دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

احتمالا. وهذا من مدركات العقل العملى وهى غير مبرهنة ، فكما ان أصل حق الطاعة للمنعم والخالق مدرك أولى للعقل العملى غير مبرهن ، كذلك حدوده سعة وضيقا. وعليه فالقاعدة العملية الاولية هى اصالة الاشتغال بحكم العقل ما لم يثبت الترخيص الجاد فى ترك التحفظ ، على ما تقدم فى مباحث القطع. فلابد من الكلام عن هذا الترخيص وامكان إثباته شرعا ، وهو ما يسمى بالبراءة الشرعية.

٣٢١

الوظيفة الثانوية فى حالة الشك

والقاعدة العملية الثانوية فى حالة الشك التى ترفع موضوع القاعدة الاولى هى البراءة الشرعية. ويقع الكلام عن اثباتها فى مبحثين : أحدهما فى أدلتها. والاخر فى الاعتراضات العامة التى قد توجه الى تلك الأدلة بعد افتراض دلالتها :

ـ ١ ـ

أدلة البراءة الشرعية

وقد استدل عليها بالكتاب الكريم والسنة :

أدلة البراءة من الكتاب :

أما من الكتاب الكريم فقد استدل بعدة آيات :

منها : قوله سبحانه وتعالى « لا يكلف الله نفساإلا ما آتاها » (١) بدعوى إن اسم الموصول يشمل التكليف بالاطلاق ، كما يشمل المال

ـــــــــــــــ

(١) الطلاق : ٧.

٣٢٢

والفعل ، فيدل على انه لا يكلف بتكليف إلاإذا آتاه ، وايتاء التكليف معناه عرفا وصوله الى المكلف ، فتدل الاية على نفى الكلفة من ناحية التكاليف غير الواصلة.

وقد اعترض الشيخ الأنصارى رحمه الله (١) على دعوى اطلاق اسم الموصول باستلزامه استعمال الهيئة القائمة بالعفل والمفعول فى معنيين ، لأن التكليف بمثابة المفعول المطلق ، والمال والفعل بمثابة المفعول به ، ونسبة الفعل الى مفعوله المطلق مغايرة لنسبته الى المفعول به ، فكيف يمكن الجمع بين النسبتين فى استعمال واحد؟

وهناك جوابان على هذا الاعتراض :

الأول : ما ذكره المحقق العراقى رحمه الله (٢) من أخذ الجامع بين النسبتين.

ويرد عليه انه إن اريد الجامع الحقيقيى بينهما فهو مستحيل ، لما تقدم فى مبحث المعانى الحرفية من امتناع انتزاع الجامع الحقيقى بين النسب. وإن اريد بذلك افتراض نسبة ثالثة مباينة للنسبتين ، إلا انها تلائم المفعول المطلق والمفعهول به معا ، فلا معين لارادتها من الكلام على تقدير تصور نسبة من هذا القبيل.

الثانى : وهو الجواب الصحيح ، وحاصله : إن مادة الفعل فى الاية هى الكلفة بمعنى الادانة ، ولا يراد باطلاق اسم الموصول شموله لذلك ، بل لذات الحكم الشرعى الذى هو موضوع للادانة ، فهوإذن مفعول به ، فلاإشكال.

ـــــــــــــــ

(١) فرائد الاصول : ص ٣١٦.

(٢) نهاية الافكار : القسم الثانى من الجزء الثالث ص ٢٠٢.

٣٢٣

ثم ان البراءة التى تستفاد من هذه الاية الكريمة إن كانت بمعنى نفى الكلفة بسبب التكليف غير المأتى ، فلا ينافيها ثبوت الكلفة بسبب وجوب الاحتياطإذا تم الدليل عليه ، فلا تنفع فى معارضة أدلة وجوب الاحتياط. وإن كانت البراءة بمعنى نفى الكلفة فى مورد التكليف غير المأتى ، فهى تنفى وجوب الاحتياط وتعارض مع ما يدعى من أدلته. والظاهر هو الحمل على الموردية لا السببية ، لأن هذا هو المناسب بلحاظ الفعل والمال أيضا ، فالاستدلال بالاية جيد.

وبالنسبة الى مدى الشمول فيها لا شك فى شمولها للشبهات الوجوبية والتحريمية معا ، بل للشبهات الحكمية والموضوعية معا ، لأن الايتاء ليس بمعنى إيتاء الشارع بما هو شارع ، ليختص بالشبهات الحكمية ، بل بمعنى الايتاء التكوينى ، لأنه المناسب للمال وللفعل.

كما ان الظاهر عدم الاطلاق فى الاية لحالة عدم الفحص ، لأن ايتاء التكليف تكفى فيه عرفا مرتبة من الوصول ، وهى الوصل الى مظان العثور بالفحص.

ومنها : قوله سبحانه وتعالى : « وما معذبين حتى نبعث رسولا » (١) وتقريب الاستدلال واضح بعد حمل كلمة رسول على المثال للبيان.

وقد يعترض على ذلك تارة بأن الاية الكريمة إنما تنفى العقاب لا استحقاقه ، وهذا لا ينافى تنجز التكليف المشكوك ، إذ لعله من باب العفو. واخرى بأنها ناظرة الى العقاب الربانى فى الدنيا للامم السالفة ،

ـــــــــــــــ

(١) الاسراء : ١٥.

٣٢٤

وهذا غير محل البحث.

والجواب على الأول : إن ظاهر النفى فى الاية انه هو الطريقة العامة للشارع التى لا يناسبه غيرها ، كما يظهر من مراجعة أمثال هذا التركيب عرفا ، وهذا معناه عدم الاستحقاق. ومنه يظهر الجواب على الاعتراض الثانى ، لأن النكتة مشتركة ، مضافاإلى منع نظر الاية الى العقوبات الدنيوية ، بل سياقها سياق إستعراض عدة قوانين للجزاء الاخروى ، إذ وردت فى سياق « لا تزر وازرة وزر اخرى » (١) فان هذا شأن عقوبات الله فى الاخرة لا فى الدنيا. ولا منشأ لدعوات النظر المذكورة إلا ورود التعبير بصيغة الماضى فى قوله « وما كنا » وهذا بنكتة إفادة الشأنية والمناسبة ، ولا يتعين أن يكون بلحاظ النظر الى الزمان الماضى خاصة.

ولكن يرد على الاستدلال بالاية الكريمة ما تقدم فى الحلقة السابقة (٢) من أن الرسول إنما يمكن أخذه كمثال لصدور البيان من الشارع لا للوصول الفعلى ، فلا تنطبق الاية فى موارد صدوره وعدم وصوله.

ثم إن البراءة إذا استفيدت من هذه الاية فهى براءة منوطة بعدم قيام دليل على وجوب الاحتياط ، لأن هذا الدليل بمثابة الرسول أيضا.

ومنها : قوله تعالى « قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فانه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان ربك غفور رحيم » (٣) إذ دل على ان عدم الوجدان كاف فى اطلاق العنان.

ويرد عليه :

ـــــــــــــــ

(١) فاطر : ١٨.

(٢) راجع : ج ١ ص ٣٧٤.

(٣) الانعام : ١٤٥.

٣٢٥

أولا : ان عدم وجدان النبى فيما اوحى اليه يساوق عدم الحرمة واقعا.

وثانيا : إنه إن لم يساوق عدم الحرمة واقعا فعلى الأقل يساوق عدم صدور بيان من الشارع ، إذ لا يحتمل صدور واختفاؤه على النبى ، وأين هذه من عدم الوصول الناشىء من احتمال إختفاء البيان.

وثالثا : إن اطلاق العنان كما قد يكون بلحاظ اصل عملى ، قد يكون بلحاظ عمومات الحل التى لا يرفع اليد عنهاإلا بمخصص واصل.

ومنها : قوله تعالى « وما كان الله ليضل قوما بعدإذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شىء عليم » (١).

وتقريب الاستدلال كما تقدم فى الحلقة السابقة (٢). وما يتقى إن اريد به ما يتقى بعنوانه انحصر بالمخالفة الواقعية للمولى ، فتكون البراءة المستفادة من الاية الكريمة منوطة بعدم بيان الواقع. وإن اريد به ما يتقى ولو بعنوان ثانوى ظاهرى ، كعنوان المخالفة الاحتمالية ، كان دليل وجوب الاحتياط واردا على هذه البراءة ، لأنه بيان لما يتقى بهذا المعنى.

أدلة البراءة من السنة :

واستدل من السنة بروايات :

منها : ما روى عن الصادق عليه السلام من قوله : « كل شىء مطلق حتى يرد فيه نهى » (٣). وفى الرواية نقطتان لابد من بحثهما :

ـــــــــــــــ

(١) التوبة : ١١٤.

(٢) راجع : ج ١ ص ٣٧٥.

(٣) جامع احاديث الشيعة : باب ٥ من ابواب المقدمات ح ١٥ج ١ ص ٣٢٨.

٣٢٦

الاولى : إن الورود هل هو بمعنى الوصول ، ليكون مفاد الرواية البراءة بالمعنى المقصود ، أو الصدور ، لئلا يفيد فى حالة احتمال صدور البيان من الشارع مع عدم وصوله؟

الثانية : إن النهى الذى جعل غاية هل يشمل النهى الظاهرى المستفاد من أدلة وجوب الاحتياط ، أو لا؟. فعلى الأولى تكون البراءة المستفادة ثابتة بدرجة يصلح دليل وجوب الاحتياط للورود عليها. وعلى الثانى تكون بنفسها نافية لوجوب الاحتياط.

أما النقطة الاولى : فقد يقال بتردد الورود بين الصدور والوصول ، وهو موجب للاجمال الكافى لاإسقاط الاستدلال. وقد تعين إرادة الوصول بأحد وجهين :

الأول : ما ذكره السيد الاستاذ (١) من أن المغيى حكم ظاهرى ، فيتعين ان تكون الغاية هى الوصول لا الصدور ، لأن كون الصدور غاية يعنى إن الاباحة لا تثبت إلا مع عدم الصدور وقاعا ، ولا يمكن إحرازها إلا باحراز عدم الصدور ، ومع احرازه لا شك فلا مجال لحكم الظاهرى.

فان قيل : لماذا لا يفترض كون المغيى اباحة واقعية؟

كان الجواب منه : انّ الاباحة الواقعية والنهى الذى جعل غاية ، متضادان ، فان اريد تعليق الاولى على عدم الثانى حقيقة فهو محال ، لا ستحالة مقدمية عدم أحد الضدين للضد الاخر. وإن اريد مجرد بيان ان هذا الضد ثابت حيث لا يكون ضده ثابتا فهذا لغو من البيان ، لوضوحه.

ـــــــــــــــ

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ص ٢٨٠.

٣٢٧

ويرد على هذا الوجه : إن النهى عبارة عن الخطاب الشرعى الكاشف عن التحريم ، وليس هو التحريم نفسه. والتضاد نفسه لا يقتضى تعليق أحد الضدين على عدم الضد الاخر ، ولكن لا محذور فى أن توجد نكتة احيانا تقتضى إناطة حكم بعدم الكاشف عن الحكم المضاد له ، ومرجع ذلك فى المقام إلى أن تكون فعلية الحرمة بمبادئها منوطة بصدور الخطاب الشرعى الدال عليها ، نظير ما قيل من أن العلم بالحكم من طريق مخصوص يؤخذ فى موضوعه.

الثانى : إن الورود يستبطن دائما حيثية الوصول ، ولهذا لا يتصور بدون مورود عليه. ولكن هذا المقدار لا يكفى أيضا ، إذ يكفى لاإشباع هذه الحيثية ملاحظة نفس المتعلق مورودا عليه ، فالاستدلال بالرواية إذن غير تام ، وعليه فلا أثر للحديث عن النقطة الثانية.

ومنها : حديث الرفع المروى عن النبى صلى الله عليه وآله. ونصه : « رفع عن امتى تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اظهروا اليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر فى الوسوسة فى الخلق ، ما لم ينطق بشفة » (١). والبحث حول هذا الحديث يقع على ثلاث مراحل :

المرحلة الاولى : فى فقه الحديث على وجه الاجمال. والنقطة المهمة فى هذه المرحلة تصوير الرفع الوارد فيه فانه لا يخلو عن اشكال ، لوضوح إن كثيرا مما فرض رفعه فى الحديث امور تكوينية ثابتة وجدانا. ومن هنا

ـــــــــــــــ

(١) جامع احاديث الشيعة : باب ٨ من ابواب المقدمات ح ٣ج ١ ص ٣٢٦.

٣٢٨

كان لابد من بذل عناية فى تصحيح هذا الرفع ، وذلك إما بالتقدير ، بحيث يكون المرفوع أمرا مقدرا قابلا للرفع حقيقة ، كالمؤاخذة مثلا. وإما بجعل الرفع منصبا على نفس الأشياء المذكورة ولكن بلحاظ وجودها فى عالم التشريع ، بالنحو المناسب من الوجود لموضوع الحكم ومتعلقه فى هذا العالم ، فشرب الخمر المظطر اليه يرفع وجوده التشريعى بما هو متعلق للحرمة ، وروح ذلك رفع الحكم. وإما بصب الرفع على نفس الاشياء المذكورة بوجوداتها التكوينية ، ولكن يفترض ان الرفع تنزيلى وليس حقيقيا ، فالشرب المذكور نزل منزلة العدم خارجا ، فلا حرمة ولا حد.

ولا شك فى أن دليل الرفع على الاحتمالات الثلاثة جميعا يعتبر حاكما على أدلة الاحكام الأولية باعتبار نظره اليها ، وهذا النظرإما أن يكون إلى جانب الموضوع من تلك الأدلة ، كما هو الحال على الاحتمال الثالث ، فيكون على وزان ( لا ربا بين الوالد وولده ). أو يكون إلى جانب المحمول أى الحكم مباشرة ، كما هو الحال على الاحتمال الاول إذ قدرنا الحكم ، فيكون على وزان ( لا ضرر ). أو يكون إلى جانب المحمول ولكن منظرواإليه بنظر عنائى ، كما هو الحال على الاحتمال الثانى ، لأن النظر فيه إلى الثبوت التشريعى للموضوع ، وهو عين الثبوت التشريعى للحكم ، فيكون على وزان ( لا رهبانية فى الاسلام ).

والظاهرإن أبعد الاحتمالات الثلاثة الاحتمال الأول ، لأنه منفى باصالة عدم التقدير.

فان قيل : كما ان التقدير عناية ، كذلك توجيه الرفع الى الوجود التشريعى مثلا.

٣٢٩

كان الجواب : إن هذه عناية يقتضيها نفس ظهور حال الشارع فى أن الرفع صادر منه بما هو شارع وبما هوإنشاء لاإخبار ، بخلاف عناية التقدير ، فانها خلاف الأصل حتى فى كلام الشارع بما هو مستعمل.

كما ان الظاهرإن الاحتمال الثانى أقرب من الثالث ، لأن بعض المرفوعات مما ليس له وجود خارجى ، ليتعقل فى شأنه رفعه بمعنى تنزيل وجوده الخارجى منزلة العدم ، كما فى ( ما لا يطيقون ). فالمتعين إذن هو الاحتمال الثانى.

وتترتب بعض الثمرات على هذه الاحتمالات الثلاثة ، فعلى الأول يكون المقدر غير معلوم ، ولابد من الاقتصار فيه على القدر المتيقن من الاثار ، خلافا للاخرين ، إذ يتمسك بناء عليهما باطلاق الرفع لنفى تمام الاثار.

كماإنه على الثالث قد يستشكل فى شمول حديث الرفع لماإذا اضطرإلى الترك مثلا ، لان نفى الترك خارجا عبارة عن وضع الفعل ، وحديث الرفع يتكفل الرفع لا الوضع ، وخلافا لذلك ماإذا أخذنا بالاحتمال الثانى ، إذ لا محذور حينئذ فى تطبيق الحديث على الترك المضطرإليه ، لأن المرفوع ثبوته التشريعى فيماإذا كان موضوعا أو متعلقا لحكم ، ورفع هذا النحو من ثبوته ليس عبارة عن وضع الفعل ، إذ ليس معناه إلا عدم كون موضوعا أو متعلقا للحكم ، وهذا لا يعنى جعل الفعل موضوعا ، كما هو واضح.

وعلى أى حال فحديث الرفع يدل على أن الانسان إذا شرب المسكر إضطرارا أو أكره على ذلك فلا حرمة ولا وجوب للحد. كما انه إذا أكره على معاملة فلا يترتب عليها مضمونها.

٣٣٠

نعم يختص الرفع بماإذا كان فى الرفع إمتنان على العباد ، لأن الحديث مسوق مساق الامتنان ، ومن أدل ذلك لا يمكن تطبيق الحديث على البيع المضطر اليه لابطاله ، لأن إبطاله يعين إيقاع المضطر فى المحذور ، وهو خلاف الامتنان ، بخلاف تطبيقه على البيع المكره عليه ، فان إبطاله يعنى تعجيز المكره عن التوصل الى غرضه بالاكراه.

المرحلة الثانية : فى فقرة الاستدلال ، وهى « رفع ما لا يعلمون » وكيفية الاستدلال بها. وتوضيح الحال فى ذلك : إن الرفع هناإما واقعى وإما ظاهرى ، وقد يقال : إن الاستدلال على المطلوب تام على التقديرين ، لأن المطلوب إثبات اطلاق العنان وايجاد معارض لدليل وجوب الاحتياط لو تم وكلا الأمرين يحصل باثبات الرفع الواقعى أيضا ، كما يحصل بالظاهرى.

ولكن الصحيح عدم اطراد المطلوب على تقدير حمل الرفع على الواقعى ، إذ كثيرا ما يتفق العلم أو قيام دليل على عدم اختصاص التكليف المشكوك على تقدير ثبوته بالعلم ، ففى مثل ذلك يجب الالتزام بتخصيص حديث الرفع مع الحمل على الواقعية ، خلافا لماإذا حمل على الرفع الظاهرى. نعم يكفى للمطلوب عدم ظهور الحديث فى الرفع الواقعى ، إذ حتى مع الاجمال يصح الرجوع الى حديث الرفع فى الفرض المذكور ، لعدم ارحاز وجود المعارض أو المخصص لحديث الرفع حينئذ.

وعلى أى حال فقد يقال : إن ظاهر الرفع كونه واقعيا ، لأن الحمل على الظاهرى يحتاج الى عناية ، إما بجعل المرفوع وجوب الاحتياط تجاه ما لا يعلم لا نفسه وهو خلاف الظاهر جدا. وإما بتطعيم الظاهرية فى

٣٣١

نفس الرفع ، بأن يفترض ان التكليف له وضعان ورفعان ، واقعى وظاهرى ، فوجوب الاحتياط وضع ظاهرى للتكليف الواقعى ، ونفى هذا الوجوب رفع ظاهرى له. وكل ذلك عناية ، فيتعين الحمل على الرفع الواقعى.

والجواب على ذلك بوجهين :

الوجه الأول : ما عن المحقق العراقى قدس الله روحه (١) من أن الحديث لما كان امتنانيا ، والامتنان يرتبط برفع التكليف الواقعى المشكوك ببعض مراتبه ، أى برفع وجوب الاحتياط من ناحيته ، سواء رفعت المراتب الاخرى أؤ لا ، فلا يكون الرفع فى الحديث شاملا لتلك المراتب ، فالامتنان قرينة محددة للمقدار المرفوع.

ويمكن الاعتراض على هذا الوجه بأن الامتنان وإن كان يحصل بنفى ايجاب الاحتياط ولا يتوقف على نفى الواقع ، ولكن لما كان نفى ايجاب الاحتياط بنفسه قد يكون بنفى الواقع رأسا ، أمكن أن تكون التوسعة الممتن بها مترتبة على نفى الواقع ولو بالواسطة ، ولا يتقضى ظهور الحديث فى الامتنان سوى كون مفاده منشأ للتوسعة والامتنان ولو بالواسطة.

الوجه الثانى : إن الرفع اذا كان واقعا فهذا يعنى أخذ العلم بالتكليف فيه ، فان كان بمعنى أخذ العلم بالتكليف المجعول قيدا فيه فهو مستحيل ثبوتا ، كما تقدم. وإن كان بمعنى أخذ العلم بالجعل قيدا فى المجعول فهو ممكن ثبوتا ، ولكنه خلاف ظاهر الدليل جدا ، لأن لازم

ـــــــــــــــ

(١) نهاية الافكار : القسم الثانى من الجزء الثالث ص ٢١٢.

٣٣٢

ذلك أن يكون المرفوع غير المعلوم ، لأن الأول هو المجعول والثانى هو الجعل ، مع ظهور الحديث فى أن العلم والرفع يتبادلان على مصب واحد ، وهذا بنفسه كاف لجعل الحديث ظاهرا فى الرفع الظاهرى ، وبذلك يثبت المطلوب.

المرحلة الثالثة : فى شمول فقرة الاستدلال للشبهات الموضوعية والحكمية ، إذ قد يتراءى انه لا يتأتى ذلك ، لأن المشكوك فى الشبهة الحكمية هو التكليف ، والمشكوك فى الشبهة الموضوعية الموضوع ، فليس المشكوك فيهما من سنخ واحد ليشملهما دليل واحد.

والتحقيق ان الشمول يتوقف على أمرين : أحدهما تصوير جامع مناسب بين المشكوكين فى الشبهتين ليكون مصبا للرفع. والاخر عدم وجود قرينة فى الحديث على الاختصاص.

أما الأمر الأول : فقد قدم المحققون تصويرين للجامع :

التصوير الأول : إن الجامع هو الشىء باعتباره عنوانا ينطبق على التكليف المشكوك فى الشبهة الحكمية والموضوع المشكوك فى الشبهة الموضوعية.

وقد اعترض صاحب الكفاية (١) على ذلك بأن إسناد الرفع الى التكليف حقيقى ، وإسناده الى الموضوع مجازى ، ولا يمكن الجمع بين الاسنادين الحقيقى والمجازى.

وحاول المحقق الاصفهانى (٢) أن يدفع هذا الاعتراض بأن من الممكن أن يجتمع وصفا الحقيقية والمجازية فى اسناد واحد باعتبارين ،

ـــــــــــــــ

(١) حاشية فرائد الاصول : ص ١١٤.

(٢) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٨١

٣٣٣

فبما هوإسناد للرفع الى هذه الحصة من الجامع حقيقى ، وبما هوإسناد له إلى الاخرى مجازى.

وهذه المحاولة ليست صحيحة ، إذ ليس المحذور فى مجرد اجتماع هذين الوصفين فى إسناد واحد ، بل يدعى ان نسبة الشىء الى ما هو له ، مغايرة ذاتا لنسبة الشىءإلى غير ما هو له ، فان كان الاسناد فى الكلام مستعملا لافادة إحدى النسبتين اختص بما يناسبها. وإن كان مستعملا لافادتهما معا فهو استعمال لهيئة مستعملة فيه.

والصحيح ان يقال : ان اسناد الرفع مجازى حتى الى التكليف ، لأن رفعه ظاهرى عنائى وليس واقعيا.

التصوير الثانى : إن الجامع هو التكليف ، وهو يشمل الجعل بوصفه تكليفا للموضوع الكلى المقدر الوجود ، ويشمل المجعول بوصفه تكليفا للفرد المحقق الوجود. وفى الشبهة الحكمية يشك فى التكليف بمعنى الجعل ، وفى الشبهة الموضوعة ى يشك فى التكليف بمعنى المجعول. وهذا تصوير معقول أيضا بعد الايمان بثبوت جعل ومجعول ، كما عرفت سابقا.

وأما الأمر الثانى : فقد يقال بوجود قرينة على الاختصاص بالشبهة الموضوعية من ناحية وحدة السياق ، كما قد يدعى العكس. وقد تقدم الكلام عن ذلك فى الحلقة السابقة (١) واتضح انه لا قرينة على الاختصاص ، فالاطلاق تام.

وهنا ، روايات اخرى استدل بها للبراءة ، وتقدم الكلام عن جملة

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٣٧٨.

٣٣٤

منها فى الحلقة السابقة ، وعن قصور دلالتها أو عدم شمولها للشبهات الحكمية ، فلاحظ.

كما يمكن التعويض عن البراءة بالاستصحاب ، وذلك باجراء استصحاب عدم جعل التكليف ، أو استصحاب عدم فعلية التكليف المجعول. وزمان الحالة السابقة بلحاظ الاستصحاب الأول ، بداية الشريعة ، وبلحاظ الاستصحاب الثانى ، زمان ما قبل البلوغ مثلا ، بل قد يكون زمان ما بعد البلوغ أيضا ، كماإذا كان المشكوك تكليفا مشروطا وتحقيق الشرط بعد البلوغ ، فبالامكان إستصحاب عدمه الثابت قبل ذلك.

٣٣٥

الاعتراضات العامة

ويعترض على أدلة البراءة المتقدمة باعتراضين أساسين :

أحدهما : انها معارضة بأدلة تدل على وجوب الاحتياط بل هذه الأدلة حاكمة عليها ، لأنها بيان للوجوب ، وتلك تتكفل جعل البراءة فى حالة عدم البيان.

والاعتراض الاخر : أن أدلة البراءة تختص بموارد الشك البدوى ، والشبهات الحكمية ليست مشكوكات بدوية بل هى مقرونة بالعلم الاجمالى بثبوت تكاليف غير معينة فى مجموع تلك الشبهات.

أما الاعتراض الأول فنلاحظ عليه عدة نقاط :

الاولى : إن ما استدل به على وجوب الاحتياط ليس تاما ، كما يظهر باستعراض الروايات التى ادعيت دلالتها على ذلك. وقد تقدم فى الحلقة السابقة (١) إستعراض عدد مهم منها مع مناقشة دلالتها. نعم جملة منها تدل على الترغيب فى الاحتياط والحث عليه ، ولا كلام فى ذلك

الثانية : ان أدلة وجوب الاحتياط المدعاة ليست حاكمة على أدلة

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٣٨٥ ـ ٣٨٩.

٣٣٦

البراءة المتقدمة ، لما اتضح سابقا من أن جملة منها تثبت البراءة المنوطة بعدم وصول الواقع ، فلا يكون وصول وجوب الاحتياط رافعا لموضوعها ، بل يحصل التعارض حينئذ بين الطائفتين من الأدلة.

الثالثة : أذ حصل التعارض بين الطائفتين ، فقد يقال بتقديم أدلة وجوب الاحتياط ، لأن ما يعارضها من أدلة البراءة القرآنية ، الاية الاولى على اساس الاطلاق فى اسم الموضوع فيها للتكليف ، وهذا الاطلاق يقيد بأدلة وجوب الاحتياط. وما يعارضها من أدلة البراءة فى الروايات ، حيث الرفع ، وهى أخص منه أيضا ، لورودها فى الشبهات الحكمية ، وشموله للشبهات الحكمية والموضوعية ، فيقيد بها.

ولكن التحقيق ان النسبة بين أدلة وجوب الاحتياط والاية الكريمة هى العموم من وجه ، لشمول تلك الأدلّة موارد عدم الفحص ، واختصاص الاية بموارد الفحص ، كما تقدم عند الكلام عن دلالتها ، فهى كما تعتبر أعم بلحاظ شمولها للفعل والمال ، كذلك تعتبر أخص بلحاظ ما ذكرناه ، ومع التعارض بالعموم من وجه يقدم الدليل القرآنى ، لكونه قطيعا. كما ان النسبة بين أدلة وجوب الاحتياط وحديث الرفع العموم من وجه أيضا ، لعدم شموله موارد العلم الاجمالى ، وشمول تلك الأدلة لها ، ويقدم حديث الرفع فى مادة الاجتماع والتعارض ، لكونه موافقا لاطلاق الكتاب ومخالفة معارض له.

ولو تنزلنا عما ذكرناه مما يوجب ترجيح دليل البراءة وافترضنا التعارض والتساقط ، أمكن الرجوع الى البراءة العقلية على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأمكن الرجوع الى دليل الاستصحاب ، كما

٣٣٧

أوضحنا ذلك فى الحلقة السابقة (١).

وأما الاعتراض الثانى بوجود العلم الاجمالى ، فقد اجيب عليه بجوابين :

الجوب الأول : ان العلم الاجمالى المذكور منحل بالعلم الاجمالى بوجود التكاليف فى دائرة أخبار الثقات وفقا لقاعدة انحلال العلم الاجمالى الكبير بالعلم الاجمالى الصغير ، لتوفر كلا شرطى القاعدة فيها ، فان اطراف العلم الصغير بعض أطراف الكبير ، ولا يزيد عدد المعلوم بالعلم الكبير على عدد المعلوم بالعلم الصغير ، ومع الانحلال تكون الشبهة خارج نطاق العلم الصغير بدوية ، فتجرى البراءة فى كل شبهة لم يقم على ثبوت التكليف فيها أمارة معتبرة من أخبار الثقات ونحوها ، وهذا هو المطلوب.

وهذا الجواب ليس تاما ، إذ كما يوجد علم إجمالى صغير بوجود التكاليف فى نطاق الامارات المعتبرة من اخبار الثقات ونحوها ، كذلك يوجد علم إجمالى صغير بوجود التكاليف فى نطاق الامارات غير المعتبرة ، إذ لا يحتمل عادة وبحساب الاحتمالات كذبها جميعا ، فهناك إذن علمان اجماليان صغيران ، والنطاقان وإن كانا متداخلين جزئيا لأن الامارات المعتبرة وغير المعتبرة قد تجتمع ولكن مع هذا يتعذر الانحلال ، لأن المعلومين بالعلمين الاجماليين الصغيرين إن لم يكن من المحتمل تطابقهما المطلق ، فهذا يعنى ان عدد المعلوم من التكاليف فى مجموع الشبهات أكبر من عدد المعلوم بالعلم الاجمالى الصغير المفترض فى دائرة

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٣٩٠.

٣٣٨

اخبار الثقات ، وبذلك يختل الشرط الثانى من الشرطين المتقدمين لقاعدة انحلال العلم الاجمالى الكبير بالصغير. وإن كان من المحتمل تطابقهما المطلق فشرطا القاعدة متوفران بالنسبة الى كل من العلمين الاجماليين الصغيرين فى نفسه ، فافتراض ان احدهما يوجب الانحلال دون الاخر بلا موجب.

الجواب الثانى : إن العلم الاجمالى الذى تضم أطرافه كل الشبهات يسقط على المنجزية باختلال الركن الثالث من الاركان الأربعة التى يتوقف عليها تنجيزه وقد تقدم شرحها فى الحلقة السابقة (١) وذلك لأن جملة من أطرافه قد تنجزت فيها التكاليف بالامارات والحجج الشرعية المعتبرة من ظهور آية وخبر ثقة واستصحاب مثبت للتكليف ، وفى كل حالة من هذا القبيل تجرى البراءة فى بقية الاطراف ، ويسمى ذلك بالانحلال الحكمى ، كما تقدم.

وقد قيل فى تقريب فكرة الانلحال الحكمى فى المقام كما عن السيد الاستاذ (٢) بأن العلم الاجمالى متقوم بالعلم بالجامع والشك فى كل طرف ، ودليل حجية الامارة المثبة للتكليف فى بعض الاطراف لما كان مفاده جعل الطريقية فهو يلغى الشك فى ذلك الطرف ويتعبد بعدمه ، وهذا بنفسه إلغاء تعبدى للعلم الاجمالى.

ويرد على هذا التقريب : ان الملاك فى وجوب الموافقة القطعية للعلم الاجمالى هو التعارض بين الاصول فى اطرافه كما تقدم وليس هو العلم الاجمالى بعنوانه ، فلا أثر للتعبد بالغاء هذا العنوان ، وانما يكون

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٤٠٣.

(٢) مصباح الاصول : ج ٢ ص ٣٠٧.

٣٣٩

تأثيره عن طريق رفع التعارض ، وذلك باخراج موارد الامارات المثبتة للتكليف عن كونها موردا لاصالة البراءة ، لأن الامارة حاكمة على الاصل ، فتبقى الموارد الاخرى مجرى لاصل البراءة بدون معارض ، وبذلك يختل الركن الثالث ويتحقق الانحلال الحكمى من دون فرق بين أن نقول بسملك جعل الطريقية وإلقاء الشك بدليل الحجية ، أو لا.

تحديد مفاد البراءة :

وبعد أن اتضح إن البراءة تجرى عند الشك ، لوجود الدليل عليها وعدم المانع ، يجب أن نعرف أن الضابط فى جريانها أن يكون الشك فى التكليف ، لأن هذا هو موضوع دليل البراءة. وأماإذا كان التكليف معلوما والشك فى الامثتال فلا تجرى البراءة وانما تجرى اصالة الاشتغال ، لأن الشغل اليقينى يستدعى الفراغ اليقينى. وهذا واضح على مسلكنا المتقدم القائل بأن الامتثال والعصيان ليسا من مسقطات التكليف بل من أساب انتهاء فاعليته ، إذ على هذا المسلك لا يكون الشك فى الامتثال شكا فى فعلية التكليف ، فلا موضوع لدليل البراءة بوجه.

وأما ذا قيل : بأن الامتثال من مسقطات التكليف ، فالشك فيه شك فى التكليف لا محالة ، ومن هنا قد يتوهم تحقق موضوع البراءة وإطلاق ادلتها لمثل ذلك ، ولابد للتخلص من ذلك إما من دعوى انصراف أدلة البراءة الى الشك الناشىء من غير ناحية الامتثال ، أو التمسك بأصل موضوعى حاكم ، وهو استصحاب عدم الامتثال.

ثم بعد الفراغ عن الفرق بين الشك فى التكليف والشك فى الامتثال أى المكلف به باتخاذ الأول ضابطا للبراءة والثانى ضابطا

٣٤٠