دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

ولكن قد يتوهم بقاء الاطراف على منجزيتها ، لأن الاصول المؤمنة تعارضت فيها فى حال وجود العلم الاجمالى ، وهو وإن زال ولكنها بعد تعارضها وتساقطها لا موجب لعودها ، فتظل الشبهة فى كل طرف بلا أصل مؤمن فتتنجز.

وقد يجاب على هذا التوهم بأن الشك الذى سقط اصله بالمعارضة هو الشك فى انطباق المعلوم بالاجمال ، وهذا الشك زال بزوال العلم الاجمالى ووجد بدلا عنه الشك البدوى ، وهو فرد جديد من موضوع دليل الاصل ، ولم يقع الاصل المؤمن عنه طرفا للمعارضة ، فيجرى بدون إشكال. وفى كل من هاتين الصورتين يزول العلم بحدوث الجامع رأسا.

الصورة الثالثة : أن يزول العلم بالجامع بقاء وإن كان العلمب بحدوثه لا يزال مستمرا ، وهذا الصورة تتحقق على أنحاء :

النحو الأول : أن يكون للجامع المعلوم أمد محدد بحيث يرتفع متى ما استوفاه ، فاذا استوفى أمده لم يعد هناك علم بالجامع بقاء ، بل يعلم بارتفاعه وإن كان العلم بحدوثه ثابتا.

النحو الثانى : أن يكون الجامع على كل تقدير متيقنا الى فترة ومشكوك البقاء بعد ذلك ، وفى مثل ذلك يزول أيضا العلم بالجامع بفاء ولكن يجرى استصحاب الجامع المعلوم ، ويكون الاستصحاب حينئذ بمثابة العلم الاجمالى.

النحو الثالث : أن يكون الجامع المعلوم مرددا بين تكليفين ، غير ان أحدهما على تقدير تحققه يكون أطول مكثا فى عمود الزمان من الاخر ، كماإذا علم بحرمة الشرب من هذا الاناء الى الظهر أو بحرمة الشرب من الاناء الاخر الى المغرب ، فبعد الظهر لا علم بحرمة أحد الاناءين فعلا ،

٣٨١

فهل يجوز الشرب من الاناء الاخر حينئذ لزوال العلم الاجمالى؟

والجواب بالنفى ، وذلك لعدم زوال العلم الاجمالى وعدم خروج الطرف الاخر عن كونه طرفا له ، فان الجامع المردد بين التكليف القصير والتكليف الطويل الأمد لا يزال معلوما حتى الان كما كان ، فالتكليف الطويل فى الاناء الاخر بكل ما يضم من تكاليف انحلالية بعدد الاناء الى المغرب طرف للعلم الاجمالى. وتسمى مثل ذلك بالعلم الاجمالى المردد بين القصير والطويل ، وحكمه انه ينجز الطويل على امتداده.

النحو الرابع : أن يكون التكليف فى أحد طرفى العلم الاجمالى مشكوك البقاء على تقدير حدوثه. وقد يقال : فى مثل ذلك بسقوط المنجزية ، لأن فترة البقاء المشكوكة من ذلك التكليف لا موجب لتنجزها بالعلم الاجمالى ، لأنها ليست طرفا للعلم الاجمالى ، ولا بالاستصحاب ، إذ لا يقين بالحدوث ليجرى الاستصحاب.

وقد يجاب على ذلك : بأن الاستصحاب يجرى على تقدير الحدوث بناء على انه متقوم بالحالة السابقة لا باليقين بها ، ومعه يحصل العلم الاجمالى إما بثبوت الاستصحاب فى هذا الطرف أو ثبوت التكليف الواقعى فى الطرف الاخر ، وهو كاف للتنجيز :

٢ ـ الاضطرار الى بعض الاطراف :

الحالة الثانية أن يعلم اجمالا بنجاسة أحد الطعامين ويكون مضطرا فعلاإلى تناول أحدهما ، ولا شك فى ان المكلف يسمح له بتناول ما يضطر اليه ، وانما نريد أن نعرف ان العلم الاجمالى هل يكون منجزا لوجوب الاجتناب عن الطعام الاخر أو لا؟

٣٨٢

وهذه الحالة لها صورتان : إحداهما أن يكون الاضطرار متعلقا بطعام معين. والاخرى أن يكون بالامكان دفعه بأى واحد من الطعامين.

أما الصوة ر الاولى : فالعلم الاجمالى فيها يسقط عن المنجزية ، لزوال الركن الاول ، حيث لا يوجد علم إجمالى بجامع التكليف. والسبب فى ذلك : ان نجاسة الطعام المعلومة إجمالا جزء الموضوع للحرمة والجزء الاخر عدم الاضطرار ، وحيث ان المكلف يحتمل ان النجس المعلوم هو الطعام المضطر اليه بالذات ، فلا علم له بالتكليف الفعلى ، فتجرى البراءة عن حرمة الطعام غير المضطر اليه وغيرها من الاصول المؤمنة بدون معارض. لأن حرمة الطعام المضطر اليه غير محتملة ليحتاج الى الاصل بشأنها ، ولكن هذا على شرط أن لا يكون الاضطرار متأخرا عن العلم الاجمالى ، والا بقى على المجزية ، لانه يكون من حالات العلم الاجمالى المردد بين الطويل والقصير ، إذ يعلم المكلف بتكليف فعلى فى هذا الطرف قبل حدوث الاضطرار ، أو فى الطرف الاخر حتى الان.

وقد يفترض الاضطرار قبل العلم ولكنه متأخر عن زمان النجاسة يتناول ان أحدهما تنجس صباحا ، وهنا العلم بجامع التكليف الفعلى موجود ، فالركن الأول محفوظ ولكن الركن الثالث غير محفوظ ، لأن التكليف على تقدير انطباقه على مورد الاضطرار فقد انتهى أمده ، ولا أثر لجريان البراءة عنه فعلا ، فتجرى البراءة فى الطرف الاخر بلا معارض.

ويطرد ما ذكرناه فى غير الاضطرار أيضا من مسقطات التكليف ، كتلف بعض الاطراف أو تطهيرها ، كماإذا علم اجمالا بنجاسة أحد

٣٨٣

اناءين ، ثم تلف أحدهما أو غسل بالماء ، فان العلم الاجمالى لا يسقط عن المنجزية بطرو المسقطات المذكورة بعده ، ويسقط عن المنجزية بطروها مقارنة للعللم الاجمالى أو قبله.

وأما الصورة الثانية : فلا شك فى سقوط وجوب الموافقة القطعية بسبب الاضطرار المفروض. وانما الكلام فى جواز المخالفة القطعية ، فقد يقال بجوازها ، كما هو ظاهر المحقق الخراسانى رحمه الله (١). وبرهان ذلك يتكون مما يلى :

أولا : إن العلم الاجمالى بالتكليف علة تامة لوجوب الموافقة القطعية.

ثانيا : إن المعلول هنا ساقط.

ثالثا : يستحيل سقوط المعلول بدون سقوط العلة.

فينتج : انه لابد من الالتزام بسقوط العلم الاجمالى بالتكليف ، وذلك بارتفاع التكليف ، فلا تكليف مع الاضطرار المفروض ، وبعد ارتفاعه وإن كان التكليف محتملا فى الطرف الاخر ، ولكنه حينئذ احتمال بدوى مؤمن عنه بالاصل.

والجواب عن ذلك :

أولا : بمنع علية العلم الاجمالى بالتكليف لوجوب الموافقة القطعية.

ثانيا : بأن ارتفاع وجوب الموافقة القطعية الناشىء من العجز والاضطرار لا ينافى العلية المذكورة ، لأن المقصود منها عدم إمكان جعل الشك مؤمنا ، لأن الوصول بالعلم تام ، ولا ينافى ذلك وجود مؤمن آخر

ـــــــــــــــــ

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ص ٢١٥.

٣٨٤

وهو العجز ، كما هو المفروض فى حالة الاضطرار.

ثالثا : لو سلمنا فقرات البرهان الثلاث فهى انما تنتج لزوم التصرف فى التكليف المعلوم على نحو لا يكون الترخيص فى تناول أحد الطعامين لدفع الاضطرار إذنا فى ترك الموافقة القطعية له ، وذلك يحصل برفع اليد عن اطلاق التكليف لحالة واحدة ، وهى حالة تناول الطعام المحرم وحده من قبل المكلف المضطر مع ثبوته فى حالة تناول كلا الطعامين معا ، فمع هذا الافتراض إذا تناول المكلف المضطر العالم إجمالا أحد الطعامين فقط ، لم يكن قد ارتكب مخالفة احتمالية على الاطلاق ، واذا تناول كلا الطعامين فقد ارتكب مخالفة قطعية للتكليف المعلوم فلا يجوز.

٣ ـ انحلال العلم الاجمالى بالتفصيلى :

لكل علم اجمالى سبب ، والسبب تارة يكون مختصا فى الواقع بطرف معين من أطراف العلم الاجمالى ، واخرى تكون نسبته الى الطرفين أو الاطراف على نحو واحد. ومثال الأول : أن ترى قطرة دم قتع فى أحد الاناءين ولا تميز الاناء بالضبط ، فتعلم اجمالا بنجاسة أحد الاناءين ، والسبب هو قطرة الدم وهى فى الواقع مختصة بأحد الطرفين. ويمكن أن تؤخذ قيدا فى المعلوم بأن تقول : انى أعلم إجمالا بنجاسة ناشية من قطرة الدم التى رأيتها ، لا بنجاسة كيفما اتفقت.

ويترتب على ذلك : انه إذا حصل علم تفصيلى بنجاسة إناء معين من الانائين ، فان كان هذا العلم التفصيلى بنفس سبب العلم الاجمالى ، بأن علمت تفصيلا بأن القطرة قد سقطت هنا ، انحل العلم

٣٨٥

الاجمالى بالعلم التفصيلى وانهدم الثانى ، إذ يكون من النحو الأول من الانحاء الأربعة المتقدمة عند الحديث عن ذلك الركن.

وأن كان هذا العلم التفصيلى بسبب آخر ، كماإذا رأيت قطرة اخرى من الدم تسقط فى الاناء المعين ، لم ينحل العلم الاجمالى بالعلم التفصيلى ، لان المعلوم التفصيلى ليس مصداقا للمعلوم الاجمالى لينطبق عليه ويسرى العلم من الجامع الى الفرد بخصوصه. وكذلك الأمرإذا شك فى ان سبب العلم التفصيلى هو نفس تلك القطرة أو غيرها ، حيث لا يحرز حينئذ كون المعلوم التفصيلى مصداقا للمعلوم الاجمالى ، ويدخل فى النحو الثالث من الانحاء الأربعة المتقدمة عنه الحديث عن الركن الثانى.

ومثال الثانى أى ما كانت نسبة سبب العلم الاجمالى فيه الى الاطراف متساوية أن يحصل علم إجمالى بنجاسة أحد الاناءات التى هى فى معرض استعمال الكافر أو الكلب لمجرد استبعاد أن يمر زمان طويل بدون أن يستعمل بعضها ، فان هذا الاستبعاد نسبته الى الاطراف على نحو واحد ، ويترتب على ذلك انه لا يصلح أن يكون قيدا مخصصا للمعلوم الاجمالى. وعليه فاذا حصل العلم التفصيلى بنجاسة إناء معين انحل العلم الاجمالى حتما ، لانهدام الركن الثانى ، وذلك لأن المعلوم التفصيلى مصداق للمعلوم الاجمالى جزما حيث لم يتخصص المعلوم الاجمالى بقيد زائد ، ومعه يسرى العلم من الجامع الى الفرد ويدخل فى النحو الثانى من الانحاء الأربعة المتقدمة عند الحديث عن الركن الثانى.

وفى كل حالة يثبت فيها الانحلال يجب أن يكون المعلوم التفصيلى

٣٨٦

والمعلوم الاجمالى متحد فى الزمان ، وأماإذا كان المعلوم التفصيلى متأخرا زمانا فلا انحلال للعلم الاجمالى حقيقة ، لعدم كون المعلوم التفصيلى حينئذ مصداقا للمعلوم الاجمالى. ولا يشترط فى الانحلال الحقيقى وانهدام الركن الثانى التعاصر بين نفس العلمين ، فان العلم التفصيلى المتأخر زمانا يوجب الانحلال أيضاإذا احرز كون معلومه مصداقا للمعلوم بالاجمال ، لأن مجرد تأخير العلم التفصيلى مع إحراز المصداقية لا يمنع عن سراية العلم قهرا من الجامع الى الخصوصية ، وهو معنى الانحلال.

٤ ـ الانحلال الحكمى بالامارات والاصول :

إذا جرت فى حق المكلف إمارات أو اصول شرعية منجزة للتكليف فى بعض اطراف العلم الاجمالى فلا انحلال حقيقى ولا تعبدى ، كما تقدم ، ولكن ينهدم الركن الثالث باحدى صيغتيه المتقدمتين إذا توفرت شروط :

أحدها : أن لا يقل البعض المنجز بالامارة أو الاصل الشرعى عن عدد المعلوم بالاجمال من التكاليف.

ثانيها : أن لا يكون المنجز الشرعى عن امارة أو أصل ناظرا الى تكليف مغاير لما هو المعلوم اجمالا ، كماإذا علم اجمالا بحرمة أحد الاناءين بسبب نجاسته ، وقامت البينة على حرمة أحدهما المعين بسبب الغصب.

ثالثها : أن لا يكون وجود المنجز الشرعى متأخرا عن حدوث العلم الاجمالى.

٣٨٧

فكلما توفرت هذه الشروط الثلاثة انهدم الركن الثالث ، لجريان الاصل المؤمن فى غير مورد المنجز الشرعى بلا معارض وفقا للصيغة الاولى ، ولعدم صلاحية العلم الاجمالى للاستقلال فى تنجيز معلومه على كل تقدير وفقا للصيغة الثانية. ويسمى السقوط عن المنجزية فى هذه الحالة بالانحلال الحكمى تمييزا له عن الانحلال الحقيقى والانحلال التعبدى.

وأما إذا اختل الشرط الأول فالعلم الاجمالى منجز للعدد الزائد ، والاصول بلحاظه متعارضة. وإذا اختل الشرط الثانى فالأمر كذلك ، لأن ما ينجزه العلم فى مورد الامارة غير ما تنجزه الاماراة نفسها. واذا اختل الشرط الثالث كان العلم الاجمالى منجزا والركن الثالث محفوظا ، لان الاصول المؤمنة فى غير مورد الامارة والأصل الشرعى المنجز ، معارضة بالاصول المؤمنة التى كانت تجرى فى موردهما قبل ثبوتهما. وبكلمة أخرى إذا أخذنا من مورد المنجز الشرعى فترة ما قبل ثبوت هذا المنجز ومن غيره الفترة الزمنية على امتدادها ، حصلنا على علم اجمالى تام الاركان فينجز.

ومن هنا يعرف ان انهدام الركن الثالث بالمنجز الشرعى مرهون بعدم تأخر نفس المنجز عن العلم ، ولا يكفى عدم تأخر مؤدى الامارة مثلا مع تأخر قيامها ، وذ لك لأن سقوط العلم الاجمالى عن التنجيز فى حالات قيام المنجز الشرعى فى بعض اطرافه ، إنما هو بسبب المنجزية الشرعية باحدى الصيغتين السابقتين ، والمنجزية لا تبدأإلا من حين قيام الامارة أو جريان الاصل ، سواء كان المؤدى مقارنا لقيامها أو سابقا على ذلك.

وبالمقارنة بين الانحلال الحكمى كما شرحناه هنا والانحلال

٣٨٨

الحقيقى كما شرحناه آنفا يظهر انهما يختلفان فى هذه النقطة ، فبينما العبرة فى الانحلال الحكمى بعدم تأخر نفس المنجز الشرعى عن العلم الاجمالى ، نلاحظ ان العبرة فى الانحلال الحقيقى كانت بملاحظة جانب المعلوم التفصيلى وعدم تأخره عن زمان المعلوم الاجمالى ، وذلك لأن ميزانه سراية العلم من الجامع الى الفرد ، وهى لازم قهرى لانطباق المعلوم الاجمالى على المعلوم التفصيلى ومصداقية هذا لذاك ، ولا دخل لتاريخ العلمين فى ذلك ، فمتى ما اجتمع العلمان ولو بقاء وحصل الانطباق المذكور حصل الانحلال الحقيقى.

٥ ـ اشتراك علمين اجماليين فى طرف :

قد يفترض ان أحد طرفى العلم الاجمالى طرف فى علم اجمالى آخر ، فان كان العلمان متعاصرين فلا شك فى تنجيزهما معا وتلقى الطرف المشترك التنجز منهما معا ، لأن مرجع العلمين الى العلم بثبوت تكليف واحد فى الطرف المشترك ، أو تكليفين فى الكرفين الاخرين.

وأما إذا كان احدهما سابقا على الاخر فقد يقال : ان العلم المتأخر يسقط عن المنجزية ، لاختلال الركن الثالث إما بصيغته الاولى ، وذلك بتقريب ان الطرف المشترك قد سقط عنه الاصل المؤمن سابقا بتعارض الاصول الناشىء من العلم الاجمالى السابق ، فالاصل فى الطرف المختص بالعلم الاجمالى المتأخر يجرى بلا معارض. وإما بصيغته الثانية ، وذلك بتقريب ان الطرف المشترك قد تنجز بالعلم السابق ، فلا يكون العلم المتأخر صالحا لمنجزيته ، فهوإذن لا يصلح لمنجزية معلومه على كل تقدير.

٣٨٩

ولكن الصحيح عدم السقوط عن المنجزية وبطلان التقريبين السابقين ، وذ لك لان العلم الاجمالى الاول لا يوجب التنجيز فى كل زمان وتعارض الاصول فى الاطراف كذلك إلا بوجوده الفعلى فى ذلك الزمان لا بمجرد حدوثه ولو فى زمان سابق. وعليه فتنجز الطرف المشترك بالعلم الاجمالى السابق فى زمان حدوث العلم المتأخر انما يكون بسبب بقاء ذلك العلم السابق الى ذلك الحين لا بمجرد حدوثه ، وهذا يعنى ان تنجز الطرف المشترك فعلا له سببان ، أحدهما : بقاء العلم السابق. والاخر : حدوث العلم المتأخر ، واختصاص أحد السببين بالتأثير دون الاخر ترجيح بلا مرجح فينجزان معا ، وبذلك يبطل التقريب الثانى.

كما ان الاصل المؤمن فى الطرف المشترك يقتضى الجريان فى كل آن ، وهذا الاقتضاء يؤثر مع عدم المعارض ، ومن الواضح ان جريان الاصل المؤمن فى الطرف المشترك فى الفترة الزمنية السابقة على حدوث العلم الاجمالى المتأخر كان معارضا بأصل واحد وهو الاصل فى الطرف المختص بالعلم السابق غير ان جريانه فى الفترة الزمنية اللاحقة يوجد له معارضان ، وهما الاصلان الجاريان فى الطرفين المختصين معا ، وبذلك يبطل التقريب الأول ، فالعلمان الاجماليان منجزان معا.

٦ ـ حكم ملاقى احد الاطراف :

إذا علم المكلف اجمالا بنجاسة أحد المائعين ، ولاقى الثوب أحدهما المعين ، حصل علم اجمالى آخر بنجاسة الثوب أو المائع الاخر ، وهذا ما يسمى بملاقى أحد اطراف الشبهة. وفى مثل ذلك قد يقال بعدم تنجيز العلم الاجمالى الاخر ، فلا يجب الاجتناب عن الثوب وإن وجب

٣٩٠

الاجتناب عن المائعين ، وذلك لاحد تقريبين :

الأول : تطبيق فرضية العلمين الاجماليين المتقدم والمتأخر فى المقام ، بأن يقال : انه يوجد لدى المكلف علمان اجماليان بينهما طرف مشترك وهو المائع الاخر ، فينجز السابق منهما دون المتأخر.

وهذا التقريب إذا تم يختص بفرض تأخر الملاقى أو العلم بها على الأقل عن العلم بنجاسة أحد المائعين ، ولكنه غير تام ، كما تقدم.

الثانى : ان الركن الثالث منهدم ، لأن اصل الطهارة يجرى فى الثوب بدون معارض ، وذلك لانه اصل طولى بالنسبة الى اصل الطهارة فى المائع الذى لاقاه الثوب ، ولنسمه المائع الاول فاصالة الطهارة فى المائع الاول تعارض اصالة الطهارة فى المائع الاخر ، ولا تدخل اصالة الطهارة للثوب فى هذا التعارض ، لطوليتها ، وبعد ذلك تصل النوبة اليها بدون معارض وفقا لما تقدم فى الحالة الاولى من حالات الاستثناء من تعارض الاصول وتساقطها.

وهذا التقريب إذا تم يجرى سواء اقترن العلم بالملاقات مع العلم بنجاسة أحد المائعين أو تأخر عنه ، فالتقريب الثانى إذن أوسع جريانا من التقريب الأول.

وقد يقال : ان هناك بعض الحالات لا يجرى فيها كلا التقريبين ، وذلك فيما إذا حصل العلم الاجمالى بنجاسة أحد المائعين بعد تلف المائع الأول ، ثم علم بان الثوب كان قد لاقى المائع الأول. ففى هذه الحالة لا يجرى التقريب الأول ، لأن العلم الاجمالى المتقدم ليس منجزا ، لاختلال الركن الثالث فيه ، كما تقدم ، فلا يمكن أن يحول دون تنجيز العلم الاجمالى المتأخر بنجاسة الثوب المائع الاخر الموجود فعلا.

٣٩١

ولا يجرى التقريب الثانى ، لأن الأصل المؤمن فى المائع الأول لا معنى له بعد تلفه ، وهذا يعنى ان الأصل فى المائع الاخر له معارض واحد وهو الاصل المؤمن فى الثوب ، فيسقطان بالتعارض.

ولكن الصحيح ان التقريب الثانى يجرى فى هذه الحالة أيضا ، لأن تلف المائع الأول لا يمنع عن استحقاقه لجريان اصل الطهارة فيه ما دام لطهارته أثر فعلا ، وهو طهارة الثوب. فأصل الطهارة فى المائع الأول ثابت فى نفسه ويتولى المعارضة مع الأصل فى المائع الاخر فى المرتبة السابقة ويجرى الأصل فى الثوب بعد ذلك بلا معارض.

٧ ـ الشبهة غير المحصورة :

إذا كثرت أطراف العالم الاجمالى بدرجة كبيرة سميت بالشبهة غير المحصورة. والمشهور بين الاصوليين سقوط عن المنجزية لوجوب الموافقة القطعية ، وهناك من ذهب الى عدم حرمة المخالفة القطعية.

ويجب ان نفترض عامل الكثرة فقط وما قد ينجم عنه من تأثير فى اسقاط العلم الاجمالى عن المنجزية ، دون أن ندخل فى الحساب ما قد يقارن افتراض الكثرة من امور اخرى ، كخروج بعض الاطراف عن محل الابتلاء.

وعلى هذا الاساس يمكن أن نقرب عدم وجوب الموافقة القطعية وجواز اقتحام بعض الاطراف بتقريبين :

التقريب الأول : ان هذا القتحام مستند الى المؤمن وهو الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالاجمال على الطرف المقتحم ، إذ كلما زادت اطراف العلم الاجمالى تضائلت القيمة الاحتمالية للانطباق فى كل

٣٩٢

طرف حتى تصل الى درجة يوجد على خلافها اطمئنان فعلى.

وقد استشكل المحقق العراقى (١) وغيره باستشكالين على هذا التقريب :

أحدهما : محاولة البرهنة على عدم وجود اطمئنان فعلى بهذا النحو ، لأن الاطراف كلها متساوية فى استحقاقها لهذا الاطمئنان الفعلى بعدم الانطباق ، ولو وجدت اطمئنانات فعلية بهذا النحو فى كل الاطراف لكان ذلك مناقضا للعلم الاجمالى بوجود النجس مثلا فى بعضها ، لان السالبة الكلية التى تتحصل من مجموع الاطمئنانات مناقضة للموجبة الجزئية التى يكشفها العلم الاجمالى.

والجواب على ذلك : ان الاطمئنانات المذكورة إذا أدت بمجموعها الى الاطمئنان الفعلى بالسالبة الكلية فالمناقضة واضحة ، ولكن الصحيح انها لا تؤدى الى ذلك ، فلا مناقضة.

وقد تقول : كيف لا تؤدى الى ذلك؟ أليس الاطمئنان بـ ( الف ) والاطمئنان بـ ( باء ) يؤديان حتما الى الاطمئنان بمجموع « الالف والباء »؟ وكقاعدة عامة ان كل مجموعة من الاحرازات تؤدى الى احراز مجموعة المتعلقات ووجودها جميعا بنفس تلك الدرجة من الاحراز.

ونجيب على ذلك :

أولا : بالنقض ، وتوضيحه ان من الواضح وجود احتملات لعدم انطباق المعلوم الاجمالى بعدم أطراف العلم الاجمالى ، وهذه الاحتمالات والشكوك فعلية بالوجدان ، ولكنها مع هذا لا تؤدى بمجموعها الى احتمال مجموع محتملاتها بنفس الدرجة. فاذا صح ان ( الف ) محتمل

ـــــــــــــــــ

(١) راجع : نهاية الافكار ، القسم الثانى من الجزء الثالث ص ٣٣٠.

٣٩٣

فعلا و( باء ) محتمل فعلا ومع هذا لا يحتمل بنفس الدرجة مجموع ( الف ) و( باء ) فيصح أن يكون كل منهما مطمئنا به ولا يكون المجموع مطئمنا به.

وثانيا : بالحل ، وهو ان القاعدة المذكورة انما تصدق فيما اذا كان كل من الاحرازين يستبطن اضافة الى احراز وجود متعلقة فعلا احراز وجوده على تقدير وجود متعلق الاحراز الاخر على نهج القضية الشرية ، فمن يطمئن بأن ( الف ) موجود حتى على تقدير وجود ( باء ) أيضا ، وان ( باء ) موجود أيضا حتى على تقدير وجود ( الف ) ، فهو مطمئن حتما بوجود المجموع.

وفى المقام الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم الاجمالى على أى طرف وإن كان موجودا فعلا ولكنه لا يستبطن الاطمئنان بعدم الانطباق عليه حتى على تقدير عدم الانطباق على الطرف الاخر ، والسبب فى ذلك ان هذا الاطمئنان إنما نشأ من حساب الاحتمالات وإجماع احتمالات الانطباق فى الاطراف الاخرى على نفى الانطباق فى هذا الطرف ، فتلك الاحتمالات إذن هى الاساس فى تكون الاطمئنان ، فلا مبرر إذن للاطمئنان بعدم الانطباق على طرف عند افتراض عدم الانطباق على الطرف الاخر ، لان هذا الفتراض يعنى بطلان بعض الاحتمالات التى هى الاساس فى تكون الاطمئنان بعدم الانطباق.

وأما الاستشكال الاخر فيتجه بعد التسليم بوجود الاطمئنان المذكور الى ان هذا الاطمئنان بعدم الانطباق لما كان موجودا فى كل طرف فالاطمئنانات معارضة فى الحجية والمعذرية ، للعلم الاجمالى بأن بعضها كاذب والتعارض يؤدى الى سقوط الحجية عن جميع تلك الاطمئنانات.

والجواب على ذلك : ان العلم الاجمالى بكذب بعض الامارات انما يؤدى الى تعارضها وسقوطها عن الحجية لأحد سببين :

٣٩٤

الأول : أن يحصل بسبب تكاذب بين نفس الامارات ، فيدل كل واحدة منها بالالتزام على وجود الكذب فى الباقى ، ولا يمكن التعبد بحجية المتكاذبين.

الثانى : أن تؤدى حجية تلك الامارات والحالة هذه الى الترخيص فى المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال.

وكلا السببين غير متوفر فى المقام :

أما الأول فلان كل اطمئنان لا يوجد ما يكذبه بالدلالة الالتزامية ، لانناإذا أخذنا أى اطمئنان آخر معه لم نجد من المستحيل أن يكونا معا صادقين ، فلماذا يتكاذبان؟ وإذا أخذنا مجموعة الاطمئنانات الاخرى لم نجد تكاذبا أيضا ، لأن هذه المجموعة لا تؤدى الى الاطمئنان بمجموع متعلقاتها ، أى الاطمئنان بعدم الانطباق على سائر الاطراف المساوق للاطمئنان بالانطباق على غيرها ، وذلك لما برهنا عليه من أن كل اطمئنانين لا يتضمنان الاطمئنان بالقضية الشرطية لا يؤدى اجتماعهما الى الاطمئنان بالمجموع ، والاطمئنانات الناشئة من حساب الاحتمال هنا من هذا القبيل ، كما عرفت.

وأما الثانى فلان الترخيص فى المخالفة القطعية انما يلزم لو كان دليل حجية هذه الاطمئنانات يقتضى الحجية التعيينية لكل واحد منها ، غير ان الصحيح ان مفاده هو الحجية التخييرية ، لان دليل الحجية هنا هو السيرة العقلائية وهى منعقدة على الحجية بهذا المقدار.

التقريب الثانى : ان الركن الرابع من أركان التنجيز المتقدمة مختل ، وذلك لان جريان الاصول فى كل اطراف العلم الاجمالى لا يؤدى الى فسح المجال للمخالفة القطعية علمليا والاذن فيها ، لاننا نفترض كثرة

٣٩٥

الاطراف بدرجة لا تتيح للمكلف اقتحامها جميعا ، وفى مثل ذلك تجرى الاصول جميعا بدون معارضة.

وهذا التقريب متجه على أساس الصيغة الاصلية التى وضعناها للركن الرابع فيما تقدم ، وأما عى أساس صياغة السيد الاستاذ له السالفة الذكر فلا يتم ، لأن المحذور فى صياغته الترخيص القطعى فى مخالفة الواقع ، وهو حاصل من جريان الاصول فى كل الاطراف ولو لم يلزم الترخيص فى المخالفة القطعية لعدم القدرة عليها. ومن هنا يظهر ان الثمرة بين الصيغتين المختلفتين للركن الرابع تظهر فى تقييم التقريب المذكور اثباتا ونفيا.

غير ان السيد الاستاذ (١) حاول أن ينقض على من يستدل بهذا التقريب ، وحاصل النقض : ان الاحتياطإذا كان غير واجدب فى الشبهة غير المحصورة من أجل عدم قدرة المكلف على المخالفة القطعية ، يلزم عدم وجوب الاحتياط فى كل حالة تتعذر فيها المخالفة القطعية ولو كان العلم الاجمالى ذا طرفين أو اطراف قليلة ، حيث تجرى الاصول جميعا ولا يلزم منها الترخيص عمليا فى المخالفة القطعية. ومثاله : أن يعلم اجمالا بحرمة المكث فى آن معين فى أحد مكانين ، مع ان القائلين بعدم وجوب الاحتياط فى الشبهة غير المحصورة لا يقولون بذلك فى نظائر هذا المثال.

والتحقيق ان الصيغة الاصلية للركن الرابع يمكن أن توضح بأحد بيانين :

البيان الأول : ان عدم القدرة على المخالفة القطعية يجعل جريان

ـــــــــــــــــ

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ص ٣٧٤.

٣٩٦

الاصول فى جميع الاطراف ممكنا ، لانه لا يؤدى والحالة هذه الى الترخيص عمليا فى المخالفة القطعية ، لأنها غير ممكنة حتى يتصور الترخيص فيها. وهذا البيان ينطبق على كل حالات العجز عن المخالفة القطعية ، ولذلك يعتبر النقض واردا عليه.

إلا ان البيان المذكور غير صحيح ، لأن المحذور فى جريلان الاصول فى جميع اطراف العلم الاجمالى ، هو ان تقديم المولى لأغراضه الترخيصية على ارغاضه اللزومية الواصلة بالعلم الاجمالى على خلاف المرتكز العقلائى كما تقدم توضيحه سابقا ومن الواضح ان شمول دليل الأصل لكل الاطراف يعنى ذلك ، ومجرد اقترانه صدفة بعجز المكلف عن المخالفة القطعية لا يغير من مفاد الدليل ، فالاتكاز العقلائى إذن حاكم بعدم الشمول كذلك.

البيان الثانى : ان عدم القدرة على المخالفة القطعية إذا نشأ من كثرة الاطراف أدى الى إمكان جريان الاصول فيها جميعا ، إذ فى غرض لزومى واصل كذلك بوصول مردد بين اطراف بالغة هذه الدرجة من الكثرة لا يرى العقلائمحذورا فى تقديم الاغراض الترخيصية عليه ، لان التحفظ على مثل ذلك الغرض يستدعى رفع اليد عن أغراض ترخيصية كثيرة ، ومعه لا يبقى مانع عن شمول دليل الاصل لكل الاطراف.

وهذا هو البيان الصحيح للركن الرابع ، وهو يثبت عدم وجوب الاحتياط فى الشبهة غير المحصورة ولا يرد عليه النقض.

وهكذا نخرج بتقريبين لعدم وجوب الاحتياط فى أطراف الشبهة غير المحصورة ، غير انهما يختلفان فى بعض الجهات ، فالتقريب الأول مثلا يتم حتى فى الشبهة التى لا يوجد فى موردها اصل مؤمن ، لأن التأمين فيه

٣٩٧

مستند الى الاطمئنان لا الى الأصل ، بخلاف التقريب الثانى ، كما هو واضح.

٨ ـ اذا كان ارتكاب الواقعة فى أحد الطرفين غير مقدور :

قد يفرض ان ارتكاب الواقعة غير مقدور ويعلم اجمالا بحرمتها أو حرمة واقعة اخرى مقدورة ، وفى مثل ذلك لا يكون العلم الاجمالى منجزا. وتفصيل الكلام فى ذلك : ان القدرة تارة تنتفى عقلا ، كماإذا كان المكلف عاجزا عن الارتكاب حقيقة ، واخرى تنتفى عرفا ، بمعنى ان الارتكاب فيه من العنايات المخالفة للطبع والمتضمنة للمشقة ما يضمن انصراف الملكف عنه ويجعله بحكم العاجز عنه عرفا ، وإن لم يكن عاجزا حقيقة. كاستعمال كأس من حليب فى بلد لا يصل اليه عادة. ويسمى هذا العجز العرفى بالخروج عن محل الابتلاء.

فان حصل علم اجمالى بنجاسة أحد مائعين مثلا ، وكان أحدهما مما لا يقدر المكلف عقلا على الوصول اليه ، فالعلم الاجمالى غير منجز. ويقال فى تقريب ذلك عادة : ان الركن الأول منتف ، لعدم وجود العلم بجامع التكليف ، لان النجس إذا كان هو المائع الذى لا يقدر المكلف على ارتكابه فليس موضوعا للتكليف الفعلى ، لأن التكليف الفعلى مشروط بالقدرة ، فلا علم اجمالى بالتكليف الفعلى إذن.

وكأن اصحاب هذا التقريب جعلوا الاضطرارا العقلى الى ترك النجس كالاضطرار العقلى الى ارتكابه ، فكما لا ينجز العلم الاجمالى مع الاضطرار الى ارتكاب طرف معين منه على ما مر فى الحالة الثانية كذلك لا ينجز مع الاضطرار العقلى الى تركه ، لان التكليف مشروط

٣٩٨

بالقدرة ، وكل من الاضطرارين يساوق انتفاء القدرة ، فلا يكون التكليف ثابتا على كل تقدير.

والتحقيق ان الاضطرارين يتفقان فى نقطة ويختلفان فى اخرى ، فهما يتفقان فى عدم صحة توجه النهى والزجر معهما ، فكما لا يصح أن يزجر المضطر الى شرب المائع عن شربه ، كذلك لا يصح ان يزجر عنه من لا يقدر على شربه ، وهذا يعنى انه لا علم اجمالى بالنهى فى كلتا الحالتين.

ولكنهما يختلفان بلحاظ مبادىء النهى من المفسدة والمبغوضية ، فان الاضطرار الى الفعل يشكل حصة من وجود الفعل مغايرة للحصة التى تصدر من المكلف بمحض اختياره ، فيمكن أن يفترض ان الحصة الواقعة عن اضطرار كما لا نهى عنها لا مفسدة ولام بغوضى فيها ، وانما المفسدة والمبغوضية فى الحصة الاخرى.

واما الاضطرار الى ترك الفعل والعجز عن ارتكابه فلا يشكل حصة خاصة من وجود الفعل على النحو المذكور ، فلا معنى لافتراض ان الفعل غير المقدور للملكلف ليس واجدا لمبادىء الحرمة وانه لا مفسدة فيه ولا مبغوضية ، إذ من الواضح ان فرض وجوده مساوق لوقوع المفسدة وتحقيق المبغوض ، فكم فرق بين من هو مضظر إلى أكل لحم الخنزير لحفظ حياته ومن هو عاجز عن أكله لوجوده فى مكان بعيد عنه؟ فأكل لحم الخنزير عن اضطرار اليه قد لا يكون فيه مبادىء النهى أصلا ، فيقع من المضطر بدون مفسدة ولا مبغوضية. وأما أكل لحم الخنزير البعد عن المكلف فهو واجد للمفسدة والمبغوضية لا محالة. وعدم النهى عنه ليس لأن وقوعه لا يساوق الفساد ، بل لأنه لا يمكن أن يقع.

ونستخلص من ذلك ان مبادىء النهى يمكن ان تكون منوطة بعدم

٣٩٩

الاضطرار الى الفعل ، ولكن لا يمكن ان تكون منوطة بعدم العجز عن الفعل.

وعليه ففى حالة الاضطرار الى الفعل فى أحد طرفى العلم الاجمالى كما فى الحالة الثانية المتقدمة يمكن القول بانه لا علم اجمالى بالتكليف لا بلحاظ النهى ولا بلحاظ مبادئه. وأما فى حالة الاضطرار بمعنى العجز عن الفعل فى أحد طرفى العلم الاجمالى كما فى المقام فالنهى وان لم يكن ثابتا على كل تقدير ، ولكن مبادىء النهى معلومة الثبوت اجمالا على كل حال ، فالركن الأول ثابت ، لأن العلم الاجمالى بالتكليف يشمل العلم الاجمالى بمبادئه ، ويجب ان يفسر عدم التنجيز على أساس اختلال الركن الثالث ، إما بصيغته الاولى ، حيث ان الاصل المؤمن فى الطرف المقدور يجرى بلا معارض ، إذ لا معنى لجريانه فى الطرف غير المقدور ، لأن اطلاق العنان تشريعا فى مورد تقيد العنان تكوينا لا محصل له. وإما بصيغته الانية حيث ان العلم الاجمالى ليس صالحا لتنجيز معلومه على كل تقدير ، لأن التنجيز هو الدخول فى العهدة عقلا ، والطرف غير المقدور لا يعقل دخوله فى العهدة.

هذا كله فيماإذا كان أحد طرفى العلم الاجمالى غير مقدور ، وأماإذا كان خارجا عن محل الابتلاء فقد ذهب المشهور الى عدم تنجيز العلم الاجمالى فى هذه الحالة ، واستندواإلى ان الدخول فى محل الابتلاء شرط فى التكليف ، فلا علم إجمالى بالتكليف فى الحالة المذكورة. فالعجز العقلى عن ارتكاب الطرف وخروجه عن محل الابتلاء يمنعان معا عن تنجيز العلم الاجمالى بملاك واحد عندهم.

وقد عرفت ان التقريب المذكور غير صحيح فى العجز العقلى ،

٤٠٠