دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

لاصالة الاشتغال ، يقع الكلام فى ميزان التمييز الذى به يعرف كون الشك فى التكليف لكى تجرى البراءة. وهذا الميزان انما يراد فى الشبهات الموضوعة ى التى قد يحتاج التمييز فيهاإلى دقة ، دون الشبهات الحكمية التى يكون الشك فيها عادة شكا فى التكليف ، كما هو واضح.

وتوضيح الحال فى المقام : إن الشبهة الموضوعة ى تستبطن دائما الشك فى أحد أطراف الحكم الشرعى ، إذ لو كانت كلها معلومة فلا يتصور شك إلا من أصل حكم الشارع وتكون الشبهة حينئذ حكمية. وهذه الاطراف هى عبارة عن قيد التكليف ومتعلقه والمتعلق له المسمى بالموضوع الخارجى ، فحرمة شرب الخمر المشروطة بالبلوغ قيدها ( البلوغ ) ومتعلقها ( الشرب ) ومتعلق متعلقها ( الخمر ). وخطاب ( اكرم عالما اذا جاء العيد ) قيد الوجوب فيه ( مجىء العيد ) ومتعلقه ( الاكرام ) ومتعلق متعلقه ( العالم ).

فان كان الشك فى صدور المتعلق مع إحراز القيود والموضوع الخارجى فهذا شك فى الامتثال بلا اشكال وتجرى اصالة الاشتغال ، لأن التكليف معلوم ولا شك فيه ، لبداهة أن فعلية التكليف غير منوطة بوجود متعلقه خارجا ، وانما الشك فى الخروج عن عهدته ، فلا مجال للبراءة.

وأماإذا كان الشك فى الموضوع الخارجى ، كماإذا لم يحرز كون فردما مصداقا للموضوع الخارجى ، فان كان اطلاق التكليف بالنسبة اليه شموليا جرت البراءة ، لأن الشك حينئذ يستبطن الشك فى التكليف الزائد ، كما اذا قيل : ( لا تشرب الخمر ) و( أكرم الفقراء ) وشك فى أن هذا خمر وفى أن ذاك فقير. وان كان اطلاق التكليف بالنسبة

٣٤١

اليه بدليا لم تجر البراءة ، كما اذا ورد ( أكرم فقيرا ) وشك فى أن زيدا فقير ، فلا يجوز الاكتفاء باكرامه ، لأن الشك المذكور لا يستبطن الشك فى تكليف زائد بل فى سعة دائرة البدائل الممكن امتثال التكليف المعلوم ضمنها.

وعلى هذا الضوء يعرف أن لجريان البراءة إذن ميزانان :

أحدهما : أن يكون المشكوك من قيود التكليف الدخيلة فى فعليته.

والاخر : أن يكون اطلاق التكليف بالنسبة اليه شموليا لا بدليا.

فان قيل : إن مرد الشك فى الموضوع الخارجى الى الشك فى قيد التكليف ، لأن الموضوع قيد فيه ، فحرمة شرب الخمر مقيدة بوجود الخمر خارجا ، فمع الشك فى خمرية المائع يشك فى فعلية التكليف المقيد وتجرى البراءة. وبهذا يمكن الاقتصار على الميزان الأول فقط ، كما يظهر من كلمات المحقق النائينيى قدس الله روحه (١).

كان الجواب : إنه ليس من الضرورى دائما أن يكون متعلق المتعلق مأخوذا قيدا فى التكليف ، سواء كان ايجابا أو تحريما ، وانما قد تتفق ضرورة ذلك فيما إذا كان أمرا غير اختيارى ، كالقبلة مثلا. وعليه فاذا افترضناإن حرمة شرب الخمر لم يؤخذ وجود الخمر خارجا قيدا فيها على نحو كانت الحرمة فعلية حتى قبل وجود الخمر خارجا ، صح مع ذلك أجراء البراءة عند الشك فى الموضوع الخارجى ، لأن اطلاق التكليف بالنسبة الى المشكوك شمولى.

ولكن بتدقيق أعمق نستطيع أن نرد الشك فى خمرية المائع الى

ـــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ص ٣٩٢.

٣٤٢

الشك فى قيد التكليف ، لا عن طريق افتراض تقيد الحرمة بوجود الخمر خارجا ، بل بتقريب : إن خطاب ( لا تشرب الخمر ) مرجعه الى قضية شطرية مفادها : كلما كانت مائع ما خمرا فلا تشربه ، فحرمة الشرب مقيدة بأن يكون المائع خمرا ، سواء وجد خاجا أو لا ، فاذا شك فى أن الفقاع خمر أو لا مثلا ، جرت البراءة عن الحرمة فيه.

وبهذا صح القول بأن البراءة تجرى كما كان الشك فى قيود التكليف ، وإن قيود اتكليف تارة تكون على وزان مفاد كان التامة ، بمعنى اناطته بوجود شىء خارجا ، فيكون الوجود الخارجى قيدا. واخرى يكون على وزان مفاد كان الناقصة ، بمعنى اناطته باتصاف شىء بعنوان فيكون الاتصاف قيدا. فاذا شك فى الوجود الخارجى على الأول أو فى الاتصاف على الثانى جرت البراءة ، وإلا فلا.

وعلى هذا الضوء نستطيع أن نعمم فكرة قيود التكليف التى هى على وزان مفاد كان الناقصة على عنوان الموضوع وعنوان المتعلق معا ، فكما ان حرمة الشرب مقيدة بأن يكون المائع خمرا ، كذلك الحال فى حرمة الكذب ، فان ثبوتها لكلام مقيد بأن يكون الكلام كذبا ، فاذا شك فى كون كلام كذبا كان ذلك شكا فى قيد التكليف.

وهكذا نستخلص : أن الميزان الاساسى لجريان البراءة هو الشك فى قيود التكليف ، وهى تارة على وزان مفاد كان التامة ، كالشك فى وقوع الزلزلة التى هى قيد لوجوب صلاة الايات. وارخى على وزان مفاد كان النقاصة بالنسبة الى عنوان الموضوع ، كالشك فى خمرية المائع. وثالثة على وزان كان الناقصة بالنسبة الى عنوان المتعلق ، كالشك فى كون الكلام الفلانى كذبا.

٣٤٣

استحباب الاحتياط :

عرفنا سابقا عدم وجوب الاحتياط ، ولكن ذلك لا يحول دون القول بمطلوبيته شرعا واستحبابه ، لما ورد فى الروايات من الترغيب فيه ، والكلام فى ذلك يقع فى نقطتين :

الاولى : فى إمكان جعل الاستحباب المولوى على الاحتياط ثبوتا ، إذ قد يقال بعدم إمكان ، فيتعين حمل الأمر بالاحتياط على الارشاد الى حسنه عقلا ، وذلك لوجهين :

الاول : انه لغو ، لأنه إن اريد باستحباب الاحتياط الالزام به فهو غير مقعول. وإن اريد ايجاد محرك غير الزامى نحوه فهذا حال بدون جعل الاستحباب ، إذ يكفى فيه نفس التكليف الواقعى المشكوك بضم استقلال العقل بحسن الاحتياط واستحقاق الثواب عليه فانه محرك بمرتبة غيرإلزامية.

الثانى : إن حسن الاحتياط كحسن الطاعة وقبح المعصية واقع فى مرحلة متأخرة عن الحكم الشرعى ، وقد تقدم المسلك القائل بأن الحسن والقبح الواقعين فى هذه المرحلة لا يستتبعان حكما شرعيا.

وكلا الوجهين غير صحيح :

أما الأول : فلأن الاستحباب المولوى للاحتياطإما أن يكون نفسيا لملاك وراء ملاكات الاحكام المحتاط بلحاظها ، وإما أن يكون طريقيا بملاك التحفظ على تلك الاحكام. وعلى كلا التقديرين لا لغوية ، أما على النفسية فلأن محركيته مغيرة سنخا لمحركية الواقع المشكوك ، فتتأكد إحداهما بالاخرى. وأما على الطريقية فلأن مرجعه حينئذ الى إبراز مرتبة

٣٤٤

من اهتمام المولى بالتحفظ على الملاكات الواقعية فى مقابل إبراز نفى هذه المرتبة من الاهتمام أيضا ، ومن الوضاح ان درجة محركية الواقع المشكوك تابعة لما يحتمل أو يحرز من مراتب اهتمام المولى به.

وأما الوجه الثانى : فلو سلم المسلك المشار اليه فيه لا ينفع فى المقام ، إذ ليس المقصود استكشاف الاستحباب الرعى بقانون الملازمة واستتباع الحسن العقلى للطلب الشرعى ليرد ما قيل ، بل هو ثابت بدليله ، وانما الكلام عن المحذور المانع عن ثبوته. ولهذا فان متعلق الاستحباب عبارة عن تجنب مخالفة الواقع المشكوك ولو لم يكن بقصد قربى ، والعقل انما يستقل بحسن التجنب الانقيادى والقربى خاصة.

النقطة الثانية : إن الاحتياط متى ما أمكن فهو مستحب كما عرفت ولكن قد يقع البحث فى إمكانه فى بعض الموارد. وتوضيح ذلك : إنه إذا احتمل كون فعل ما واجبا عباديا ، فان كانت أصل مطلوبيته معلومة أمكن الاحتياط بالاتيان به بقصد الأمر المعلوم تعلقه به ، وإن لم يعلم كونه وجوبا أوإستحبابا ، فان هذا يكفى فى وقوع الفعل عباديا وقريبا. وأماإذا كانت أصل مكلوبيته غير معلومة ، فقد يستشكل فى إمكان الاحتياط حينئذ ، لانه إن اتى به بلا قصد قربى ، فهو لغو جزما. وإن أتى به بقصد امتثال الأمر فهذا يستبطن إفتراض الأمر والبناء على وجوده ، مع ان المكلف شاك فيه ، وهو تشريع محرم ، فلا يقع الفعل عبادة لتحصل به موافقة التكليف الواقعى المشكوك.

وقد يجاب على ذلك بوجود أمر معلوم وهو نفس الأمر الشرعى الاستحبابى بالاحتياط ، فيقصد المكلف إتمثال هذا الأمر ، وكون الأمر بالاحتياط توصليا ( لا تتوقف موافقته على قصد امتثاله ) لا ينافى ذلك ،

٣٤٥

لأن ضرورة قصد امتثاله فى باب العبادات لم تنشأ من ناحية عبادية نفس الأمر بالاحتياط ، بل من عبادية ما يحتاط فيه.

ولكن التحقيق عدم الحاجة الى هذا الجواب ، لأن التحرك عن احتمال الأمر بنفسه قربى كالتحرك عن الأمر المعلوم ، فلا يتوقف وقوع الفعل عبادة على افتراض أمر معلوم ، بل يكفى الاتيان به رجاء.

٣٤٦

الوظيفة

فى حالة العلم الاجمالى

٣٤٧
٣٤٨

الوظيفة العملية فى حالة الشك

٢

١ ـ قاعدة منجزية العلم الاجمالى.

٢ ـ أركان منجزية العلم الاجمالى.

٣ ـ تطبيقات منجزية العلم الاجمالى.

٣٤٩
٣٥٠

كل ما تقدم كان فى تحديد الوظيفة العلمية فى حالات الشك البدوى. والان نتكلم عن الشك فى حالات العلم الاجمالى. والبحث حول ذلك يقع فى ثلاثة فصول :

الأول : فى اصل قاعدة منجزية العلم الاجمالى.

والثانى : فى أركان هذه القاعدة.

والثالث : فى بعض تطبيقاتها ، كما يأتى تباعاإن شاء الله تعالى.

٣٥١

ـ ١ ـ

قاعدة منجزية العلم الاجمالى

والكلام فى هذه القاعدة يقع فى ثلاثة امور :

الأمر الأول : فى أصل منجزية العلم الاجمالى ومقدار هذه المنجزية بقطع النظر عن الاصول الشرعية المؤمنة.

والأمر الثانى : فى جريان الاصول فى جميع اطراف العلم الاجمالى وعدمه ثبوتا أو اثباتا.

والأمر الثالث : فى جريانها فى بعض الاطراف.

ومرجع البحث فى الأمرين الاخيرين الى مدى مانعية العلم الاجمالى بذاته أو بتنجيزه عن جريان الاصول بايجاد محذور ثبوتى أو اثباتى يحول دون جريانها فى الاطراف كلا أو بعضها. وسنبحث هذه الامور الثلاثة تباعا :

١ ـ منجزية العلم الاجمالى بقطع النظر عن الاصول المؤمنة الشرعية :

والبحث فى أصل منجزية العلم الاجمالى إنما يتجه بناء على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حيث إن كل شبهة من أطراف العلم مؤمن

٣٥٢

عنها بالقاعدة المذكورة ، فيحتاج تنجز التكليف فيهاإلى منجز ، ولابد من البحث حينئذ عن حدود منجزية العلم الاجمالى ومدى إخراجه لأطرافه عن موضوع القاعدة. وأما بناء على مسلك حق الطاعة فكل شبهة منجزة فى نفسها بقطع النظر عن الاصول الشرعية المؤمنة ، وينحصر البحث على هذا المسلك فى الأمرين الاخيرين.

وعلى أى حالة فنحن نتكلم فى الأمر الأول على أساس افتراض قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وعليه فلا شك فى تنجيز العلم الاجمالى لمقدار الجامع بين التكليفين ، لأن معلوم وقد تم عليه البيان ، سواء قلنا بأن مرد العلم الاجمالى إلى العلم بالجامع أو العلم بالواقع. أما على الأول فواضح ، وأما على الثانى فلأن الجامع معلوم ضمنا حتما ، وعليه يحكم العقل بتنجز الجامع ، ومخالفة الجامع إنما تتحقق بمخالفة كلا الطرفين ، لأن ترك الجامع لا يكون إلا بترك كلافردية ، وهذا معنى حرمة المخالفة القطعية عقلا للتكليف المعلوم بالاجمال.

وإنما المهم البحث فى تنجيز العلم الاجمالى لوجوب الموافق القطعية عقلا ، فقد وقع الخلاف فى ذلك ، فذهب جماعة كالمحقق النائينى (١) والسيد الاستاذ (٢) إلى أن العلم الاجمالى لا يقتضى بحد ذاته وجوب الموافقة القطعية وتنجيز كل اطرافه مباشرة. وذهب المحقق العراقى (٣) وغيره إلى أن العلم الاجمالى يستدعى وجوب الموافق القطعية ، كما يستدعى حرمة المخالفة القطعية. ويظهر من بعض هؤلاء المحققين إن

ـــــــــــــــ

(١) أجود التقريرات : ج ٢ ص٢٤٢.

(٢) مصباح الاصول : ج ٢ ص ٣٤٨.

(٣) نهاية الافكار : القسم الثانى من الجزء الثالث ص ٣٠٧.

٣٥٣

المسألة مبنية على تحقيق هوية العلم الاجمالى ، وهل هو علم بالجامع أو بالواقع؟ وعلى هذا الاساس سوف نمهد للبحث بالكلام عن هوية العلم الاجمالى والمبانى المختلفة فى ذلك ، ثم نتكلم فى مقدار التنجيز على تلك المبانى.

الاتجاهات فى تفسير العلم الاجمالى :

ويمكن تلخيص الاتجاهات فى تفسير العلم الاجمالى فى ثلاثة مبان :

الأول : المبنى القائل بأن العلم الاجمالى علم تفصيلى بالجامع مقترن بشكوك تفصيلية بعدد أطراف ذلك العلم ، وهذا ما اختاره المحققان النائينى (١) والاصفهانى (٢).

وهذا المبنى يشتمل على جانب إيجابى وهو اشتمال العلم الاجمالى على العلم بالجامع وهذا واضح بداهة ، وعلى جانب سلبى وهو عدم تعدى العلم من الجامع وبرهانه : إنه لو فرض وجود علم يزيد على العلم بالجامع ، فهوإما أن يكون بلا متعلق ، أو يكون متعلقا بالفرد بحده الشخصى المعين ، أو بالفرد بحد شخصى مردد بين الحدين أو الحدود. والكل باطل. أما الأول فلأن العلم صفة ذات الاضافة فلا يعقل فرض انكشاف بلا منكشف. وأما الثانى فلبداهة ان العلم بالاجمال لا يعلم بهذا الطرف بعينه ولا بذاك بعينه. وأما الثالث فلأن المرددإن اريد به مفهوم المردد فهذا جامع انتزاعى ، والعلم به لا يعنى تعدى العلم عن الجامع. وإن اريد به واقع المردد فهو مما لا يعقل ثبوته فكيف يعقل العلم

ـــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ص ١٠.

(٢) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٢٤٢.

٣٥٤

به لأن كل ما له ثبوت فهو متعين بحد ذاته فى افق ثبوته.

الثانى : المبنى القائل بأن العلم فى موارد العلم الاجمالى يسرى من الجامع إلى الحد الشخصى ولكنه ليس حدا شخصيا معينا ، لوضوح ان كلا من الطرفين بحده الشخصى المعين ليس معلوما ، بل حدا مرددا فى ذاته بين الحدين.

وهذا ما يظهر من صاحب الكفاية اختياره حيث ذكر فى بحث الواجب التخييرى من الكفاية (١) : ان أحد الأقوال فيه هو كون الواجب الواحد المردد. وأشار فى تعليقته على الكفاية (٢) الى الاعتراض على ذلك بأن الوجوب صفة ، وكيف تتعلق الصفة بالواحد المردد مع إن الموصوف لابد أن يكون معينا فى الواقع. وأجاب على الاعتراض بأن الواحد المردد قد يتعلق به وصف حقيقى ذو الاضافة ، كالعلم الاجمالى ، فضلا عن الوصف الاعتبارى ، كالوجوب.

ويمكن الاعتراض عليه بأن المشكلة ليست هى مجرد ان المردد كيف يكون لوصف من الاوصاف نسبة واضافة ليه ، بل هى استحالة ثبوت المردد ووجوده بما هو مردد ، وذلك لأن العلم له متعلق بالذات وله متعلق بالعرض ، ومتعلقه بالذات وله متعلق بالعرض ، ومتعلقه بالذات هو الصورة الذهنية المقومة له فى افق الانكشاف ، ومتعلقه باعلرض هو مقدار ما يطابق هذه الصورة من الخارج. والفرق بين المتعلقين إن الأول لا يعقل إنفكاكه عن العلم حتى فى موارد الخطأ ، بخلاف الثانى.

وعليه فنحن نتسائل ما هو المتعلق بالذات للعلم فى حالات العلم

ـــــــــــــــ

(١) كفاية الاصول : ج ١ ص ٢٢٥.

(٢) حقائق الاصول : ج ١ ص ٣٣٤.

٣٥٥

الاجمالى؟. فان كان صورة حاكية عن الجامع لا عن الحدود الشخصية رجعنا الى المبنى السابق. وإن كان صورة للحد الشخصى ولكنها مرددة بحد ذاتها بين صورتين لحدين شخصيين فهذا مستحيل ، لأن الصورة وجود ذهنى ، وكل وجود متعين فى صقع ثبوته ، وتتعين الماهية تبعا لتعين الوجود ، لأنها حد له.

الثالث : ما ذهب اليه المحقق العراقى (١) من أن العلم الاجمالى يتعلق بالواقع ، بمعنى ان الصورة الذهنية المقومة للعلم والمتعلقة له بالذات لا تحكى عن مقدار الجامع من الخارج فقط ، بل تحكى عن الفرد الواقعى بحده الشخصى ، فالصورة شخصية ومطابقها شخصى ولكن الحكاية اجمالية ، فهى من قبيل رؤيتك لشبح زيد من بعيد دون أن تتبين هويته ، فان الرؤية هنا ليست رؤية للجامع بل للفرد ، ولكنها رؤية غامضة.

ويمكن أن يبرهن على ذلك بأن العلم فى موارد العلم الاجمالى لا يمكن أن يقف على الجامع بحده ، لأن العالم يقطع بأن الجامع لا يوجد بحده فى الخارج ، وانما يوجد ضمن حد شخصى ، فلابد من إضافة شىء الى دائرة المعلوم ، فان كان هذا الشىء جامعا وكليا عاد نفس الكلام حتى ننتهى الى العلم بحد شخصى. ولما كان التردد فى الصورة مستحيلا كما تقدم تعين أن يكون العلم متقوما بصورة شخصية معينة مطابقة للفرد الواقعى بحده ، ولكن حكايتها عنه اجمالية.

ـــــــــــــــ

(١) نهاية الافكار : القسم الثانى من الجزئالثالث ص ٢٩٩.

٣٥٦

تخريجات وجوب الموافقة القطعية :

إذا اتضحت لديك هذه المبانى المختلفة فاعلم : انه قد ربط استتباع العلم الاجمالى لوجوب الموافقة القطعية اثباتا ونفيا بهذه المبانى بدعوى انه إذا قيل بالمبنى الأول مثلا ، فالعلم الاجمالى لا يخرج عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان المزعومة سوى الجامع ، لأنه المعلوم فقط. والجامع بحده لا يقتضى الجمع بين الاطراف ، بل يكفى فى موافقته تطبيقه على أحد افراده.

وإذا قيل بالمبنى الثالث مثلا فالعلم الاجمالى يخرج الواقع المعلوم بتمام حدوده عن موضوع البراءة العقلية ويكون منجزا بالعلم ، وحيث انه محتمل فى كل طرف فيحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية للخروج عن عهدة التكليف المنجز.

ولكن الصحيح هو ان المبنى الثالث لا يختلف فى النتيجة المقصودة فى المقام عن المبنى الأول ، لأن الصورة العلمية الاجمالية على الثالث وإن كانت مطابقة للواقع بحده ولكن المفروض على هذا المبنى اندماج عنصرى الوضوح والاجمالى فى تلك الصوة ر معا ، وبذلك تميزت عن الصوة ر التفصيلية ، وما ينكشف ويتضح للعالم انما هو المقدار الموازى لعنصر الوضوح فى الصوة ر ، وهذا لا يزيد على الجامع ، ومن الواضح ان البراءة العقلية انما يرتفع موضوعها بمقدار ما يوازى جانب الوضوح لا الاجمال ، لأن الاجمال ليس بيانا.

وعليه فالمنجز مقدار الجامع لا أكثر على جميع المبانى المتقدمة ، وعليه فالعلم الأجمالى لا يقتضى بذاته وجوب الموافقة القطعية.

٣٥٧

ويوجد تقريبان لاثبات ان العلم الاجمالى يستتبع وجوب الموافقة القطعية :

الأول : ما قد يظهر من بعض كلمات المحقق الاصفهانى (١) وحاصلة مركب من مقدمتين :

الاولى : إن ترك الموافقة القطعية بمخالفة أحد الطرفين يعتبر مخالفة احتمالية للجامع ، لأن الجامع إن كان موجودا ضمن ذلك الطرف فقد خولف ، وإلا فلا.

والثانية : إن المخالفة الاحتمالية للتكليف المنجز غير جائزة عقلا ، لأنها مساوقة لاحتمال املعصية. وحيث ان الجامع منجز بالعلم الاجمالى فلا تجوز مخالفته الاحتمالية.

ويندفع هذا التقريب بمنع المقدمة الاولى ، فان الجامع إذا لوحظ فيه مقدار الجامع بحده فقط لم تكن مخالفة أحد الطرفين مع موافقة الطرف الاخر مخالفة احتمالية له ، لأن الجامع بحده لا يقتضى أكثر من الطبيق على أحد الفردين ، والمفروض ان العلم واقف على الجامع بحده وإن التنجز تابع لمقدار العلم ، فلا مخالفة احتمالية للمقدار المنجز أصلا.

الثانى : ما ذهبت إليه مدرسة المحقق النائينى قدس الله روحه (٢) فانها مع اعترافها بأن العلم الاجمالى لا يستدعى وجوب الموافقة القطعية بصورة مباشرة ، لأن لا ينجز أزيد من الجامع .. قامت بمحاولة لاثبات استتباع العلم الاجمالى لوجوب الموافقة القطعية بصورة غير مباشرة ، وهذه المحاولة يمكن تحليلها ضمن الفقرات التالية :

ـــــــــــــــ

(١) راجع : نهاية الدراية : ج ٢ ص ٣٢ ٣٣.

(٢) فوائد الاصول : ج٣٤ ص٢٥ ٢٤.

٣٥٨

أولا : إن العلم الاجمالى يستدعى حرمة المخالفة القطعية.

ثانيا : يترتب على ذلك عدم إمكان جريان الاصول المؤمنة فى جميع الاطراف ، لأنه يستوجب الترخيص فى المخالفة القطعية.

ثالثا : يترتب على ذلك إن الاصول المذكورة تتعارض فلا تجرى فى أى طرف ، لأن جريانها فى طرف دون آخر ترجيح بلا مرجح ، وجريانها فى الكل غير ممكن.

رابعا : ينتج من كل ذلك ان احتمال التكليف فى كل طرف يبقى بدون أصل مؤمن ، وكل احتمال للتكليف بدون مؤمن يكون منجزا للتكليف ، فتجب عقلا موافقة التكليف المحتمل فى كل طرف باعتبار ذ تنجزه لا باعتبار وجوب الموافقة القطعية للعلم الاجمالى بعنوانها.

والتحقيق : إن المقصود بتعارض الاصول المؤمنة فى الفقرة الثالثة إن كان تعارض الاصول بما فيها قاعدة قبح العقاب بلا بيان على اساس أن جريانها فى كل من الطرفين غير ممكن وفى احدهما خاصة ترجيح بلا مرجح ، فهذا غير صحيح ، لأن هذه القاعدة نجريها ابتداء فيما زاد على الجامع.

وبعبارة اخرى : اننا عندما نعلم اجمالا بوجوب الظهر أو وجوب الجمعة ، يكون كل من الوجوبين بما هو وجوب لهذا الفعل أو لذاك بالخصوص مورد البراءة ، فيتنجز الوجوب بمقدارإضافته الى الجامع ، لأن هذا هو المقدار الذى تم عليه البيان ، ويؤمن عنه بما هو مضاف الى الفرد. وهذا التبعيض فى تطبيق البراءة العقلية معقول وصحيح ، بينما لا يطرد فى البراءة الشرعية ، لانها مفاد دليل لفظى وتابعة لمقدار ظهوره

٣٥٩

العرفى ، وظهوره العرفى لا يساعد على ذلك.

وإن كان المقصود التعارض بين الاصول المؤمنة الشرعة ى خاصة فهو صحيح ، ولكن كيف يرتب على ذلك تنجز التكليف بالاحتمال مع إن الاحتمال مؤمن عنه بالبراءة العقلية على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وصفوة القول انه على هذا المسلك لا موجب لافتراض التعارض فى البراءة العقلية ، بل لا معنى لذلك ، إذ لا يعقل التعارض بين حكمين عقليين.

فان كان ملاك حكم العقل وهو عدم البيان تاما فى كل من الطرفين ، استحال التصادم بين البراءتين ، وإلا لم تجر البراءة ، لعدم المقتضى لا للتعارض.

وهكذا يتضح انه على ملك قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يمكن تبرير وجوب الموافقة القطعية للعلم الاجمالى ، وهذا بنفسه من المنبهات إلى بطلان القاعدة المذكورة.

نعم إذا نشأ العلم الاجمالى من شبهة موضوعية تردد فيها مصداق قيد من القيود المأخوذة فى الواجب بين فردين ، وجبت الموافقة القطعية حتى على المسلك المذكور ، كماإذا وجب اكرام العالم وتردد العالم بين زيد وخالد ، فان كون الاكرام إكراما للعالم قيد للواجب ، فيكون تحت الأمر وداخلا فى العهدة ، ويشك فى تحققه خارجا بالاقتصار على إكرام أحد الفردين ، ومقتضى قاعدة إن الشغل اليقينى يستدعى الفراغ اليقينى وجوب الاحتياط حينئذ.

هكذا كله فيما يتعلق بالأمر الأول.

٣٦٠