دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

الاولى : إن الظاهر من جواب الامام تطبيق الاستصحاب لا قاعدة اليقين ، وذ لك لان تطبيق الامام لقاعدة على السائل متوقف على أن يكون كلامه ظاهرا فى تواجد أركان تلك القاعدة فى حالته المفروضة ، ولا شك فى ظهور كلام السائل فى تواجد أركان الاستحاب من اليقين بعدم النجاسة حدوثا والشك فى بقاءها ، وأما تواجد أركان قاعدة اليقين فهو متوقف على أن يكون قوله : ( فنظرت فلم ار شيئا ... ) مفيدا لحصول اليقين بعدم النجاسة حين الصلاة بسبب الفحص وعدم الوجان ، وأن يكون قوله : فرأيت فيه ، مفيدا لرؤية نجاسة يشك فى كونها هى المفحوص عنها سابقا. مع ان العبارة الاولى ليست ظاهرة عرفا فى افتراض حصول اليقين حتى لو سلمنا ظهور العبارة الثانية فى الشك.

الجهة الثانية : ان الاستحاب هل أجرى بلحاظ حال الصلاة أؤ بلحاظ حال السؤال؟. وتوضيح ذلك : ان قوله : ( فرأيت فيه ) إن كان ظاهرا فى رؤية نفس ما فحص عنه سابقا فلا معنى لا جراء الاستصحاب فعلا ، كما ان قوله : ( فنظرت فلم أر شيئا ) إذا كان ظاهرا فى حصول اليقين بالفحص فلا معنى لجريانه حال الصلاة.

والصحيح : انه لا موجب لحمل قوله : ( فرأيت فيه ) على رؤية ما يعلم بسبقه ، فان هذه عناية إضافية تحتاج الى قرينة عند تعلق الغرض بافادتها ، ولا قرينة ، بل حذف المفعول بدلا عن جعله ضميرا راجعا الى النجاسة المعهود ذكرها سابقا يشهد لعدم افتراض اليقين بالسبق.

وعليه فالاستصحاب جاز بلحاظ حال السؤال ، ويؤيد ذلك ان قوله : ( فنظرت فلم أر شيئا ) وان لم يكن له ظهور فى حصول اليقين ، ولكنه ليس له ظهور فى خلاف ذلك ، لان افادة حصوله بمثل هذا

٤٦١

اللسان عرفية ، فكيف يمكن تميل السائل افتراض الشك حال الصلاة وافتاؤه بجريان الاستحصاب حينها؟

وليس فى مقابل تنزيل الرواية على اجراء الاستصحاب بلحاظ حال السؤال إلا استبعاد استغراب زرارة من الحكم بصحة الصلاة حينئذ ، لان فرض ذلك هو فرض عدم العلم بسبق النجاسة ، فأى استبعاد فى أن يحكم بعدم اعادة صلاة لا يعلم بوقوعها مع النجاسة؟. فالاستبعاد المذكور قرينة على ان المفروض حصول اليقين للسائل بعد اللاة بسبق النجاسة ، ومن هنا استغرب الحكم بصحتها ، وهذا يعنى ان اجراء الاستصحاب انما يكون بحلاظ حال الصلاة لا حال السؤال.

ولكن يمكن الرد على هذا الاستبعاد بانه لا يمتنع أن يكو ذهن زرارة مشوبا بأن المسوغ للصلاة مع احتمال النجاسة ، الظن بعدمها الحاصل من الفحص ، وحيث ان هذا الظن يزول بوجدان النجاسة بعد الصلاة عن نحو يحتمل سبقها ، كان زرارة يترقب أن لا يكتفى بالصلاة الوابعة. فان تم هذا الرد فهو ، والا ثبت تنزيل الرواية على اجراء الاستحاب بلحاظ حال الصلاة ، ويصل الكلام حينئذ الى الجهة الثالثة.

الجهة الثالثة : اناإذا افترضنا كون النجاسة المكشوفة معلومة السبق وان الاستصحاب انما يجرى بلحاظ حال الصلاة ، فكيف يستند فى عدم وجوب الاعادة الى الاستصحاب ، مع انه حكم ظاهرى يزول بانكشاف خلافة ، ومع زواله وانقطاعه لا يمكن أن يرجع إليه فى نفى الاعادة؟

وقد اجيب على ذلك تارة بأن الاستناد الى الاستصحاب فى عدم

٤٦٢

وجوب الاعادة يصح إذا افترضنا ملاحظة كبرى مستترة فى التعليل ، وهى إجزاء امتثال الحكم الظاهرى عن الواقع. واخرى بان الاستناد المذكور يصح إذا افترضنا ان الاستصحاب أو الطهارة الاستصحابية بنفسها تحقق فردا حقيقيا من الشر الواقعى للصلاة ، بأن كان الشرط الواقعى هو الجامع بين الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية ، إذ بناء على ذلك تكون الصلاة واجدة لشرطها حقيقة.

الجهة الرابة : انه بعد الفراغ عن دلالة المقطع المذكور على الاستصحاب ، نقول : انه ظاهر فى جعله على نحو القاعدة الكلية ، ولا يصح حمل اليقين والشك على اليقين بالطهارة والشك فيها خاصة ، لنفس ما تقدم من مبرر للتعميم فى الرواية السابقة ، بل هو هنا أوضح ، لوضوح الرواية فى ان فقرة الاستصحاب وردت تعليلا للحكم ، وظهور كلمة ( لا ينبغى ) فى الاشارة الى مطلب مركوز وعقلائى. على هذا فدلالة المقطع المذكور على المطوب تامة.

المقام الثانى. فى الموقع الثانى من الاستدلال ، وهو قوله : ( وان لم تشك ... ) فى جواب السؤال السادس. وتوضيح الحال فى ذلك : ان عدم الشك هنا تارة يكون بمعنى القطع بعدم النجاسة ، واخرى بمعنى عدم الشك الفعلى الملائم مع الغفلة والذهول أيضا :

فعلى الأول : تكون أركان الاستصحاب مفترضة فى كلام السائل وكذلك أركان قاعدة اليقين. أما الافتراض الأول فواضح ، وأما الافتراض الثانى فلأن اليقين حال الصلاة مستفاد بحسب الفرض من قوله : ( وان لم تشك ) والشك فى خطأ ذلك اليقين قد تولد عند رؤية النجاسة اثناء الصلاة مع احتمال سبقها.

٤٦٣

وعليه فكما يمكن تنزيل القاعدة فى جواب الامام على الاستصحاب ، كذلك يمكن تنزيلها على قاعدة اليقين ، غير انه يمكن تعيين الأول بلحاظ ارتكازية الاستصحاب ومناسبة التعليل والتعبير بـ ( لا ينبغى ) لكون القاعدة مركوزة ، وأما قاعدة اليقين فليست مركوزة.

هذا مضافاإلى أن استعمال نفس التركيب الذى اريد منه الاستحصاب فى جواب السؤال الثالث فى نفس الحوار يعزز بوحدة السياق أن يكون المقصود واحدا فى المقامين.

وعلى الثانى : يكون الحمل على الاستصحاب أوضح ، إذ لم يعترض حينئذ فى كلام الامام اليقين بعدم النجاسة حين الصلاة لكى تكون اركان قاعدة اليقين مفترضة ، فيتعين بظهور الكلام حمل القاعدة المذكورة على ما فرض تواجد أركانه وهو الاستصحاب. وهكذا تتضح دلالة المقطع الثانى على الاستصحاب أيضا.

الرواية الثالثة :

وهى رواية زرارة « عن أحدهما عليه السلام قال : قلت له : من لم يدر فى أربع هو ام فى ثنتين وقد أحرز الثنتين؟. قال : يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويشهد ولا شىء عليه ، وإذا لم يدر فى ثلاثة هو أو فى أربع وقد أحرز الثلاث قام فاضاف اليها ركعة اخرى ولا شىء عليه ، ولا ينقص اليقين بالشك ، ولا يدخل الشك فى اليقين ، ولا يخلط احدهما بالاخر ، ولكن ينقض الشك باليقين ، ويتم على اليقين فيبنى عليه ، ولا يعتد بالشك فى حال من الحالات » (١).

ــــــــــــــــ

(١) الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٣ باب ٢١٦ من أبواب السهو والنسيان ح ٣.

٤٦٤

وفقرة الاستدلال فى هذه الرواية تماثل ما تقدم فى الروايتين السابقتين ، وهى قوله ( ولا ينقض اليقين بالشك ... ). وتقريبه : ان المكلف فى الحالة المذكورة على يقين من عدم الاتيان بالرابعة فى بادىء الأمر ، ثم يشك فى اتيانها ، وبهذا تكون اركان الاستصحاب تامة فى حقه ، فيجرى استصحاب عدم الاتيان بالركعة الرابعة. وقد افتاه الامام على هذا الاساس بوجوب الاتيان بركعة عند الشك المذكور ، واستند فى ذلك الى الاستصحاب المذكور معبرا عنه بلسان ( ولا ينقض اليقين بالشك ).

ولكن يبقى على هذا التقريب أن يفسر لنا النكتة فى تلك الجمل المتعاطفة بما استعملته من الفاظ متشابهة ، من قبيل : عدم ادخال الشك فى اليقين ، وعدم خلط احدهما بالاخر ، فان ذلك يبدو غامضا بعض الشىء.

وقد اعترض على الاستدلال المذكور باعتراضات :

الأول : دعوى ان اليقين والشك فى فقرة الاستدلال لا ظهور لهما فى ركنى الاستصحاب بل من المحتمل أن يراد بهما اليقين بالفارغ والشك فيه. ومحصل الجملة حينئذ انه لابد من تحصيل اليقين بالفارغ ، ولا ينبغى رفع اليد عن ذلك بالشك ومجرد احتمال الفارغ ، وهذا أجنبى عن الاستحصاب.

والجواب : ان هذا الاحتمال مخالف لظاهر الرواية ، لظهورها فى افتراض يقين وشك فعلا ، وفى ان العمل بالشك نقض لليقين وطعن فيه ، مع انه بناء على الاحتمال المذكور لا يكون اليقين فعليا ولا يكون العمل بالشك نقضا لليقين ، بل هو نقض لحكم العقل بوجوب تحصيله.

٤٦٥

الثانى : ان تطبيق الاستحاب على مورد الرواية متعذر ، فلابد من تأويلها. وذلك لان الاستصحاب ليست وظيفته إلاإحراز مؤداه والتعبد بما ثبت له من آثار شرعية ، وعليه فان اريد فى المقام باستصحاب عدم اتيان الرابعة ، التعبد بوجوب اتيانها موصولة ، كما هى الحال فى غير الشاك ، فهذا يتطابق مع وظيفة الاستصحاب ، ولكنه باطل من الناحية الفقهية حزما ، لا ستقرار المذهب على وجوب الركعة المفصولة. وان اريد بالاستصحاب المذكور التعبد بوجوب اتيان الركعة مفصولة ، فهذا يخالف وظيفة الاستصحاب ، لان وجوب الركعة المفصولة ليس من آثار عدم الاتيان بالركعة الرابعة لكى يثبت باستصحاب العدم المذكور ، وانما هو من آثار نفس الشك فى اتيانها.

وقد اجيب على هذا الاعتراض باجوبة :

منها : ما ذكره المحقق العراقى (١) من اختيار الشق الأول وحمل تطبيق الاستصحاب المقتضى للركعة الموصولة على التقية مع الحفاظ على جدية الكبرى وواقعيتها ، فاصالة الجهة والجد النافية للهزل والتقية تجرى فى الكبرى دون التطبيق.

فان قيل : ان الكبرى إن كانت جدية فتطبيقها صورى ، وإن كانت صورية فتطبيقها بما لها من المضمون جدى ، فاصالة الجد فى الكبرى تعارضها اصالة الجد فى الطبيق.

كان الجواب : ان اصالة الجد فى التطبيق لا تجرى ، إذ لا أثر لها ، للعلم بعدم كونه تطبيقا جادا لكبرى جادة على أى حال ، فتجرى

ــــــــــــــــ

(١) نهاية الافكار : القسم الاول من الجزء الرابع ص ٥٧.

٤٦٦

اصالة الجهة فى الكبرى بلا معارض.

ولكن الانصاف : ان الحمل على التقية فى الرواية بعيد جدا بملاحظة ان الامام قد تبرع بذكر فرض الشك فى الرابعة ، وإن الجمل المترادفة التى استعملها تدل على مويد الاهتمام والتأكيد بنحو لا يناسب التقية.

ومنها : ما ذكره صاحب الكفاية رحمه الله (١) من أن عدم الاتيان بالركعة الرابعة له أثران : أحدهما : وجوب الاتيان بركعة ، والاخر : مانعية التشهد والتسليم قبل الاتيان بهذه الركعة. ومقتضى استصحاب العدم المذكور التعبد بكلا الاثرين ، غير ان قيام الدليل على فصل ركعة الاحتياط يخصص دليل الاستصحاب ويصرفه الى التعبد بالأثر الأول لمؤداه دون الثانى ، فجراء الاستصحاب مع التبعيض فى آثار المؤدى صحيح.

ونلاحظ على ذلك ان مانعية التشهد والتسليم إذا كانت ثابتة فى الواقع على تقدير عدم الاتيان بالرابعة ، فلا يمكن إجراء الاستصحاب مع التبعيض فى مقام التعبد باثار مؤداه ، لأن المكلف يعلم حينئذ وجدانا بأن الركعة المفصولة التى يأتى بها ليست مصداقا للواجب الواقعى ، لأن صلاته التى شك فيهاإن كانت أربع ركعات فلا أمر بهذه الركعة ، والا فقد بطلت بما أتى به من المانع بتشهده وتسليمه ، لأن المفروض انحفاظ المانعية واقعا على تقدير النقصان.

وإذا افترضنا ان مانعية التشهد والتسليم ليست من آثار عدم

ــــــــــــــــ

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ص ٢٩٥.

٤٦٧

الاتيان فى حالة الشك ، فهذا يعنى ان الشك فى الرابعة أوجب تغيرا فى الحكم الواقعى وتبدلا لمانعية التشهد والتسليم الى نقيضها ، وذلك تخصيص فى دليل المانعية الواقعية ولا يعنى تخصيصا فى دليل الاستصحاب كما ادعى فى الكفاية.

ومنها : ما ذكره المحقق النائينى قدس الله روحه (١) من افتراض ان عدم الاتيان بالرابعة مع العلم بذلك موضوع واقعا لوجوب الركعة الموصولة وعدم الاتيان بها مع الشك موضوع واقعا لوجوب الركعة المفصولة. وعلى اساس هذا الافتراض إذا شك المكلف فى الرابعة فقد تحقق أحد الجزئين لموضوع وجوب الركعة المفصولة وجدانا وهو الشك ، وأما الجزء الاخر وهو عدم الاتيان فيحرز بالاستصحاب ، وعليه فالاستحاب يجرى لاثبات وجوب الركعة المفصولة بعد افتراض كونه ثابتا على النحو المذكور.

وهذا التصحيح للاستصحاب فى المورد وان كان معقولا غير ان حمل الرواية عليه خلاف الظاهر ، لانه يستبطن افتراض حكم واقعى بوجوب الركعة المفصولة على الموضوع المركب من عدم الاتيان والشك ، وهذا بحاجة الى البيان مع ان الامام اقتصر على بيان الاستصحاب على الرغم من ان ذلك الحكم الواقعى المستبطن هو المهم ، إذ مع ثبوته لابد من الاتيان بركعة مفصولة حينئذ سواء جرى استصحاب عدم الاتيان أو لا ، إذ تكفى نفس اصالة الاشتغال والشك فى وقوع الرابعة للزوم إحرازها. فالعدول فى مقام البيان عن نكتة الموقف الى ما يستغنى عنه

ــــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ص ٣٦٣.

٤٦٨

ليس عرفيا.

ومن هنا يمكن أن يكون الاعتراض الثانى بنفسه قرينة على حمل الرواية على ما ذكر فى الاعتراض الأول ، وان كان خلاف الظاهر فى نفسه. وبالحمل على ذلك يمكن ان نفسر النهى عن حلط اليقين بالشك وإدخال أحدهما بالاخر بأن المقصود التنبيه بنحو يناسب التقية على لزوم فصل الركعة المشكوكة عن الركعات المتيقنة.

الثالث : ان حمل الرواية على الاستصحاب متعذر ، لأن الاستصحاب لا يكفى لتصحيح الصلاة حتى لو بنى على اضافة الركعة الموصولة وتجاوزنا الاعتراض السابق ، لأن الواجب إيقاع التشهد والتليم فى آخر الركعة الرابعة ، وباستصحاب عدم الاتيان بالرابعة يثبت وجوب الاتيان بركعة ، ولكن لو أتى بها فلا طريق لأثبات كونها رابعة بذلك الاستصحاب ، لأن كونها كذلك لازم عقلى للمستصحب فلا يثبت ، فلا يتاح للمصلى إذا تشهد وسلم حينئذ انه قد أوقع ذلك فى آخر الركعة الرابعة.

وقد اجاب السيد الاستاذ (١) على ذلك بأن المصلى بعد أن يستصحب عدم الاتيان ويأتى بركعة ، يتيقن بأنه قد تلبس بالركعة الرابعة ويشك فى خروجه منها الى الخامسة ، فيستصحب بقاءه فى الرابة.

ونلاحظ على هذا الجواب : ان الاستصحاب المذكور معارض باستصحاب عدم كونه فى الرابعة ، لانه يعلم اجمالا بأنه إما الان أو قبل

ــــــــــــــــ

(١) مصباح الاصول : ج ٣ ص ٦١ ٦٢.

٤٦٩

ايجاده للركعة المبنية على الاستصحاب ليس فى الرابعة ، فيستصحب العدم ويتساقط الاستصحابان.

كما يلاحظ على أصل الاعتراض بأن اثبات اللازم العقلى بالاستصحاب ليس أمرا محالا بل محتاجا الى الدليل ، فاذا توقف تطبيق الاستصحاب فى مورد الرواية على افتراض ذلك كانت بنفسها دليلا على الاثبات المذكور.

الرواية الرابعة :

وهى رواية عبدالله بن سنان « قال : سأل أبى أباعبدالله عليه السلام وانا حاضر : انى أعير الذمى ثوبى وأنا العم انه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، فيرده على فأغسله قبل ان أصلى فيه. فقال أبو عبدالله عليه السلام : صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فانك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن انه نجسه ، فلا بأس أن تصلى فيه حتى تستيقن انه نجسه » (١).

ولا شك فى ظهور الرواية فى النظر الى الاستصحاب لا قاعدة الطهارة ، بقرينة أخذ الحالة السابقة فى مقام التعليل ، إذ قال فانك ( أعرته إياه وهو طاهر ) فتكون دالة على الاستصحاب. نعم لا عموم فى مدلولها اللفظى ، ولكن لا يبعد التعميم باعتبار ورود فقرة الاستدلال مورد التعليل وانصراف فحواهاإلى نفس الكبرى الاستصحابية المركوزة عرفا.

ــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : باب ٧٤ من ابواب النجاسات ح ١ج ٢ ص ١٠٩٥.

٤٧٠

هذا هو المهم من روايات الباب ، وهو يكفى لاثبات كبرى الاستصحاب. وبعد اثبات هذه الكبرى يقع الكلام فى عدة مقامات ، إذ نتكلم فى روح هذه الكبرى وسنخها من حيث كونهاإمارة أو أصلا ، وكيفية الاستدلال بها ، ثم فى اركانها ، ثم فى مقدار وحدود ما يثبت بها من آثار ، ثم فى سعة دائرة الكبرى ومدى شمولها لكل مورد ، ثم فى جملة من التطبيقات التى وقع البحث العملى فيها. فالبحث إذن يكون فى خمسة مقامات كما يلى.

٤٧١

الاستصحاب أصل أو أمارة؟

قد عرفنا سابقا الضابط الحقيقى للتميز بين الحكم الظاهرى فى باب الامارات والحكم الظاهرى فى باب الاصول ، وهو : انه كلما كان الملحوظ فيه أهمية المحتمل كان اصلا ، وكلما كان الملحوظ قوة الاحتمال وكاشفيته محضا كان الموردإمارة.

وعلى هذا الضوءإذا درسنا الكبرى المجعولة فى دليل الاستصحاب واجهنا صعوبة فى تعيين هويتها ودخولها تحت أحد القسمين ، وذلك لان إدخالها فى نطاق الامارات يعنى افتراض كاشفية الحالة السابقة وقوة احتمال البقاء ، مع ان هذه الكاشفية لا واقع لها كما عرفنا فى الحلقة السابقة (١) ولهذا أنكرنا حصول الظن بسبب الحالة السابقة. وادخالها فى نطاق الاصول يعنى ان تفوق الاحكام المحتملة البقاء على الاحكام المحتملة الحدوث فى الأهمية أوجب إلزام الشارع برعاية الحالة السابقة ، مع ان الاحكام المحتملة البقاء ليست متعينة الهوية والنوعية ، فهى تارة وجوب ، واخرى حرمة ، وثالثة اباحة ، وكذلك الأمر فيما يحتمل حدوثه ،

ــــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٤١٨.

٤٧٢

فلا معنى لأن يكون سبب تفصيل الأخذ بالحالة السابقة ، الاهتمام بنوع الاحكام التى يحتمل بقاؤها.

وبعبارة اخرى : ان ملاك الاصل وهو رعاية أهمية المحتمل يتطلب أن يكون نوع الحكم الملحوظ محددا ، كما فى نوع الحكم الترخيصى الملحوظ فى اصالة الحل ، ونوع الحكم الالزامى الملحوظ فى اصالة الاحتياط. وأماإذا كان نوع الحكم غير محدد وقابلا للأوجه المختلفة فلا ينطبق الملاك المذكور.

وحل الاشكال : إنه بعد أن عرفنا ان الاحكام الظاهرية تقرر دائما نتائج التزاحم بين الاحكام والملاكات الواقعية فى مقام الحفظ عند الاختلاط؟ فبالامكان أن نفترض ان المولى قد لا يجد فى بعض حالات التزاحم قوة تقتضى الترجيح لا بلحاظ المحتمل ولا بلحاظ نفس الاحتمال ، وفى مثل ذلك قد يعمل نكتة نفسية فى ترجيح أحد الاحتمالين عل الاخر.

ففى محل الكلام حينما يلحظ المولى حالات الشك فى البقاء لا يجد أقوائية ، لا للمحتمل ، إذ لا تعين له ، ولا للاحتمال ، إذ لا كاشفية ظنية له ، ولكنه يرجح احتمال البقاء لنكتة نفسية ولو كانت هى رعاية الميل الطبيعى العام الى الأخذ بالحالة السابقة ، ولا يخرج الحكم المجعول على هذا الاساس عن كونه حكما ظاهريا طريقيا ، لان النكتة النفسية ليست هى الداعى لأصل جعله بل هى الدخيلة فى تعيين كيفية جعله.

وعلى هذا الاساس يكون الاستصحاب أصلا ، لان الميزان فى الاصل الذى لا تثبت به اللزواز على القاعدة ، عدم كون الملحوظ فيه قوة الاحتمال محضا ، سواء كان الملحوظ فيه قوة المحتمل أو نكتة نفسية ، لان

٤٧٣

النكتة النفسية قد لا تكون منطبقة إلا على المدلول المطابقى للاصل ، فلا يلزم من التعبد به التعبد باللوازم.

كيفية الاستدلال بالاستصحاب :

وقد يتوهم ان النقطة السابقة تؤثر فى كيفية الاستدلال بالاستصحاب وبالتالى فى كيفية علاج تعارضه مع سائر الأدلة ، فان افترضنا ان الاستصحاب امارة وان المعول فيه على كاشفية الحالة السابقة ، كان الدليل هو الحالة السابقة على حد دليلية خبر الثقة ، ومن هنا يجب أن تلحظ النسبة بين نفس الامارة الاستصحابية وما يعارضها من اصالة الحل مثلا ، فيقدم الاستحاب بالاخصية على دليل اصالة الحل ، كما وقع فى كلام السيد بحر العلوم انسياقا مع هذا التصور.

وان افترضنا الاستصحاب أصلا عمليا وحكما تعبديا مجعولا فى دليله فالمدرك حينئذ لبقاء المتيقن عند الشك نفس ذلك الدليل لا امارية الحالة السابقة ، وعند التعارض بين الاستصحاب واصالة الحل يجب أن تلحظ النسبة بين دليل الاستصحاب وهو مفاد رواية زرارة مثلا ودليل اصالة الحل ، وقد تكون النسبة حينئذ العموم من وجه.

وهذا التوهم باطل ، فان ملاحظة نسبة الأخصية والأعمية بين المتعارضين وتقديم الأخص من شؤون الكلام الصادر من امتكلم واحد خاصة ، حيث يكون الأخص قرينة على الأعم بحسب اساليب المحاورة العرفية ، ولما كانت حجية كل ظهور منوطة بعدم ثبوت القرينة على خلافه كان الخبر المتكفل للكلام الأخص مثبتا لارتفاع الحجية عن ظهور الكلام الأعم فى العموم. وليست الأخصية فى غير مجال القرينية

٤٧٤

ملاكا لتقديم إحدى الحجتين على الاخرى ، ولهذا لا يتوهم أحد انه اذا دلت بينة على ان كل ما فى الدار نجس ، ودلت اخرى على أن شيئا منه طاهر ، قدمت الثانية للأخصية ، بل يقع التعارض ، إذ لا معنى للقرينية مع فرض صدور الكلامين من جهتين.

وعلى هذا ففى المقام سواء قيل بامارية الاستصحاب أو اصليته لا معنى لتقديمه بالأخصية الملحوظة بينه وبين معارضة ، بل لابد من ملاحظة النسبة بين دليله وما يعارضه من دليل الاصل أو دليل حجية الامارة ، فان كان أخص قدم بالأخصية ، لان مفاد الأدلة كلام الشارع ، ومتى كان أحد كلاميه أخص من الاخر قدم بالأخصية.

٤٧٥

أركان الاستصحاب

وللاستصحاب على ما يستفاد من أدلته المتقدمة أربعة أركان ، وهى : اليقين بالحدوث ، والشك فى البقاء ، ووحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ، وكون الحالة السابقة فى مرحلة البقاء ذات أثر عملى مصحح للتعبد بها. وسنتكلم عن هذه الاركان فيما يلى تباعاإن شاء الله تعالى :

أ ـ اليقين بالحدوث :

ذهب المشهور الى أن اليقين بالحدوث ركن مقوم للاستصحاب ، ومعنى ذلك ان مجرد ثبوت الحالة السابقة فى الواقع لا يكفى لفعلية الحكم الاستصحابى لها ، وانما يجرى الاستصحاب إذا كانت الحالة السابقة متيقنة ، وذلك لأن اليقين قد أخذ فى موضوع الاستصحاب فى ألسنة الوايات ، وذاهر أخذه كونه مأخوذا على نحو الموضوعية لا الطريقية الى صرف ثبوت الحالة السابقة.

نعم فى رواية عبدالله بن سنان المتقدمة علل الحكم الاستصحابى بنفس الحالة السابقة فى قوله : ( لأنك أعرته إياه وهو طاهر ) لا باليقين

٤٧٦

بها ، وهو ظاهر فى ركنية المتيقن لا اليقين ، وتصلح أن تكون قرينة على حمل اليقين فى سائر الروايات على الطريقية إذا تم الاستدلال بالرواية المذكورة على الكبرى الكلية.

وقد نشأ مشكلة من افتراض ركنية اليقين بالحدوث ، وهى انه إذا كان ركنا فكيف يمكن اجراء الاستصحاب فيما هو ثابت بالامارة إذ دلت الامارة على حدوثه وشككنا فى بقائه ، مع انه لا يقين بالحدوث؟. كماإذا دلت الامارة على نجاسة ثوب وشك فى تطهيره ، أو على نجاسة الماء المتغير فى الجملة وشك فى بقاء النجاسة بعد زوال التغير.

وقد افيد فى جواب هذه المشكلة عدة وجوه :

الوجه الأول : ما ذكرته مدرسة المحقق النائينى قدس الله روحه (١) من ان الامارة تعتبر علما بحكم لسان دليل حجيتها ، لان دليل الحجية مفاده جعل الطريقية والغاء احتمال الخلاف تعبدا ، وبهذا تقوم مقام القطع الموضوعى ، لحكومة دليل حجيتها على الدليل المتكفل لجعل الحكم على القطع. ومعنى الحكومة هنا ان دليل الحجية يحقق فردا تعبديا من موضوع الدليل الاخر ، ومن مصاديق ذلك قيام الامارة مقام اليقين المأخوذ فى موضوع الاستصحاب وحكومة دليل حجيتها على دليله.

وقد تقدم فى مستهل البحث عن الأدلة المحرزة من هذا الحلقة المنع عن وفاء دليل حجية المارة باثبات قيامها مقام القطع الموضوعى وعدم صلاحيته للحاكمية ، لانها فرع النظر الى الدليل المحكوم وهو غير ثابت ، فلاحظ.

ــــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ص ٤٠٣.

٤٧٧

الوجه الثانى : ما ذكره صاحب الكفاية رحمه الله (١) وحاصله على ما قيل فى تفسيره : ان اليقين بالحدوث ليس ركنا فى دليل الاستحصاب ، بل مفاد الدليل جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء.

وقد اعترض السيد الاستاذ (٢) على ذلك بأن مفاده لو كان الملازمة بين الحدوث والبقاء فى مرحلة الواقع لزم كونه دليلا واقعيا على البقاء ، وهو خلف كونه اصلا عمليا. ولو كان مفاده الملازمة بين الحدوث والبقاء فى مرحلة التنجز فكلما تنجز الحدوث تنجز البقاء ، لزم بقاء بعض اطراف العلم الاجمالى منجزة حتى بع انحلاله بعلم تفصيلى ، لانها كانت منجزة حدوثا ، والمفروض ان دليل الاستصحاب يجعل الملازمة بين الحدوث والبقاء فى التنجز.

وهذا الاعتراض غريب ، لان المراد بالملازمة الملازمة بين الحدوث الواقعى والبقاء الظاهرى ، ومرد ذلك فى الحقيقة الى التعبد بالبقاء منوطا بالحدوث ، فلا يلزم شىء مما ذكر.

والصحيح أن يقال : إن مرد هذا الوجه الى انكار الاساس الذى نجمت عنه المشكلة ، وهو ركنية اليقين المعتمدة على ظهور أخذه إثباتا فى الموضوعية ، فلا بدل له من مناقشة هذا الظهور ، وذلك بما ورد فى الكفاية (٣) من دعوى ان اليقين باعتبار كاشفيته عن متعلقه يصلح أن يؤخذ بما هو معروف ومرآة له ، فيكون أخذه فى لسان دليل الاستصحاب على هذا الاسسا ، ومرجعه الى أخذ الحالة السابقة.

ــــــــــــــــ

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ص ٣٠٩.

(٢) مصباح الاصول : ج ٣ ص ٩٧.

(٣) كفاية الاصول : ج ٢ ص ٣١٠.

٤٧٨

وهذه الدعوى لابد أن تتضمن ادعاء الظهور فى المعرفية ، لان مجرد إبداء احتمال ذلك بنحو مساو للموضوعية يوجب الاجمال وعدم امكان تطبيق دليل الاستصحاب فى موارد عدم وجود اليقين.

ويرد عليها : ان المقصود بما ادعى إن كان ابراز جانب المرآتية الحقيقية لليقين بالنسبة الى متيقنه فمن الواضح انها انما تثبت لواقع اليقين فى افق نفس المتيقن الذى يرى من خلال يقينه متيقنه دائما ، وليست هذه المرآتية ثابتة لمفهوم اليقين ، فمفهوم اليقين كأى مفهوم آخر انما يلحظ مرآة الى افراده لا الى متيقنه ، لأن الكاشفية الحقيقية التى هى روح هذه المرآتية من شؤون واقع اليقين لا مفهومه.

وإن كان المقصود أخذ اليقين معرفا وكناية عن المتيقن فهو أمر معقول ومقبول عرفا ولكنه بحاجة الى قرينة ، ولا قرينة فى المقام على ذلك لا خاصة ولا عامة. أما الاولى فانتفاؤها واضح. وأما الثانية فلان القرينة العامة هى مناسبات الحكم والمووضع العرفية وهى لا تأبى فى المقام عن دخل اليقين فى حرمة النقض. وكان الأولى بصاحب الكفاية أن يستند فى الاستغناء عن ركنية اليقين إلى مالم يؤخذ فى لسانه اليقين بالحدوث من روايات الباب.

الوجه الثالث : إن اليقين وان كان ركنا للاستصحاب بمقتضى ظهور أخذه فى الموضوعية ، إلا انه مأخوذ بما هو حجة ، فيتحقق الركن بالامارة المعتبرة أيضا باعتبارها حجة.

ويختلف هذا الوجه عن اسابقه بالاعتراف بركنية اليقين ، وعن الأول بأن دليل حجية الامارة على هذا يكون واردا على دليل الاستصحاب ، لانه يحقق فردا من الحجة حقيقة ، وأما على الوجه الأول

٤٧٩

فدليل الاستصحاب حاكم لا وارد.

ويرد على هذا الوجه ان ظاهر أخذ شىء كونه بعنوانه دخيلا ، فحمله على دخل عنوان جامع بينه وبين غيره يحتاج الى قرينة.

والتحقيق أن يقال : ان الامارة تارة تعالج شبهة موضوعية ، كالامارة الدالة على نجاسة الثوب ، واخرى شبهة حكمية ، كالامارة الدالة على نجاسة الماء المتغير. وعلى التقديرين تارة ينشأ الشك فى البقاء من شبهة موضوعية ، كما إذا شك فى غسل الثوب أو زوال التغير ، واخرى ينشأ من شبهة حكمية ، كماإذا شك فى طهارة الثوب بالغسل بالماء المضاف وارتفاع النجاسة عند زوال التغير من قبل نفسه. فهناك إذن أربع صور :

الاولى : أن تعالج الامارة شبهة موضوعية ويكون الشك فى البقاء شبهة موضوعية أيضا ، كماإذا أخبرت الامارة بتنجس الثوب وشك فى طرو المطهر ، وفى مثل ذلك لا حاجة الى استصحاب النجاسة الواقعية ليرد الاشكال القائل بانه لا يقين بحدوثها ، بل يمكن اجراء الاستحصاب بأحد وجهين آخرين :

الأول : أن نجرى الاستصحاب الموضوعى فنستصحب عدم غسل الثوب بالماء ، ومن الواضح ان نجاسة الثوب مترتبة شرعا على موضوع مركب من جزئين : أحدهما ملاقاته للنجس. والاخر عدم طرو الغسل عليه. والأول ثابت بالامارة ، والثانى بالاستصحاب ، لان أركانه فيه متوفرة بما فيها اليقين بالحدوث ، فيترتب عليه ذلك بقاء النجاسة شرعا.

الثانى ، ان الامارة التى تدل على حدوث النجاسة فى الثوب تدل أيضا بالالتزام على بقائها ما لم يغسل ، لاننا نعلم بالمازمة بين الحدوث والبقاء مالم يغسل ، فما يدل على الأول بالمطابقة ، يدل على الثانى

٤٨٠