دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

ـ ٥ ـ

ملاحظات عامة حول الأقل والأكثر

فرغنا من المسائل الاساسية فى دوران الأمر بين الاقل والاكثر الارتباطيين ، وبقى علينا أن نذكر فى ختام مسائل هذا الدوران ملاحظات عامة حول الاقل والاكثر :

١ ـ جور الاستصحاب فى هذا الدوران :

قد يستمسك بالاستصحاب فى موارد هذا الدوران تارة لاثبات وجوب الاحتياط ، واخرى لاثبات نتيجة البراءة.

أما التسمك به على الوجه الأول فبدعوى انا نعلم بجامع وجوب مردد بين فردين من الوجوب وهما وجوب التسعة ووجوب العشرة ، ووجوب التسعة يسقط بالاتيان بالاقل ، ووجوب العشرة لا يسقط بذلك ، فاذا أتى المكلف بالاقل شك فى سقوط الجامع وجرى استصحابه ، ويكون من استصحاب القسم الثانى من الكلى.

والجواب على ذلك : ان استصحاب جامع الوجوب إن اريد به اثبات وجوب العشرة لان ذلك هو لازم بقائه فهذا من الاصول

٤٤١

المثبتة ، لانه لازم عقلى لا يثبت بالاستصحاب. وإن اريد به الاقتصار على اثبات جامع الوجوب ، فهذا لا أثر له ، لانه لا يزيد على العلم الوجدانى بهذا الجامع ، وقد فرضنا ان العلم به لا ينجز سوى الاقل ، والاقل حاصل فى المقام بحسب الفرض.

وأما التمسك به على الوجه الثانى فباستصحاب عدم وجوب الزائد الثابت قبل دخول الوقت أو فى صدر عصر التشريع. ولا يعارض باستصحاب عدم الوجوب الاستقلالى للاقل ، إذ لا أثر لهذا الاستصحاب ، لانه إن اريد به اثبات وجوب الزائد بالملازمة ، فهو مثبت. وإن اريد به التأمين فى حالة ترك الاقل ، فهو غير صحيح ، لأن فرض ترك الاقل هو فرض المخالفة القطعية ، ولا يصح التأمين بالاصل العملى إلا عن المخالفة الاحتمالية.

٢ ـ الدوران بين الجزئية والمانعية :

اذا تردد أمر شىء بين كونه جزء من الواجب أو مانعا عنه ، فمرجع ذلك الى العلم الاجمالى بوجوب زائد متعلق إما بالتقيد بوجود ذلك الشىء أو بالتقيد بعدمه ، وفى مثل ذلك يكون هذا العلم الاجمالى منجزا ، وتتعارض اصالة البراءة عن الجزئية مع اصالة البراءة عن المانعية ، فيجب على المكلف الاحتياط بتكرار العمل مرة مع الاتيان بذلك الشىء ومرة بدونه. هذا فيماإذا كان فى الوقت متسع وإلا جازت المخالفة الاحتمالية بملاك الاضطرار وذلك بالاقتصار على أحد الوجهين.

وقد يقال : ان العلم الاجمالى المذكور غير منجز ولا يمنع عن جريان

٤٤٢

البراءتين معا ، بناء على بعض صيغ الركن الرابع لتنجيز العلم الاجمالى ، وهى صيغة الميرزا القائلة : بان تعارض الاصول مرهون باداء جريانها الى الترخيص عمليا فى المخالفة القطعية ، فان جريان الاصول فى المقام لا يؤدى الى ذلك ، لان المكلف لا يمكنه المخالفة القطعية للعلم الاجمالى المذكور ، إذ فى حالة الاتيان بالشىء المردد بين الجزء والمانع يحتمل الموافقة ، وفى حالة تركه يحتملها أيضا ، فلا يلزم من جريان الاصلين معا ترخيص فى المخالفة القطعية.

فان قيل : ألا تحصل المخالفة القطعية لو ترك المركب رأسا؟

قلنا : نعم تحصل ، ولكن هذا مما لاإذن فيه من قبل الاصلين حتى لو جريا معا.

ولكن يمكن أن يقال على ضوء صيغة الميرزا : ان المخالفة القطعية للعلم الاجمالى المذكور ممكنة أيضا فيماإذا كان الشىء المردد بين الجزء والمانع متقوما بقصد القربة على تقدير الجزئية ، فان المخالفة القطعية حينئذ تحصل بالاتيان به بدون قصد القربة ، ويكون جريان الاصلين معا مؤديا الى الاذن فى ذلك ، فيتعارض الاصلان ويتساقطان.

٣ ـ الاقل والاكثر فى المحرمات :

كما قد يعلم اجمالا بواجب مردد بين التسعة والعشرة كذلك قد يعلم بحرمة شىء مردد بين الاقل والاكثر ، كماإذا علم بحرمة تصوير رأس الحيوان أو تصوير كامل حجمه ، ويختلف الدوران المذكور فى باب الحرام عنه فى باب الواجب من بعض الجهات :

فأولا : وجوب الاكثر هناك كان هو الاشد مؤونة ، وأما حرمة

٤٤٣

الاكثر هنا فهى الأخف مؤونة ، إذ يكفى فى امتثالها ترك أى جزء ، فحرمة الاكثر فى باب الحرام تناظرإذن وجوب الاقل فى باب الواجب.

وثانيا : ان دروان الحرام بين الاقل والاكثر يشابه دوران أمر الواجب بين التعيين والتخيير ، لان حرمة الاكثر فى قوة وجوب ترك أحد الاجزاء تخييرا ، وحرمة الاقل فى قوة وجوب ترك هذا الجزء بالذات تعيينا ، فالأمر دائر بين وجوب ترك أحد الاجزاء ووجوب ترك هذا الجزء بالذات ، وهذا يشابه دوران الواجب بين التعيين والتخيير لا الدوران بين الاقل والاكثر فى الاجزاء أو الشرائط. والحكم هو جريان البراءة عن حرمة الاقل ، ولا تعارضها البراءة عن حرمة الاكثر ، بنفس البيان الذى جرت بموجبه البراءة عن الوجوب التعيينى للعتق بدون أن تعارض بالبراءة عن الوجوب التخييرى.

٤ ـ الشبهة الموضوعية للاقل والاكثر :

كما يمكن افتراض الشبهة الحكمية للدوران بين الاقل والاكثر كذلك يمكن افتراض الشبهة الموضوعية ، بأن يكون مرد الشك الى الجهل بالحالات الخارجية لا الجهل بالجعل ، كماإذا علم المكلف بأن ما لا يؤكل لحمه مانع فى الصلاة ، وشك فى ان هذا اللباس هل هو مما لا يؤكل لحمه أو لا ، فتجرى البراءة عن مانعيته أو عن وجوب تقيد الصلاة بعدمه بتعبير آخر.

وقد يقال كما عن الميرزا قدس سره (١) : ان الشبهة الموضوعية

ـــــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ص ٢٠٠.

٤٤٤

للواجب الضمنى لا يمكن تصويرهاإلاإذا كان لهذا الواجب تعلق بموضوع خارجى ، كما فى هذا المثال. ولكن الظاهرإمكان تصويرها فى غير ذلك أيضا ، وذلك بلحاظ حالات المكلف نفسه ، كماإذا فرضنا ان السورة كانت واجبة على غير المريض فى الصلاة وشك المكلف فى مرضه ، فان هذا يعنى الشك فى جزئية السورة مع انها واجب ضمنى لا تعلق له بموضوع خارجى ، والحكم هو البراءة.

٥ ـ الشك فى اطلاق دخالة الجزء أو الشرط :

كنا نتكلم عماإذا شك المكلف فى جزئية شىء أو شرطيته مثلا للواجب. وقد يتفق العلم بجزئية شىء أو دخالته فى الواجب بوجه من الوجوه ولكن يشك فى شمول هذه الجزئية لبعض الحالات ، كماإذا علمنا بان السورة جزء فى الصلاة الواجبة وشككنا فى اطلاق جزئيتها لحالة المرض أو السفر ، ومرجع ذلك الى دوران الواجب بين الاقل ذ والاكثر بلحاظ هذه الحالة بالخصوص ، فاذا لم يكن لدليل الجزئية اطلاق لها وانتهى الموقف الى الاصل العملى ، جرت البراءة عن وجوب الزائد فى هذه الحالة ، وهذا على العموم لا اشكال فيه.

ولكن قد يقع الاشكال فى حالتين من هذه الحالات وهما : حالة الشك فى اطلاق الجزئية لصورة تعذره. ونتناول هاتين الحالتين فيما يلى تباعا :

( أ ) الشك فى الاطلاق لحالة النسيان :

إذا نسى المكلف جزء من الواجب ، فأتى به بدون ذلك الجزء ، ثم التفت بعد ذلك الى نقصان ما أتى به ، فان كان الدليل الجزئية اطلاق

٤٤٥

لحال النسيان اقتضى ذلك بطلان ما أتى به ، لانه فاقد للجزء ، من دون فرق بين افتراض ارتفاع النسيان فى اثناء الوقت ، وافتراض الستمراره الى آخر الوقت ، وهذا هو معنى ان الاصل اللفظى فى كل جزء يقتضى ركنيته ، أى بطلان المركب بالاخلال به نسيانا.

وأما إذا لم يكن لدليل الجزئية اطلاق وانتهى الموقف الى الاصل العملى ، فقد يقال بجواز اكتفاء الناسى بما أتى به ، لان المورد من موارد الدوران بين الاقل والاكثر بلحاظ حالة النسيان ، والاقل واقع والزائد منفى بالاصل.

وتوضيح الحال فى ذلك : ان النسيان تارة يستوعب الوقت كله ، واخرى يرتفع فى اثناءه. ففى الحالة الاولى لا يكون الواجب بالنسبة الى الناسى مرددا بين الاقل والاكثر ، بل لا يحتمل التكليف بالاكثر بالنسبة اليه ، لان الناسى لا يكلف بما نسيه على أى حال ، بل هو يعلم إما بصحة ما أتى به أو بوجوب القضاء عليه ، ومرجع هذا الى الشك فى وجوب استقلالى جديد وهو وجوب القضاء ، فتجرى البراءة عنه حتى لو منعنا من البراءة فى موارد دوران الواجب بين الاقل والاكثر الارتباطيين.

وأما فى الحالة الثانية فالتكليف فعلى فى الوقت ، غير انه متعلق إما بالجامع الشامل للصلاة الناقصة الصادرة حال النسيان ، أو بالصلاة التامة فقط. والأول معناه اختصاص جزئية المنسى بغير حال النسيان ، والثانى معناه اطلاق الجزئية لحال النسيان ، والدوران بين وجوب الجامع ووجوب الصلاة التامة تعيينا هو من أنحاء الدوران بين الاقل والاكثر ، ويمثل الجامع فيه الاقل ، وتمثل الصلاة التامة الاكثر ، وتجرى

٤٤٦

البراءة وفقا للدوران المذكور.

ولكن قد يقال كما فى إفادات الشيخ الانصارى (١) وغيره بأن هذا انما يصح فيماإذا كان بالامكان أن يكلف الناسى بالاقل ، فانه يدور عنده أمر الواجب حينئذ بين الاقل والاكثر ، ولكن هذا غير ممكن ، لأن التكليف بالاقل إن خصص بالناسى فهو محال ، لأن الناسى لا يرى نفسه ناسيا ، فلا يمكن لخطاب موجه الى الناسى أن يصل اليه. وإن جعل على المكلف عموما شمل المتذكر أيضا ، مع إن المتذكر لا يكفى منه الاقل بلاإشكال. وعليه فلا يمكن أن يكون الاقل واجبا فى حق الناسى ، وانما المحتمل إجزاؤه عن الواجب ، فالواجب إذن فى الاصل هو الاكثر ويشك فى سقوطه بالاقل ، وفى مثل ذلك لا تجرى البراءة.

والجواب : ان التكليف بالجامع يمكن جعله وتوجيهه الى طبيعى المكلف ، ولا يلزم منه جواز اقتصار المتذكر على الاقل ، لانه جامع بين الصلاة الناقصة المقرونة بالنسيان والصلاة التامة ، كما لا يلزم منه عدم امكان الوصول الى الناسى ، لان موضوع التكليف هو طبيعى المكلف ، غاية ما فى الأمر ان الناسى يرى نفسه آتيا بأفضل الحصتين من الجامع مع انه انما تقع منه أقلهما قيمة ، ولا محذور فى ذلك.

وهذا الجواب أفضل مما ذكره عدد من المحققين فى المقام ، من حل الاشكال وتصوير تكليف الناسى بالاقل بالافتراض خطابين : أحدهما متكفل بايجاب الاقل على طبيعى المكلف ، والاخر متكفل بايجاب

ـــــــــــــــــ

(١) راجع : فرائد الاصول : ص ٤٨٣ ـ ٤٨٤.

٤٤٧

الزائد على المتذكر ، إذ نلاحظ على ذلك : ان الاقل فى الخطاب الأول هل هو مقيد بالزائد ، أو مطلق من ناحيته ، أو مقيد بلحاظ المتذكر ومطلق بلحاظ الناسى ، أو مهمل. والأول خلف ، إذ معناه عدم كون الناسى مكلفا بالاقل. والثانى كذلك ، لأن معناه كون المتذكر مكلفا بالاقل وسقوط الخطاب الأول بصدور الاقل منه ، والثالث رجوع الى الخطاب الواحد الذى ذكرناه ، ومعه لا حاجة الى افتراض خطاب آخر يخص المتذكر ، والرابع غير معقول ، لأن التقابل بين الاطلاق والتقييد فى عالم الجعل تقابل السلب والايجاب فلا يمكن انتفاؤهما معا.

وعلى هذا الاساس فالمقام من صغريات دوران الواجب بين الاقل والاكثر ، فيلحقه حكمه من دريان البراءة عن الزائد. بل التدقيق فى المقارنة يكشف عن وجود فارق يجعل المقام أحق بالبراءة من حالات الدوران المذكور ، وهو ان العلم بالوجوب المردد بين الاقل والاكثر قد يدعى كون فى حالات الدوران المذكور علما اجماليا منجزا ، وهذه الدعوى لئن قبلت فى تلك الحالات فهناك سبب خاص يقتضى رفها فى المام وعدم امكان افتراض علم اجمالى منجز هنا ، وهو ان التردد بين الاقل والاكثر فى المقام انما يحصل الناسى بعد ارتفاع النسيان ، والمفروض انه قد أتى بالاقل فى حالة النسيان ، وهذا يعنى انه يحصل بعد امتثال احد طرفيه ، فهو نظير أن تعلم اجمالا بوجوب زيادة أحد الامامين بعد أن تكون قد زرت أحدهما ، ومثل هذا العلم الاجمالى غير منجز بلا شك حتى لو كان التردد فيه بين المتباينين فضلا عما اذا كان بين الاقل والاكثر ، وخلافا لذلك حالات الدوران الاعتيادية ، فان التردد فيها يحصل قب الاتيان بالاقل ، فاذا تشكل منه علم إجمالى كان منجزا.

٤٤٨

( ب ) الشك فى الاطلاق لحالة التعذر :

اذا كان الجزء جزء حتى فى حالة التعذر كان معنى ذلك ان العاجز عن الكل المشتمل عليه لا يطالب بالناقص ، واذا كان الجزء جزء فى حالة التمكن فقد فهذا يعنى انه فى حالة العجز لا ضرر من نقصه وان العاجز يطالب بالناقص.

والتعذر تارة يكون فى جزء من الوقت واخرى يستوعبه. ففى الحالة الاولى يحصل للمكلف علم إما بوجوب الجامع بين الصلاة الناقصة حال العجز والصلاة التامة ، أو بوجوب اللاة التامة عند ارتفاع العجز ، لان جزئية المتعذرإن كانت ساقطة فى حال التعذر فالتكليف متعلق بالجامع ، والا كان متعلقا بالصلاة التامة عند ارتفاع التعذر ، وتجرى البراءة حينئذ عن وجوب الزائد وفقا لحالات الدوران بين الاقل والاكثر.

ويلاحظ ان التردد هنا بين الاقل والاكثر يحصل قبل الاتيان بالاقل خلافا لحال الناسى ، لان العاجز عن الجزء يلتفت الى حاله حين العجز.

وفى الحالة الثانية يحصل للمكلف علم إجمالى إما بوجوب الناقص فى الوقت أو بوجوب القضاءإذا كان للواجب قضاء لان جزئية ذ المتعذرإن كانت ساقطة فى حال التعذر فالتكليف متعلق بالناقص فى الوقت ، وإلا كان الواجب القضاء ، وهذا علم إجمالى منجز.

وليعلم إن الجزئية فى حال النسيان أو فى حال التعذر انما تجرى البراءة عند الشك فيهاإذ لم يكن بالامكان توضيح الحال عن طريق الادلة المحرزة ، وذلك باحد الوجوه التالية :

٤٤٩

أولا : أن يقوم دليل خاص على إطلاق الجزئية أو اختصاصها ، من قبيل حديث ( لا تعاد الصلاة إلا من خمس ... )

ثانيا : أن يكون لدليل الجزئية اطلاق يشمل حالة النسيان أو التعذر فيؤخذ باطلاقه ، ولا مجال حينئذ للبراءة.

ثالثا : أن لا يكون لدليل الجزئية اطلاق بأن كان مجملا من هذه الناحية وكان لدليل الواجب اطلاق يقتضى فى نفسه عدم اعتبار ذلك الجزئرأسا ، ففى هذه الحالة يكون دليل الجزئية مقيدا لا طلاق دليل الواجب بمقداره ، وحيث ان دليل الجزئية لا يشمل حال التعذر أو النسيان فيبقى اطلاق دليل الواجب محكما فى هاتينالحالتين ، ودالا على عدم الجزئية فيهما.

٤٥٠

الاستصحاب

٤٥١
٤٥٢

الاصول العملية

٣

١ ـ أدلة الاستصحاب.

٢ ـ الاستصحاب أصل أو امارة؟

٣ ـ أركان الاستصحاب.

٤ ـ مقدار ما يثبت بالاستحاب.

٥ ـ عموم جريان الاستحصاب.

٦ ـ تطبيقات.

٤٥٣
٤٥٤

أدلة الاستصحاب

الاستصحاب قاعدة من القواعد الاصولية المعروفة ، وقد تقدم فى الحلقة السابقة (١) الكلام عن ترعيفه والتمييز بينه وبين قاعدة اليقين وقاعدة المقتضى والمانع. والمهم الان استعراض أدلة هذه القاعدة ، ولما كان أهم أدلتها الروايات ، فنسعرض فيما يلى عددا من الروايات التى استدل بها على الاستصحاب كقاعدة عامة :

الرواية الاولى :

رواية زرارة « قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : يا زرارة ، قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فاذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء قلت : فان حرك على جنبه شىء ولم يعلم به؟. قال : لا ، حتى يستيقن انه قد نام ، حتى يجىء من ذلك أمر بين ، وإلا فانه على يقين من وضوئه

ـــــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٤١٤ ٤١٥.

٤٥٥

ولا تنقض اليقين أبدا بالشك وانما تنقضه بيقين آخر » (١).

وتقريب الاستدلال : إنه حكم ببقاء الوضوع مع الشك فى انتقاضه تمسكا بالاستصحاب ، وظهور التعليل فى كونه بأمر عرفى مركوز يقتضى كون الملحوط فيه كبرى الاستصحاب المركوزة لا قاعدة مختصة بباب الوضوء ، فيتعين حمل اللام فى اليقين والشك على الجنس لا العهد الى اليقين والشك فى باب الوضوء خاصة ، وقد تقدم فى الحلقة السابقة (٢) تفصيل الكلام عن فقه فقرة الاستدلال وتقريب دلالتها واثبات كليتها فلاحظ.

الرواية الثانية :

وهى رواية اخرى لزرارة كما يلى :

١ ـ « قلت : أصاب ثوبى دم رعاف ( أو غيره ) أو شىء من منى ، فعلمت أثره الى أن اصيب له ( من ) الماء ، فاصبت وحضرت الصلاة ، ونسيبت ان بثوبى شيئا ، وصليت ، ثم انى ذكرت بعد ذلك؟. قال : تعيد الصلاة وتغسله.

٢ ـ قلت : فانى لم أكن رأيت موضوعه ، وعلمت انه قد أصابه ، فطلبته فلم أقدر عليه ، فلما صليت وجدته؟ قال : تغسله وتعيد الصلاة.

قلت : فان طننت انه قد اصابه ولم أتيقن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ، ثم صليت قرأيت فيه؟. قال : تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت : ولم

ـــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : باب ١ من ابواب نواقض الوضوءح ١ج ١ ص ١٧٤ ١٧٥.

(٢) راجع : ج ١ ص ٤١٩.

٤٥٦

ذلك؟. قال : لانك كنت على يقين من طهارتك ، ثم شككت ، وليس ينبغى لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا.

٤ ـ قلت : فانى قد علمت انه قد أصابه ، ولم أدر أين هو فاغسله؟. قال : تغسل من ثوبك الناحية التى ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك.

٥ ـ قلت : فهل على إن شككت فى انه أصابه شىء أن انظر فيه؟. قال : لا ، ولكنك انما تريد أن تذهب الشك الذى وقع فى نفسك.

٦ ـ قلت : إن رأيته فى ثوبى وأنا فى الصلاة؟. قال : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت فى موضوع منه ثم رأيته ، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة ، لأنك لا تدرى لعله شىء أوقع عليك ، فليس ينبغى ان تنقض اليقين بالشك » (١).

وتشتمل هذه الرواية على ستة أسئلة من الراوى مع اجوبتها ، وموقع الاستدلال ما جاء فى الجواب على السؤال الثالث والسادس ، غير انا سنستعرض فقه الاسئلة الستة وأجوبتها جميعا لما لذلك من دخل فى تعميق فهم موضعى الاستدلال من الرواية.

ففى السؤال الأول يستفهم زرارة عن حكم من علم بنجاسة ثوبه ثم نسى ذلك وصلى فيه وتذكر الأمر بعد الصلاة ، وقد أفتى الامام بوجوب إعادة الصلاة ، لوقوعها مع النجاسة المنسية ، وغسل الثوب.

وفى السؤال الثانى سأل عمن علم بوقوع النجاسة على الثوب ففحص ولم يشخص موضعه فدخل فى الصلاة باحتمال ان عدم

ــــــــــــــــ

(١) جامع احاديث الشيعة : باب ٢٣ من ابواب النجاسات ح ٥ج ٢ ص ١٣٦.

٤٥٧

التشخيص مسوغ للدخول فيها مع النجاسة ما دام لم يصبها بالفحص ، وقوله : فطلبته ولم أقدر عليه ، انما يدل على ذلك ولا يدل على انه بعدم التشخيص زال اعتقاده بالنجاسة ، فان عدم القدرة غير حصول التشكيك فى الاعتقاد السابق ولا يستلزمه ، وقد أفتى الامام بلزوم الغسل والاعادة ، لوقوع الصلاة مع النجاسة المعلومة اجمالا.

وفى السؤال الثالث افترض زرارة انه ظن الاصابة ففحص فلم يجد فصلى فوجد النجاسة ، فأفتى الامام بعدم الاعادة وعلل ذلك بانه كان على يقين من الطهاة فشك ، ولا ينبغى نقض اليقين بالشك.

وهذا المقطع هو الموضع الأول للاستدلال ، وفى بادىء الأمر يمكن طرح أربع فرضيات فى تصوير الحالة التى طرحت فى هذا المقطع :

الفرضية الاولى : أن يفرض حصول القطع بعدم النجاسة عند الفحص وعدم الوجدان وحصول القطع عند الوجدان بعد الصلاة بأن النجاسة هى نفس ما فحص عنه ولم يجده أولا. وهذه الفرضية غير منطبقة على المقطع جزما ، لأنها لا تشتمل على شك لا قبل الصلاة ولابعدها ، مع ان الامام قد افترض الشك وطبق قاعدة من قواعد الشك.

الفرضية الثانية : أن يفترض حصول القطع بعدم النجاسة عند الفحص كما سبق ، والشك عند وجدان النجاسة بعد الصلاة فى انها تلك أو نجاسة متأخرة. وهذه الفرضية تصلح لاجراء الاستصحاب فعلا فى ظرف السؤال ، لان المكلف على يقين من عدم النجاسة قبل ظن الاصابة فيستصحب. كما انها تصلح لاجراء قاعدة اليقين فعلا فى ظرف السؤال ، لان الملكف كان على يقين من الطهارة بعد الفخص وقد شك

٤٥٨

الان فى صحة يقينه هذا.

الفرضية الثالثة : عكس الفرضية السابقة بأن يفرض عدم حصول القطع بالعدم عند الفحص ، وحصول القطع عند وجان النجاسة بأنها ما فحص عنه. وفى مثل ذلك لا يمكن إدراء أى قاعدة للشك فعلا فى ظرف السؤال ، لعدم الشك ، وانما الممكن جريان الاستصحاب فى ظرف الفحص والاقدام على الصلاة.

الفرضية الرابعة : عكس الفريضة الاولى بافتراض الشك حين الفحص وحين الوجان. ولا مجال حينئذ لقاعدة اليقين ، اذ لم يحصل شك فى خطأ يقين سابق ، وهناك مجال لجريان الاستصحاب حال الصلاة وحال السؤال معا.

ومن هنا يعرف ان الاستدلال بالمقطع المذكور على الاستصحاب موقوف على حمله على إحدى الفريضتين الاخيرتين ، أو على الفرضية الثانية مع استظهار ارادة الاستصحاب.

وفى السؤال الرابع سأل عن حالة العلم الاجمالى بالنجاسة فى الثوب ، واجيب بلزوم الغاعتناء ولاحتياط.

وفى السؤال الخامس سأل عن وجوب الفحص عند الشك ، واجيب بالعدم.

وفى السؤال السادس يقع الموضع الثانى من الاستدلال بالرواية ، حيث انه سأل عماإذا وجد النجاسة فى الصلاة ، فاجيب بانه إذا كان قد شك فى موضع منه ثم رآه ، قطع الصلاة وأعادها. وإذا لم يشك ثم رآه رطبا ، غسله وبنى عليه صلاته لاحتمال عدم سبق النجس ولا ينبغى أن ينقض اليقين بالشك.

٤٥٩

ويحتمل أن يراد بالشق الأول صورة العلم الاجمالى ، وبالشق الثانى المبدوء بقوله ( وإن لم تشك ) صورة الشك البدوى.

ويحتمل أن يراد بالشق الأول صورة الشك البدوى السابق ثم وجد ان نفس ما كان يشك فيه ، وبالشق الثانى صورة عدم وجود شك سابق ومفاجأة النجاسة للمصلى فى الاثناء. ولكل من الاحتمالين معززات ، والنتيجة المفهومة واحدة على التقديرين ، وهى : ان النجاسة المرئية فى اثناء الصلاة إذا علم بسبقها ، بطلت الصلاة ، وإلا جرى استصحاب الطهارة وكفى غسلها واكمال الصلاة.

وقد ادعى فى كلمات الشيخ الأنصارى (١) وقوع التعارض بين هذه الفتوى فى الرواية والفتوى الواقعة فى جواب السؤال الثالث إذا حملت على الفرضية الثالثة ، إذ فى كلتا الحالتين وقعت الصلاة فى النجاسة جهلاإما بتمامها ط كما فى مورد السؤال الثالث ، أو بجزء منها ، كما فى مورد السؤال السادس ، فكيف حكم بصحة الصلاة فى الأول وبطلانها فى الثانى؟

والجواب : ان كون النجاسة قد انكشفت وعلمت فى اثناء الصلاة ، قد يكون له دخل فى عدم العفو عنها ، فلا يلزم من العفو عن نجاسة لم تعلم اثناء الصلاة العفو عن نجاسة علمت كذلك.

هذا حاصل الكلام فى فقه الرواية.

وأما تفصيل الكلام فى موقعى الاستدلال فيقع فى مقامين :

المقام الاول : فى الموقع الأول ، والكلام فيه فى جهات :

ــــــــــــــــ

(١) فرائد الاصول ص ٥٦٦.

٤٦٠