الى الحكم فى عالم الجعل ، وعليه فالشك فى النسخ بالنسبة الى عالم الجعل يتصور على نحوين :

الأول : أن يشك فى بقاء نفس الجعل وعدمه ، بمعنى احتمال الغاء المولى له.

الثانى : أن يشك فى سعة المجعول وشموله من الناحية الزمانية بمعنى احتمال ان الجعل تعلق بالحكم المقيد بزمان قد انتهى أمده.

فاذا كان الشك من النحو الأول فلا شك فى امكان اجراء الاستصحاب ، لتمامية اركانه ، غير ان هنا شبهة قد تمنع عن جريانه على اساس ان ترتب المجعول على الجعل ليس شرعيا بل عقليا فاثباته باستصحاب الجعل غير ممكن.

والجواب : انا لسنا بحاجة الى اثبات شىء وراء الجعل فى مقام التنجيز ، لما تقدم من كفاية وصول الكبرى والصغرى ، وعليه

ــــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٣٥٩.

٥١٢

فالاستصحاب يجرى خلافا للاصل اللفظى بمعنى اطلاق الدليل ، فانه لا يمكن التمسك به لنفى النسخ بهذا المعنى.

وإذا كان الشك من النحو الثانى فلا شك فى امكان التمسك باطلاث الدليل لنفيه ، ولكن جريان الاستصحاب موضع بحث ، وذلك لا مكان دعوى ان المتيقن ثبوت الحكم على المكلفين فى الزمان الأول ، والمشكوك ثبوته على أفرادة خرين ، وهم المكلفون الذين يعيشون فى الزمان الثانى ، فمعروض الحكم متعددإلا بالنسبة الى شخص عاش كلا الزمانين بشخصه.

وعلاج ذلك ان الحكم المشكوك فى نسخه ليس مجعولا على نحو القضية الخارجية التى تنصب على الافراد المحققة خارجا مباشرة ، بل على نحو القضية الحقيقية التى ينصب فيها الحكم على الموضوع الكلى المقدر الوجود ، وفى هذه المرحلة لا فارق بين القضية المتيقنة والقضية المشكوكة موضوعا الا من ناحية الزمان وتأخر الموضوع للقضية المشكوكة زمانا عن الموضوع للقضية المتيقنة ، وهذا يكفى لانتزاع عنوانى الحدوث والبقاء عرفا على نحو يعتبر الشك المفروض شكا فى بقاء ما كان فيجرى الاستصحاب.

والاستصحاب على هذا الضوء استصحاب تنجيزى مفاده التعبد ببقاء المجعول الكلى الملحوط بما هو صفة لطبيعى المكلف ، وبالامكان التعويض عنه باستصحاب الحكم المعلق ، بأن يشار الى الفرد المكلف المتأخر زمانا ويقال : ان هذا كان حكمه كذا على تقدير وجوده ولا يزال كما كان ، وبذلك يتم التخلص عن مشكلة تعدد معروض الحكم.

لكن توجد مشكلة اخرى يواجهها الاستصحاب فى المقام سواء

٥١٣

أجرى بصيغته التنجيزية او التعليقية ، وهى : انه معارض باستصحاب العدم المنجز الثابت لاحاد المكلفين الذين يعيشون فى الزمان المحتمل وقوع النسخ فيه ، وهذا يشبه الاعتراض على الاستصحاب التعليقى عموما بمعارضته بالاستصحاب التنجيزى.

٥١٤

٣ ـ استصحاب الكلى

استصحاب الكلى هو التعبد ببقاء الجامع بين فردين من الحكم أو الجامع بين شيئين خارجيين إذا كان له أثر شرعى. والكلام فيه يقع فى جهتين :

الجهة الاولى : فى أصل اجراء استصحاب الكلى ، إذ قد يعترض على ذلك فى باب الاحكام تارة وفى باب الموضوعات اخرى :

أما فى باب الاحكام فالاعتراض ينشأ من المبنى القائل بأن المجعول فى دليل الاستصحاب هو الحكم المماثل للمستصحب ، فيقال حينئذ : ان المستصحب إذا كان هو الجامع بين الوجوب والاستحباب أو بين وجوبين اقتضى ذلك جعل المماثل له بدليل الاستصحاب ، وهو باطل لأن الجامع بحده لا يعقل جعله ، إذ يستحيل وجود الجامع إلا فى ضمن فرده ، والجامع فى ضمن أحد فرديه بالخصوص ليس محطا للاستصحاب ليكون مصبا للتعبد الاستصحابى.

وهذا الاعتراض يتوقف على قبول المبنى المشار اليه ، أماإذا انكرناه وفرضنا ان مفاد دليل الاستصحاب إبقاء اليقين بمعنى من المعانيى ،

٥١٥

فيمكن افتراض إبقاءه بقدر الجامع ، فيكون بمثابة العلم الاجمالى المتعلق بالجامع.

وأما فى باب الموضوعات فالاعتراض ينشأ من أن الاثر الشرعى مترتب على افراد الجامع لا على الجامع بعنوانه فلا يترتب على استصحابه أثر.

والجواب : انه إن اريد ان الحكم الشرعى فى لسان دليله مترتب على العنوانين التفصيلين للفردين ، فيرد عليه : انا نفرض الحكم فيماإذا رتب فى لسان الدليل على عنوان الجامع بين الفردين ، كحرمة المس المرتبة على جامع الحدث.

وإن سلم ترتب الحكم فى دليله على الجامع ، وادعى ان الجامع إنما يؤخذ موضوعا بما هو معبر عن الخارج لا بما هو مفهوم ذهنى ، فلابد من اجراء الاستصحاب فيما أخذ الجامع معبرا عنه ومرآة له وهو الخارج وليس فى الخارج إلا الفرد ، فيرد عليه : ان موضوع الحكم وان كان هو الجامع والمفهوم بما هو مرآة للخارج لا باعتباره أمرا ذهنيا ، إلا ان الاستصحاب يجرى فى الجامع بما هو مرآة للخارج أيضا ، ولا معنى لجريانه فى الخارج ابتداء بلا توسط عنوان من العناوين ، لأن الاستصحاب حكم شرعى ولابد أن ينصب التعبد فيه على عنوان ، وكما ان العنوان التفصيلى يجرى فيه الاستصحاب بما هو مرآة للخارج ، كذلك العنوان الاجمالى الكلى.

وبما ذكرناه ظهر الفارق الحقيقى بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلى ، مع أن التوجه فى كل منهماإلى اثبات واقع خارجى واحد ، حيث ان الكلى موجود بعين وجود الفرد ، وهذا الفارق هو ان الاستصحاب

٥١٦

باعتباره حكما منجزا وموصلا للواقع فهو انما يتعلق به بتوسط عنوان من عناوينه وصورة من صوره ، فان كان مصب التعبد هو الواقع المرئى بعنوان تفصيلى مشير اليه فهذا استصحاب الفرد ، وان كان مصبه الواقع المرئى بعنوان جامع مشير اليه فهذا هو استصحاب الكلى ، على الرغم من وحدة الواقع المشار اليه بكلا العنوانين. والذى يحدد اجراء الاستصحاب بهذا النحو أو بذاك كيفية اخذ الاثر الشرعى فى لسان دليله.

وعلى هذا الضوء يتضح ان التفرقة بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلى لا تتوقف على دعوى التعدد فى الواقع الخارجى وان للكلى واقعا وسيعا منحازا عن واقعيات الافراد على طريقة الرجل الهمدانى فى تصور الكلى الطبيعى وهى دعوى باطلة لما ثبت فى محله من أن الكلى موجود بعين وجود الافراد.

كما انه لا موجب لارجاع الكلى فى مقام التفرقة المذكة ر الى الحصة ، ودعوى ان كل فرد يشتمل على حصة من الكلى ومشخصات عرضية ، واستصحاب الكلى عبارة عن استصحاب ذات الحصة ، واستصحاب الفرد عبارة عن استصحاب الحصة مع المشخصات ، بل الصحيح فى التفرقة ما ذكرناه.

الجهة الثانية : فى اقسام استصحاب الكلى.

يمكن تقسيم الشك فى بقاء الكلى الى قسمين :

أحدهما : الشك فى بقاء الكلى غير الناشىء من الشك فى حدوث الفرد.

والاخر : الشك فى بقائه الناشىء من الشك فى حدوث الفرد ، ومثال الأول : أن يعلم بدخول الانسان ضمن زيد فى المسجد ويشك فى

٥١٧

خروجه.

ومثال الثانى : أن يعلم بحدث مردد بين الاصغر والاكبر ويشك فى ارتفاعه بعد الوضوء ، فان الشك مسبب عن الشك فى حدوث الاكبر.

اما القسم الأول فله حالتان :

الاولى : أن يكون الكلى معلوما تفصيلا ويشك فى بقائه ، كما فى المثال المذكور ، حيث يعلم بوجود زيد تفصيلاص. وهناإذا كان الاثر الشرعى مترتبا على الجامع جرى استصحاب الكلى.

واستصحاب الكلى فى هذه الحالة جار على كل حال ، سواء فسرنا استصحاب الكلى وفرقنا بينه وبين استصحاب الفرد على أساس كون المستصحب الوجود السعى للكلى على طريقة الرجل الهمدانى ، أو الحصة ، أو الخارج بمقدار مرآتية العنوان الكلى على ما تقدم فى الجهة السابقة إذ على كل هذه الوجوه تعتبر أركان الاستصحاب تامة.

الثانية : ان يكون الكلى معلوما اجمالا ويشك فى بقائه على كلا تقديريه ، كما إذا علم بوجود زيد أو خالد فى المسجد ويشك فى بقائه سواء كان زيدا أو خالدا ، فيجرى استصحاب الجامع إذا كان الاثر الشرعى مترتبا عليه. ولا اشكال فى ذلك بناء على إرجاع استصحاب الكلى الى استصحاب الوجود السعى له على طريقة الرجل الهمدانى ، وبناء على المختار من إرجاعه الى استصحاب الواقع بمقدار مرآتية العنوان الاجمالى. وأما بناء على إرجاعه الى استصحاب الحصة فقد يستشكل بأنه لا يقين بحدوث أيى واحدة من الحصتين فكيف يجرى استصحابها ، اللهم الا ان تلغى ركنية اليقين وتستبدل بركنية الحدوث.

ويسمى هذا القسم فى كلماتهم بكلتا حالتيه بالقسم الأول من

٥١٨

استصحاب الكلى.

وأما القسم الثانى فله حالتان أيضا :

الاولى : أن يكون الشك فى حدوث الفرد المسبب للشك فى بقاء الكلى مقرونا باللعلم الاجمالى ، كما فى المثال المتقدم لهذا القسم ، فان الشك فى الحدث الاكبر مقرون بالعلم الاجمالى باحد الحدثين. والصحيح جريان الاستصحاب فى هذه الحالة إذا كان للجامع اثر شرعى ، ويسمى فى كلماتهم بالقسم الثانى من استصحاب الكلى.

وقد يعترض على جريان هذا الاستصحاب بوجوه :

منها : انه لا يقين بالحدوث ، وهو اعتراض مبنى على ارجاع استصحاب الكلى الى استصحاب الحصة ، وحيث لا علم بالحصة حدوثا فلا يجرى الاستصحاب ، لعدم اليقين بالحدوث ، بل لعدم الشك فى البقاء ، إذ لا شك فى الحصة بقاء ، بل إحدى الحصتين معلومة الانتفاء والاخرى معلومة البقاء.

وقد تقدم ان استصحاب الكلى ليس بمعنى استصحاب الحصة ، بل هو استصحاب للواقع بمقدار ماى رى بالعنوان الاجمالى للجامع ، وهذا معلوم بالعلم الاجمالى حدوثا.

ومنها : انه لا شك فى البقاء ، لأن الشك بنبغى أن يتعلق بنفس ما تعلق به اليقين ، ولما كان اليقين هنا علماإجماليا والعلم الاجمالى يتعلق بالمردد ، فلابد ان يتعلق الشك بالواقع على ترديده أيضا ، وهذا انما يتواجد فيماإذا كان الواقع مشكوك البقاء على كل تقدير ، مع انه ليس كذلك ، لأن الفرد القصير من الجامع الشك فى بقاءه.

والجواب : ان العلم الاجمالى لا يتعلق بالواقع المردد بل بالجامع وهو

٥١٩

مشكوك ، إذ يكفى فى الشك فى بقاء الجامع التردد فى كيفية حدوثه.

ومنها : ان الوجود القصير للكلى لا يحتمل بقاؤه ، والوجود الطويل له لا يحتمل ارتفاعه ، وليس هناك فى مقابلهما الا المفهوم الذهنى الذى لا معنى لا ستصحابه.

والجواب : إن الشك واليقين انما يعرضان الواقع الخارجى بتوسط العناوين الحاكية عنه ، فلا محذور فى أن يكون الواقع بتوسط العنوان التفصيلى مقطوع البقاء أو الانتفاء ، وبتوسط العنوان الاجمالى مشكوك البقاء ، ومصب التعبد الاستصحابى دائما العنوان بما هو حاك عن الواقع تبعا لاخذه موضوعا للاثر الشرعى بما هو كذلك.

نعم إذا ارجعنا استصحاب الكلى إلى استصحاب الحصة أمكن المنع عن جريانه فى المقام ، لانه يكون من استصحاب الفرد المردد نظرا الى أن إحدى الحصتين مقطوعة الانتفاء فعلا.

ومنها : إن استصحاب الكلى يحكم عليه استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل الأمد ، لان الشك فى بقاء الكلى مسبب عن الشك فى حدوث هذا الفرد.

والجواب : ان التلازم بين حدوث الفرد الطويل الأمد وبقاء الكلى عقلى وليس شرعيا ، فلا يثبت باستصحاب عدم الأول نفى بقاء الثانى.

ومنها : إن استصحاب الكلى معارض باستصحاب عدم الفرد الطويل الى ظرف الشك فى بقاء الكلى ، لان عدم الكلى عبارة عن عدم كلا فردية ، والفرد القصير الأمد معلوم الانتفاء فعلا بالوجدان ، والفرد الطويل الأمد محرز الانتفاء فعلا باستصحاب عدمه ، فهذا الاستصحاب يضمه الى الوجدان المذكور حجة على عدم الكلى فعلا ، فيعارض الحجة

٥٢٠