دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

الوظيفة العملية فى حالة الشك

٤

١ ـ التقسيم الرئيسى للأقل والأكثر.

٢ ـ الأقل والأكثر فى الاجزاء.

٣ ـ الأقل والأكثر فى الشرائط.

٤ ـ الدوران بين التعيين والتخيير العقلى.

٥ ـ الجوران بين التعيين والتخيير الشرعى.

٦ ـ ملاحظات عامة حول الأقل والأكثر.

٤٢١
٤٢٢

التقسيم الرئيسى للأقل والأكثر

درسنا فيما سبق حالة الشك فى أصل الوجوب وحالة العلم بالوجوب وتردد متعلقه بين أمرين متباينين ، فالاولى هى حالة الشك البدوى التى تجرى فيها البراءة الشرعية ، والثانية هى حالة الشك المقرون بالعلم الاجمالى التى تجرى فيها اصالة الاشتغال. والان ندرس حالة العلم بالوجوب وتردد الواجب بين الاقل والاكثر ، وهى على قسمين :

الأول : دوران الأمر بين الاقل والاكثر الاستقلالين ، وهو يعنى ان ما يتميز به الاكثر على الاقل من الزيادة على تقدير وجوبه يكون واجبا مستقلا عن وجوب الاقل ، كماإذا علمت المكلف بانه مدين لغيره بدرهم أو بدرهمين.

الثانى : دوران الأمر بين الاقل والاكثر والارتباطين ، وهو يعنى ان هناك وجوبا واحدا له امتثال واحد وعصيان واحد ، وهوإما متعلق بالاقل أو بالاكثر ، كماإذا علم المكلف بوجوب الصلاة وترددت الصلاة عنده بين تسعة أجزاء وعشرة.

أما القسم الأول فلا شك فى ان وجوب الأقل فيه منجز بالعلم ، وان

٤٢٣

وجوب الزائد مشكوك بشك بدوى فتجرى عنه البراءة عقلا وشرعا أو شرعا فقط على الخلاف بين المسلكين.

وأما القسم الثانى فتندرج فيه عدة مسائل نذكرها تباعا.

٤٢٤

ـ ١ ـ

الدوران بين الاقل والاكثر فى الاجزاء

وفى مثل ذلك قد يقال : بأن حاله حال القسم الأول ، فان وجوب الاقل منجز بالعلم ، ووجوب الزيادة أى ما يشل فى كونه جزء مشكوك بدوى فتجرى عنه البراءة ، لأن هذا هو ما يقتضيه الدوران بين الأقل والاكثر بطبعه ، فان كل دوران من هذا القبيل يتعين فى علم بالاقل وشك فى الزائد.

ولكن قد يعترض على إجراء البراءة عن وجوب الزائد فى المقام ويبرهن على عدم جريانها بعدة براهين :

البرهان الأول :

وهو يقوم على أساس دعو وجود العلم الاجمالى المانع عن إجراء البراءة ، وليس هو العلم الاجمالى بوجوب الاقل أو وجوب الزائد لينفى ذلك بأن وجوب الزائد لا يحتمل كونه بديلا عن الاقل ، فكيف يجعل طرفا مقابلا له فى العلم الاجمالى ، بل هو العلم الاجمالى بوجوب الأقل أو وجوب الاكثر المشتمل على الزائد ، ومعه لا يمكن اجراء الاصل لنفى

٤٢٥

وجوب الزائد لكونه جزءا من أحد طرفى العلم الاجمالى.

وقد اجيب على هذا البرهان بوجوه :

منها : ان العلم الاجمالى المذكور منحل بالعلم التفصيلى بوجوب الاقل على كل تقدير. لان الوجوب إن كان هو الاقل فهو واجب نفسى ، وان كان الواجب هو الاقل فالاقل واجب غيرى ، لانه جزء الواجب وجزء الواجب مقدمة له.

ونلاحظ على هذا الوجه : انه إن اريد به هدم الركن الثانى من اركان تنجيز العلم الاجمالى ، فالجواب عليه : ان الانحلال انما يحصل إذا كان المعلوم التفصيلى مصداقا للجامع المعلوم بالاجمال ، كما تقدم ، وليس الأمر فى المقام كذلك ، لان الجامع المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسى ، والمعلوم التفصيلى وجوب الاقل ولو غيريا.

وإن اريد به هدم الركن الثالث بدعوى ان وجوب الاقل منجز على أى حال ولا تجرى البراءة عنه ، فتجرى البراءة عن الاخر بلا معارض ، فالجواب عليه : ان الوجوب الغيرى لا يساهم فى التنجيز ، كما تقدم فى مباحث المقدمة.

ومنها : ان العلم الاجمالى المذكور منحل بالعلم التفصيلى بالوجوب النفسى للاقل ، لأنه واجب نفساإما وحده أو فى ضمن الاكثر ، وهذا المعلوم التفصيلى مصداق للجامع المعلوم بالاجمال ، فينحل العلم الاجمالى به.

وقد يجاب على هذا الانحلال بأجوبة نذكر فيما يلى مهمها :

الجواب الأول : ان الجامع المعلوم إجمالا هو الوجوب النفسى الاستقلالى إما للاقل أو للاكثر ، وما هو معلوم بالتفصيل فى الأقل

٤٢٦

الوجوب النفسى ولو ضمنا ، فلا انحلال.

ويلاحظ ان الاستقلالية معنى منتزع من حد الوجوب وعدم شموله لغير ما تعلق به ، والحد لا يقبل التنجز ولا يدخل فى العهدة ، وانما يدخل فيها ويتنجز ذات الوجوب المحدود ، فالعلم الاجمالى بالوجوب النفسى الاستقلالى وإن لم يكن منحلا ولكن معلوم هذا العلم لا يصلح للدخول فى العهدة ، لعدم قابلية حد الوجوب للتنجز ، والعلم الاجمالى بذات الوجوب المحدود بقطع النظر عن حد الاستقلالية هو الذى ينجز معلومه ويدخله فى العهدة ، وهذا العلم منحل بالعلم التفصيلى المشار اليه.

والجواب الثانى : ان وجوب الأقل إذا كان استقلاليا فمتعلقه الاقل مطلقا من حيث انضمام الزائد وعدمه ، واذا كان ضمنيا فمتعلقه الاقل المقيد بانضمام الزائد ، وهذا يعنى انا نعلم اجمالاإما بوجوب التسعة المطلقة أو التسعة المقيدة ، والمقيد يباين الملطق ، والعلم التفصيلى بوجوب التسعة على الاجمال ليس إلا نفس ذلك العلم الاجمالى بعبارة موجزة ، فلا معنى لانحلاله به.

ويلاحظ هنا أيضا ان الاطلاق سواء كان عبارة عن عدم لحاظ القيد أو لحاظ عدم دخل القيد لا يدخل فى العهدة ، لانه يقوم الصورة الذهنية وليس له محكى ومرئى يراد ايجابه زائدا على ذات الطبيعة بخلاف التقييد. فان اريد اثبات التنجيز للعلم الاجمالى بالاطلاق أو التقييد فهو غير ممكن ، لأن الاطلاق لا يقبل التنجز. وإن اريد اثبات التنجيز للعلم الاجمالى بالوجوب بالقدر الذى يقبل التنجز ويدخل فى العهدة فهل منحل. ولكن سيظهر مما يلى ان دعوى الانحلال غير صحيحة.

٤٢٧

ومنها : انه إن لوحظ العلم بالوجوب بخصوصياته التى لا تصلح للتنجز من قبيل حد الاستقلالية والاطلاق فهناك علم إجمالى ولكنه لا يصلح للتنجيز ، وإن لوحظ العلم بالوجوب بالقدر الصالح للتنجز فلا علم اجمالى أصلا ، بل هناك علم تفصيلى بوجوب التسعة وشك بدوى فى وجوب الزائد ، فالبرهان الأول ساقطإذن ، كما ان دعوى الانحلال ساقطة أيضا ، لانها تستبطن الاعتراف بوجود علمين لولا الانحلال ، مع انه لا يوجدإلا ما عرفت.

ومنها : دعوى انهدام الركن الثالث ، لان الاصل يجرى عن وجوب الاكثر أو الزائد ، ولا يعراضه الأصل عن وجوب الاقل ، لانه إن اريد به التأمين فى حالة ترك الاقل مع الاتيان بالاكثر فهو غير معقول ، إذ لا يعقل ترك الاقل مع الاتيان بالاكثر. وإن اريد به التأمين فى حالة ترك الاقل وترك الاثكر ، بتركه رأسا فهو غير ممكن أيضا ، لأن هذه الحالة هى حالة المخالفة القطعية ولا يمكن التأمين بلحاظها. وهكذا نعرف ان الاصل المؤمن عن وجوب الاقل ليس له دور مقعول ، فلا يعارض الأصل الاخر.

وهذا بيان صحيح فى نفسه ولكنه يستبطن الاعتراف بالركنين الأول والثانى ومحاولة التخلص بهدم الركن الثالث ، مع انك عرفت ان الركن الثانى غير تام فى نفسه.

البرهان الثانى :

والبرهان الثانى يقوم على دعوى ان المورد من موارد الشك فى المحصل بالنسبة الى الغرض ، وذلك ضمن النقاط التالية :

٤٢٨

أولا : هذا الواجب المردد بين الاقل والاكثر للمولى غرض معين من ايجابه ، لأن الاحكام تابعة للملاكات فى متعلقاتها.

ثانيا : ان هذا الغرض منجز ، لانه معلوم ولا اجمال فى العلم به وليس مرددا بين الاقل والاكثر ، وانما يشك فى انه هل يحصل بالاقل او بالاكثر؟

ثالثا : يتبين مما تقدم ان المقام من الشك فى المحصل بالنسبة الى الغرض ، وفى مثل ذلك تجرى اصالة الاشتغال كما تقدم.

ويلاحظ على ذلك :

أولا : انه من قال بأن الغرض ليس مرددا بين الاقل والاكثر كنفس الواجب ، بأن يكون ذا مراتب وبعض مراتبه تحصل بالاقل ولا تستوفى كلهاإلا بالاكثر ، ويشك فى ان الغرض الفعلى قائم ببعض المراتب أو بكلها فيجرى عليه نفس ما جرى على الواجب؟

وثانيا : ان الغرض انما يتنجز عقلا بالوصول إذا وصل مقرونا بتصدى المولى لتحصيله التشريعى ، وذلك بجعل الحكم على وفقه أو نحو ذلك. فما لم يثبت هذا التصدى التشريعى بالنسبة الى الاكثر بمنجز ، وما دام مؤمنا عنه بالاصل ، فلا أثر لاحتمال قيام ذات الغرض بالاكثر.

البرهان الثالث :

ان وجوب الاقل منجز بحكم كونه معلوما ، وهو مردد بحسب الفرض بين كونه استقلاليا أو ضمنيا ، وفى حالة الاقتصار على الاتيان بالاقل يسقط هذا الوجوب المعلوم على تقدير كونه استقلاليا ، للحصول الامتثال ، ولايسقط على تقدير كونه ضمنيا ، لأن الوجوبات الضمنية

٤٢٩

مترابطة ثبوتا وسقوطا ، فما لم تمتثل جميعا لا يسقط شىء منها. وهذا يعنى ان المكلف الاتى بالأقل يشك فى سقوط وجوب الاقل والخروج عن عهدته فلابد له من الاحتياط ، وليس هذا الاحتياط بلحاظ احتمال وجوب الزائد حتى يقال : انه شك فى التكليف ، بل انما هو رعاية للتلكيف بالاقل المنجز بالعلم واليقين ، نظرا الى أن الشغل اليقينى يستدعى الفراغ اليقينى.

والجواب على ذلك : ان الشك فى سقوط تكليف معلوم انما يكون مجرى لاصالة الاشتغال فيماإذا كان بسبب الشك فى الاتيان بمتعلقه ، وهذا غير حاصل فى المقام ، لأن التكليف بالاقل سواء كان استقلاليا أو ضمنيا قد أتى بمتعلقه بحسب الفرض ، إذ ليس متعلقه إلا الأقل ، وانما ينشأ احتمال عدم سقوطه من الاحتمال قصور فى نفس الوجوب بلحاظ ضمنيته المانعة عن سقوطه مستقلا عن وجوب الزائد ، وهكذا يرجع الشك فى السقوط هنا الى الشك فى ارتباط وجوب الاقل بوجوب زائد ، ومثل هذا الشك ليس مجرى لاصالة الاشتغال بل يكون مؤمنا عنه بالاصل المؤمن عن ذلك الوجوب الزائد ، لا بمعنى ان ذلك الاصل يثبت سقوط وجوب الاقل بل بمعنى انه يجعل المكلف غير مطالب من ناحية عدم السقوط الناشىء من وجوب الزائد.

البرهان الرابع :

وهو علم اجمالى يجرى فى الواجبات التى يحرم قطعها عند الشروع فيها ، كالصلاة ، اذ يقال : بأن المكلف اذا كبر تكبيرة الاحرام ملحونة وشك فى كفايتها ، حصل له علم اجمالى إما بوجوب إعادة الصلاة أو

٤٣٠

حرمة قطع هذا الفرد من الصلاة التى بدأ بها ، لان الجزءإن كان يشمل الملحون حرم عليه قطع ما بيده والا وجبت عليه الاعادة ، فلا بد له من الاحتياط ، لأن اصالة البراءة عن وجوب الزائد تعارض اصالة البراءة عن حرمة قطع هذا الفرد.

ونلاحظ على ذلك : ان حرمة قطع الصلاة موضوعها هو الصلاة التى يجوز للمكلف بحسب وظيفته الفعلية الاقتصار عليها فى مقام الامتثال ، إذ لاإطلاق فى دليل الحرمة لما هو أوسع من ذلك. وواضح ان انطباق هذا العنوان على الصلاة المفروضة فرع جريان البراءة عن وجوب الزائد ، والا لما جاز الاقتصار عليها عملا ، وهذا يعنى ان احتمال حرمة القطع مترتبة على جريان البراءة عن الزائد ، فلا يعقل أن يستتبع أصلا معارضا له.

البرهان الخامس :

وحاصله تحويل الدوران فى المقام الى دوران الواجب بين عامين من وجه بدلا عن الاقل والاكثر ، وتوضيح ذلك ضمن مقدمتين :

الاولى : ان الواجب تارة يدور أمره بين المتباينين ، كالظهر والجمعة ، واخرى بين العامين من وجه ، كاكرام العادل وإكرام الهاشمى ، وثالثة بين الاقل والاكثر. ولا اشكال فى تنجيز العلم الاجمالى فى الحالة الاولى الموجب للجمع بين الفعلين ، وتنجيزه فى الحالة الثانية الموجب لعدم جواز الاقتصار على احدى مادتى الافتراق ، وأما الحالة الثالثة فهى محل الكلام.

الثانية : ان الواجب المردد فى المقام بين التسعة والعشرة إذا كان

٤٣١

عباديا فالنسبة بين امتثال الأمر على تقدير تعلقه بالاقل وامتثاله على تقدير تعلقه بالاكثر هى العموم من وجه ، ومادة الافتراق من ناحية الأمر بالاقل واضحة ، وهى أن يأتى بالتسعة فقط ، وأما مادة الافتراق من ناحية الأمر بالاكثر فلا تخلو من خفاء فى النظرة الاولى ، لان امتثال الأمر بالاكثر يشتمل على الاقل حتما ، ولكن يمكن تصوير مادة الافتراق فى حالة كون الأمر عباديا والاتيان بالاكثر بداعى الأمر المتعلق بالاكثر على وجه التقييد على نحو لو كان الأمر متعلقا بالاقل فقط لما انبعث عنه ، ففى مثل ذلك يتحقق المتثال الأمر بالاكثر على تقدير ثبوته ، ولا يكون امتثالا للامر بالاقل على تقدير ثبوته.

ويثبت على ضوء هاتين المقدمتين ان العلم الاجمالى فى المقام منجز إذا كان الواجب عباديا ، كما هو واضح.

والجواب : ان التقييد المفروض فى النية لا يضر بصدق الامتثال على كل حال حتى للأمر بالاقل ما دام الانبعاث عن الأمر فعليا.

البرهان السادس :

وهو يجرى فى الواجبات التى اعتبرت الزيادة فيها مانعة ومبطلة ، كالصلاة. والزيادة هى الاتيان بفعل بقصد الجزئية للمركب مع عدم وقوعه جزءا له شرعا. وحاصل البرهان : إن من يشك فى جزئية السورة يعلم إجمالاإما بوجوب الاتيان بها وإما بأن الاتيان بها بقصد الجزئية مبطل ، لانهاإن كانت جزء حقا وجب الاتيان بها ، والا كان الاتيان بها بقصد الجزئية زيادة مبطلة ، وهذا العلم الاجمالى منجز وتحصل موافقته القطعية بالاتيان بها بدون قصد الجزئية بل لرجاء المطلوبية أو

٤٣٢

للمطلوبية فى الجملة.

والجواب : ان هذا العلم الاجمالى منحل ، وذلك لأن هذا الشاك فى الجزئية يعلم تفصيلا بمطلية الاتيان بالسورة بقصد الجزئية حتى لو كانت جزء فى الواقع ، لان ذلك منه تشريع ما دام شاكا فى الجزئية ، فيكون محرما ولا يشمله الوجوب الضمنى للسورة وهذا يعنى كونه زيادة.

٤٣٣

ـ ٢ ـ

الدوران بين الأقل والأكثر فى الشرائط

والتحقيق فيها على ضوء المسألة السابقة هو جريان البراءة عن وجوب الزائد ، لأن مرجع الشرطية للواجب الى تقيد الفعل الواجب بقيد وانبساط الأمر على التقيد كما تقدم فى موضعه فالشك فيها شك فى الأمر بالتقيد ، والدوران انما هو بين الاقل والاكثرإذا لوحظ المقدار الذى يدخل فى العهدة ، وهذا يعنى وجوب علم تفصيلى بالاقل وشك بدوى فى الزائد ، فتجرى البراءة عنه.

ولا فرق فى ذلك بين أن يكون الشرط المشكوك راجعا الى متعلق الأمر ، كما فى الشك فى اشتراط العتق بالصيغة العربية واشتراط الصلاة بالطهارة ، أو الى متعلق المتعلق ، كما فى الشك فى اشتراط الرقبة التى يجب عتقها بالايمان ، أو الفقير الذى يجب إطعامه بالهاشمية.

وقد ذهب المحقق العراقى قدس الله روحه (١) الى عدم جريان البراءة فى بعض الحالات المذكورة ، ومرد دعواه الى ان الشرطية المحتملة على تقدير ثبوتها تارة تتطلب من المكلف فى حالة ارادته الاتيان بالاقل

ـــــــــــــــــ

(١) نهاية الافكار : القسم الثانى من الجزء الثالث ص ٣٩٩.

٤٣٤

أن يكمله ويضم اليه شرطه ، وأخرى تتطلب منه فى الحالة المذكورة صرفه عن ذلك الاقل الناقص رأسا والغاءه اذا كان قد أتى به ودفعه الى الاتيان بفرد آخر كامل واجد للشرط. ومثال الحالة الاولى : أن يعتق رقبة كافرة ، فان شرطية الايمان فى الرقبة تتطلب منه أن يجعلها مؤمنة عند عتقها ، وحيث ان جعل الكافر مؤمنا ممكن ، فالشرطية لا تقتضى الغاء الاقل رأسا ، بل تكميله وذلك بأن يجعل الكفار مؤمنا عند عتقه له فيعتقه وهو مؤمن.

ومثال الثانى : ان يطعم فقيرا غير هاشمى ، فان شرطية الهاشمية تتطلب منه إلغاء ذلك رأسا وصرفه الى الاتيان بفرد جديد من الاطعام ، لان غير الهاشمى لا يمكن جعله هاشميا

ففى الحالة الالولى تجرى البراءة عن الرطية المشكوكة ، لأن مرجع الشط فيها إلى الشك فى ايجاب ضم أمر زائد الى ما أتى به بعد الفراغ عن كون ما أتى به مصداقا للمطلوب فى الجملة. وهذا معنى العلم بوجوب الاقل والشك فى وجوب الزائد ، فالاقل محفوظ على كل حال والزائد مشكوك.

وفى الحالة الثانية لا تجرى البراءة عن الشرطية ، لان الاقل المأتى به ليس محفوظا على كل حال ، إذ على تقدير الشرطية لابد من الغائه رأسا ، فليس الشك فى وجوب ضم امر زائد الى ما أتى به ليكون من دوران الامر بين الاقل والاكثر.

وهذا التحقيق لا يمكن الأخذ به ، فان الدوران فى كلتا الحالتين دوران بين الاقل والاكثر ، لأن الملحوط فيه إنما هو عالم الجعل وتعلق الوجوب ، وفى هذا العالم ذات الطبيعى معروض للوجوب جزما ويشك

٤٣٥

فى عروضه على التقيد فتجرى البراءة عنه ، وليس الملحوظ فى الدوران علام التطبيق خارجا ليقال : ان ما أتى به من الاقل خارجا قد لا يصلح لضم الزائد اليه ولابد من إلغائه رأسا على تقدير الشرطية.

ولا يختلف الحال فى جريان البراءة عن الشك فى الشرطية ووجوب التقيد بين أن يكون القيد المشكوك أمرا وجوديا وهو ما يعبر عنه بالشرط عادة ، أو عدم وجودى ، ويعبر عن الأمر الوجودى حينئذ بالمانع ، فكما لا يجب على المكلف ايجاد ما يحتمل شرطيته ، كذلك لا يجب عليه الاجتناب عما يحتمل ما نعيته ، وذلك لجريان الاصل المؤمن.

٤٣٦

ـ ٣ ـ

دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلى

وذلك بأن يعلم بوجوب متعلق بعنوان خاص أو بعنوان آخر مغاير له مفهوما غير انه اعم منه صدقا ، كماإذا علم بوجوب الاطعام إما لطبيعى الحيوان أو لنوع خاص منه كالانسان ، فان الحيوان والانسان كمفهومين ، متغايران ، وإن كان أحدهما أعم من الاخر صدقا.

والصحيح أن يقال : إن التغاير بين المفهومين تارة يكون على أساس الاجمال والتفصيل فى اللحاظ ، كما فى الجنس والنوع ، فان الجنس مندمج فى النوع ومحفوظ فيه ولكن بنحو اللف والاجمال. واخرى يكون التغاير فى ذات الملحوط لا فى مجردإجمال اللحاظ وتفصيليته ، كما لو علم بوجوب إكرام زيد كيفما اتفق أو بوجوب اطعامه ، فان مفهوم الاكرام ليس محفوظا فى مفهوم الاطعام انحفاظ الجنس فى النوع ، غير ان احدهما أعم من الاخر صدقا.

فالحالة الاولى تدخل فى نطاق الدوران بين الاقل والاكثر حقيقة إذا اخذنا بالاعتبار مقدار ما يدخل فى العهدة ، وليست من الدوران بين المتباينين ، لان تباين المفهومين إنما هو بالاجمال والتفصيل ، وهما من

٤٣٧

خصوصيات اللحاظ التى لا تدخل فى العهدة وانما يدخل فيها ذات الملحوظ وهو مردد بين الاقل وهو الجنس أو الاكثر وهو النوع.

وأما الحالة الثانية فالتباين فيها بين المفهومين ثابت فى ذات الملحوظ لا فى كيفية لحاظهما ، ومن هنا كان الدوران فيها دورانا بين المتباينين ، لان الداخل فى العهدة إما هذا المفهوم أو ذاك ، وهذا يعنى ان العلم الاجمالى ثابت ، ولكن مع هذا تجرى البراءة عن وجوب أخص العنوانين صدقا ، ولا تعارضها البراءة عن وجوب أعمهما ، وفقا للجواب الاخير من الاجوبة المتقدمة على البرهان الأول فى المسألة الاولى من مسائل الدوران بين الاقل والاكثر الارتباطيين ، وذلك : ان البراءة عن وجوب الأعم ليس لها دور معقول لكى تصلح للمعارضة ، لانه إن اريد بها التأمين فى حالة ترك الاعم مع الاتيان بالاخص فهو غير معقول ، لان نفى الاعم يتضمن نفى الاخص لا محالة. وإن اريد بها التأمين فى حالة ترك الاعم بما يتضمنه من ترك الاخص فهذا مستحيل ، لان المخالفة القطعية ثابتة فى هذه الحالة والاصل العلمى انما يؤمن عن المخالفة الاحتمالية لا القطعية.

٤٣٨

ـ ٤ ـ

دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعى

ونتكلم فى حكم هذا الدوران على عدة مبان فى تصوير التخيير الشرعى الذى هو أحد طرفى الترديد فى المقام :

فأولا : نبدأ بالمبنى القائل بأن مرجع التخيير الشرعى الى وجوبين مشروطين وشرط كل منهما ترك متعلق الاخر ، وهذا يعنى ان ( العتق ) مثلا الذى علم وجوبه إما تعيينا أو تخييرا واجب فى حالة ترك ( الاطعام ) بلا شك ، ويشك فى وجوبه حالة وقوع الاطعام ، فتجرى البراءة عن هذا الوجوب ، وينتج ذلك التخيير عمليا.

وقد يقال كما فى بعض افادات المحقق العراقى (١) : ان كلا من الوجوب التعيينى للعتق والوجوب التخييرى فيه حيثية الزامية يفقدها الاخر ، فيكون كل منهما مجرى للاصل النافى ويتعارض الاصلان.

أما الحيثية الالزامية فى الوجوب التعيينى للعتق التى يجرى الاصل النافى للتأمين عنها ، فهى الالزام بالعتق حتى ممن أطعم ، وهى حيثية النافى للتأمين عنها ، ففى الالزام بالعتق حتى ممن أطعم ، وهى حيثية لا يشتمل عليها الوجوب التخييرى.

وأما الحيثية الالزامية فى الوجوب التخييرى للعتق أو الاطعام التى

ـــــــــــــــــ

(١) نهاية الافكار : القسم الثانى من الجزء الثالث ص ٢٨٨ ٢٨٩.

٤٣٩

يجرى الاصل النافى للوجوب التخييرى تأمينا عنها ، فهى تحريم ضم ترك الاطعام الى ترك العتق ، إذ بهذا الضم تتحقق المخالفة ، وهى حيثية لا شتمل عليها الوجوب التعيينى للعتق ، إذ على الوجوب التعيينى تكون المخالفة متحققة بنفس ترك العتق ، ولا يكون هناك بأس فى ضم ترك الاطعام الى ترك العتق ، لانه من ضم ترك المباح الى ترك الواجب ، فالببراءة عن وجوب العتق ممن أطعم معارضة بالبراءة عن حرمة ترك الاطعام ممن ترك العتق.

وهذا البيان وإن كان يثبت علما اجماليا باحدى حيثيتين الزاميتين ، ولكن هذا العلم غير منجز بل منحل حكما ، لجريان البراءة الاولى وعدم معارضتها بالبراءة الثانية ، لان فرض جريانها هو فرض وقوع المخالفة القطعية ، ولا يعقل التأمين مع المخالفة القطعية ، بخلاف فرض جريان البراءة الاولى فانه فرض المخالفة الاحتمالية.

وثانيا : نأخذ المبنى القائل بأن مرجع التخيير الشرعى الى التخيير العقلى ، والحكم حينئذ هو الحكم فى المسألة السابقة فيماإذا دار الواجب بين إكرام زيد مطلقا وإطعامه خاصة.

وثالثا : نأخذ المبنى القائل بأن مرجع الوجوب التخييرى الى وجود غرضين لزوميين للمولى غير انهما متزاحمان فى مقام التحصيل ، بمعنى ان استيفاء أحدهما يعجز المكلف عن استيفاء الاخر ، ومن هنا يحكم بوجوب كل من الفعلين مشروطا بترك الاخر ، والحكم هنا اصالة الاستغال ، لأن مرجع الشك فى وجوب العتق تعيينا أو تخييرا حينئذ الى الشك فى ان الاطعام هل يعجز العتق تعيينا أو تخييرا حينئذ الى الشك فى ان الاطعام هل يعجز عن استيفاء الغرض اللزومى من العتق ، فيكون من الشك فى القدرة الذى تجرى فيه اصالة الاشتغال.

٤٤٠