دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

خصائص الاصول العملية :

عرفنا فيما تقدم ان الاصول العملية نوع من الاحكام الظاهرية الطريقية المجعولة بداعى تنجيز الاحكام الشرعية أو التعذير عنها ، وهو نوع متميز عن الاحكام الظاهرية فى باب الامارات. وقد ميز بينهما بعدة وجوه :

الأول : إن الفرق بينهما ينشأ من اختلافهما فى سنخ المجعول فى دليل حجية الامارة ودليل الأصل ، فالمجعول فى الأول الطريقية مثلا ، وفى الثانى الوظيفة العملية أو التنزيل منزلة اليقين بلحاظ الجرى العملى بدون تمضن لجعل الطريقية. وقد تقدم الكلام عن ذلك ومر بنا ان هذا ليس هو الفرق الحقيقى.

وحاصل فذلكة الموقف انه لم يرد عنوانا ( الامارة ) و( الاصل ) فى دليل ليتكم عن تمييز أحدهما عن الاخر بأى نحو اتفق ، وانما نعبر بالامارة عن تلك الحجة التى لها آثارها المعهودة بما فيها اثباتها للاحكام الشرعية المترتبة على اللزوم العقلية لمؤداها. ونعبر بالاصل عن ذلك الحاكم الظاهرى الذى ليس له تلك الاثار. وقد عرفنا سابقا ان مجرد

٣٠١

كون المجعول فى دليل الحجية الطريقية لا يفى باثبات تلك الاثار للامارة.

الثانى : إن الفرق بينهما ينشأ من أخذ الشك موضوعا للأصل العملى وعدم أخذه كذلك فى موضوع الحجية المجعولة للامارة.

وهذا الفرق مضافا الى انه لا يفى بالمقصود غير معقول فى نفسه ، لأن الحجية حكم ظاهرى ، فان لم يكن الشك مأخوذا فى موضوعها عند جعلها لزم اطلاقها لحالة العلم ، وجعل الامارة حجة على العالم غير معقول. ومن هنا قيل : بان الشك مأخوذ فى حجية الامارة موردا لا موضوعا ، غير اننا لا نتعقل بحسب عالم الجعل ومقام الثبوت نحوين من الأخذ.

الثالث : ان الفرق بينهما ينشأ من ناحية الشك فى لسان دليل الاصل وعدم أخذه فى لسان دليل حجية الامارة ، بعد الفراغ عن كونه مأخوذا فى موضوعهما ثبوتا معا.

وهذا الفرق لا يفى أيضا بالمقصود ، نعم قد يثمر فى تقديم دليل الامارة على دليل الأصل بالحكومة. هذا مضافا الى كونه اتفاقيا ، فقد يتفق أخذ عدم العلم فى موضوع دليل الحجية ، كما لو بنى عن ثبوت حجية الخبر بقوله تعالى : « فأسألوا أهل الذكرإن كنتم لا تعلمون » (١) فهل يقال بأن الخبر يكون أصلا حينئذ؟

الرابع : ما حققناه فى الجزء السابق من أن الأصل العملى حكم ظاهرى لوحظت فيه أهمية المحتمل عند التزاحم بين الملاكات الواقعية

ـــــــــــــــ

(١) النحل : ٤٣.

٣٠٢

فى مقام الحفظ التشريعى عند الاختلاط والاشتباه ، بينما لوحظت فى أدلة الحجية الأهمية الناشئة من قوة الاحتمال محضا. وقد عرفنا سابقا ان هذه النكتة تفى بتفسيره ما تتميز به الامارة على الأصل من حجية مثبتاتها.

الاصول العملية الشرعية والعقلية :

وتنقسم الاصول العملية الى شرعية وعقلية. فالشرعية : هى ما كنا نقصده آنفا ، ومردها الى أحكام ظاهرية شرعية نشأت من ملاحظة أهمية المحتمل. والعقلية : وظائف عملية عقلية ، ومردها فى الحقيقة الى حق الطاعة إثباتا ونفيا ، فحكم العقل مثلا بأن الشغل اليقينى يستدعى الفراغ اليقينى ، مرجعه الى ان حق الطاعة للمولى الذى يستقل به العقل إنما هو حق الطاعة القطعية ، فلا تفى الطاعة الاحتمالية بحق المولى. وحكم العقل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان على مسلك المشهور مرجعه الى تحديد دائرة حق الطاعة فى التكاليف المعلومة خاصة ، بينما يرجع حكم العقل بمنجزية التكاليف المحتملة عندنا الى توسعه دائرة حق الطاعة ، وهكذا.

وللقسمين مميزات يمكن ذكر جملة منها فيما يلى :

أولا : ان الاصول العملية الشرعية أحكام شرعية ، والاصول العملية العقلية ترجع الى مدركات العقل العملى فيما يرتبط بحق الطاعة.

ثانيا : انه ليس من الضرورى أن يوجد أصل عملى شرعى فى كل مورد ، وإنما هو تابع لدليله. فقد يوكل الشارع أمر تحديد الوظيفة العملية للشاك الى عقله العملى. وهذا خلافا للأصل العملى العقلى ، فانه لابد

٣٠٣

من افتراضه بوجه فى كل واقعة من وقائع الشك فى حد نفسها.

ثالثا : ان الاصول العملية العقلية قد ترد الى أصلين ، لأن العقل إن أدرك شمول حق الطاعة للواقعة المشكوكة حكم باصالة الاشتغال ، وإن ادرك عدم الشمول حكم بالبراءة.

ولكن قد يفرض اصل عملى عقلى ثالث ، وهو اصالة التخيير فى موارد دوران الأمر بين المحذورين.

وقد يعترض على افتراض هذا الاصل بأن التخييرإن اريد به دخول التكليف فى العهدة واشتغال الذمة ولكن على وجه التخيير فهو غير معقول ، لأن الجامع بين الفعل والترك فى موارد الدوران بين المحذورين ضرورى الوقوع. وإن اريد به انه لا يلزم المكلف عقلا بفعل ولا ترك ولا يدخل شىء فى عهدته فهذا عين البراءة.

وسيأتى تفصيل الكلام حول ذلك فى بحث دوران الأمر بين المحذورين ان شاء الله تعالى.

وأما الاصول العملية الشرعية فلا حصر عقلى لها فى البراءة أو الاشتغال ، بل هى تابعة لطريقة جعلها ، فقد تكون استصحابا مثلا.

رابعا : إن الاصول العملية العقلية لا يعقل التعارض بينها ، لا ثبوتا ، كما هو واضح ، ولاإثباتا ، لأن مقام إثباتها هو عين ادراك العقل لها ولا تناقض بين ادراكين عقليين. واما الاصول العملية الشرعية فيعقل التعارض بينهاإثباتا بحسب لسان ادلتها ، ولابد من علاج ذلك وفقا لقواعد باب التعارض بين الأدلة.

خامسا انه لا يعقل التصادم بين الاصول العملية الشرعية والاصول العملية العقلية ، فاذا كانا مختلفين فى التنجيز والتعذير ، فان كان الاصل

٣٠٤

العملى العقلى معلقا على عدم ورود أصل عملى شرعى على الخلاف كان هذا واردا ، وإلا امتنع ثبوت الأصل العملى الشرعى فى مورده.

الاصول التنزيلية والمحرزة :

الاصول العملية الشرعية تارة تكون مجرد وضائف عملية بلسان انشاء حكم تكليفى ترخيصى أو الزامى ، بدون نظر بوجه الى الاحكام الواقعية ، وهذا اصول عملية بحتة. واخرى تبذل فيها عناية اضافية ، إذ تطعم بالنظر الى الاحكام الواقعية ، وهذه العناية يمكن تصويرها بوجهين :

أحدهما : أن يجعل الحكم الظاهرى بلسان تنزيله منزلة الحكم الواقعى ، كما قد يقال فى أصالة الحل وأصالة الطهارة ، إذ يستظهر ان قوله ( كل شىء لك حلال ) أو ( كل شىء لك طاهر حتى تعلم ) ... يتكفل تنزيل مشكوك الحلية ومشكوك الطهارة منزلة الحلال الواقعى ومنزلة الطاهر الواقعى ، خلافا لمن يقول : إن دليل هذين الاصلين ليس ناظرا الى الواقع ، بل ينشىء بنفسه حلية أو طهارة بصورة مستقلة.

ويسمى الاصل فى حالة بذل هذه العناية التنزيلية بالأصل التنزيلى. وقد ترتب على هذه التنزيلية فوائد ، فمثلاإذا قيل بأن أصل الاباحة تنزيلى ، ترتب عليه حين تطبيقه على الحيوان مثلا ، طهارة مدفوعة ظاهرا ، لأنها مترتبة على الحلية الواقعية ، وهى ثابتة تنزيلا ، فكذلك حكمها. وأماإذا قيل بأن أصل الاباحة ليس تنزيليا بل انشاء لحلية مستقلة ، فلا يمكن ان ننقح بها طهارة المدفوع ، وهكذا.

والاخر : أن ينزل الأصل أو الاحتمال المقوم له منزلة اليقين ، بأن

٣٠٥

تجعل الطريقية فى مورد الاصل ، كما ادعى ذلك فى الاستصحاب من قبل المحقق النائينى (١) والسيد الاستاذ (٢) على فرق بينهما ، حيث ان الأول اختار : ان المجعول هو العلم بلحاظ مرحلة الجرى العملى فقط. والثانى اختار : ان المجعول هو العلم بلحاظ الكاشفية ، فلم يبق على مسلك جعل الطريقية فرق بين الاستصحاب والامارات فى المجعول على رأى السيد الاستاذ.

ويسمى الاصل فى حالة بذل هذه العناية بالاصل المحرز. وهذه المحرزية قد يترتب عليها بعض الفوائد فى تقديم الاصل المحرز على غيره ، باعتباره علما وحاكما على دليل الاصل العملى البحت ، على ما يأتى فى محله ان شاء الله تعالى.

وهناك معن آخر للاصول العملية المحرزة ينسجم مع طريقتنا فى التمييز بين الامارات والاصول ، وهو انه كلما لوحظ فى جعل الحكم الظاهرى ثبوتا أهمية المحتمل فهو اصل عملى. فان لوحظ منضما اليه قوة الاحتمال أيضا. فهو اصل عملى محرز ، كما فى قاعدة الفراغ ، والا فلا.

والمحرزية بهذا المعنى فى قاعدة الفراغ لا تجعلها حجة فى مثبتاتها ، إلا ان استظهارها من دليل القاعدة يترتب عليه بعض الاثار أيضا ، من قبيل عدم شمول دليل القاعدة لموارد انعدام الامارية والكشف نهائيا. ومن هنا يقال : بعدم جريان قاعدة الفراغ فى موارد العلم بعدم التذكر حين العمل.

ـــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ص ٤٨٦.

(٢) مصباح الاصول : ج ٢ ص ٣٨ وج ٣ ص ١٥٤.

٣٠٦

مورد جريان الاصول العملية :

لا شك فى جريان الاصول العملية الشرعية عند الشك فى الحكم التكليفى الواقعى لتنجيزه ، كما فى اصالة الاحتياط ، أو للتعذير عنه ، كما فى أصالة البراءة. ولكن قد يشك فى التكليف الواقعى ، ويشك فى قيام الحجة الشرعية عليه بنحو الشبهة الموضوعية كالشك فى صدور الحديث أو بنحو الشبهة الحكمية كالشك فى حجية الامارة المعلوم وجودها فهل يوجد فى هذه الحالة موردان للأصل العملى ، فنجرى البراءة عن التكليف الواقعى المشكوك ونجرى براءة اخرى عن الحجية أى الحكم الظاهرى المشكوك .. أو تكفى البراءة الاولى؟. وبكلمة اخرى ان الاصول العملية هل يختص موردها بالشك فى الاحكام الواقعية ، أو يشمل مورد الشك فى الاحكام الظاهرية نفسها؟

قد يقال : بأننا فى المثال المذكور نحتاج الى براءتين ، إذ يوجد احتمالان صالحان لتنجيز ، فنحتاج الى مؤمن عن كل منهما ، أحداهما : احتمال التكليف الواقعى ، ولنسمه بالاحتمال البسيط. والاخر : احتمال قيام الحجة عليه ، وحيث ان الحجية معناها ابراز شدة اهتمام المولى بالتكليف الواقعى المشكوك كما عرفنا سابقا عند البحث فى حقيقة الاحكام الظاهرية فاحتمال الحجة على الواقع المشكوك ، يعنى احتمال تكليف واقعى متعلق لاهتمام المولى الشديد وعدم رضائه بتفويته ، ولنسم هذا بالاحتمال المركب. وعليه فالبراءة عن الاحتمال البسيط لا تكفى ، بل لابد من التأمين من ناحية الاحتمال المركب أيضا ببراءة ثانية.

٣٠٧

وقد يعترض على ذلك : بأن الاحكام الظاهرية كما تقدم فى الجزء السابق متنافية بوجوداتها الواقعية ، فاذا جرت البراءة عن الحجية المشكوكة وفرض انها كانت ثابتة ، يلزم اجتماع حكمين ظاهريين متنافيين.

وجواب الاعتراض : إن البراءة هنا نسبتها الى الحجية المشكوكة نسبة الحكم الظاهرى الى الحكم الواقعى ، لأنها مترتبة على الشك فيها. فكما لا منافة بين الحكم الظاهرى والواقعى ، كذلك لا منافاة بين حكمين ظاهريين طوليين من هذا القبيل. وما تقدم سابقا من التنافى بين الاحكام الظاهرية بوجوداتها الواقعية ينبغى أن يفهم فى حدود الاحكام الظاهرية العرضية ، أى التى يكون الموضوع فيها نحو واحد من الشك.

وقد يعترض على اجراء براءة ثانية بانها لغو ، إذ بدون إجراء البراءة عن نفس الحكم الواقعى المشكوك لا تنفع البراءة المؤمنة عن الحجية المشكوكة ، ومع إجرائها لا حاجة الى البراءة الثانية ، إذ لا يحتمل العقاب إلا من ناحية التكليف الواقعى وقد امن عنه.

والجواب على ذلك : إن احتمال ذات التكليف الواقعى شىء ، واحتمال تكليف واقعى واصل الى مرتبة من الاهتمام المولوى التى تعبر عنها الحجية المشكوكة شىء آخر ، والتأمين عن الأول لا يلازم التأمين عن الثانى ، ألا ترى ان بامكان المولى أن يقول للمكلف : كلما احتملت تكليفا وأنت تعلم بعدم قيام الحجة عليه ، فانت فى سعة منه ، وكلما احتملت تكليفا واحتملت قيام الحجة عليه فاحتط بشأنه.

ولكن التحقيق مع ذلك : إن إجراء البراءة عن التكليف الواقعى

٣٠٨

المشكوك يغنى عن اجراء البراءة عن الحجية المشكوكة ، وذلك بتوضيح ما يلى :

أولا : إن البراءة عن التكليف الواقعى والحجية المشكوكة حكمان ظاهريان عرضيان ، لأن موضوعهما معا الشك فى الواقع ، خلافا للبراءة عن الحجية المشكوكة فانها ليست فى درجتها ، كما عرفت.

ثانيا : إن الحكمين الظاهرين المختلفين متنافيان بوجوديهما الواقعيين ، سواء وصلا أو لا ، كما تقدم فى محله.

ثالثا : إن البراءة عن التكليف الواقعى منافية ثبوتا للحجية المشكوكة ، على ضوء ما تقدم.

رابعا : إن مقتضى المنافاة انها تستلزم عدم الحجية واقعا ونفيها.

خامسا : إن الدليل الدال على البراءة عن التكليف الواقعى يدل بالالتزام على نفى الحجية المشكوكة.

وهذا يعنى : إننا باجراء البراءة عن التكليف الواقعى سنثبت بالدليل نفى الحجية المشكوكة ، فلا حاجة الى أصل البراءة عنها وان كان لا محذور فيه أيضا.

ويمكن تصوير وقوع الاحكام الظاهرية موردا للاصول العملية فى الاستصحاب ، إذ قد يجرى استصحاب الحكم الظاهرى ، لتمامية أركان الاستصحاب فيه وعدم تماميتها فى الحكم الواقعى ، كما اذا علم بالحجية وشك فى نسخها ، فان المستصحب هنا نفس الحجية لا الحكم الواقعى.

٣٠٩
٣١٠

الوظيفة العملية

فى حالة الشك

٣١١
٣١٢

الاصول العملية

٢

١ ـ الوظيفة فى حالة الشك البدوى.

٢ ـ الوظيفة فى حالة العلم الاجمالى.

٣ ـ الوظيفة عند الشك فى الوجوب والحرمة معا.

٤ ـ الوظيفة عند الشك فى الأقل والاكثر.

٣١٣
٣١٤

الوظيفة العملية فى حالة الشك

١

الوظيفة

فى حالة الشك البدوى

١ ـ الوظيفة الاولية فى حالة الشك.

٢ ـ الوظيفة الثانوية فى حال الشك.

٣١٥
٣١٦

الوظيفة الأولية فى حالة الشك

كلما شك المكلف فى تكليف شرعى ولم يتأت له إقامة الدليل عليه إثباتا أو نفيا ، فلابد له من تحديد الوظيفة العملية تجاهه. ويقع الكلام أولا فى تحديد الوظيفة العملية تجاه التكليف المشكوك بقطع النظر عن أى تدخل من الشارع فى تحديدها ، وهذا يعنى التوجه إلى تعيين الاصل الجارى فى الواقعة بحد ذاتها ، وليس هو الا الاصل العملى العقلى. ويوجد بصدد تحديد هذا الاصل العقلى مسلكان :

١ ـ مسلك قبح العقاب بلا بيان :

إن مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو المسلك المشهور. وقد يستدل عليه بعدة وجوه :

الأول : ما ذكره المحقق النائينى رحمه الله (١) من أنه لا مقتضى للتحرك مع عدم وصول التكليف ، فالعقاب حينئذ عقاب على ترك ما لا مقتضى لا يجاده وهو قبيح.

ـــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ص ٣٦٥.

٣١٧

وقد عرفت فى حلقة سابقة (١) ان هذا الكلام مصادرة ، لأن عدم المقتضى فرع ضيق دائرة حق الطاعة وعدم شمولها عقلا للتكاليف المشكوكة ، لوضوح انه مع الشمول يكون المقتضى للتحرك موجودا ، فينتهى البحث الى تحديد دائرة حق الطاعة.

الثانى : الاستشهاد بالاعراف العقلائية. وقد تقدم أيضا (٢) الجواب : بالتمييز بين المولوية المجعولة والمولوية الحقيقية.

الثالث : ما ذكره المحقق الاصفهانى رحمه الله (٣) من أن كل احكام العقل العملى مردها الى حكمه الرئيسى الأولى بقبح الظلم وحسن العدل. ونحن نلاحظ ان مخالفة ما قامت عليه الحجة خروج عن رسم العبودية وهو ظلم من العبد لمولاه ، فيستحق منه الذم والعقاب. وان مخالفة ما لم تقم عليه الحجة ليست من افراد الظلم ، إذ ليس من زى العبودية أن لا يخالف العبد مولاه فى الواقع وفى نفس الأمر ، فلا يكون ذلك ظلما للمولى ، وعليه فلا موجب للعقاب ، بل يقبح ، وبذلك يثبت قبح العقاب بلا بيان.

والتحقيق إن ادعاء كون حكم العقل بقبح الظلم هو الاساس لا حكام العقل العملى بالقبح عموما ، وانها كلها تطبيقات له .. وإن كان هو المشهور والمتداول فى كلماته وكلمات غيره من المحققين ، إلا انه لا مصحل له ، لأننا اذا حللنا نفس مفهوم الظلم وجدنا انه عبارة عن الاعتداء وسلب الغير حقه ، وهذا يعنى افتراض ثبوت حق فى المرتبة السابقة ، وهذا الحق بنفسه من مدركات العقل العملى. فلو لا أن للمنعم

ـــــــــــــــ

(١) و(٢) راجع : ج ١ ص ٣٧١.

(٣) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٩٠.

٣١٨

حق الشكر فى المرتبة السابقة ، لما انطبق عنوان الظلم على ترك شكره. فكون شىء طلما وبالتالى قبيحا مترتب دائما على حق مدرك فى المرتبة السابقة ، وهو فى المقام حق الطاعة.

فلابد أن يتجه البحث الى أن حق الطاعة للمولى هل يشمل التكاليف الواصلة بالوصول الاحتمالى ، أو يختص بما كان واصلا بالوصول القطعى ، بعد الفراغ عن عدم شموله للتكليف بمجرد ثبوته واقعا ولو لم يصل بوجه.

الرابع : ما ذكره المحقق الاصفهانى (١) أيضا تعميقا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان على أساس مبنى له فى حقيقة التكليف حاصله : إن التكليف انشائى وحقيقى ، فالانشائى ما يوجد بالجعل والانشاء ، وهذا لا يتوقف على الوصول. والتكليف الحقيقى ما كان إنشاؤه بداعى البعث والتحريك ، وهذا متقوم بالوصول ، إذ لا يعقل أن يكون التكليف بمجرد إنشائه باعثا ومحركا ، وانما يكون كذلك بوصوله. فكما ان بعث العاجز غير معقول ، كذلك بعث الجاهل. وكما يختص التكليف الحقيقى بالقادر ، كذلك يختص بمن وصل اليه ، ليمكنه الانبعاث عنه. فلا معنى للعقاب والتنجز مع عدم الوصول ، لأنه يساوق عدم التكليف الحقيقى ، فيقبح العقاب بلا بيان لا لأن التكليف الحقيقى لا بيان عليه ، بل لأنه لا ثبوت له مع عدم الوصول.

ويرد عليه :

أولا : إن حق الطاعة إن كان شاملا للتكاليف الواصلة بالوصول

ـــــــــــــــ

(١) نفس المصدر.

٣١٩

الاحتمالى فباعثية التكليف ومحركيته مولويا مع الشك معقولة أيضا ، وذلك لأنه يحقق موضوع حق الطاعة. وإن لم يكن حق الطاعة شاملا للتكاليف المشكوكة فمن الواضح انه ليس من حق المولى أن يعاقب على مخالفتها ، لأنه ليس مولى بلحاظها ، بلا حاجة الى هذه البيانات والتفصيلات. وهكذا نجد مرة اخرى ان روح البحث يجب أنه يتجه الى تحديد دائرة حق الطاعة.

وثانيا : إن التكليف الحقيقى الذى ادعى كونه متقوما بالوصول ، إن اراد به الجعل الشرعى مثلا الناشىء من ارادة ملزمة للفعل ومصلحة ملزمة فيه ، فمن الواضح ان هذا محفوظ مع الشك أيضا ، حتى لو قلنا بأنه غير منجز وان المكلف الشاك غير ملزم بامتثاله عقلا ، لأن شيئا من الجعل والارادة والمصلحة لا يتوقف على الوصل.

وان اراد به ما كان مقرونا بداعى البعث والتحريك ، فلنفترض ان هذا غير معقول بدون وصول ، إلا ان ذلك لا ينهى البحث ، لأن الشك فى وجود جعل بمبادئه من الارادة والمصلحة الملزمتين موجود على أى حال ، حتى ولو لم يكن مقرونا بداعى البعث والتحريك ، ولابد أن يلاحظ انه هل يكفى احتمال ذلك فى التنجيز أو لا؟ وعدم تسمية ذلك بالتكليف الحقيقى مجرد اصطلاح ولا يغنى عن بحث واقع الحال.

٢ ـ مسلك حق الطاعة :

وهكذا نصل الى المسلك الثانى وهو مسلك حق الطاعة المختار ونحن نؤمن فى هذا المسلك بأن المولوية الذاتية الثابتة لله سبحانه وتعالى لا تختص بالتكاليف المقطوعة بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو

٣٢٠