دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

مختاره من ان التقابل بين الاطلاق والتقييد الثبوتيين تقابل العدم والملكة. وهذا يعنى ان الجعل الشرعى يبقى مهملا بلا تقييد ولا اطلاق ، فكيف يرفع هذا الاهمال ويتعين فى الملطق تارة وفى المقيد أخرى؟

وقد حل رحمه الله ذلك بافتراض جعل ثان يتكفل اثبات نفس الحكم للعالم بالجعل الأول خاصة ، إذا اريد التقييد ، وللمكلف مطلقا من حيث علمه بالجعل الأول وجهله به ، إن اريد الاطلاق. وبذلك تتحقق نتيجة التقييد والاطلاق. وانما نعبر بالنتيجة ، لابهما ، لأن ذلك لم يحصل بالجعل الأول المهمل ، وانما عوض عن اطلاقه وتقييده بجعل ثان على الوجه المذكور. ولا يلزم من التعويض المذكور محذور التقييد والاطلاق فى نفس الجعل الأول ، لأن العلم بالحكم الأول أخذ قيدا فى الحكم الثانى ، لا فى نفسه ، فلا دور. ونظرا الى أن الجعلين قد نشأ من غرض واحد ولأجل ملاك فارد ، كان التقييد فى الثانى منهما فى قوة التقييد فى الأول ، ولهذا عبر عن الثانى بمتمم الجعل الأول.

ويرد عليه انه إن اراد تقييد الحكم فى الجعل الثانى بالعلم الأول ، فهذا التقييد ممكن فى الجعل الأول مباشرة ، كما عرفت. وإن اراد تقييد الحكم فى الجعل الثانى بالعلم بفعلية المجعول فى الجعل الأول المهمل ، فهذا غير معقول ، لأنه يفترض ان فعلية المجعول بالجعل الثانى فرع العلم بفعلية المجعول بالجعل الأول المهمل. وحينئذ نتساءل ان المجعول بالجعل المهمل هل ترتبط فعليته بالعلم به ، أو لا؟ فعلى الأول يعود المحذور ، وهو توقف الشىء على العلم به. وعلى الثانى يلزم الخلف ، وأن يكون الجعل المهمل الذى لا اطلاق فيه ملطقا ، لأن ثبوت مجعوله بدون توقف على القيد هو معنى الاطلاق.

٢٤١

وثمرة هذا البحث تظهر فى إمكان التمسك باطلاق دليل الحكم لنفى دخل قيد العلم فى موضوعه ، فانه إن بنى على امكان التقييد والاطلاق معا ، أمكن ذلك. كما هو الحال فى نفى سائر القيود المحتملة بالاطلاق.

وإن بنى على مسلك المحقق النائينى القائل باستحالة التقييد والاطلاق معا ، فلا يمكن ذلك ، لأن الاطلاق فى الحكم مستحيل ، فكيف يتمسك باطلاق الدليل اثباتا لا كتشاف أمر مستحيل.

وإن بنى على ان التقييد مستحيل ، والاطلاق ضرورى ، كما يرى ذلك من يقول بأن التقابل بين التقييد والاطلاق تقابل التناقض أو تقابل الضدين اللذين لا ثالث لهما ، فلا يمكن التمسك باطلاق الدليل ، لأن اطلاق الدليل انما يكشف عن اطلاق مدلوله ، وهو الحكم ، وهذا معلوم بالضرورة على هذا المبنى. وانما الشك فى اطلاق الملاك وضيقه ، ولا يمكن استكشاف اطلاق الملاك لا باطلاق الحكم المدلول للدليل ، ولا باطلاق نفس الدليل ، اما الأول فلأن اطلاق الحكم انما يكشف عن اطلاق الملاك إذا كان بامكان المولى ان يجعله مقيدا ، فلم يفعل. والمفروض فى امقام استحالة التقييد ، وأما الثانى فلأن الدليل مفاده مباشرة هو الحكم لا الملاك.

أخذ العلم بالحكم فى موضوع ضده أو مثله :

وأما الافتراض الثانى فهو مستحيل ، لأن القطع سواء كان مصيبا فى قطعه أو مخطءا ، يرى فى ذلك اجتماع الحكمين المتضادين ، فيمتنع عليه ان يصدق بالحكم الثانى ، وما يمتنع تصديق المكلف به لا يمكن

٢٤٢

جعله. وفى حالات اصابة القطع للواقع ، يستبطن الافتراض المذكور اجتماع الضدين حقيقة.

وهذا الافتراض فى حقيقته نحو من الردع عن العمل بالقطع ، بجعل حكم على القطع مضاد لمقطوعه ، واستحالته بتعبير آخر هى استحالة الردع عن العمل بالقطع.

وأما الافتراض الثالث فقد يطبق عليه نفس المحذور المتقدم ، ولكن باستبدال محذور اجتماع الضدين بمحذور اجتماع المثلين.

وقد يجاب على ذلك : بأن محذور اجتماع المثلين يرتفع بالتأكد والتوحد ، كما هو الحال فى : أكرم العادل وأكرم الفقير ، فانهما يتأكدان فى العادل الفقير.

ولكن هذا الجواب ليس صحيحا ، لان التأكد على نحو التوحدإنما يكون فى مثلين لا طولية وترتب بينهما ، كما فى المثال ، لا فى المقام ، حيث ان أحدهما متأخر رتبة عن الاخر ، لترتبه على القطع به ، فلا يمكن ان يرتفع محذور اجتماع المثلين بالتأكد.

٢٤٣

الواجب التوصلى والتعبدى

لا شك فى وجود واجبات لا يخرج المكلف عن عهدتها ، إلا اذا أتى بها بقصد القربة والامتثال. وفى مقابلها واجبات يتحقق الخروج عن عهدتها بمجرد الاتيان بالفعل بأى داع كان.

والقسم الأول يسمى بالتعبدى ، والثانى يسمى بالتوصلى. والكلام يقع فى تحليل الفرق بين القسمين ، فهل الاختلاف بينهما مرده الى عالم الحكم والوجوب ، بمعنى ان قصد القربة والامتثال يكون مأخوذا قيدا أو جزء فى متعلق الوجوب التعبدى ، ولا يكون كذلك فى الوجوب التوصلى ، أو أن مرد الاختلاف الى عالم الملاك دون عالم الحكم ، بمعنى ان الوجوب فى كل من القسمين متعلق بذات الفعل ، ولكنه فى القسم الأول ناشىء عن ملاك يستوفى بمجرد الاتيان بالفعل.

ومنشأ هذا الكلام هو احتمال استحالة أخذ قصد امتثال الأمر فى متعلق الأمر. فان ثبتت هذه الاستحالة ، تعين تفسير الاختلاف بين التعبدى والتوصلى بالوجه الثانى ، وإلا تعين تفسيره بالوجه الأول.

٢٤٤

ومن هنا يتجه البحث إلى تحقيق حال هذه الاستحالة ، وقد برهن عليها بوجوه :

الأول : ان قصد امتثال الأمر متأخر رتبة عن الأمر ، لتفرعه عليه ، فلو أخذ قيدا أو جزء فى متعلق الأمر والواجب ، لكان داخلا فى معرض الأمر ضمنا ، ومتقدما على الأمر تقدم المعروض على عارضه ، فيلزم كون الشىء الواحد متقدما ومتأخرا.

والجواب : ان ما هو متأخر عن الأمر ومتفرع على ثبوته ، قصد الامتثال من المكلف خارجا ، لا عنوانه وتصور مفهومه فى ذهن المولى ، وما يكون متقدما على الأمر تقدم المعغروض على عارضه هو عنوان المتعلق وتصوره فى ذهن المولى ، لأنه ما لم يتصور الشىء لا يمكنه ان يأمر به ، وأما الوجود الخارجى للمتعلق فليس متقدما على الأمر ، بل هو من نتائجه دائما ، فلا محذور.

وكأن صاحب هذا البرهان اشتبه عليه المتعلق بالموضوع. فقد عرفنا سابقا ان فعلية الوجوب المجعول تابعة لوجود الموضوع خارجا ، وحيث اختلط على هذا المبرهن المتعلق والموضوع ، فخيل له ان قصد الامتثال إذا كان داخلا فى المتعلق ، فهو داخل فى الموضوع ويكون الوجوب الفعلى تابعا لوجوده ، بينما وجوده متفرع على الوجوب.

ونحن قد ميزنا سابقا بين المتعلق والموضوع ، وميزنا بين الجعل والمجعول. وعرفنا ان المجعول تابع فى فعليته لوجود الموضوع خارجا لا لوجود المتعلق. وان الجعل منوط بالوجود الذهنى لأطرافه من المتعلق والموضوع لا الخارجى ، فلا تنطوى علينا المغالطة المذكورة.

الثانى : ان قصد امتثال الأمر عبارة عن محركية الأمر. والأمر

٢٤٥

لا يحرك إلا نحو متعلقه ، فلو كان نفس القصد المذكور داخلا فى المتعلق ، لأدى الى ان الأمر يحرك نحو نفس هذه المحركية ، وهذا مستحيل.

وببيان آخر ان المكلف لا يمكنه أن يقصد امتثال الأمرإلا بالاتيان بما تعلق به ذلك الأمر ، فان كان القصد المذكور دخيلا فى المتعلق ، فهذا يعنى ان الأمر لم يتعلق بذات الفعل ، فلا يمكن للمكلف أن يقصد الامتثال بذات الفعل.

وان شئت قلت ان قصد امتثال الأمر بفعل يتوقف على ان يكون مصداقا لمتعلق الأمر ، وكونه كذلك على فرض أخذ القصد فى المتعلق يتوقف على انضمام القصد المذكور اليه ، وهذا يؤدى الى توقف الشىء على نفسه ، واستحالة الامتثال.

وقد اجيب على ذلك : بأن القصدإذا كان داخلا فى المتعلق انحل الأمر الى أمرين ضمنيين ، لكل منهما محركية نحو متعلقه ، أحدهما الأمر بذات الفعل ، والاخر الأمر بقصد امتثال الأمر الأول وجعله محركا. فيندفع البيان الأول فى البرهان المذكور بأن الأمر الثانى يحرك نحو محركية الأمر الأول ، لا نحو محركية نفسه. ويندفع البيان الثانى بأن ذات الفعل متعلق للأمر وهو الأمر الضمنى الأول.

الثالث : ان قصد امتثال الأمرإذا أخذ فى متعلق الأمر كان نفس الأمر قيدا من قيود الواجب. وحيث انه قيد غير اختيارى ، فلابد من أخذه قيدا فى موضوع الوجوب. وهذا يعنى أخذ الأمر فى موضوع نفسه ، وهو محال. وقد مر بنا هذا البرهان فى الحلقة السابقة (١).

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٣٣٦.

٢٤٦

وقد يعترض عليه بأن القيد غير الاختيارى للواجب انما يلزم ان يؤخذ قيدا فى موضوع الوجوب ، لأنه لو لم يؤخذ كذلك لكان الأمر محركا نحو المقيد ، وهو يساوق التحريك نحو القيد ، مع انه غير اختيارى ، فلا بد من أخذه فى الموضوع ، ليكون وجود الأمر ومحركيته بعد افتراض وجود القيد. وفى هذه الحالة لا يحرك إلا الى التقيد وذات المقيد.

وهذا البيان انما يبرهن على أخذ القيد غير الاختيارى للواجب قيدا فى موضوع الوجوب ، إذا لم يكن مضمون الوجود بنفس جعل هذا الوجوب ، وأماإذا كان مضمونا كذلك ، فلن يحرك الأمر حينئذ نحو القيد ، لأنه موجود بنفس وجوده ، بل يتجه فى تحريكه دائما نحو التقيد وذات المقيد. والمقام مصداق لذلك ، لأن الأمر يتحقق بنفس الجعل الشرعى ، فأى حاجة الى أخذه قيدا فى الموضوع.

هذه أهم براهين الاستحالة مع بعض التعليق عليها.

وثمرة هذا البحث ان الاختلاف بين القسمين اذا كان مرده الى عالم الحكم ، فبالامكان عند الشك فى كون الواجب تعبديا أو توصليا ، التمسك باطلاق دليل الواجب ، لنفى دخل قصد الامتثال فى متعلق الوجوب كما هو الحال فى كل القيود المحتملة فثبتت التوصلية.

وأماإذا كان مرده إلى عالم الملاك بسبب استحالة أخذ القصد المذكور فى متعلق الأمر ، فلا يمكن التمسك بالاطلاق المذكور لاثبات التوصلية لأن التوصلية لا تثبت حينئذإلا باثبات عدم دخل قصد الامثتلا فى الملاك ، وهذا ما لا يمكن إثباته بدليل الأمر ، لا مباشرة ، لأن مفاد الدليل هو الأمر لا الملاك. ولا بصورة غير مباشرة عن طريق اثبات الاطلاق فى متعلق الأمر ، لأن الاطلاق فى متعلق الأمرإنما يكشف عن

٢٤٧

الاطلاق فى متعلق الملاك إذا كان بامكان المولى أن يأمر بالمقيد فلم يفعل ، والمفروض هنا عدم الامكان.

وقد تذكر ثمرة اخرى فى مجال الاصل العملى عند الشك فى التعبدية وعدم الدليل ، وهى ان هذا الشك مجرى للبراءة إذا كان قصد الامتثال مما يؤخذ فى الواجب على تقدير اعتباره ، إذ يدخل فى كبرى دوران الواجب بين الأقل والأكثر. ومجرى لأصالة الاشتغال إذا كان قصد الامتثال مما لا يؤخذ كذلك ، إذ لا شك فى وجوب شىء شرعا ، وانما الشك فى سقوط الواجب المفروغ عن ثبوته.

٢٤٨

التخيير فى الواجب

التخيير تارة يكون عقليا ، واخرى شرعيا ، فان كانت البدائل مذكورة على نحو التردد متعلقا للأمر فى لسان الدليل ، فالتخيير شرعى ، وإلا فهو عقلى.

وقد وقع الكلام فى تلحيل واقع الوجوب فى موارد التخيير ، وكيفيه تعلقه ، وفى ذلك عدة اتجاهات :

الاتجاه الأول : ان الوجوب فى موارد التخيير العقلى متعلق بالجامع ، وفى موارد التخيير الشرعى متعلق بكل واحد من البدائل ، ولكن مشروطا بترك البدائل الاخرى.

وقد يلاحظ عليه بأن الوجوبات المشروطة تستلزم أمورا لا تناسب الوجوب التخييرى ، كما تقدم فى الحلقة السابقة (١) ، من قبيل تعدد العقاب بترك الجميع.

الاتجاه الثانى : إرجاع التخيير الشرعى الى التخيير العقلى ، فيلزم بأن الوجوب يتعلق بالجامع دائما ، إما ببرهان استحالة الوجوبات

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٣٤٢.

٢٤٩

المشروطة كما اشير اليه فيتعين هذا. وإما ببرهان ان الوجوب التخييرى له ملاك واحد ، والواحد لا يصدرإلا من واحد ، فلابد من فرض جامع بين البدائل يكون هو علة تحصيل ذلك الملاك.

الاتجاه الثالث : التسليم بأن الوجوب فى موارد التخيير يتعلق بالجامع دائما ، ولكن يقال ان وجوب الجامع يستلزم الوجوبات المشروطة للحصص والافراد ، أى وجوب كل واحدة منها بشرط انتفاء الحصص الاخرى. وهذه الوجوبات بمجموعها لما كانت روحا نفس ذلك الوجوب المتعلق بالجامع ، فليس من ناحيتهاإلا عقاب واحد فى فرض ترك الجميع.

والفرق بين هذا الاتجاه وسابقه ان هذا يقول بسراية الوجوب الى الحصة بالنحو المذكور ، وأما ذاك الاتجاه فلا يلتزم بالسراية ، وعليه لا تكون الحصة معروضة للوجوب ، بل مصداقا لمعروض الوجوب. فالوجوب بالنسبة الى الحصة فى موارد التخيير كالنوعية بالنسبة الى افراد الانسان ، فان هذا الفرد أو ذاك مصداق لمرعوض النوعية لا معروض لها.

وقد يعترض على الاتجاه الثالث بأن الوجوب فعل اختيارى للشاعر يجعله حيثما أراد ، فاذا جعله على الجامع لا يعقل أن يسرى بنفسه الى غير الجامع. فان اريد بالوجوبات المشروطة سريان نفس ذلك الوجوب ، فهو مستحيل. وإن اريد ان الشارع يجعل وجوبات اخرى مشروطة ، فهو بلا موجب ، فيكون لغوا.

ويمكن أن يجاب على ذلك بأن هذا انما يتم فى مرحلة جعل الحكم والايجاب لا فى مرحلة الشوق والارادة ، إذ لا مانع من دعوى الملازمة فى

٢٥٠

هذه المرحلة بين حب الجامع ، وانحاء من الحب المشروط للحصص ، ولا يأتى الاعتراض باللغوية ، لأن الكلام هنا عن المبادىء التكوينية للحكم. وهذه الملازمة لا برهان عليها ، ولكنها مطابقة للوجدان.

وهذا التحليل للوجوب التخييرى له ثمرات :

منها : ما سوف يظهر فى مسألة اجتماع الأمر والنهى.

ومنها ما قد يقال من انه إذا شك فى واجب انه تخييرى أو تعيينى ، فعلى القول برجوع التخيير الشرعى الى ايجاب الجامع ، يكون المقام من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير. فان قيل هناك بالبراءة ، قيل بها هنا باجراءها عن التعيين ، وإلا فلا. وعلى القول برجوع التخيير مرجعه الى الشك فى اطلاق الوجوب واشتراكه ، أى فى ثبوته فى حال الاتيان بما يحتمل كونه بديلا وعدلا ، وهذا شك فى الوجوب الزائد بلا اشكال ، فتجرى البراءة.

٢٥١

الوجوب الغيرى لمقدمات الواجب

تعريف الواجب الغيرى :

اتضح مما تقدم ان المكلف مسؤول عن مقدمات الواجب من قبل نفس الوجوب المتعلق بها ، لانه يحرك نحوها تبعا لتحريكه نحو متعلقه. وهذه المسؤولية فى حدودها العقلية متفق عليها باعتبارها من شؤون حكم العقل بلزوم الامتثال. وانما وقع الكلام فى دعو الوجوب الشرعى للمقدمة. فالمشهور بين الأصوليين هو ان ايجاب الشىء يستلزم إيجاب مقدمته ، فتتصف المقدمة بوجوب شرعى ، غير انه تبعى ، إما بمعنى انه معلول لوجوب ذى المقدمة ، أو بمعنى ان الوجوبين معا معلولان للملاك القائم بذى المقدمة ، فهذا الملاك بنفسه يؤدى الى ايجاب ذى المقدمة نفسيا ، وبضم مقدمية المقدمة يؤدى الى إيجابها غيريا ، وعلى كلا الوجهين فالتلام بين الوجوبين محفوظ.

ويعرف هؤلاء القائلون بالملازمة ، الواجب الغيرى بأنه ما وجب لغيره ، أو ما وجب لواجب آخر. والواجب النفسى بأنه ما وجب لنفسه ، أو ما وجب لا لواجب آخر. وعلى هذا الأساس يصنفون الواجبات فى الشريعة الى قسمين : فالصلاة ، والصيام ، والحج ، ونحوها واجبات

٢٥٢

نفسية. والوضوء ، والغسل ، وطى المسافة ، واجبات غيرية.

وقد لوحظ ان الصلاة ونحوها من الواجبات لم يوجبها الشارع إلا لما يترتب عليها من الفوائد والمصالح ، وهى مغارة وجودا لتلك الفوائد والمصالح ، فيصدق عليها انها وجبت للغير ، وهذا يعنى ان كل هذه الواجبات تصبح غيرية ولا يبقى فى نطاق الواجب النفسى إلا ما كانت مصلحته ذاتية له ، كالايمان بالله سبحانه وتعالى.

وأجاب هؤلاء على الملاحظة المذكة ر بأن الصلاة وإن كانت واجبة من أجل المصلحة المترتبة عليهاإلا ان هذا لا يدرجها فى تعريف الواجب الغيرى ، لأن الواجب الغيرى ليس كل ما وجب لغيره ، بل ما وجب لواجب آخر. والمصلحة الملحوظة فى ايجبا الصلاة ليست متعلقا للوجوب بنفسها ، فلا يصدق على الصلاة انها وجبت لواجب آخر.

فان سألت : كيف لا تكون تلك المصلحة واجبة مع ان الصلاة الواجبة انما اوجبت من أدلها؟

كان الجواب : ان الايجاب مرجعه الى الاعتبار والجعل الذى هو العنصر الثالث من عناصر تكوين الحكم فى مقام الثبوت ، وغاية الواجب انما يجب ان تكون مشاركة للواجب بدرجة أقوى فى عالم الحب والارادة ، لأن حبه إنما هو لأجلها ، لا فى عالم الجعل الاعتبار. لأن الجعل قد يحدد به المولى مركز حق الطاعة على نحو يكون مغايرا لمركز حب الاصيل ، لما تقدم فى بداية هذه الحلقة من ان المولى له أن يحدد مركز حق الطاعة فى مقدمات مراده الاصيل بجعل الايجاب عليها ، لا عليه ، فتكون هى الواجبة فى عالم الجعل ، دونه.

وعلى هذا فاذا جعل الشارع الايجاب على الصلاة ابتداء وحددها

٢٥٣

مركزا لحق الطاعة ، ولم يدخل المصلحة المنظورة له فى العهدة ، كانت الصلاة واجبا نفسيا لا غيريا ، لانها لم تجب لواجب آخر ، وإن وجبت لمصلحة مترتبة عليها. وخلافا لذلك الوضوء ، فانه وجب من أجل الصلاة الواجبة ، فينطبق عليه تعريف الواجب الغيرى.

خصائص الوجوب الغيرى :

ولا شك لدى الجميع فى ان الوجوب الغيرى للمقدمة إذا كان ثابتا فهو لا يتمتع بجملة من خصائص الوجوب النفسى ، ويمكن تلخيص أحوال الوجوب الغيرى فيما يلى :

أولا : انه ليس صالحا للتحريك المولوى بصورة مستقلة ومنفصلة عن الوجوب النفسى ، بمعنى ان من لا يكون بصدد التحرك عن الوجوب النفسيى للحج ، لا يمكن ان يتحرك بروحية الطاعة والاخلاص للمولى عن الوجوب الغيرى لطى المسافة ، لان إرادة العبد المنقاد التكوينية يجب ان تتطابق مع ارادة المولى التشريعية ، ولما كانت ارادة المولى للمقدمة فى إدار مطلوبية ذيها ، ومن أجل التوصل اليه ، فلابد ان تكون ارادة العبد المنقاد لها فى إطار امتثال ذيها.

وثانيا : ان امتثال الوجوب الغيرى لا يستتبع ثوابا بما هو امتثال له ، وذلك لأن المكلف إن اتى بالمقدمة بداعى امتثال الواجب النفسى ، كان عمله بداية فى امتثال الوجوب النفسى ، ويستحق الثواب عندئذ من قبل هذا الوجوب. وإن اتى بالمدمة وهو منصرف عن امتثال الواجب النفسى ، فلن يكون بامكانه أن يقصد بذلك امتثال الوجوب الغيرى ، لما تقدم من عدم صلاحية الوجوب الغيرى للتحريك المولوى.

٢٥٤

وثالثا : ان مخالفة الوجوب الغيرى بترك المقدمة ليست موضوعا مستقلا لا ستحقاق العقاب إضافة إلى ما يستحق من عقاب على مخالفة الوجوب النفسى ، وذلك لأن استحقاق العقاب على مخالفة الواجب انما هو بلحاظ ما يعبر عنه الواجب من مبادىء وملاكات تفوت بذلك. ومن الواضح ان الواجب الغيرى ليس له مبادىء وملاكات سوى ما للواجب النفسى من ملاك ، فلا معنى لتعدد استحقاق العقاب.

ورابعا : ان الوجوب الغيرى ملاكه المقدمية ، وهذا يفرض تعلقه بواقع المقدمة دون أن يؤخذ فيه أى شىءإضافى لا دخل له فى حصول ذى المقدمة. ومن هنا كان قصد التوصل بالمقدمة إلى امتثال المولى ، والتقرب بها نحوه تعالى ، خارجا عن دائرة الواجب الغيرى ، لعدم دخل ذكل فى حصول الواجب النفسى. فطى المسافة الى الميقات كيفما وقع وباى داع اتفق ، يحقق الواجب الغيرى ، ولا يتوقف الحج على وقوع هذا الطى بقصد قربى. وهذا معنى ما يقال من أن الواجبات الغيرية توصلية.

مقدمات غير الواجب :

كما تتصف مقدمات الواجب بالوجوب الغيرى عند القائلين بالملازمة ، كذلك تتصف مقدمات المستحب بالاستحباب الغيرى لنفس السبب. واما مقدمات الحرام فهى على قسمين :

أحدهما : ما لا ينفك عنه الحرام ، ويعتبر بمثابة العلة التامة ، أو الجزء الاخير من العلة التامة له ، كالقاء الورقة فى النار الذى يترتب عليه الاحتراق.

والقسم الاخر : ما ينفك عنه الحرام ، وبالامكان أن يوجد ومع هذا

٢٥٥

يترك الحرام.

فالقسم الأول من المقدمات يتصف بالحرمة الغيرية ، دون القسم الثانى ، لأن المطلوب فى المحرمات ترك الحرام ، وهو يتوقف على ترك القسم الأول من المقدمات ، ولا يتوقف على ترك القسم الثانى.

ومقدمات المكروه كمقدمات الحرام.

الثمرة الفقهية للنزاع فى الوجوب الغيرى :

ومسألة الملازمة بين وجوب الشىء ووجوب مقدمته على الرغم من كونها من المسائل الاصولية العريقة فى علم الاصول ، قد وقع شىء من التحير لدى باحثيها فى ثمرتها الفقهية. وقد يبدو لأول نظرة ان ثمرتها إثبات الوجوب الغيرى ، وهو حكم شرعى نستنبطه من الملازمة المذكورة.

ولكن الصحيح عدم صواب هذه النظرة ، لأن الحكم الشرعى الذى يبحثه علم الفقه ويطلب من علم الاصول ذكر القواعد التى يستنبط منها انما هو الحكم القابل للتحريك المولوى الذى تقع مخالفته موضوعا لاستحقاق العقاب. وقد عرفت ان الوجوب الغيرى على تقدير ثبوته ليس كذلك ، فهو لا يصلح أن يكون بنفسه ثمرة لهذه المسألة الاصولية.

وأفضل ما يمكن أن يقال بهذا الصدد تصوير الثمرة كما يلى :

أولا : انه اتفق أن أصبح واجب علة تامة لحرام ، وكان الواجب أهم ملاكا من الحرام ، فتارة ننكر الملازمة ، واخرى نقبلها ، فعلى الأول يكون الفرض من حالات التزاحم بين ترك الحرام وفعل الواجب ، فنرجع الى قانون باب التزاحم ، وهو تقديم الأهم ملاكا ، ولا يسوغ

٢٥٦

تطبيق قواعد باب التعارض ، كما عرفنا سابقا.

وعلى الثانى يكون دليل الحرمة ودليل الوجوب متعارضين ، لأن الحرمة تقتضى تعلق الحرمة الغيرية بنفس الواجب ، ويستحيل ثبوت الوجوب والحرمة على فعل واحد ، وهذا يعنى ان التنافى بين الجعلين ، وكلما كان التنافى بين الجعلين دخل الدليلان فى باب التعارض وطبقت عليه قواعده بدلا عن قانون باب التزاحم.

ثانيا : انه إذا اتفق عكس ما تقدم فى الثمرة السابقة فأصبح الواجب صدفة متوقفا على مقدمة محرمة ، كانقاذ الغريق إذا توقف على اجتياز الأرض المغصوبة ، فلا شك فى ان المكلف إذا اجتاز الأرض المغصوبة وأنقذ الغريق لم يرتكب حراما ، لأن الحرمة تسقط فى هذه الحالة رعاية للواجب الأهم.

وأما اذا اجتاز الأرض المغصوبة ولم ينقذ الغريق ، فقد ارتكب حراما اذا انكرنا الملازمة ، وكذلك إذا قلنا بأن الوجوب الغيرى يختص بالحصة الموصلة من المقدمة. ولم يرتكب حراماإذا قلنا بالملازمة ، وان الوجوب الغيرى لا يختص بالحصة الموصلة. أما انه ارتكب حراما على الأولين ، فلأن اجتياز الأرض المغصوبة حرام فى نفسه ، ولا يوجد ما يحول دون اتصافه فى حالة عدم التوصل به الى الانقاذ بالحرمة. وأما انه لم يرتكب حراما على الاخير ، فلأن الوجوب الغيرى يحول دون اتصافه باحرمة.

شمول الوجوب الغيرى :

قام القائلون بالملازمة بعدة تقسيمات للمقدمة ، وبحثوا فى أن

٢٥٧

الوجوب الغيرى هل يشمل كل تلك الاقسام أو لا؟ ونذكر فيما يلى أهم تلك التقسيمات :

التقسيم الأول : تقسيم المقدمة الى داخلية وخارجية ، ويراد بالداخلية جزء الواجب ، وبالخارجية ما توقف عليه الواجب من أشياء سوى أجزائه.

وقد وقع البحث بينهم فى أن الوجوب الغيرى هل يعم المقدمات الداخلية ، أو يختص بالمقدمات الخارجية؟ فقد يقال : بالتعميم ، لأن ملاكه التوقف ، والواجب كما يتوقف على المقدمة الخارجية ، يتوقف أيضا على وجود جزئه ، إذ لا يوجد مركب إلاإذا وجدت أجزاؤه.

ويقال : فى مقابل ذلك بالاختصاص ونفى الوجوب الغيرى عن الجزء ، إما لعدم المقتضى له ، أو لوجود المانع. بيان عدم المقتضى أن يقال : إن التوقف والمقدمية يستبطن المغايرة بين المتوقف والمتوقف عليه ، لاستحالة توقف الشىء على نفسه ، والجزء ليس مغايرا للمركب فى الوجود الخارجى ، فلا معنى لاتصافه بالوجوب الغيرى. وبيان المانع بعد افتراض المقتضى أن يقال : إن الجزء متصف بالوجوب النفسى الضمنى ، فلو اتصف بالوجوب الغيرى ، لزم اجتماع المثلين.

فان قيل : يمكن ان يتفرض تأكدهما وتوحدهما من خلال ذلك فى وجوب واحد ، فلا يلزم محذور ، كان الجواب : ان التأكد والتوحد هنا مستحيل ، لان الوجوب الغيرى اذا كان معلولا للوجوب النفسى كما يقال فيستحيل ان يتحد معه وجودا ، لاستحالة الوحدة بين العلة والمعلول فى الوجود.

التقسيم الثانى : تقسيم المقدمة إلى مقدمة واجب ومقدمة وجوب.

٢٥٨

ولا شك فى ان المقدمة الوجوبية كما لا يكون المكلف مسؤولا عنها من قبل ذلك الوجوب على ما تقدم كذلك لا يتعلق الوجوب الغيرى بها ، لأنه إما معلول للوجوب النفسى أو معه ، فلا يعقل ثبوته إلا فى فرض ثبوت الوجوب النفسى ، وفرض ثبوت الوجوب النفسى يعنى ان مقدمات الوجوب قد تمت ووجدت ، فلا معنى لايجابها.

التقسيم الثالث : تقسيم المقدمة الشرعية وعقلية وعلمية. والمقدمة الشرعية ما أخذها الشارع قيدا فى الواجب. والمقدمة العقلية ما يتوقف عليها ذات الواجب تكوينا. والمقدمة العلمية هى ما يتوقف عليها تحصيل العلم بالاإتيان بالواجب ، كالجمع بين اطراف العلم الاجمالى.

ولا شك فى ان الوجوب الغيرى لا يتعلق بالمقدمة العلمية ، لانها مما لا يتوقف عليها نفس الواجب ، بل احرازه. كما لا شك فى تعلقه بالمقدمة العقلية إذا ثبتت الملازمة. وانما الكلام فى تعلقه بالمقدمة الشرعية ، إذ ذهب بعض الأعلام كالمحقق النائينى رحمه الله (١) الى ان المقدمة الشرعية كالجزء تتصف بالوجوب النفسى الضمنى ، وعلى هذا الاساس أنكر وجوبها الغيرى. ودعوى الوجوب النفسى للمقدمة الشرعية تقوم على افتراض ان مقدميتها بأخذ الشارع لها فى الواجب النفسى ، ومع أخذها فى الواجب ينبسط عليها الوجوب.

ونرد على هذه الدعوى بما تقدم من أن أخذها قيدا ، يعنى تحصيص الواجب بها وجعل الأمر متعلقا بالتقيد ، فيكون تقيد الفعل بمقدمته الشرعية واجبا نفسيا ضمنيا ، لا القيد نفسه.

ـــــــــــــــ

(١) فوأئد الاصول : ج ١ ص ٢٦٤.

٢٥٩

فان قيل : إن التقيد منتزع عن القيد ، فالأمر به أمر بالقيد ، كان الجواب : ان القيد وإن كان دخيلا فى حصول التقيد ، لأنه طرف له ، لكن هذا لا يعنى كونه عينه ، بل التقيد بما هو معنى حرفى له حظ من الوجود والواقعية ، مغاير لوجود طرفيه ، وذلك هو متعلق الأمر النفسى ضمنا. فالمقدمة الشرعية إذن تتصف بالوجوب الغيرى كالمقدمة العقلية إذا تمت الملازمة.

تحقيق حال الملازمة :

والصحيح إنكار الوجوب الغيرى فى مرحلة الجعل والايجاب ، مع التسليم بالشوق الغيرى فى مرحلة الارادة.

أما الأول : فلأن الوجوب الغيرى إن اريد به الوجوب المترشح بصورة قهرية من قبل الوجوب النفسى ، فهذا غير معقول ، لأن الوجوب جعل واعتبار ، والجعل فعل اختيارى للجاعل ولا يمكن ترشحه بصورة قهرية.

وان اريد به وجوب يجعل بصوة ر اختيارية من قبل المولى ، فهذا يحتاج إلى مبرر ومصحح لجعله ، مع ان الوجوب الغيرى لا مصحح لجعله ، لأن المصحح للجعل كما تقدم فى محله إماإبراز الملاك بهذا اللسان التشريعيى ، وإما تحديد مركز حق الطاعة والادانة ، وكلا الأمرين لا معنى له فى المقام ، لأن الملاك مبرز بنفس الوجوب النفسى ، والوجوب الغيرى لا يستتبع فإدانة ولا يصلح للتحريك كما مر بنا فيلغوا جعله.

وأما الثانى : فمن أجل التلازم بين حب شىء وحب مقدمته ، وهو تلازم لا برهان عليه ، وانما نؤمن به لشهادة الوجدان. وبذلك صح

٢٦٠