دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

اهتمامه بالاجتناب عن المحرمات الواقعية يدعوه اى المنع عن ارتكاب كل ما يحتمل حرمته ، لا لأن كل ما يحتمل حرمته فهو مبغوض وذو مفسدة ، بل لضمان الاجتناب عن المحرمات الواقعية الموجودة ضمنها. فهو منع ظاهرى ناشىء من مبغوضية المحرمات الواقعية والحرص على ضمان اجتنابها. وفى مقابل ذلك ان كانت الاباحة فى المباحات الواقعية ذات ملاك لا اقتضائى ، فلن يجد المولى ما يحول دون إصدار المنع المذكور ، وهذا المنع سيشمل الحرام الواقعى والمباح الواقعى أيضا ، اذا كان محتمل الحرمة للمكلف ، وفى حالة شموله للمباح الواقعى لا يكون منافيا لاباحته ، لانه كما قلنا لم ينشأ عن مبغوضية نفس متعلقه ، بل عن مبغوضية المحرمات الواقعية والحرص على ضمان اجتنابها.

وأما اذا كانت الاباحة الواقعية ذات ملاك اقتضائى ، فهى تدعو خلافا للحرمة الى الترخيص فى كل ما يحتمل اباحته ، لا لأن كل ما يحتمل اباحته ففيه ملاك الاباحة ، بل لضمان اطلاق العنان فى المباحات الواقعية الموجودة ضمن محتملات الاباحة. فهو ترخيص ظاهرى ناشىء عن الملاك الاقتضائى للمباحات الواقعية والحرص على تحقيقه.

وفى هذه الحالة يزن المولى درجة اهتمامه بمحرماته ومباحاته ، فان كان الملاك الاقتضائى فى الاباحة أقوى وأهم ، رخص فى المحتملات ، وهذا الترخيص سيشمل المباح الواقعى والحرام الواقعى اذا كان محتمل الاباحة ، وفى حالة شموله للحرام الواقعى لا يكون منافيا لحرمته ، لأنه لم ينشأ عن ملاك للاباحة فى نفس متعلقه ، بل عن ملاك الاباحة فى المباحات الواقعية والحرص على ضمان ذلك الملاك. واذا كان ملاك

٢١

المحرمات الواقعية أهم ، منع من الاقدام فى المحتملات ، ضمانا للمحافظة على الأهم.

وهكذا يتضح ان الأحكام الظاهرية خطابات تعين الأهم من الملاكات والمبادىء الواقعية ، حين يتطلب كل نوع منها الحفاظ عليه بنحوينا فى ما يضمن به الحفاظ على النوع الاخر.

وبهذا اتضح الجواب على الاعتراض الثانى ، وهو أن الحكم الظاهرى يؤدى الى تفويت المصلحة والالقاء فى المفسدة ، فان الحكم الظاهرى وان كان قد يسبب ذلك ، ولكنه انما يسببه من أجل الحفاظ على غرض أهم.

شبهة تنجز الواقع المشكوك :

وأما الاعتراض الثالث فقد اجيب : بأن تصحيح العقاب على التكليف الواقعى الذى أخبر عنه الثقة بلحاظ حجية خبره ، لا ينافى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لان المولى حينما يجعل خبر الثقة حجة ، يعطيه صفة العلم والكاشفية ، اعتبارا على مسلك الطريقية المتقدم ، وبذلك يخرج التكليف الواقعيى عن دائر قبح العقاب بلا بيان ، لأنه يصبح معلوما بالتعبد الشرعى ، وإن كان مشكوكا وجدانا.

ونلاحظ على ذلك أن هذه المحاولة إذا تمت ، فلا تجدى فى الأحكام الظاهرية المجعولة فى الاصول العلمية غير المحرزة ، كأصالة الاحتياط. على ان المحاولة غير تامة ، كما يأتى ان شاء الله تعالى.

والصحيح انه لا موضوع لهذا الاعتار ض على مسلك حق الطاعة ، لما تقدم من أن هذا المسلك المختار يقتضى انكار قاعدة قبح العقاب

٢٢

بلا بيان رأسا.

وقد تلخص مما تقدم ان جعل الأحكام الظاهرية ممكن.

الامارات والاصول :

تنقسم الأحكام الظاهرية الى قسمين :

أحدهما : الأحكام الظاهرية التى تجعل لا حراز الواقع ، وهذه الأحكام تتطلب وجود طريق ظنى له درجة كشف عن الحكم الشرعى ، ويتولى الشارع الحكم على طبقه بنحو يلزم على المكلف التصرف بموجبه. ويسمى الطريق بالامارة ، ويسمى الحكم الظاهرى بالحجية ، من قبيل حجية خبر الثقة.

والقسم الاخر : الأحكام الظاهرية التى تعجعل لتقرير الوظيفة العملية تجاه الحكم المشكوك ، ولا يراد بها احرازه ، وتسمى بالاصول العلمية.

ويبدو من مدرسة المحقق النائينى قدس سره (١) ، التمييز بين هذين القسمين على أساس ما هو المجعول الاعتبارى فى الحكم الظاهرى ، فان كان المجعول هو الطريقية والكاشفية ، دخل المورد فى الامارات. واذا لم يكن المجعول ذلك ، وكان الجعل فى الحكم الظاهرى متجها الى انشاء الوظيفة العلمية ، دخل فى نطاق الاصول. وفى هذه الحالة اذا كان إنشاء الوظيفة العملية بلسان تنزيل مؤدى الأصل منزلة الواقع فى الجانب العلمى ، أو تنزيل نفس الأصل أو الاحتمال المقوم له منزلة

ـــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ص ٤٨٤.

٢٣

اليقين فى جنابه العلمى لا الاحرازى ، فالاصل تنزيلى أو أصل محرز ، واذا كان بلسان تسجيل وظيفة عملية محددة بدون ذلك ، فالأصل أصل عملى صرف.

وهذا يعنى ان الفرق بين الامارات والاصول ينشأ من كيفية صياغة الحكم الظاهرى فى عالم الجعل والاعتبار.

ولكن التحقيق ان الفرق بينهما أعمق من ذلك ، فان روح الحكم الظاهرى فى موارد الأمارة تختلف عن روحه فى موارد الأصل بقطع النظر عن نوع الصياغة. وليس الاختلاف الصياغى المذكورإلا تعبيرا عن ذلك الاختلاف الأعمق فى الروح بين الحكمين.

وتوضيح ذلك انا عرفنا سابقا ان الأحكام الظاهرية مردها الى خطابات تعين الأهم من الملاكات والمبادىء الواقعية حين يتطلب كل نوع منها ضمان الحفاظ عليه بنحوينا فى ما يضمن به الحفاظ على النوع الاخر ، وكل ذلك يحصل نتيجة الاختلاط بين الأنواع عند المكلف ، وعدم تمييزه المباحات عن المحرمات مثلا ، والأهمية التى تستدعى جعل الحكم الظاهرى وفقا لها ، تارة تكون بلحاظ الاحتمال ، وأخرى بلحاظ المحتمل ، وثالثة بلحاظ الاحتمال والمحتمل معا. فان شك المكلف فى الحكم ، يعنى وجود احتمالين أو أكثر فى تشخيص الواقع المشكوك ، وحينئذ فغن قدمت بعض المحتملات على البعض الاخر ، وجعل الحكم الظاهرى وفقا لها ، لقوة احتمالها وغلبة مصادفته للواقع بدون اخذ نوع المحتمل بعين الاعتبار ، فهذا هو معنى الأهمية بلحاظ الاحتمال ، وبذلك يصبح الاحتمال المقدم أمارة ، سواء كان لسان الانشاء والجعل للحكم الظاهرى لسان جعل الطريقة ، أو وجوب

٢٤

الجرى على وفق الأمارة.

وإن قدمت بعض المحتملات على البعض الاخر لأهمية المحتمل بدون دخل لكاشفية الاحتمال فى ذلك ، كان الحكم من الاصول العلمية البحتة ، كأصالة الاباحة واصالة الاحتياط الملحوظ فى أحدهما أهمية الحكم الترخيصى المحتمل ، وفى الاخر أهمية الحم الالزامى المحتمل بقطع النظر عن درجة الاحتمال ، سواء كان لسان الانشاء والجعل للحكم الظاهرى لسان تسجيل وظيفة علمية ، أو لسان جعل الطريقية.

وإن قدمت بعض المحتملات على البعض الاخر بلحاظ كلا الأمرين م الاحتمال والمحتمل ، كان الحكم من الاصول العملية التنزيلية أو المحرزة ، كقاعدة الفراغ.

نعم الأنسب فى موارد التقديم بلحاظ قوة الاحتمال أن يصاغ الحكم الظاهرى بلسان جعل الطريقية. والأنسب فى موارد التقديم بلحاظ قوة المحتمل ان يصاغ بلسان تسجيل الوظيفة ، لا أن هذا الاختلاف الصياغى هو جوهر الفرق بين الامارات والاصول.

التنافى بين الأحكام الظاهرية :

عرفنا سابقا ان الأحكام الواقعية المتغايرة نوعا ، كالوجوب والحرمة والاباحة ، متضادة. وهذا يعنى ان من المستحيل أن يثبت حكمان واعيان متغايران على شىء واحد ، سواء علم المكلف بذلك أو لا ، لاستحالة اجتماع الضدين فى الواقع.

والسؤال هنا هو أن اجتماع حكمين ظاهريين متغايرين نوعا ، هل

٢٥

هو معقول أو لا؟ فهل يمكن أن يكون مشكوك الحرمة حراما ظاهرا ومباحا ظاهرا فى نفس الوقت؟

والجواب : على هذا السؤال يختلف باختلاف المبنى فى تصوير الحكم الظاهرى والتوفيق بينه وبين الأحكام الواقعية. فان أخذنا بوجهة النظر القائلة بأن مبادىء الحكم الظاهرى ثابتة فى نفس جعله لا فى متعلقه ، أمكن جعل حكمين ظاهريين بالاباحة والحرمة معا ، على شرط ان لا يكونا واصلين معا ، فان فى حالة عدم وصول كليهما معا لا تنافى بينهما ، لا بلحاظ نفس الجعل ، لأنه مجرد اعتبار ، ولا بلحاظ المبادىء ، لأن مركزها ليس واحدا ، بل مبادىء كل حكم فى نفس جعله لا فى متعلقه ، ولا بلحاظ عالم الامتثال والتنجيز والتعذير ، لان أحدهما على الأقل غير واصل ، فلا أثر علمى له ، وأما فى حالة وصولهما معا ، فهما متنافيان متضادان ، لأن أحدهما ينجز والاخر يؤمن.

وأما على مسلكان فى تفسير الأحكام الظاهرية وانها خطابات تحدد ما هو الأه م من الملاكات الواقعية المختلطة ، فالخطابان الظاهريان المختلفان ، الاباحة والمنع ، متضادان بنفسيهما ، سواء وصلا الى المكلف أو لا ، لأن الأول يثبت أهمية ملاك المباحات الواقعية ، والثانى يثبت أهمية ملاك المحرمات الواقعية ، ولا يمكن أن يكون كل من هذين الملاكين أهم من الاخر ، كما هو واضح.

وظيفة الأحكام الظاهرية :

وبعد أن اتح ان الأحكام الظاهرية خطابات لضمان ما هو الأهم من الأحكام الواقعية ومبادئها ، وليس لها مبادىء فى مقابلها ،

٢٦

نخرج من ذلك بنتيجة ، وهى ان الخطاب الظاهرى وظيفته التنجيز والتعذير بلحاظ الأحكام الواقعية المشكوكة ، فهو ينجز تارة ويعذر أخرى ، وليس موضوعا مستقلا لحكم العقل بوجوب الطاعة فى مقابل الأحكام الوقاعية ، لأنه ليس له مبادىء خاصة به وراء مباىء الأحكام الواقعية ، فحين يحكم الشارع بوجوب الاحتياط ظاهرا ، يستقل العقل بلزوم التحفظ على الوجوب الواقعى المحتمل ، واستحقاق العقاب على عدم التحفظ عليه ، لا على مخالفة نفس الحكم بوجوب الاحتياط بما هو.

وهذا معنى ما يقال : من أن الأحكام الظاهرية طريقة لا حقيقية. فهى مجرد وسائل وطرق لتسجيل الواقع المشكوك وإدخاله فى عهدة المكلف ، ولا تكون هى بنفسها موضوعا مستقلا للدخول فى العهدة ، لعدم استقلالها بمبادىء فى نفسها ، ولهذا فان من يخالف وجوب الاحتياط فى مورد ويتورط نتيجة لذلك فى ترك الواجب الواقعى لا يكون مستحقا لعقابين بلحاظ مخالفة الوجوب الواقعى ووجوب الاحتياط الظاهرى ، بل لعقاب واحد ، وإلا لكان حاله أشد ممن ترك الواجب الواقعى وهو عالم بوجوبه ، وأما الاحكام الواقعية فهى أحكام حقيقية لا طريقية ، بمعنى أن لها مبادىء خاصة بها ، ومن أجل ذلك تشكل موضوعا مستقلا للدخول فى العهدة ، ولحكم العقل بوجوب امتثالها واستحقاق العقاب على مخالفتها.

التصويب بالنسبة الى بعض الأحكام الظاهرية :

تقدم ان الأحكام الواقعية محفوظة ومشرتكة بين العالم والجاهل ،

٢٧

واتضح ان الأحكام الظاهرية تجتمع مع الأحكام الواقعية على الجاهل دون منافاة بينهما ، وهذا يعنى ان الحكم الظاهرى لا يتصرف فى الحكم الواقعى. ولكن هناك من ذهب الى ان الاصول الجارية فى الشبهات الموضوعية ، كأصالة الطهارة تتصرف فى الأحكام الواقعية ، بمعنى ان الحكم الواقعى بشرطية الثوب الطاهر فى الصلاة مثلا ، يتسع ببكرة اصالة الطهارة ، فيشمل الثوب المشكوكة طهارته الذى جرت فيه أصالة الطهارة ، حتى لو كان نجسا فى الواقع ، وهذا نحنو من التصويب الذى ينتج ان الصلاة فى مثل هذا الثوب تكون صحيحة واقعا ، ولاتجب اعادتها على القاعدة ، لأن الشرطية قد اتسع موضوعها. وتقريب ذلك ان دليل أصالة الطهارة بقوله : « كل شىء طاهر حتى تعلم انه قذر » يعتبر حاكما على دليل شرطية الثوب الطاهر فى الصلاة ، لأن لسانه لسان توسعة موضوع ذلك الدليل وايجاد فرد له ، فالشرط موجود اذن. وليس الأمر كذلك لو ثبتت طهارة الثوب بالامارة فقط ، لأن مفاد دليل حجية الامارة ليس جعل الحكم المماثل ، بل جعل الطريقية والمنجزية ، فهو بلسانه لا يوسع موضوع دليل الشرطية ، لأن موضوع دليل الثوب الطاهر ، وهو لا يقول هذا طاهر ، بل يقول هذا محرز الطهارة بالامارة ، فلا يكون حاكما.

وعلى هذا الاساس فصل صاحب الكفاية (١) بين الامارات والاصول المنقحة للموضوع ، فبنى على ان الاصول الموضوعية توسع دائرة الحكم الواقعى المترتب على ذلك الموضوع دون الامارات ، وهذا غير

ـــــــــــــــ

(١) كفاية الاصول : ج ١ ص ١٣٣.

٢٨

صحيح ، وسيأتى بعض الحديث عنه ان شاء الله تعالى.

القضية الحقيقية والخارجية للأحكام :

مر بنا فى الحلقة السابقة (١) ان الحكم تارة يجعل على نهج القضية الحقيقة ، واخرى يجعل على نهج القضية الخارجية. والقضية الخارجية هى القضية التى يجعل فيها الحاكم حكمه على أفراد موجودة فعلا فى الخارج فى زمان إصدار الحكم ، أو فى أى زمان آخر ، فلو اتيح لحاكم أن يعرف بالضبط من وجد ومن هو موجود ومن سوف يوجد فى المستقبل من العلماء ، فأشار اليهم جميعا وأمر باكرامهم ، فهذه قضية خارجية.

والقضية الحقيقية هى القضية التى يلتفت فيهاالحاكم الى تقديره وذهنه بدلا على الواقع الخارجى ، فيشكل قضية شرطية ، شرطها هو الموضوع المقدر الوجود ، وجزاؤها هو الحكم ، فيقول : اذا كان الانسان عالما فأكرمه ، واذا قال أكرم العالم ، قاصدا هذا المعنى ، فالقضية روحا شرطية ، وان كانت صياغة حملية.

وهناك فوارق بين القضيتين : منها ما هو نظرى ، ومنها ما يكون له مغزى عملى.

فمن الفوارق اننا بموجب القضية الحقيقية نستطيع أن نشير الى أى جاهل ، ونقول : لو كان هذا عالما لوجب اكرامه ، لأن الحكم بالوجوب ثبت على الطبيعة المقدرة ، وهذا مصداقها ، وكلما صدق الشرط صدق الجزاء ، خلافا للقضية الخارجية التى تعتمد على الاحصاء

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ١٦٧.

٢٩

الشخصى للحاكم ، فان هذا الفرد الجاهل ليس داخلا فيها ، لا بالفعل ولا على تقدير ان يكون عالما ، أما الأول فواضح ، وأما الثانى فلأن القضية الخارجية ليس فيها تقدير وافتراض ، بل هى تنصب على موضوع ناجز.

ومن الفوارق ان الموضوع فى القضية الحقيقية وصف كلى دائما يفترض وجوده ، فيرتب عليه الحكم ، سواء كان وصفا عرضيا ، كالعالم ، أو ذاتيا ، كالانسان. وأما الموضوع فى القضية الخارجية فهو الذوات الخارجية ، أى ما يقبل ان يشار اليه فى الخارج بلحاظ أحد الازمنة ، ومن هنا استحال التقدير والافتراض فيها ، لأن الذات الخارجية وما يقال عنه ( هذا ) خارجا لا معنى لتقدير وجوده ، بل هو محقق الوجود ، فان كان وصف ما دخيلا فى ملاك الحكم فى القضية الخارجية تصدى المولى نفسه لاحراز وجوده ، كماإذا أراد أن يحكم على ولده بوجوب اكرام ابناء عمه ، وكان لتدينهم دخل فى الحكم ، فانه يتصدى بنفسه لاحراز تدينهم ، ثم يقول : أكرم ابناء عملك كلهم ، أوإلا زيدا ، تبعا لما أحرزه من تدينهم كلا أو جلا.

وأما اذا قال : اكرم ابناء عمك ان كانوا متدينين ، فاقضية شرطية وحقيقية من ناحية هذا الشرط ، لأنه قد افترض وقدر.

ومن الفوارق المترتبة على ذلك ، ان الوصف الدخيل فى الحكم فى باب القضايا الحقيقية اذا انتفى ينتفى الحكم ، لأنه مأخوذ فى موضوعه. وان شئت قلت : لأنه شرط ، والجزاء ينتفى بانتفاء الشرط ، خلافا لباب القضايا الخارجية ، فان الاوصاف ليست شروطا ، وانما هى امور يتصدى المولى لاحرازها ، فتدعوه الى جعل الحكم ، فاذا احرز المولى تدين

٣٠

ابناء العم ، فحكم بوجوب أكرامهم على نهد القضية الخارجية ، ثبت الحكم ، ولو لم يكونوا متدينين فى الواقع ، وهذا معنى ان الذى يتحمل مسؤولية تطبيق الوصف على افراده هو المكلف فى باب القضايا الحقيقية للأحكام ، وهو المولى فى باب القضايا الخارجية لها.

وينبغى أن يعلم ان الحاكم سواء كان حكمه على نهج القضية الحقيقية أو على نهج القضية الخارجية ، وسواء كان حكمه تشريعيا ، كالحكم بوجوب الحج على المستطيع ، أو تكوينيا وإخباريا ، كالحكم بان النار محرقة ، أو انها فى الموقد انما يصب حكمه فى الحقيقة على الصورة الذهنية لا على الموضوع الحقيقى للحكم ، لأن الحكم لما كان أمرا ذهنيا فلا يمكن أن يتعلق إلا بما هو حاضر فى الذهن ، وليس ذلك الا الصورة الذهنية. وهى وان كانت مباينة للموضوع الخارجى بنظر ، ولكنها عينه بنظر آخر ، فانت اذا تصورت النار ترى بتصورك نارا ، ولكنك اذا لاحظت بنظرة ثانية الى ذهنك وجدت فيه صورة ذهنية للنار لا النار نفسها ، ولما كان ما فى الذهن عين الموضوع الخارجى بالنظر التصورى وبالحمل الاولى ، صح أن يحكم عليه بنفس ما هو ثابت للموضوع الخارجى من خصوصيات كالاحراق بالنسبة الى النار ، وهذا يعنى انه يكفى فى اصدار الحكم على الخارج إحضار صورة ذهنية تكون بالنظر التصورى عين الخارج ، وربط الحكم بها ، وان كانت بنظرة ثانوية فاحصة وتصديقية أى بالحمل الشائع مغايرة للخارج.

تنسيق البحوث المقبلة :

وسوف نتحدث فيما يلى وفقا لما تدم فى الحلقتين السابقتين عن

٣١

حجية القطع أولا باعتبار عنصرا مشتركا عاما ، ثم عن العناصر المشتركة التى تتمثل فى أدلة محرزة ، وبعد ذلك عن العناصر المشتركة التى تتمثل فى اصول عملية ، وفى الخاتمة نعالج حالات التعارض ان شاء الله تعالى.

٣٢

العناصر المشتركة فى عملية الاستنباط

حجية القطع

الأدلة المحرزة

الاصول العلمية

حالات التعارض

٣٣
٣٤

حجية القطع

تقدم فى الحلقة السابقة (١) ان للمولى الحقيقى سباحنه وتعالى حق الطاعة بحكم مولويته. والمتيقن من ذلك هو حق الطاعة فى التكاليف المقطوعة ، وهذا هو معنى منجزية القطع ، كما ان حق الطاعة هذا لا يمتد الى ما يقطع المكلف بعدمه من التكاليف جزما ، وهذا معنى معذرية القطع. والمجموع من المنجزية والمعذرية هو ما نقصده بالحجية.

كما عرفنا سابقا ان الصحيح فى حق الطاعة شموله للتكاليف المظنونة والمحتملة أيضا ، فيكون الظن والاحتمال منجزا أيضا ، ومن ذلك يستنتج ان المنجزية موضوعها مطلق انكشاف التكليف ولو كان انكشافا احتماليا ، لسعة دائرة حق الطاعة ، غير ان هذا الحق وهذا التنجيز يتوقف على عدم حصول مؤمن من قبل المولى نفسه فى مخالفة ذلك التكليف ، وذلك بصدور ترخيص جاد منه فى مخالفة التكليف والادانة بمخالفته إذا كان هو نفسه قد رخص بصورة جادة فى مخالفته.

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ١٧٤.

٣٥

اما متى يتأتى للمولى ان يرخص فى مخالفة التكليف المنكشف بصورة جادة؟

فالجواب : على ذلك أن هذا يتأتى للمولى بالنسبة الى التكاليف المنكشفة بالاحتمال أو الظن ، وذلك بجعل حكم ظاهرى ترخيصى فى موردها ، كأصالة الاباحة والبراءة. ولا تنافى بين هذا الترخيص الظاهرى والتكليف المحتمل أو المظنون ، لما سبق من التوفيق بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، وليس الترخيص الظاهرى هنا هزليا ، بل المولى جاد فيه ، ضمانا لما هو الأهم من الأغراض والمبادىء الواقعية.

وأما التكليف المنكشف بالقطع فلا يمكن ورود المؤمن من المولى بالترخيص الجاد فى مخالفته ، لأن هذا الترخيص إما حكم واقعى حقيقى ، وإما حكم ظاهرى طريقى ، وكلاهما مستحيل :

والوجه فى استحالة الأول انه يلزم اجتماع حكمين واقعيين حقيقين متنافيين فى حالة كون التكليف المقطوع ثابتا فى الواقع. ويلزم اجتماعهما على أى حال فى نظر القاطع ، لانه يرى مقطوعه ثابتا دائما ، فكيف يصدق بذلك.

والوجه فى استحالة الثانى ان الحكم الظاهرى ما يؤخذ فى موضوعه الشك ، ولا شك مع القطع ، فلا مجال لجعل الحكم الظاهرى.

وقد يناقش فى هذه الاستحالة بان الحكم الظاهرى كمصطلح متقوم بالشك لا يمكن ان يوجد فى حالة القطع بالتكليف ، ولكن لماذا لا يمكن ان نفترض ترخيصا يحمل روح الحكم الظاهرى ولو لم يسم بهذا الاسم اصطلاحا ، لاننا عرفنا سابقا ان روح الحكم الظاهرى هى انه خطاب يجعل فى موارد اختلاف المبادىء الواقعية وعدم تمييز المكلف

٣٦

لها ، لظمان الحفاظ على ما هو أهم منها ، فاذا افترضنا ان المولى لاحظ كثرة وقوع القاطعين بالتكاليف فى الخطأ وعدم التمييز بين موارد التكليف وموارد الترخيص ، وكانت ملاكات الاباحة الاقتضائية تستدعى الترخيص فى مخالفة ما يقطع به من تكاليف ضمانا للحفاظ على تلك الملاكات ، فماذا لا يمكن صدور الترخيص حينئذ؟

والجواب : على هذه المناقشة ، ان هذا الترخيص لما كان من أجل رعاية الاباحة الواقعية فى موارد خطأ القاطعين ، فكل قاطع يعتبر نفسه غير مقصود جدا بهذا الترخيص ، لأنه يرى قطعه بالتكليف مصيبا ، فهو بالنسبة اليه ترخيص غير جاد ، وقد قلنا فيما سبق ان حق الطاعة والتنجيز متوقف على عدم الترخيص الجاد فى المخالفة.

ويتلخص من ذلك :

أولا : إن كل انكشاف للتكليف منجز. ولا تختص المنجزية بالقطع ، لسعة دائرة حق الطاعة.

وثانيا : إن هذه المنجزية مشروطة بعدجم صدور ترخيص جاد من قبل المولى فى المخالفة.

وثالثا : إن صدور مثل هذا الترخيص معقول فى موارد الانكشاف غير القطعى ، ومستحيل فى موارد الانكشاف القطعى. ومن هنا يقال : إن القطع لا يعقل سلب المنجزية عنه ، بخلاف غيره من المنجزات.

هذا هو التصور الصحيح لحجية القطع ومنجزيته ، ولعدم امكان سلب هذه المنجزية عنه. غير ان المشهور لهم تصور مختلف ، فبالنسبة الى أصل المنجزية ادعوا انها من لوازم القطع بما هو قطع ، ومن هنا آمنوا بانتفائها عند انتفائه ، وبما أسموه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان. وبالنسبة

٣٧

الى عدم إمكان سلب المنجزية وردع المولى عن العمل بالقطع ، برهنوا على استحالة ذلك بأن المكلف اذا قطع بالتكليف حكم العقل بقبح معصيبته ، فلو رخص المولى فيه ، لكان ترخيصا فى المعصية القبيحة عقلا ، والترخيص فى القبيح محال ومناف لحكم العقل.

أما تصورهم بالنسبة الى المنجزية ، فجوابه أن هذه المنجزية انما تثبت فى موارد القطع بتكليف المولى لا القطع بالتكليف من أى أحد ، وهذا يفترض مولى فى الرتبة السابقة ، والمولوية معناها حق الطاعة وتنجزها على المكلف ، فلابد من تحديد دائرة حق الطاعة المقوم لمولوية المولى فى الترتبة السابق ، وهل يختص بالتكاليف المعلومة أو يعم غيرها.

وأما تصورهم بالنسبة الى عدم إمكان الردع ، فجوابه ان مناقضة الترخيص لحكم العقل وكونه ترخيصا فى القبيح ، فرع ان يكون حق الطاعة غير متوقف على عدم ورود الترخيص من قبل المولى ، وهو متوقف حتما ، لوضوح ان من يرخص بصورة جادة فى مخالفة تكليف لا يمكن ان يطالب بحق الطاعة فيه. فجوهر البحث يجب ان ينصب على انه هل يمكن صدور هذا الترخيص بنحو يكون جادا ومسجما مع التكاليف الواقعية ، أو لا؟ وقد عرفت انه غير ممكن.

وكما ان منجزية القطع لا يمكن سلبها عنه ، كذلك معذريته ، لأن سلب المعذرية عن القطع بالاباحة ، إما أن يكون بجعل تكليف حقيقى ، أو بجعل تكليف طريقى ، والأول مستحيل ، للتنافى بينه وبين الاباحة المقطوعة. والثانى مستحيل ، لأن التكليف الطريقى ليس إلا وسيلة لتنجيز التكليف الواقعى ، كما تقدم ، والمكلف القاطع بالاباحة لا يحتمل تكليفا واقعيا فى مورد قطعه لكى يتنجز ، فلا يرى للتكليف الطريقى أثرا.

٣٨

العلم الاجمالى :

كما يكون القطع التفصيلى حجة ، كذلك القطع الاجمالى ، وهو ما يسمى عادة بالعلم الاجمالى ، كما اذا علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة ، ومنجزية هذا العلم الاجمالى لها مرحلتان :

الأولى مرحلة المنع عن المخالفة القطيعة بترك كلتا الصلاتين فى المثال المذكور.

والثانية مرحلة المنع حتى عن المخالفة الاحتمالية المساوق لايجاب الموافقة القطعية ، وذلك بالجمع بين الصلاتين.

أما المرحلة الاولى فالكلام فيها يقع فى أمرين :

أحدهما : فى حجية العلم الاجمالى بمقدار المنع عن المخالفة القطعية.

والاخر : فى إمكان رجع الشارع عن ذلك وعدمه.

أما الأمر الأول فلا شك فى ان العلم الاجمالى حجة بذلك المقدار ، لأنه مهما تصورناه فهو مشتمل حتما على علم تفصيلى بالجامع بين التكليفين ، فيكون مدخلا لهذا الجامع فى دائرة حق الطاعة ، أما على رأينا فى سعة هذا الدائرة ، فواضح. وأما على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلأن العلم الاجمالى يستبطن انكشافا تفصيليا تاما للجامع بين التكليفين ، فيخرج هذا الجامع عن دائرة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وأما الأمر الثانى فقد ذكر المشهور ان الترخيص الشرعى فى المخالفة القطعية للعلم الاجمالى غير معقول ، لأنها معصية قبيحة بحكم العقل ، فالترخيص فيها يناقض حكم العقل ، ويكون ترخيصا فى القبيح وهو محال.

٣٩

وهذا البيان غير متجه ، لاننا عرفنا سابقا ان مرد حكم العقل بقبح المعصية ووجوب الامتثال الى حكمه بحق الطاعة للمولى ، وهذا حكم معلق على عدم ورود الترخيص الجاد من المولى فى المخالفة ، فاذا جاء الترخيص ارتفع موضوع الحكم العقلى ، فلا تكون المخالفة القطعية قبيحة عقلا.

وعلى هذا فالبحث ينبغى ان ينصب على أنه : هل يعقل ورود الترخيص الجاد من قبل المولى على نحو يلائم مع ثبوت الأحكام الواقعية؟

والجواب : انه معقول ، لأن الجامع وان كان معلوما ، ولكن اذا افترضنا ان الملاكات الاقتضائية للاباحة كانت بدرجة من الأهمية تستدعى لضمان الحفاظ عليها الترخيص حتى فى المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال ، فمن المعقول ان يصدر من المولى هذا الترخيص ، ويكون ترخيصا ظاهريا بروحه وجوهره ، لأنه ليس حكما حقيقيا نشئا من مبادىء فى متعلقه ، بل خطابا طريقيا من أجل ضمان الحفاظ على الملاكات الاقتضائية للاباحة الواقعية. وعلى هذا الأساس لا يحصل تناف بينه وب ين التلكيف المعلوم بالاجمال ، إذ ليس له مبادىء خاصة به فى مقابل مبادىء الأحكام الواقعية ليكون منافيا للتكليف المعلوم بالاجمال.

فان قيل : ما الفرق بين العلم الاجمالى والعلم التفصيلى ، إذ تقدم ان الترخيص الطريقى فى مخالفة التكليف المعلوم تفصيلا مستحيل ، وليس العلم الاجمالى إلا علما تفصيليا بالجامع؟

كان الجواب على ذلك : أن العالم بالتكليف بالعلم التفصيلى

٤٠