دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

الاولى : ان ترك أحد الضدين مقجمة لضده.

الثانية : ان مقدمة الواجب واجبة ، وعليه فترك الضد الخاص للواجب واجب.

الثالثة : إذا وجب ترك الضد الخاص ، حرم نقيضه وهوإيقاع الضد الخاص ، وبذلك يثبت المطلوب.

وقد نستغنى عن المقدمة الثالثة ، ونكتفى باثبات وجوب ترك الضد الخاص ، لأن هذا يحقق الثمرة المطلوبة من القول بالاقتضاء ، وهى عدم إمكان الأمر بالضد الخاص لولو على وجه الترتب. ومن الواضح انه كما لا يمكن الأمر به مع حرمته ، كذلك مع الأمر بنقيضه ، لاستحالة ثبوت الأمر بالنقيضين معا.

كما ان المقدمة الثانية لا نريد بها اثبات الوجوب الغيرى للمقدمة فى كل مراحل الحكم بما فيها عالم الجعل ، بل يكفى ثبوته بلحاظ عالم المبادىء ، وعليه فهذه المقدمة ثابتة.

والمهم إذن تحقيق حال المقدمة الاولى ، وقد برهن علهيا بأن أحد الضدين مانع عن وجود ضده ، وعدم المانع أحد أجزاء العلة ، فتثبت مقدمية عدم أحد الضدين بهذا البيان.

ونجيب على هذا البرهان بجوابين :

الجواب الأول : يتكفل حل الشبهة التى صيغ بها البرهان ، وبيانه ان العلة مركبة من المقتضى والشرط وعدم المانع ، فالمقتضى هو السبب الذى يترشح منه الأثر. والشرط دخيل فى ترشح الأثر من مقتضيه. والمانع هو الذى يمنع المقتضى من التأثير. ومن هنا يتوقف وجود الأثر على المقتضى والشرط وعدم المانع ، وينشأ عدم الأثر من عدم المقتضى

٢٨١

أو عدم الشرط أو وجود المانع ، ولكنه لا ينشأ من وجود المانع إلا فى حالة وجود المقتضى ، لأن تأثير المانع انما هو بمنعه للمقتضى عن التأثير ، ومع عدم وجود المقتضى لا معنى لهذا المنع ، وهذا يعنى ان المانع انما يكون مانعاإذا أمكن ان يعاصره المقتضى لكى يمنعه عن التأثير ، وأماإذا استحال أن يعاصره ، استحالت مانعيته له ، وبالتالى لا يكون عدمه من اجزاء العلة.

وعلى هذا الأساس إذا لا حظنا الصلاة بوصفها ضدا لازالة النجاسة عن المسجد ، نجد ان المقتضى لها هوإرادة المكلف ، ويستحيل ان تجتمع الازالة مع ارادة المكلف للصلاة ، وهذا معناه ان مانعية الازالة عن الصلاة مستحيلة ، فلا يمكن ان يكون عدمها أحد اجزاء العلة. وان شئت قلت : انه مع وجود الارادة للصلاة لا حالة منتظرة ، ومع عدمها لا مقتضى للصلاة ليفرض كون الازالة مانعة عن تأثيره.

فان قيل : كيف تنكرون ان الازالة مانعة ، مع أنها لو لم تكن مانعة لاجتمعت مع الصلاة ، والمفروض عدم امكان ذلك.

كان الجواب : ان المانعية التى تجعل المانع علة لعدم الأثر ، وتجعل عدم المانع أحد أجزاء العلة للأثر ، انما هى مانعية الشىء عن تأثير المقتضى فى توليد الأثر. وقد عرفت ان هذه المانعية انما تثبت لشىء بالامكان معاصرته للمقتضى. وأما المانعية بمعنى مجرد التمانع وعدم امكان الاجتماع فى الوجود ، كما فى الضدين ، فلا دخل لها فى التأثير ، إذ متى ما تم المقتضى لأحد المتمانعين بهذا المعنى مع الشرط ، وانتفى المانع عن تأثير المقتضى ، أثر أثره لا محالة فى وجود أحد المتمانعين ونفى الاخر. ونتيجة ذلك ان وجود أحد الضدين مع عدم ضده فى رتبة واحدة

٢٨٢

ولا مقدمية بينهما.

الجواب الثانى : ان افتراض المقدمية يستلزم الدور ، كما أشرنا اليه فى الحلقة السابقة (١) فلاحظ.

وعليه فالصحيح ان وجوب شىء لا يقتضى حرمة ضده الخاص.

وأما ثمرة هذا البحث فهى كما اشرنا فى الحلقة السابقة (٢) تشخيص حكم الصلاة المضادة لواجب أهم ، إذا اشتغل بها المكلف وترك الأهم ، وكذلك أى واجب آخر مزاحم من هذا القبيل. فاذا قلنا بالاقتضاء ، تعذر ثبوت الأمر بالصلاة ولو على وجه الترتب ، فلا تصح. واذا لم نقل بالاقتضاء ، صحت بالأمر الترتبى.

وبضيغة أشمل فى صياغة هذه الثمرة انه على القول بالاقتضاء يقع التعارض بين دليلى الواجبين المتزاحمين ، لأن كلا من الدليلين يدل بالالتزام على تحريم مورد الاخر ، فيكون التنافى فى اصل الجعل. وهذا ملاك التعارض ، كما مر بنا. وأما على القول بعدم اقتضاء ، فلا تعارض ، لأن مفاد كل من الدليلين ليس إلا وجوب مورده ، وهو وجوب مشروط بالقدرة وعدم الاشتغال بالمزاحم ، كما تقدم ، ولا تنافى بين وجوبين من هذا القبيل فى عالم الجعل.

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٣٥٣.

(٢) راجع : ج ١ ص ٣٥٤.

٢٨٣

اقتضاء الحرمة للبطلان

لا شك فى ان النهى المتعلق بالعبادة أو بالمعاملة إرشادا الى شرط أو مانع ، يكشف عن البطلان بفقد الشرط أو وجود المانع. وانما الكلام فى الحرمة التكليفية واقتضائها لبطلان العبادة ، بمعنى عدم جواز الاكتفاء بها فى مقام الامتثال ، وبطلان المعاملة ، بمعنى عدم ترتب الأثر عليها. فهنا مبحثان :

اقتضاء الحرمة لبطلان العبادة :

والمعروف بينهم ان الحرمة تقتضى بطلان العبادة ، ويمكن أن يكون ذلك لأحد الملاكات التالية :

الأول : انها تمنع عن اطلاق الأمر خطابا ودليلا لمتعلقها ، لامتناع الاجتماع ، ومع خروجه عن كونه مصداقا للواجب لا يجزى عنه ، وهو معنى البطلان.

الثانى : انها تكشف عن كون العبادة مبغوضة للمولى ، ومع كونها مبغوضة يستحيل التقرب بها.

٢٨٤

الثالث : انها تستوجب حكم العقل بقبح الاتيان بمتعلقها ، لكونه معصية مبعدة عن المولى ، ومعه يستحيل التقرب بالعبادة.

وهذه الملاكات على تقدير تماميتها تختلف نتائجها ، فنتيجة الملاك الأول لا تختص بالعبادة ، بل تشمل الواجب التوصلى أيضا. ولا تختص بالعالم بالحرمة ، بل تشمل حالة الجهل أيضا. ولا تختص بالحرمة النفسية ، بل تشمل الغيرية أيضا.

ونتيجة الملاك الثانى تختص بالعبادة ، إذ لا يعتبر قصد القربة فى غيرها ، وبالعالم بالحرمة ، لأن من يجهل كونها مبغوضة ، يمكنه التقرب.

ونتيجية الملاك الثالث تختص بالعبادة وبفرض تنجز الحرمة. وأيضا تختص بالنهى النفسى ، لأن الغيرى ليس موضوعا مستقلا لحكم العقل بقبح المخالفة ، كما تقدم فى مبحث الوجوب الغيرى.

ثم اذا افترضنا ان حرمة العبادة تقتضى بطلانها ، فان تعلقت بالعبادة بكاملها ، فهو ما تقدم. وإن تعلقت بجزئها ، بطل هذا الجزء ، لان جزء العبادة عبادة ، وبطل الكل إذا اقتصر على ذلك المفرد من الجزء. وأماإذا أتى بفرد آخر غير محرم من الجزء ، صح المركب ، إذا لم يلزم من هذا التكرار للجزء محذور آخر ، من قبيل الزيادة المبطلة لبعض العبادات.

وان تعلقت الحرمة بالشرط ، نظر الى الشرط ، فان كان فى نفسه عبادة ، كالضوء ، بطل وبطل المشروط بتبعه ، وإلا لم يكن هناك موجب لبطلانه ولا لبطلان المشروط. أما الأول فلعدم كونه عباجة ، وأما الثانى فلأن عبادية المشروط لا تقتضى بنفسها عبادية الشرط ولزوم الاتيان به على وجه قربى ، لأن الشرط والقيد ليس داخلا تحت الأمر

٢٨٥

النفسى المتعلق بالمشروط والمقيد ، كما تقدم فى محله.

اقتضاء الحرمة لبطلان المعاملة :

وتحلل المعاملة الى السبب والمسبب. والحرمة تارة تتعلق بالسبب واخرى بالمسب ، فان تعلقت بالسبب ، فالمعروف بين الاصوليين انها لا تقتضى البطلان ، إذ لا منافاة بين أن يكون الانشاء والعقد مبغوضا ، وأن يترتب عليه مسببه ومضمونه.

وإن تعلقت بالمسبب ، أى بمضمون المعاملة الذى يراد التوصل اليه بالعقد ، باعتباره فعلا بالواسطة للمكلف وأثرا تسبيبيا له ، فقد يقال : بأن ذلك يقتضى البطلان لوجهين :

الأول : إن هذا التحريم يعنى مبغوضية المسبب ، أى التمليك بعوض فى مورد البيع مثلا ، ومن الواضح ان الشارع اذا كان يبغض أن تنتقل ملكية السلعة للمشترى ، فلا يعقل ان يحكم بذلك ، وعدم الحكم بذلك عبارة اخرى عن البطلان.

والجواب : ان تملك المشترى للسلعة يتوقف على أمرين :

أحدهما : ايجاد المتعاملين للسبب ، وهو العقد.

والاخر : جعل الشارع للمضمون. وقد يكون غرض المولى متعلقا باعدام المسبب من ناحية الأمر الأول خاصة ، لا باعدامه من ناحية الأمر الثانى ، فلا مانع من ان يحرم المسبب على المتعاملين ، ويجعل بنفسه المضمون على تقدير تحقق السبب.

الثانى : ما ذكره المحقق النائينى (١) : من ان هذا التحريم يساوق

ـــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٢ ص ٤٧٢ ٤٧١.

٢٨٦

الحجر على المالك وسلب سلطنته على نقل المال ، فيصبح حاله حال الصغير ، ومع الحجر لا تصح المعاملة.

والجواب : ان الحجر على شخص له معنيان :

أحدهما : الحجر الوضعى ، بمعنى الحكم بعدم نفوذ معاملاته.

والاخر : الحجر التكليفى ، بمعنى منعه ، فان اريد ان التحريم يساوق الحجر بالمعنى الأول ، فهو أول الكلام. وان اريد انه يساوقه بالمعنى الثانى ، فهو مسلم ، ولكن من قال ان هذا يستتبع الحجر الوضعى؟ فالظاهر ان تحريم المسبب لا يقتضى البطلان ، بل قد يقتضى الصحة ، كما اشرنا فى حلقة ساقة (١).

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٣٥٦.

٢٨٧

الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع

يقسم الحكم العقلى الى قسمين :

أحدهما : الحكم النظرى ، وهوإدراك ما يكون واقعا.

والاخر : الحكم العملى ، وهوإدراك ما ينبغى أو ما لا ينبغى أن يقع. وبالتحليل نلاحظ رجوع الثانى الى الأول ، لأنه إدراك لصفة واقعية فى الفعل ، وهى انه ينبغى ان يقع ، وهو الحسن ، أو لا ينبغى ، وهو القبح. وعلى هذا نعرف ان الحسن والقبح صفتان واقعيتان يدركهما العقل ، كما يدرك سائر الصفات والامور الواقعية ، غير انهما تختلفان عنها فى اقتضائهما بذاتهما جريا عمليا معينا خلافا للامور الواقعية الاخرى.

وعلى هذا الأساس يمكن ان يقال ان الحكم النظرى هوإدراك الامور الواقعية التى لا تقتضى بذاتها جريا عمليا معينا ، والحكم العلمى هوإدراك الامور الواقعية التى تقتضى بذاتها ذلك. ويدخل إدراك العقل للمصلحة والمفسدة فى الحكم النظرى ، لأن المصلحة ليست بذاتها مقتضية للجرى العملى ، ويختص الحكم العملى من العقل بادراك الحسن والقبح. وسنتكلم فيما يلى عن الملازمة بين كلا هذين القسمين

٢٨٨

من الحكم العقلى وحكم الشارع.

الملازمة بين الحكم النظرى وحكم الشارع :

لا شك فى ان الاحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد ، وان الملاك متى ما تم بكل خصوصياته وشرائطه وتجرد عن الموانع عن التأثير ، كان بحكم العلة التامة الداعية للمولى إلى جعل الحكم على طبقه ، وفقا لحكمته تعالى. وعلى هذا الأساس فمن الممكن نظريا ان نفترض إدراك العقل النظرى لذلك الملاك بكل خصوصياته وشؤونه ، وفى مثل ذلك يستكشف الحكم الشرعى لا محالة استكشافا لميا ، أى بالانتقال من العلة الى المعلول.

ولكن هذا الافتراض صعب التحقق من الناحية الواقعية فى كثير من الاحيان ، لضيق دائرة العقل ، وشعور الانسان بأنه محدود الاطلاع ، الأمر الذى يجعله يحتمل غالبا أن يكون قد فاته الاطلاع على بعض نكات الموقف ، فقد يدرك المصلحة فى فعل ، ولكنه لا يجزم عادة بدرجتها وبمدى أهميتها وبعدم وجود أى مزاحم لها ، وما لم يجزم بكل ذلك لا يتم الاستكشاف.

الملازمة بين الحكم العملى وحكم الشارع :

عرفنا ان مرجع الحكم العملى الى الحسن والقبح ، وانهما أمران واقعيان يدركهما العقل. وقبل الدخول فى الحديث عن الملازمة ينبغى أن نقول كلمة عن واقعية هذين الأمرين : فان جملة من الباحثين فسر الحسن والقبح بوصفهما حكمين عقلائيين ، أى مجعولين من قبل العقلاء

٢٨٩

تبعا لما يدركون من مصالح ومفاسد للنوع البشرى ، فما يرونه مصلحة كذلك ، يجعلونه حسنا ، وما يرونه مفسدة كذلك ، يجعلونه قبيحا ، وتميزهما عن غيرهما من التشريعات العقلائية ، اتفاق العقلاء عليهما وتطابقهم على تشريعهما ، لوضوح المصالح والمفاسد التى تدعوإلى جعلهما.

وهذا التفسير خاطىء وجدانا وتجربة. أما الوجدان فهو قاض بأن قبح الظلم ثابت بقطع النظر عن جعل أى جاعل ، كامكان الممكن. وأما التجربة فلان الملحوظ خارجيا عدم تبعية الحسن والقبح للمصالح والمفاسد ، فقد تكون المصلحة فى القبيح أكثر من المفسدة فيه ، ومع هذا يتفق العقلاء على قبحه ، فقتل الانسان لأجل استخراج دواء مخصوص من قلبه يتم به انقاذ انسانين من الموت إذا لوحظ من زاوية المصالح والمفساد فقط ، فالمصلحة أكبر من المفسدة ، ومع هذا لا يشك أحد فى ان هذا ظلم وقبيح عقلا. فالحسن والقبح إذن ليسا تابعين للمصالح والمفاسد بصورة بحتة ، بل لهما واقعية تلتقى مع المصالح والمفاسد فى كثير من الأحيان وتختلف معها احيانا.

والمشهور بين علمائنا الملازمة بين الحكم العملى العقلى والحكم الشرعى. وهناك من ذهب الى استحالة حكم الشارع فى موارد الحكم العملى العقلى بالحسن والقبح ، فهذان اتجاهان :

أما الاتجاه الأول : فقد قرب بأن الشارع أحد العقلاء وسيدهم ، فاذا كان العقلاء متطابقين بما هم على حسن شىء وقبحه ، فلابد أن يكون الشارع داخلا ضمن ذلك أيضا.

والتحقيق انا تارة نتعامل مع الحسن والقبح بوصفهما أمرين واقعيين يدركهما العقل ، واخرى بوصفهما مجعولين عقلائيين رعاية لمصالح

٢٩٠

العامة ، فعلى الأول لا معنى للتقريب المذكور ، لأن العقلاء بما هم عقلاء إنما يدركون الحسن والقبح ، ولا شك فى أن الشارع يدرك ذلك ، وإنما الكلام فى انه هل يجعل حكما تشريعيا على طبقهما أو لا؟ وعلى الثانى إن اريد استكشاف الحكم الشرعى بلحاظ ما أدركه العقلاء من المصالح العامة التى دعتهم الى التحسين والتقبيح ، فهذا استكشاف للحكم الشرعى بالحكم العقلى النظرى لا العملى ، لأن مناطه هوإدراك المصلحة ولا دخل للحسن والقبح فيه. وإن اريد استكشاف الحكم الشرعى بلحاظ حكم العقلاء وجعلهم الحسن والقبح ، فلا مبرر لذلك ، إذ لا برهان على لزوم صدور جعل من الشارع يماثل ما يجعله العقلاء.

وأما الاتجاه الثانى : فقد قرب بأن جعل الشارع للحكم فى مورد حكم العقل بالحسن والقبح لغو ، لكفاية الحسن والقبح لادانة والمسؤولية والمحركية.

ويرد على ذلك ان حسن الامانة وقبح الخيانة مثلا وإن كانا يستبطنان درجة من المسؤولية والمحركية ، غير ان حكم الشارع على طقبهما يؤدى الى نشوء ملاك آخر للحسن والقبح ، وهو طاعة المولى ومعصيته ، وبذلك تتأكد المسؤولية والمحركية ، فاذا كان المولى مهتما بحفظ واجبات العقل العملى بدرجة أكبر مما تقتضيه الاحكام العملية نفسها ، حكم على طبقها ، وإلا فلا.

وبذلك يتضح انه لا ملازمة بين الحكم العقلى العملى وحكم الشارع على طبقه ، ولا بينه وبين عدم حكم الشارع على طبقه ، فكلا الاتجاهين غير تام.

٢٩١

حجية الدليل العقلى

الدليل العقلى إن كان ظنيا ، فهو بحاجة الى دليل على حجيته ، ولا دليل على حجية الظنون العقلية. وأماإذا كان قطعيا ، فهو حجة من أجل حجية القطع.

ونسب الى بعضهم القول بعدم حجية القطع الناشىء من الدليل العقلى ، وهو بظاهره غير معقول ، لأن حجية الطقع الطريقى غير قابلة للانفكاك عنه مهما كان سببه. ومن هنا حاول بعض الاعلام توجيهه ثبوتا بدعوى تحويل القطع من طريقى الى موضوعى ، وذ لك بان يفرض عدم القطع العقلى قيدا فى موضوع الحكم المجعول ، فمع القطع العقلى لا حكم ، ليكون القطع منجزا له.

ويرد على ذلك :

أولا : ان القطع العقلى الذى يؤخذ عدمه فى موضوع الحكم ، هل هو القطع بالحكم المجعول أو بالجعل؟ والأول واضح الاستحالة ، لأن القطع بالمجعول يساوق فى نظر القاطع ثبوت المجعول فعلا ، فكيف يعقل ان يصدق بأنه يساوق انتفاءه. وأما الثانى فلا تنطبق عليه هذه الاستحالة ،

٢٩٢

إذ قد يصدق القاطع بالجعل بعدم فعلية المجعول ، ولكن التصديق بذلك هنا خلاف المفروض ، لأن المفروض قيام الدليل العقلى القطعى على ثبوت تمام الملاك للحكم ، فكيف يعقل التصديق باناطة الحكم بقيد آخر.

وبكلمة موجزة ان المكلف إذا كان قاطعا عقلا بثبوت تمام الملاك للحكم ، فلا يمكن ان يصدق باناطته بغير ما قطع عقلا ثبوته ، وإذا كان قاطعا عقلا بثبوت الملاك للحكم ، ولكن على نحو لا يجوز بانه ملاك تمام ، ويحتمل دخل بعض القيود فيه ، فليس هذا القطع حجة فى نفسه ، بلا حاجة الى بذل عناية فى تحويل من طريقى الى موضوعى.

وثانيا : ان القطع العقلى لا يؤدى دائما الى ثبوت الحكم ، بل قد يؤدى الى نفيه ، من قبيل ما يستدل به على استحالة الأمر بالضدين ولو على وجه الترتب ، فماذا يقال بهذا الشأن؟ وهل يفترض ان المولى يجعل الحكم المستحيل فى حق من وصلت اليه الاستحالة بدليل عقلى على الرغم من استحالته؟

فالصحيح إذن ان المنع شرعا عن حجية الدليل العقلى القطعى غير مقعول ، لا بصورة مباشرة ولا بتحويله من القطع الطريقى الى الموضوعى.

ولكن القائلين بعدم حجية الدليل العقلى استندواإلى جملة من الروايات التى نددت بالعمل بالأدلة العقلية ، واكدت على عدم قبول أى عمل غير مبنى على الاعتراف بأهل البيت ونحو ذلك من الألسنة.

والصحيح ان الروايات المذكورة لا دلالة فيها على ما يدعى ، وانما هى بصدد امور اخرى ، فبعضها بصدد المنع من التعويل على الرأى والاستحسان ونحو ذلك من الظنون العقلية ، وبعضها بصدد بيان كون

٢٩٣

الولاية شرطا فى صحة العبادة ، وبعضها بصدد بيان عدم جواز الانصراف عن الأدلة الشرعية والتوجه رأساإلى الاستدلالات العقلية ، مع إن التوجه الى الأدلة الشرعية كثيرا ما يحول دون حصول القطع من الاستدلال العقلى ، كما هو الحال فى رواية أبان (١) الواردة فى دية أصابع المرأة.

وبهذا ينتهى البحث فى الدليل العقلى وبذلك نختم الكلام فى مباحث الأدلة من الحلقة الثالثة.

وقد كان الشروع فيها فى اليوم التاسع عشر من جمادى الثانية ١٣٩٧هو كان الفراغ فى اليوم الثالث والعشرين من شهر رجب ١٣٩٧هو بما ذكرناه يتم الجزء الأول من الحلقة الثالثة ويتلوه الجزء الثانى الذى تكتمل به هذه الحلقة ان شاء الله تعالى ، وهو فى مباحث الاصول العملية. والى المولى سبحانه نبتهل ان يتقبل منا هذه بلطفه ويوفقنا لمراضيه والحمد لله أولا وآخرا.

ـــــــــــــــ

(١) الكافى : ج ٧ ص ٢٩٩.

٢٩٤

الحلقة الثالثة

ـ ٢ ـ

الاصول الملية

١ ـ التمهيد.

٢ ـ الوظيفة العملية عند الشك.

٣ ـ الاستصحاب.

٢٩٥
٢٩٦

التمهيد

٢٩٧
٢٩٨

الاصول العملية

١

١ ـ خصائص الاصول العملية.

٢ ـ الاصول العملية الشرعية والعقلية.

٣ ـ الاصول التنزيلية والمحرزة.

٤ ـ مورد جريان الاصول.

٢٩٩
٣٠٠