دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

٢ ـ جريان الاصول فى جميع الاطراف وعدمه :

وأما الأمر الثانى وهو فى دريان الاصول الشرعية فى جميع اطراف العلم الاجمالى فقد تقدم الكلام عن ذلك بلحاظ مقام الثبوت ومقام الاثبات معا فى مباحث القطع ، واتضح : أن المشهور بين الاصوليين استحالة جريان الاصول فى جميع الاطراف ، لأدائه الى الترخيص فى المعصية للمقدار المعلوم ، أى فى المخالفة القطعية ، وأن الصحيح هوإمكان جريانها فى جميع الاطراف عقلا ، غير ان ذلك ليس عقلائيا. ومن هنا كان الارتكاز العقلائى موجبا لانصراف أدلة الاصول عن الشمول لجميع الاطراف.

وينبغى أن يعلم : ان ذلك انما هو بالنسبة الى الاصول الشرعية المؤمنة ، وأما الاصول الشرعية المنجزة للتكلف فلا محذور ثبوتا ولاإثباتا فى جريانها فى كل اطراف العلم الاجمالى بالتكليف اذا كان كل طرف موردا لها فى نفسه ، حتى ولو كان المكلف يعلم بعدم ثبوت أكثر من تكليف واحد ، كماإذا علم بوجود نجس واحد فقط فى الاناءات المعلومة نجاستها سابقا ، فيجرى استصحاب النجاسة فى كل واحد منها. ومنه يعلم انه لو لم تكن النجاسة الفعلية معلومة اصلا ، أمكن أيضا إجراء استصحاب النجاسة فى كل اناء ما دامت أركانه تامة فيه ، ولا ينافى ذلك العلم اجمالا بطهارة بعض الأوانى وارتفاع النجاسة عنها واقعا ، لأن المنافاة إما أن تكون بلحاظ محذور ثبوتى ، بدعوى المنافاة بين الاصول المنجزة للتكليف والحكم الترخيصى المعلوم بالاجمال ، أو بلحاظ محذور إثباتى وقصور فى اطلاق دليل الاصل :

٣٦١

أما الأول : فقد يقرب بوقوع المنافاة بين الالزامات الظاهرية والترخيص الواقعى الثابت فى مورد بعضها على سبيل الاجمال جزما.

والجواب : ان المنافاة بينها وبين الترخيص الواقعى إن كانت بملاك التضاد بين الحكمين فيندفع بعدم التضاد ما دام احدهما ظاهريا والاخر واقعيا. وإن كانت بملاك ما يستتبعان من ترحك أو اطلاق عنان فمن الواضح ان الترخيص المعلوم إجمالا لا يستتبع اطلاق العنان الفعلى ، لعدم تعيين مورده ، فلا ينافى الاصول المنجزة فى مقام العمل.

وأما الثانى فقد يقرب بقصور فى دليل الاستصحاب ، بدعوى انه كما ينهى عن نقض اليقين بالشك كذلك يأمر بنقض اليقين باليقين ، والأول يستدعى إجراء الاستصحاب فى تمام الاطراف ، والثانى يستدعى نفى جريانها جميعا فى وقت واحد ، لأن رفع اليد عن الحالة السابقة فى بعض الاناءات نقض لليقين باليقن.

والجواب أولا : ان هذا انما يوجب الاجمال فى ما اشتمل من روايات الاستصحاب على الأمر والنهى معا ، لا فيما اختص مفاده بالنهى فقط.

وثانيا : ان ظاهر الأمر بنقض اليقين باليقين أن يكون اليقين الناقض متعلقا بعين ما تعلق به اليقين المنقوض ، وهذا غير حاصل فى المقام ، لأن اليقين المدعى كونه ناقضا هو العلم الاجمالى بالحكم الترخيصى ، ومصبه ليس متحدا مع مصب أى واحد من العلوم التفصيلية المتعلقة بالحالات السابقة للاناءات.

وعليه فالاصول المنجزة والمثبتة للتلكيف لا بأس بجريانها حتى مع العلم اجمالا بمخالفة بعضها للواقع. وهذا معنى قوله : إن الاصول العملية تجرى فى أطراف العلم الاجمالى إذا لم يلزم من جريانها مخالفة

٣٦٢

عملية لتكليف معلوم بالاجمال.

٣ ـ جريان الاصول فى بعض الاطراف وعدمه :

وأما الأمر الثالث فهو فى جريان الاصول الشرعية المؤمنة فى بعض اطراف العلم الاجمالى ، والكلام عن ذلك يقع فى مقامين ثبوتى واثباتى :

أما الثبوتى فنبحث فيه عن إمكان جريان الاصول المؤمنة فى بعض الاطراف ثبوتا وعدمه ، ومن الواضح انه على مسلكنا القائل بامكان جريان الاصول فى جميع الاطراف ، لا مجال لهذا البحث ، إذ لا معنى لافتراض محذور ثبوتى فى جريانها فى بعض الاطراف.

وأما على مسلك القائلين باستحالة جريان الاصول فى جميع الاطراف ، فكذلك ينبغى أن نستثنى من هذا البحث القائلين بأن العلم الاجمالى لا يستدعى وجوب الموافقة القطعية مباشرة ، فانه على قولهم هذا لا ينبغى أن يتوهم إمتناع جريان الأصل المؤمن فى بعض الاطراف ، إذ يكون مع الواضح عدم منافاته للعلم الاجمالى.

وأما القائلون بأن العلم الاجمالى يستدعى بذاته وجوب الموافقة القطعية ، فيصح البحث على اساس قولهم ، لأن جريان الاصل المؤمن فى بعض الاطراف يرخص فى ترك الموافقة القطعية ، فلابد من النظر فى إمكان ذلك وامتناعه. ومرد البحث فى ذلك الى النزاع فى أن العلم الاجمالى هل يستدعى عقلا وجوب الموافقة القطعية إستدعاء منجزا على نحو استدعاء العلة لملعولها ، أو استدعاء معلقا على عدم ورود الترخيص الشرعى على نحو استدعاء المقتضى لما يقتضيه ، فان فعليته منوطة بعدم وجود المانع. فعلى الأول يستحيل إجراء الأصل المؤمن فى بعض

٣٦٣

الاطراف ، لأنه ينافى حكم العقل الثابت بوجوب الموافقة القطعية. وعلى الثانى يمكن إجراؤه ، إذ يكون الاصل مانعا عن فعلية حكم العقل ورافعا لموضوعه.

وعلى هذا الأساس وجدإتجاهان بين القائلين باستدعاء العلم الاجمالى لوجوب الموافقة القطعية :

أحدهما : القول بالاستدعاء على نحو العلية. وذهب اليه جماعة ، منهم المحقق العراقى (١).

والاخر : القول بالاستدعاء على نحو الاقتضاء. وذهب اليه جماعة ، منهم المحقق النائينى على ما هو المنقول عنه فى فوائد الاصول (٢).

وقد ذكر المحقق العراقى رحمه الله فى تقريب العلية : انه لا شك فى كون العلم منجزا لمعلومه على نحو العلية ، فاذا ضممنا الى ذلك ان المعلوم بالعلم الاجمالى هو الواقع لا مجرد الجامع ، ثبت ان الواقع منجز على نحو العلية ، ومعه يستحيل الترخيص فى أى واحد من الطرفين ، لاحتمال كونه هو الواقع.

وبكلمة اخرى : ان المعلوم بالعلم الاجمالى إن كان هو الجامع فلا مقتضى لوجوب الموافقة القطعية أصلا. وإن كان هو الواقع فلابد من افتراض تنجزه على نحو العلية ، لأن هذا شأن كل معلوم مع العلم.

واعتراض علية المحقق النائينى رحمه الله (٣) بأن العلم الاجمالى ليس أشد تأثيرا من العلم التفصيلى ، والعلم التفصيلى نفسه يعقل

ـــــــــــــــ

(١) نهاية الافكار : القسم الثانى من الجزء الثالث ص ٣٠٧.

(٢) فوائد الاصول : ج ٤ ص ٢٥.

(٣) فوائد الاصول : ج ٤ ص ٣٤.

٣٦٤

الترخيص فى المخالفة الاحتمالية لمعلومه ، كما فى قاعدتى الفراغ والتجاوز ، وهذا يعنى عدم كون علة لوجوب الموافقة القطعية ، فكذلك العلم الاجمالى.

وأجاب المحقق العراقى (١) على هذا الاعتراض بأن قاعدة الفراغ وأمثالها ليست ترخيصا فى ترك الموافقة القطعية ، لتكون منافية لافتراض علية العلم لوجوبها ، بل هى إحراز تعبدى للموافقة ، أى موافقة قطعية تعبدية ، وافتراض العلية يعنى علية العلم الاجمالى لوجوب الموافق القطعية وجدانا أو تعبدا.

وبهذا يظهر الفرق بين إجراء قاعدة الفراغ وإجراءإصالة البراءة فى احد طرفى العلم الاجمالى ، فان الاول لا ينافى العلية بخلاف الثانى.

والتحقيقى : ان قاعدة الفراغ وإصالة البراءة وان كانتا مختلفتين فى لسانيهما ، إلا ان هذا مجرد اختلاف فى اللسان والصياغة ، وأما واقعهما وروحهما فواحد ، لأن كلا منهما نتيجة لتقديم الاغراض الترخيصية على الاغراض اللزومية عند الاختلاط فى مقام الحفظ ، غير ان هذا التقديم تراة يكون بلسان الترخيص ، واخرى بلسان الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية وافتراضها موافقة كاملة ، فلا معنى للقول بأن أحد اللسانين ممتنع دون الاخر.

والصحيح : هو عدم علية العلم الاجمالى لوجوب الموافقة القطعية ، لأن الترخيص الظاهرى فى بعض الاطراف له نفس الحيثيات المصححة لجعل الحكم الظاهرى فى سائر الموارد. هذا كله بحسب مقام الثبوت.

ـــــــــــــــ

(١) نهاية الأفكار : القسم الثانى من الجزء الثالث ص ٣٠٩ ـ ٣١٠.

٣٦٥

وأما بسحب مقام الاثبات فقد يقال : ان أدلة الاصول قاصرة عن إثبات جريان الأصل فى بعض الاطراف ، لأن جريانه فى البعض ضمن جريانه فى كل الاطراف باطل ، لأننا فرغنا عن عدم جواز الترخيص فى المخالفة القطعية. وجريانه فى البعض المعين دون البعض الاخر ترجيح بلا مرجح ، لان نسبة دليل الاصل الى كل من الطرفين على نحو واحد. وجريانه فى البعض المردد غير معقول ، إذ لا معنى للمردد.

وبكلمة اخرى : انه بعد العلم بعدم جريان الاصل فى كل الاطراف فى وقت واحد يحصل التعارض بين إطلاق دليل الاصل لكل طرف واطلاقه لسائر الاطراف ، ومقتضى التعارض التساقط.

وهناك إعتراض مشهور يوجه الى هذا البرهان ، وحاصله : إن المحذور الناجم عن رجيان الاصول فى كل الاطراف هو الترخيص فى المخالفة القطعية ، وهذا المحذور انما ينشأ من إجرائالاصل فى كل من الطرفين مطلقا ، أى سواء ارتكب الملكف الطرف الاخر أو اجتنبه ، وإذا ألغينا اطلاق الاصل فى كل منهما لحالة ارتكاب الاخر ، انتج إثبات ترخيصين مشروطين ، وكل منهما منوط بترك الاخر ، ومثل هذا لا يؤدى الى الترخيص فى المخالفة القطعية ، ويعنى ذلك ان المحذور يندفع برفع اليد عن إطلاق الاصل فى كل طرف ، ولا يتوقف دفعه على الغاء الاصل رأسا. ولا شك فى ان رفع اليد عن شىء من مفاد الدليل لا يجوز الا لضرورة ، والضرورة تقدير بقدرها ، فلماذا لا نجرى الاصل فى كل من الطرفين ولكن مقيدا بترك الاخر.

وقد اجيب على هذا الاعتراض بوجوه :

٣٦٦

الأول : ما ذكره السيد الاستاذ (١) من أن الجمع بين الترخيصين المشروطين المذكورين وان كان لا يؤدى الى الترخيص فى المخالفة القطعية ، ولكنه يؤدى الى الترخيص القطعى فى المخالفة الواقعية ، وذلك فيماإذا ترك الطرفين معا ، وهو مستحيل.

ويرد عليه : ان الحكم الظاهرى فى نفسه ليس مستحيلا ، وإنما يمتنع إذا كان منافيا للحكم الواقعى لا بلحاظ نفسه ولا بلحاظ مبادئه ، فلم يبق إلا التنافى بلحاظ عالم الامتثال ، وقد فرضنا هنا ان حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية قابل للرفع بالترخيص الشرعى على خلافه ، فلم يبق هناك تناف بين الترخيص القطعى فى المخالفة الواقعية ، والتكليف المعلوم بالاجمال فى أى مرحلة من المراحل.

هذا على أن بالامكان تصوير الترخيصات المشروطة على نحو لا ميكن ان تصبح كلها فعلية فى وقت واحد ليلزم الترخيص القطعى فى المخالفة الواقعية ، وذلك بأن تفترض أطراف العلم الاجمالى ثلاثية ، ويفترض ان الترخيص فى كل طرف مقيد بترك أحد بدليليه وارتكاب الاخر.

الثاني: ما ذكره السيد الاستاذ أيضا من أنه إذا اريدإجراء الاصل مقيدا فى كل طرف فهناك أوجه عديدة للتقييد ، فقد يجرى الاصل فى كل طرف مقيدا بترك الاخر ، أو بأن يكون قبل الاخر ، أو بأن يكون بعد الاخر ، فأى مرجع لتقييد على تقييد؟

ـــــــــــــــ

(١) راجع : مصباح الاصول : ج ٢ ص ٣٥٥.

٣٦٧

ويرد عليه : ان التقييد انما يراد لالغاء الحالة التى لها حالة معارضة فى دليل الاصل وابقاء الحالة التى لا معارض لها من حالات الطرف الاخر ، والحالة التى لا معراض لها كذلك هى حالة ترك الطرف الاخر ، وأما حالة كونه قبل الاخر فجريان الاصل فيها يعارض جريانه فى الاهخر حالة كونه بعد صاحبه.

الثالث : ما ذكره أيضا من أن لدليل الاصل اطلاقا افراديا لهذا الطواف ولذاك ، واطلاقا احواليا فى كل من الفردين لحالة ترك الاخر وفعله ، والمحذور كما يندفع برفع اليد عن الاطلاقين الاحواليين معا ، كذلك يندفع برفع اليد عن الاطلاق الافرادى والاحوالى فى أحد الطرفين خاصة ، فأى مرجع لأحد الدفعين على الاخر؟

ويرد عليه : ان المرجح هو ان ما يبقى تحت دليل الاصل بموجب الدفع الاول للمحذور ليس له معارض اصلا ، وما يبقى تحته بموجب الدفع الاخر الذى يقترحه له معارض.

الرابع : ان الحكم الظاهرى يجب أن يكون محتمل المطابقة للحكم الواقعى ، والترخيص المشروط ليس كذلك ، لأن ما هو ثابت فى الواقع إما الحرمة المطلقة وإما الترخيص المطلق.

ويرد عليه : انه لا برهان على اشتراط ذلك فى الحكم الظاهرى ، وانما يشترط فيه أمران ، أحدهما أن يكون الحكم الواقعى مشكوكا. والاخر أن يكون الحكم الظاهرى صالحا لتنجيزه أو التعذير عنه.

الخامس : وهو التحقيق فى الجواب وحاصله : ان مفاد دليل الترخيص الظاهرى ومدلوله التصديقى هوإبراز عدم اهتمام المولى بالتحفظ على الغرض اللزومى ، ومعنى إفتراض ترخيصين مشروطين

٣٦٨

كذلك ان عدم اهتمام المولى بالتحفظ على الغرض اللزومى فى كل طرف منوط بترك الاخر ، وانه فى حالة تركهما معا لا اهتمام له بالتحفظ على الغرض اللزومى المعلوم اجمالا. وكل هذا لا محصل له ، لأن المعقول انما هو ثبوت مرتبة ناقصة من الاهتمام للمولى تقتضى التحفظ الاحتمالى على الواقع المعلوم بالاجمال ، واستفادة ذلك من الترخيصين المشروطين المراد إثباتهما باطلاق دليل الاصل لا يمكن إلا بالتأويل وإرجاعهما الى الترخيص فى الجامع أى فى أحدهما وهذه العناية لا يفى بهاإطلاق دليل الاصل.

وفى ضوء ما تقدم قد يقال : انه لا تبقى ثمرة بين القول بالعلية والقول بالاقتضاء ، إذ على كل حال لا يجرى الاصل المؤمن فى بعض الاطراف ، ولكن سيظهر فيما يأتى تحقق الثمرة فى بعض الحالات.

جريان الاصل فى بعض الاطراف بلا معارض :

اتضح مما سبق ان دليل الأصل لا يفى لاثبات جريان الاصل المؤمن فى بعض الاطراف ، وذلك بسبب المعارضة ، ولكن قد تستثنى من ذلك عدة حالات :

منها : ماإذا كان فى أحد طرفى العلم الاجمالى أصل واحد مؤمن وفى الطرف الاخر أصلان طوليان ، ونقصد بالاصلين الطوليين أن يكون أحدهما حاكما على الاخر ورافعا لموضوعه تعبدا. ومثال ذلك : أن يعلم إجمالا بنجاسة إناء مردد بين إناءين ، أحدهما مجرى لأصالة الطهارة فقط ، والاخر مجرى لاستصحاب الطهارة واصالتها معا ، بناء على ان الاستصحاب حاكم على أصالة الطهارة ، فقد يقال فى مثل ذلك : ان

٣٦٩

اصالة الطهارة فى الطرف الأول تعراض استصحاب الطهارة فى الطرف الثانى ، ولا تجخل اصالة الطهارة للطرف الثانى فى هذا التعارض ، لأنها متأخرة رتبة عن الاستصحاب ومتوقفة على عدمه فكيف تقع طرفا للمعارضة فى مرتبته؟

وبكلمة أخرى : ان المقتضى لهاإثباتا لا يتم إلا بعد سقوط الاصل الحاكم ، وهو الاستصحاب ، والسقوط نتيجة المعارضة بينه وبين اصالة الطهارة فى الطرف الأول ، وإذا كان الأصل متفرعا فى اقتضائه للجريان على المعارضة فكيف يكون طرفا فيها؟ وإذا استحال أن يكون كرفا فى تلك المعارضة سقط المتعارضان أولا وجرى الاصل الطولى بلا معارض.

ومنها : ماإذا كان دليل الاصل شاملا لكلا طرفى العلم الاجمالى بذاته ، وتوفر دليل اصل آخر لا يشمل إلا أحد الطرفين. ومثال ذلك : أن يكون كل من الطرفين موردا للاستصحاب المؤمن ، وكان أحدهما خاصة موردا لاصالة الطهارة ، ففى مثل ذلك يتعارض الاستصحابان وتساقطان وتجرى اصالة الطهارة بدون معارض ، سواء قلنا بالطولية بين الاستصحاب وأصالة الطهارة أو بالعرضية ، وذلك لأن اصالة الطهارة فى طرفها لا يوجد ما يصلح لمعارضتها لا من دليل اصالة الطهارة نفسها ، ولا من دليل الاستصحاب ، أما الأول فلأن دليل اصالة الطهارة لا يشمل الطرف الاخر بحسب الفرض ، ليتعارض الاصلان. وأما الثانى فلأن دليل الاستصحاب مبتلى بالتعارض فى داخله بين استصحابين ، والتعارض الداخلى فى الدليل يوجب اجماله ، والمجمل لا يصلح أن يعارض غيره.

٣٧٠

ومنها : أن يكون الاصل المؤمن فى أحد الطرفين مبتلى فى نفسه مورده بأصل معارض منجز دون الاصل فى الطرف الاخر. ومثاله : أن يعلم اجمالا بنجاسة أحد إناءين وكل منهما مجرى لاستصحاب الطهارة فى نفسه ، غير ان أحدهما مجرى لاستصحاب النجاسة أيضا ، لتوارد الحالتين عليه مع عدم العلم بالمتقدم والمتأخر منهما ، فقد يقال : حينئذ بجريان استصحاب الطهارة فى الطرف الاخر بلا معارض ، لأن استحصاب الطهارة الاخر ساقط بالمعارضة فى نفس مورده باستصحاب النجاسة.

وقد يقال فى مقابل ذلك : بأن التعارض يكون ثلاثيا ، فاستصحاب الطهارة المبتلى يعارض استصحابين فى وقت واحد. وتحقيق الحال متروك الى مستوى أعمق من البحث.

وإذا صح جريان الاصل بلا معارض فى هذه الحالات كان ذلك تعبيرا عمليا عن الثمرة بين القول بالعلية والقول بالاقتضاء.

وقد تلخص مما تقدم ان العلم الاجمالى يستدعى حرمة المخالفة القطعية ، وانه كلما تعارضت الاصول الشرعية المؤمنة فى اطرافه وتساقطت حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية ، لتنجز الاحتمال فى كل شبهة بعد بقاءها بلا مؤمن شرعى وفقا لمسلك حق الطاعة. وحيث ان تعارض الاصول يستند الى العلم الاجمالى ، فيعتبر تنجز جميع الاطراف من آثار نفس العلم الاجمالى.

ولا فرق فى منجزية العلم الاجمالى بين أن يكون المعلوم تكليفا من نوع واحد ، أو تكليفا من نوعين ، كماإذا علم بوجوب شى أو حرمة الاخر.

كما لا فرق أيضا بين أن يكون المعلوم نفس التكليف أو موضع

٣٧١

التكليف ، لأن العلم بموضوع التكليف إجمالا يساوق العلم الاجمالى بالتكليف ، ولكن على شرط أن يكون المعلوم بالاجمال تمام الموضوع للتكليف الشرعى ، وأما إذا كان جزء الموضوع للتكليف على كل تقدير أو على بعض التقادير فلا يكون العلم منجزا ، لأنه لا يساوق حينئذ العلم الاجمالى بالتكليف.

ومن هنا لا يكون العلم الاجمالى بنجاسة إحدى قطعتين من الحديد منجزا ، خلافا للعلم الاجمالى بنجاسة أحد ماءين أو ثوبين ، أما الأول فلأن نجاسة قطعة الحديد لست تمام الموضوع لتكليف شرعى ، بل هى جزء موضوع لوجوب الاجتناب عن الماء مثلا ، والجزء الاخر ملاقاة الماء للقطعة الحديدية ، والمفروض عدم العلم بالجزء الاخر. وأما الثانى فلان نجاسة الماء تمام الموضوع لحرمة شربه.

ومثل الأول العلم الجمالى بنجاسة قطعة حديدية أو نجاسة الماء ، لأن المعلوم هنا جزء الموضوع على أحد التقديرين.

والضابط العام للتنجيز أن يكون العلم الاجمالى مساوقا للعلم الاجمالى بالتكليف الفعلى ، وكلما لم يكن العلم الاجمالى كذلك فلا ينجز وتجرى الاصول المؤمنة فى مورده بقدر الحاجة ، ففى مثال العلم بنجاسة قطعة الحديد أو الماء تجرى اصالة الطهارة فى الماء ، ولا تعارضها اصالة الطهارة فى الحديد ، إذ لا أثر علمى لنجاسته فعلا.

٣٧٢

ـ ٢ ـ

أركان منجزية العلم الاجمالى

نستطيع أن نستخلص مما تقدم ان قاعدة منجزية العلم الاجمالى لها عدة أركان :

ـ ١ ـ

الركن الأول : وجود العلم بالجامع ، إذ لولا العلم بالجامع لكانت الشبهة فى كل طرف بدوية وتجرى فيها البراءة الشرعية.

ولا شك فى وفاء العلم بالجامع بالتنجيز فيماإذا كان علما وجدانيا ، وأما إذا كان ما يعبر عنه بالعلم التعبدى ، فلا بد من بحث فيه. ومثاله أن تقوم البينة مثلا على نجاسة أحد الانائين ، فهل يطبق على ذلك قاعدة منجزية العلم الاجمالى أيضا؟ وجهان :

فقد يقال : بالتطبيق على أساس ان دليل الحجية يجعل الامارة علما ، فيترتب عليه آثار العلم الطريقى التى منها منجزية العلم الاجمالى.

وقد يقال : بعدمه على أساس ان الاصولف انما تتعارض اذا أدى جريانها فى كل الاطراف إلى الترخيص فى المخالفة القطعية للتكليف الواقعى ، ولا يلزم ذلك فى مورد البحث ، لعدم العلمخ بمصادفة البينة

٣٧٣

للتكليف الواقعى.

وكلا هذين الوجهين غير صحيح.

وتحقيق الحال فى ذلك : ان البينة تارة يفترض قيامهاإبتداء على الجامع ، واخرى يفترض قيامها على الفرد ثم تردد موردها بين طرفين.

أما فى الحالة الاولى فنواجه دليلين : أحدهما دليل حجية الامارة الذى ينجز مؤداها. والاخر دليل الاصل الجارى فى كل من الطرفين فى نفسه ، وهما دليلان متعارضان ، لعدم إمكان العمل بهما معا. والوجه الاول يفترض تمامية الدليل الأول ويرتب على ذلك عدم امكان اجراء الاصول. والوجه الثانى لا يفترض الفراغ عن ذلك فيقول : لا محذور فى جريانها. والاتجاه الصحيح هو حل التعارض القائم بين الدليلن.

فان قيل : أليس دليل حجية الامارة حاكما على دليل الاصل؟

كان الجواب : ان هذه الحكومة إنما هى فيماإذا اتحد موردهما ، لا فى مثل المقام ، إذ تلغى الامارة تعبدا الشك بلحاظ الجامع. وموضوع الاصل فى كل من الطرفين الشك فيه بالخصوص ، فلا حكومة ، بل لابد من الاستناد الى ميزان آخر لتقديم دليل الحجية على دليل الاصل ، من قبيل الاخصية أو نحو ذلك ، وبعد افتراض التقديم نرتب عليه آثار العلم الاجمالى.

وأما فى الحالة الثانية فالاصل ساقط فى مورد الامارة ، للتنافى بينهما وحكومة الامارة عليه. ولما كان موردها غير معين ومرددا بين طرفين فلا يمكن إدراء الاصل فى كل من الطرفين ، للعلم بوجود الحاكم المسقط للاصل فى أحدهما ، ولا مسوغ لاجرائه فى أحدهما خاصة ، وبهذا يتنجز الطرفان معا.

٣٧٤

ـ ٢ ـ

الركن الثانى : وقوف العلم على الجامع وعدم سرايته الى الفرد ، إذ لو كان الجامع معلوما فى ضمن فرد معين لكان علما تفصيليا لاإجماليا ، ولما كان منجزا إلا بالنسبة الى ذلك الفرد بالخصوص. وحيثما يحصل عليم بالجامع ثم يسرى العلم الى الفرد ، يسمى ذلك بانحلال العلم الاجمالى بالعلم بالفرد. وتعلق العلم بالفرد له عدة أنحاء :

أحدها : أن يكون العلم المتعلق بالفرد معينا لنفس المعلوم بالاجمال ، بمعنى العلم بأن هذا الفرد هو نفس الملعوم الاجمالى المردد. ولا شك حينئذ فى سراية العلم من الجامع الى الفرد وفى حصول الانحلال.

ثانيها : أن لا يكون العلم بالفرد ناظرا الى تعيين المعلوم الاجمالى مباشرة ، غير ان المعلوم الاجمالى ليس له أى علامة أو خصوصية بحتمل أن تحول دون انطباقه على هذا الفرد ، كماإذا علم بوجود انسان فى المسجد ثم علم بوجود زيد.

والصحيح هنا سراية العلم من الجامع الى الفرد وحصول الانحلال أيضا ، إذ يعود العلمان معا الى علم تفصيليى بزيد وشك بدوى فى انسان آخر.

ثالثها : أن لا يكون العلم بالفرد ناظرا الى تعيين المعلوم الاجمالى ، ويكون للمعلوم الاجمالى علامة فى نظر العالم غير محرزة التواجد فى ذلك الفرد ، كما إذا علم بوجودإنسان طويل فى المسجد ، ثم علم بوجود زيد وهو لا يعلم انه طويل أو لا.

والصحيح هنا عدم الانحلال ، لعدم إحراز كون المعلوم بالعلم الثانى مصداقا للمعلوم بالعلم الأول بحيث يصح ان ينطبق عليه ، فلا يسرى

٣٧٥

العلم من الجامع الاجمالى الى تحصصه ضمن الفرد

رابعها : ان يكون العلم السارى الى الفرد تعبديا ، بأن قامت إمارة على ذلك بنحو لو كانت علما وجدانيا لحصل الانحلال.

وقد يتوهم فى مثل ذلك الانحلال التعبدى بدعوى ان دليل الحجية يرتب كل آثار العلم على الامارة تعبدا ، ومن جملتها الانحلال. ولكنه توهم باطل ، لأن مفاد دليل الحجية إن كان هو تنزيل الامارة منزل العلم ، فمن الواضح ان التنزيل لا يمكن أن يكون ناظرا الى الانحلال ، لأنه أثر تكوينى للعلم وليس بيد المولى توسيعه. وإن كان مفاد دليل الحجية اعتبار الامارة علما على طريقة المجاز العقلى ، فمن المعلوم ان هذا الاعتبار لا يترتب عليه آثار العلم الحقيقى التى منها الانحلال ، وانما يترتب عليه آثار العلم الاعتبارى.

فان قيل : نحن لا نريد بدليل الحجية أن نثبت الانحلال الحقيقى بالتعبد لكى يقال بأنه أثر توينى تابع لعلته ولا يحصل بالتعبد تنزيلا أو اعتبارا ، بل نريد استفادة التعبد بالانحلال من دليل الحجية ، لأن مفاده التعبد بالغاء الشك والعلم بمؤدى الامارة ، وهذا بنفسه تعبد بالانحلال ، فهو انحلال تعبدى.

كان الجواب على ذلك : ان التعبد المذكور ليس تعبدا بالانحلال ، بل بما هو علة للانحال ، والتعبد بالعلة لا يساوق التعبد بمعلولها. أضف الى ذلك ان التعبد بالانحلال لا معنى له ولا أثر ، لأنه إن اريد به التأمين بالنسبة الى الفرد الاخر بلا حاجة الى إجراء أصل مؤمن فيه فهذا غير صحيح ، لان التأمين عن كل شبهة بحاجة الى أصل مؤمن حتى ولو كانت بدوية. وإن اريد بذلك التمكين من اجراء ذلك الاصل فى الفرد

٣٧٦

الاخر فهذا يحصل بدون حاجة الى التعبد بالانحلال ، وملاكه زوال المعارضة بسبب خروج مورد الامارة عن كونه موردا للاصل المؤمن ، سواء انشىء التعبد بعنوان الانحلال أو لا.

ـ ٣ ـ

الركن الثالث : أن يكون كل من الطرفين مشمولا فى نفسه وبقطع النظر عن التعارض الناشىء من العلم الاجمالى لدليل الاصل المؤمن ، إذ لو كان أحدهما مثلا غير مشمول لدليل الأصل المؤمن لسبب آخر لجرى الاصل المؤمن فى الطرف الاخر بدون محذور.

وهذه الصياغة إنما تلائم انكار القول بعلية العلم الاجمالى لوجوب الموافقة القطعية ، إذ بناء على هذا الانكار يتوقف تنجز وجوب الموافقة القطعية على التعارض بين الاصول المؤمنة. وأما على القول بالعلية كما هو مذهب المحقق العراقى فلا تصح الصياغة المذكورة ، لأن مجرد كون الاصل فى احد الطرفين لا معارض له ، لا يكفى لجريانه ، لأنه ينافى علية العلم الاجمالى لوجوب الموافقة القطعية ، فلابد من افتراض نكتة فى الرتبة السابقة تعطل العلم الاجمالى عن التنجيز ، ليتاح للاصل المؤمن أن يجرى.

ومن هنا صاغ المحقق المذكور الركن الثالث صياغة اخرى ، وحاصلها : ان تنجيز العلم الاجمالى يتوقف على صلاحيته لتنجيز معلومه على جميع تقاديره ، فاذا لم يكن صالحا لذلك ، فلا يكون منجزا. وعلى هذا فكلما كان المعلوم الاجمالى على أحد التقديرين غير صالح للتنجز بالعلم الاجمالى ، لم يكن العلم الاجمالى منجزا ، لأنه لا يصلح للتنجيز الا على بعض تقادير معلومة ، وهذا التقدير غير معلوم ، فلا أثر عقلا لمثل هذا

٣٧٧

العلم الاجمالى.

ويترتب على ذلك : ان العلم الاجمالى لا يكون منجزاإذا كان أحد طرفيه مجزا بمنجز آخر غير العلم الاجمالى من امارة أو أصل منجز ، وذلك لأن العلم الاجمالى فى هذه الحالة لا يصلح لتنجيز معلومه على تقدير انطباقه على مورد الامارة أو الأصل ، لأن هذا المورد منجز فى نفسه والمنجز يستحيل أن يتنجز بمنجز آخر ، لاستحالة اجتماع علتين مستقلتين على أثر واحد. وهذا يعنى ان العلم الاجمالى غير صالح لتنجيز معلومه على كل حال ، فلا يكون له أثر.

والفرق العلمى بين هاتين الصياغتين يظهر فى حالة عدم تواجد أصل مؤمن فى أحد الطرفين وعدم ثبوت منجز فيه أيضا سوى العلم الاجمالى ، فان الركن الثالث حسب الصياغة الاولى لا يكون ثابتا ولكنه حسب الصياغة الثانية ثابت. والصحيح هو الصياغة الاولى.

ـ ٤ ـ

الركن الرابع : أن يكون جريان البراءة فى كل من الطرفين مؤديا الى الترخيص فى المخالفة القطعية وإمكان وقوع خارجا على وجه مأذون فيه ، إذ لو كانت المخالفة القطعية ممتنعة على المكلف حتى مع الاذن والترخيص لقصور فى قدرته ، فلا محذور فى إجراء البراءة فى كل من الطرفين.

وركنية هذا الركن مبنية على إنكار علية العلم الاجمالى لوجوب الموافقة القطعية ، وأما بناء على العلية فلا دخل لذلك فى التنجيز ، إذ يكفى فى امتناع جريان الاصول حينئذ كونها مؤدية للترخيص ولو فى بعض الاطراف.

٣٧٨

وهناك صياغة اخرى لهذا الركن تبناها السيد الاستاذ ، وهى أن يكون جريان الاصول مؤديا الى الترخيص القطعى فى المخالفة الواقعية ولو لم يلزم الترخيص فى المخالفة القطعية ، وقد تقدم الحديث عن ذلك بالقدر المناسب. كما ان الصياغة المطروحة فعلا لهذا الركن سيأتى مزيد تحقيق وتعديل بالنسبة اليها فى مبحث الشبهة غير المحصورة إن شاء الله تعالى.

٣٧٩

ـ ٣ ـ

تطبيقات منجزية العلم الاجمالى

عرفنا فى ضوء ما تدم الأركان الأربعة لتنجيز العلم الاجمالى ، فكلما انهدم واحد منها بطلت منجزيته. وكل الحالات التى قد يدعى سقوط العلم الاجمالى فيها عن المنجزية ، لابد من افتراض انهدام أحد الأركان فيها ، وإلا فلا مبرر للسقوط.

وفيما يلى نستعرض عددا مهما من هذه الاحالات لدراستها من خلال ذلك :

١ ـ زوال العلم بالجامع :

الحالة الاولى أن يزول العلم بالجامع رأسا ولذلك صور :

الصورة الاولى : أن يظهر للعالم خطاه فى علمه وان الانائين اللذين اعتقد بنجاسة أحدهما مثلا طاهران ، ولا شك هنا فى السقوط عن المنجزية ، لانعدام الركن الأول من الأركان المتقدمة.

الصورة الثانية : أن يتشكك العالم فيما كان قد علم به ، فيتحول علمه بالجامع الى الشك البدوى ، والأمر فيه كذلك ايضا.

٣٨٠