دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

من اشتراط ، فقد عرفنا ان العقل يستقل باشتراط مفاد كل من الدليلين بالقدرة التكوينية بالمعنى الأعم ، فرضنا ان مفاد أحدهما كان مشروطا من قبل الشارع إضافة الى ذلك بعدم المانع الشرعى ، أى بعدم وجود حكم على الخلاف ، دون الدليل الاخر ، قدم الاخر عليه ، ولم ينظر الى الأهمية فى الملاك.

ومثاله وجوب الوفاء بالشرطإذا تزاحم مع وجوب الحج ، كماإذا اشترط على الشخص ان يزور الحسين عليه السلام فى عرفة كل سنة ، واستطاع بعد ذلك ، فان وجوب الوفاء بالشرط مقيد فى دليله بأن لا يكون هناك حكم على خلافه ، بلسان ( إن شرط الله قبل شرطكم ). وأما دليل وجوب الحج فلم يقيد بذلك ، فيقدم وجوب الحج ، ولا ينظر الى الأهمية. أما الأول فلأنه ينفى بنفسه موضوع الوجوب الاخرن لأن وجوب الحج ذاته وبقطع النظر عن امتثاله مانع شرعى عن الاتيان بمتعلق الاخر ، فهو حكم على الخلاف. والمفروض اشتراط وجوب الوفاء بعدم ذلك ، فلا موضوع لوجوب الوفاء مع فعلية وجوب الحج.

وأما الثانى فلأن أهمية احد الوجوبين ملاكا ، انما تؤثر فى التقديم فى حالة وجود هذا الملاك الأهم ، فاذا كان مفاد أحد الدليلين مشروطا بعدم المانع الشرعى ، دل ذلك على أن مفاده ، حكما وملاكا ، لا يثبت مع وجود المانع الشرعى. وحيث ان مفاد الاخر مانع شرعى ، فلا فعلية للأول حكما ولا ملاكا مع فعلية مفاد الاخر. وفى هذه الحالة لا معنى لاخذ أهمية ملاك الأول بعين الاعتبار.

وقد يطلق على الحكم المقيد بالتقييد الزائد المفروض انه مشروط بالقدرة الشرعية ، ويطلق على ما لا يكون مقيدا بأزيد مما يستقل به العقل

٢٢١

بأنه مشروط بالقدرة العقلية. وعلى هذا الاساس يقال : انه فى حالات التزاحم يقدم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية. فان كان معا مشروطين بالقدرة العقلية ، جرى قانون الترجيح بالأهمية. غير ان نفس مصطلح المشروط بالقدرة الشرعية وما يقابله ، قد يطلق على معنى آخر مر بنا فى الحلقة السابقة (١) ، فلاحظ ، ولا تشتبه.

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج١ ص ٣١٦.

٢٢٢

قاعدة امكان الوجوب المشروط

للوجوب ثلاث مراحل ، وهى : الملاك ، والارادة ، وجعل الحكم. وفى كل من هذه المراحل الثالث قد تؤخذ قيود معينة ، فاستعمال الدواء للمريض واجب مثلا. فاذا أخذنا هذا الوجوب فى مرحلة الملاك نجد ان المصلحة القائمة به هى حاجة الجسم اليه ، ليسترجع وضعه الطبيعى ، وهذه الحاجة منوطة بالمرض ، فان الانسان الصحيح لا حاجة به الى الدواء ، وبدون المرض لا يتصف الدواء بأنه ذو مصلحة. ومن هنا يعبر عن المرض بأنه شرط فى اتصاف الفعل بالملاك ، وكل ما كان من هذا القبيل يسمى بشرط الاتصاف.

ثم قد نفرض ان الطبيب يأمر بأن يكون استعمال الدواء بعد الطعام ، فالطعام هنا شرط أيضا ، ولكنه ليس شرطا فى اتصاف الفعل بالمصلحة ، اذا من الواضح ان المريض مصلحته فى استعمال الدواء منذ يمرض ، وانما الطعام شرط فى ترتب تلك الملصلحة وكيفية استيفاءها بعد اتصاف الفعل بها ، فالطبيب بأمره المذكور يريد أن يوضح أن الملحة القائمة بالدواء لا تستوفى إلا بحصة خاصة من الاستعمال ، وهى

٢٢٣

استعماله بعد الطعام. وكل ما كان من هذا القبيل يسمى بشرط الترتب ، تمييزا له عن شرط الاتصاف. وشرب الدواء سواء كان مطلوبا تشريعيا من قبل الامر ، أو مطلوبا تكوينيا لنفس المريض ، له هذان النحوان من الشروط.

وشروط الاتصاف تكون شروطا لنفس الارادة فى المرحل الثانية ، خلافا لشروط الترتب ، فانها شروط للمراد ، لا للارادة ، من دون فرق فى ذلك كله بين الرادة التكوينية والتشريعية.

فالانسان لا يريد ان يشرب الدواءإلاإذا رأى نفسه مريضا ، ولا يريد من مأموره ان يشرب الدواءإلاإذا كان كذلك. ولكن ارادة شرب الدواء للمريض ، أو لمن وجهه ، فعلية قبل ان يتناول الطعام. ولهذا فان المريض قد يتناول الطعام لا لشىءإلا حرصا منه على ان يشرب الدواء بعده ، وفقا لتعليمات الطبيب ، وهذا يوضح ان تناول الطعام ليس قيدا للارادة ، بل هو قيد للمراد. بمعنى أن الارادة فعلية ومتعلقه بالحصة الخاصة ، وهى شرب الدواء المقيد بالطعام ، ومن أجل فعليتها كانت محركة نحوإيجاب القيد نفسه.

غير ان الارادة التى ذكرنا انها مقيدة بشروط الاتصاف ليس منوطة بالوجود الخارجى لهذا الشروط ، بل بوجودها التقديرى اللحاظى ، لأن الارادة معلولة دائما لا دراك المصلحة ولحاظ ما له دخل فى اتصاف الفعل بها ، لا لواقع تلك المصلحة مبارة. وما أكثر المصالح التى لا تؤثر فى إرادة الانسان ، لعدم ادراكه ولحاظه لها. فشروط الاتصاف بوجودها الخارجى دخيلة فى الملاك ، وبوجودها التقديرى اللحاظى دخيلة فى الارادة. فلا مصلحة فى الدواءإلاإذا كان الانسان مريضا حقا ،

٢٢٤

ولاإرادة للدواءإلاإذا لاحظ الانسان المرض وافترضه فى نفسه ، أو فيمن يتولى توجيهه.

ونفس الفارق بين شروط الاتصاف وشروط الترتب ينعكس على المرحلة الثالثة ، وهى مرحلة جعل الحكم ، فقد علمنا سابقا ان جعل الحكم عبارة عن انشائه على موضوعه الموجود ، فكل شروط الاتصاف تؤخذ مقدرة الوجود فى موضوع الحكم وتعتبر مشروطا للوجوب المجعول ، واما شروط الترتب فتكون مأخوذة قيودا للواجب.

واذا لاحظنا المرحلة الثالثة بدقة ، وميزنا بين الجعل والمجعول كما مر بنا فى الحلقة السابقة (١) نجد ان الجعل باعتباره أمرا نفسانيا ، منوطا ومرتبطا بشروط الاتصاف بوجودها التقديرى اللحاظى ، كالارادة تماما ، لا بوجودها الخارجى ، ولهذا كثيرا ما يتحقق الجعل قبل أن توجد شروط الاتصاف خارجا. وأما فعلية المجعول فهى منوطة بفعلية شروط الاتصاف بوجودها الخارجى ، فما لم توجد خارجا كل القيود المأخوذة فى موضوع الحكم لا يكون المجعول فعليا. وأما شروط الترتب فتؤخذ قيودا فى الواجب تبعا لأخذها قيودا فى المراد.

وبهذا نعرف ان الوجوب المجعول لا ثبوت له قبل وجود شروط الاتصاف ، لأنه مشروط بها فى عالم الجعل.

وأما ما يقال : من أن الوجوب المشروط غير معقول ، لأن المولى يجعل الحكم قبل ان تتحقق الشروط خارجا ، فكيف يكون مشروطا؟ فهو مندفع بالتمييز بين الجعل والمجعول ، والالتفات الى ما ذكرناه من إناطة

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٣١٩.

٢٢٥

الجعل بالوجود التقديرى للشرط ، واناطة المجعول بالوجود الخارجى له.

وأما ثمرة البحث عن امكان الوجوب المشروط وامتناعه ، فتظهر فى بحث مقبل إن شاء الله تعالى.

٢٢٦

المسؤولية تجاه القيود والمقدمات

تنقسم المقدمات الدخيلة فى الواجب الشرعى الى ثلاث اقسام :

الأول : المقدمات التى تتوقف عليها فعلية الوجوب ، وهى انما تكون كذلك بالتقييد الشرعى وأخذها مقدرة الوجود فى مقام جعل الحكم على نهج القضية الحقيقية ، لأن الوجوب حكم مجعول تابع لجعله ، فما لم يقيد جعلا بشىء لا يكون ذلك الشىء دخيلا فى فعليته. وتسمى هذه المقدمات بالمقدمات الوجوبية ، كالاستطاعة بالنسبة الى وجوب الحج.

الثانى : المقدمات التى يتوقف عليها امتثال الأمر الشرعى بسبب أخذ الشارع لها قيدا فى الواجب. وتسمى بالمقدمات الشرعية الوجودية ، كالوضوء بالنسبة الى الصلاة.

الثالث : المقدمات التى يتوقف عليها امتثال الأمر الشرعى بدون أخذها قيدا من قبل الشارع ، كقطع المسافة الى الميقات بالنسبة الى الحج الواجب على البعيد ، ونصب اللم بالنسبة الى من وجب عليه المكث فى الطابق الأعلى. وتسمى بالمقدمات العقلية الوجودية.

وبالمقارنة بين هذين القسمين من المقدمات الوجودية ، نلاحظ انه

٢٢٧

فى مورد المقدمة الشرعية الوجودية قد تعلق الأمر بالمقيد. والمقيد عبارة عن ذات المقيد والتقيد ، وان المقدمة المذكورة مقدمة عقلية للتقيد ، بينما نجد ان المقدمة العقلية الوجودية هى مقدمة لذات الفعل.

والكلام تارة يعق فى تحديد مسؤولية المكلف تجاه هذا الاقسام من المقدمات ، واخرى فى تحديد الضابط الذى يسير عليه المولى فى جعل المقدمة من هذا القسم أو ذاك.

أما تحديد مسؤولية المكلف تجاه المقدمات ، فحاصله ان الوجوب وكذلك كل طلب لا يكون محركا نحو المقدمات الوجوبية ، ولا مدينا للمكلف بها ، لأنه لا يوجدإلا بعد تحققها ، فكيف يكون باعثا على ايجادها؟ وانما يكون محركا نحو المقدمات الوجودية بكلا قسميها ، لأنه فعلى قبل وجودها ، فيحرك لا محالة نحو ايجادها تبعا لتحريكه نحو متعلقه ، بمعنى ان المكلف مسؤول عقلا من قبل ذلك التكليف عن ايجاد تلك المقدمات. وهذا التحريك يبدأ من حين فعلية التكليف المجعول فقبل أن يصبح التكليف فعليا لا محركية له نحو المقدمات تبعا لعدم محركيته نحو متعلقه ، لأن المحركية من شؤون الفعلية. واذا اتفق أن قيدا ما ، كان مقدمة وجوبية ووجودية معا ، امتنع تحريك التكليف نحوه ، لتفرعه على وجوده ، وأنما يكون محركا بعد وجود ذلك القيد نحو التقيد وإيقاع الفعل مقيدا به.

وأما تحديد الضابط الذى يسير عليه المولى ، فهو أن كل ما كان من شروط الاتصاف فى مرحلة الملاك فيأخذه قيدا للوجود لا للواجب ، فيصبح مقدمة وجوبية. والوجه فى ذلك واضح ، لأنه لما كان شرطا فى الاتصاف ، فلا يهتم المولى بتحصيله ، بينما لو جعله قيدا للواجب وكان

٢٢٨

الوجوب فعليا قبله ، لأصبح مقدمة وجودية ، ولكان التكليف محركا نحو تحصيله ، فيتعين جعله مقدمة وجوبية.

وأما ما كان من شروط الترتب فهو على نحوين :

أحدهما : أن يكون إختياريا للمكلف. وفى هذه الحالة يأخذه المولى قيدا للواجب ، لأنه يهتم بتحصيله.

والاخر : أن يكون غيرإختيارى. وفى هذه الحالة يتعين أخذه قيدا للوجوب ، إضافة الى أخذه قيدا للواجب. ولا يمكن الاقتصار على تقييد الواجب به ، إذ مع الاقتصار كذلك ، يكون التكليف محركا نحوه ، ومدينا للمكلف به ، وهو غير معقول ، لعدم كونه إختياريا. وبهذا يتضح ان الضابط فى جعل شىء قيدا للوجوب أحد أمرين : إما كونه شرط الاتصاف ، وإما كونه شرط الترتب مع عدم كونه مقدورا.

٢٢٩

القيود المتأخرة زمانا عن المقيد

القيد سواء كان قيدا للحكم المجعول ، أو للواجب الذى تعلق به الحكم ، قد يكون سابقا زمانا على المقيد به ، وقد يكون مقارنا. فالقيد المتقدم للحكم من قبيل هلال شهر رمضان الذى هو قيد لوجوب الصيام ، مع أن هذا الوجوب يبدأ عند طلوع الفجر. والقيد المقارن للحكم من قبيل الزوال بالنسبة الى الصلاة. والقيد المتقدم للواجب من قبيل الوضوء ، بناء على كون الصلاة مقيدا بالوضوء لا بحالة مسببة عنه مستمرة. والقيد المقارن له من قبيل الاستقبال بالنسبة الى الصلاة.

وقد افترض فى الفقه أحيانا كون القيد متأخرا زمانا عن المقيد ، ومثاله فى قيود الحكم ، قيدية الاجازة لنفوذ عقد الفضولى ، بناء على القول بالكشف. ومثاله فى قيود الواجب ، غسل المستحاضة فى الليل الدخيل فى صحة صيام النهار المتقدم ، على قول بعض الفقهاء.

ومن هنا قوع البحث فى إمكان الشرط المتأخر وعدمه. ومنشأ الاستشكال هو ان الشرط والقيد بمثابة العلة أوجءز العلة للمشروط والمقيد ، ولا يعقل ان تتأخر العلة أو سىء من أجزاءها زمانا عن المعلول ،

٢٣٠

وإلا يلزم تأثير المعدوم فى الموجود ، لأن المتأخر معدوم فى الزمان السابق ، فكيف يوثر فى وقت سابق على وجوده؟

وقد أجيب على هذا البرهان : أما فيما يتعلق بالشرط المتأخر للواجب ، فبأن كون شىء قيدا للواجب مرجعه الى تحصيص الفعل بحصة خاصة ، وليس القيد علة أو جزء العلة للفعل. والتحصيص كما يمكن أن يكون باضافته الى أمر مقارن أو متقدم ، كذلك يمكن أن يكون بأمر متأخر.

وأما فيما يتعلق بالشرط المتأخر للحكم ، فبأن الحكم تارة يراد به الجعل ، واخرى يراد به المجعول. أما الجعل فهو منوط بقيود الحكم بوجودها التقديرى اللحاظى ، لا بوجودها الخارجى ، كما تقدم. ووجودها اللحاظى مقارن للجعل. وأما المجعول فهو وإن كان منوطا بالوجود الخارجى لقيود الحكم ، ولكنه مجرد افتراض ، وليس وجودا حقيقيا خارجيا ، فلا محذور فى إناطته بأمر متأخر.

والتحقيق ان هذا الجواب وحده ليس كافيا ، وذلك لأن كون شرط قيدا للحكم والوجوب أو للواجب ليس جزافا ، وانما هو تابع للضابط المقتجم ، وحاصله ان ما كان دخيلا وشرطا فى اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة ، يؤخذ قيدا للوجوب. وما كان دخيلا وشرطا فى ترتب المصلحة على الفعل ، يؤخذ قيدا للواجب.

والجواب المذكورإنما نظر الى دخل الشرط بحسب عالم الجعل فى تحصيص الواجب ، أو فى الوجوب المجعول ، وأغفل ما يكشف عنه ذلك من دخل قيد الواجب فى ترتب المصلحة ووجودها ، ودخل قيد الوجوب فى اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة ، وترتب المصلحة أمر تكوينى ،

٢٣١

واتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة أمر تكوينى أيضا ، فكيف يعقل أن يكون الأمر المتأخر ، كغسل المستحاضة فى ليلة الأحد مؤثرا فى ترتب المصلحة على الصوم فى نهار السبت السابق إذا أخذ قيدا للواجب؟ وكيف يعقل أن يكون الأمر المتأخر ، كالغسل المذكور ، مؤثرا فى اتصاف الصوم فى يوم السبت بكونه ذا مصلحة اذا أخذ قيدا للوجوب؟

ومن هنا قد يقال : باستحالة الشرط المتأخر ، ويلتزم بتأويل الموارد التى توهم ذلك بتحويل الشرطية من أمر متأخر الى أمر مقارن ، فيقال مثلا : إن الشرط فى نفوذ عقد الفضولى على الكشف ، ليس هو الاجازة ذ المتأخرة ، بل كون العقد ملحوقا بالاجازة. والشرط فى صوم المستحاضة يوم السبت ، كونه ملحوقا بالغسل ، وهذه صفة فعلية قائمة بالأمر المتقدم.

وثمرة البحث فى الشرط المتأخر إمكانا وإمتناعا ، تظهر من ناحية فى امكان الواجب المعلق وامتناعه ، فقد تقدم فى الحلقة السابقة (١) ان إمكان الواجب المعلق يرتبط بامكان الشرط المتأخر. وتظهر من ناحية اخرى فيما اذا دل الدليل على شرطية شىء ، كرضا المالك الذى دل الدليل على شرطيته فى نفوذ البيع ، وتردد الأمر بين كونه شرطا متقدما ، أو متأخرا ، فان على القول بامتناع الشرط المتأخر ، يتعين الالتزام بكونه شرطا مقارنا ، فيقال : فى المثال بصحة عقد الفضولى على نحو النقل ، لأن الحمل على الشرط المتأخرإن كان بالمعنى الحقيقى للشرط المتأخر ، فهو غير معقول ، وان كان بالتأويل ، فهو خلاف ظاهر الدليل ، لأن ظاهره شرطية نفس الرضا ، لا كون العقد ملحوقا به. وأما على الثانى فلابد من اتباع ما يتقضيه ظاهر الأدلة أى شىء كان.

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٣٣٠.

٢٣٢

زمان الوجوب والواجب

لا شك فى ان زمان الوجوب لا يمكن ان يتقدم بكامله على زمان الواجب ، ولكن وقع الكلام فى انه هل يمكن ان يبدأ قبله أو لا؟ ومثاله ان يفترض ان وجوب صيام شهر رمضان يبدأ من حين طلوع هلاله ، غير ان زمان الواجب يبدأ بعد ذلك عند طلوع الفجر.

وقد ذهب جملة من الاصوليين كصاحب الفضول (١) الى امكان ذلك ، وسمى هذا النحو من الوجوب ، بالمعلق ، تمييزا له عن الوجوب المشروط. فكل منهما ليس ناجزا بتمام المعنى ، غير ان ذلك فى المشروط ينشأ من اناطة الوجوب بشرط ، وفى المعلق من عدم مجىء زمان الواجب.

فان قيل : إذا كان زمان الواجب متأخرا ، ولا يبدأإلا عند طلوع الفجر ، فما الداعى للمولى إلى جعل الوجوب يبدأ من حين طلوع الهلال ، ما دام وجوبا معطلا عن الامتثال ، أؤ ليس ذلك لغوا؟

كان الجواب : ان فعلية الوجوب تابعة لفعلية الملاك ، أى لا تصاف

ـــــــــــــــ

(١) الفصول : ص ٨١ ـ ٨٠.

٢٣٣

الفعل بكونه ذا مصلحة ، فمتى اتصف الفعل بذلك ، استحق الوجوب الفعلى. فاذا افترضنا ان طلوع الفجر ليس من شروط الاتصاف ، بل من شروط الترتب ، وان ما هو من روط الاتصاف ، طلوع هلال الشهر فقط ، فهذا يعنى انه حين طلوع الهلال يتصف صوم النهار بكونه ذا مصلحة ، فيكون الوجوب فعليا ، واذا كان زمان الواجب مرهونا بطلوع الفجر ، لأن طلوع الفجر دخيل فى ترتب المصلحة. ولفعلية الوجوب عند طلوع الهلال آثار عملية على الرغم من عدم امكان امتثاله ، وهذا لانه من حين يصبح فعليا تبدأ محركيته نحو المقدمات ، وتبدأ مسؤولية المكلف عن تهيئة مقدمات الواجب.

وقد اعترض على امكان الواجب المعلق باعتراضين :

الأول : ان الوجوب حقيقته البعث والتحريك نحو متعلقه ، ولكن لا بمعنى البعث الفعلى ، وإلا لكان الانبعاث والامتثال ملازما له ، لأن البعث ملازم للانبعاث ، بل بمعنى البعث الشأنى ، أى انه حكم قابل للباعثية ، وقابلية البعث تلازم قابلية الانبعاث ، فحيث لا قابلية للانبعاث ، لا قابلية للبعث ، فلا وجوب.

ومن الواضح انه فى الفترة السابقة على زمان الواجب ، لا قابلية للانبعاث ، فلا بعث شأنى ، وبالتالى لا وجوب.

ويرد عليه ان الوجوب حقيقيته فى عالم الحكم أمر اعتبارى ، وليس متقوما بالبعث الفعلى أو الشأنى ، وانما المستظهر من دليل جعل الوجوب انه قد جعل بداعى البعث والتحريك ، والمقدار المستظهر من الدليل ليس بأزيد من أن المقصود من جعل الحكم إعداده لكى يكون محركا شأنيا خلال ثبوته ، ولا دليل على ان المقصود جعله كذلك من بداية ثبوته.

٢٣٤

الثانى ان طلوع الفجرإما أن يؤخذ قيدا فى الواجب فقطن أو يؤخذ قيدا فى الوجوب أيضا. فعلى الأول يلزم كون الوجوب مرحكا نحوه ، لما تقدم من أن كل قيد يؤخذ فى الواجب دون الوجو بـ ، يشمله التحريك المولوى الناشىء من ذلك الوجوب ، وهذا غير معقول ، لأن طلوع الفجر غير اختيارى. وعلى الثانى يصبح طلوع الفجر شرطا للوجوب ، فان كان شرطا مقارنا ، فهذا معناه عدم تقدم الوجوب على زمان الواجب.

وإن كان شرطا متأخرا ، يلزم محذور الشرط المتأخر. والشىء نفسه نقوله عن القدرة على الصيام عند طلوع الفجر ، فانها كطلوع الفجر فى الشقوق المذكورة ، ومن هنا كنا نقول فى الحلقة السابقة (١) : ان امكان الوجوب المعلق يتوقف على افتراض إمكان الشرط المتأخر ، وذلك باختيار الشق الاخير.

واما ثمرة البحت فى امكان الواجب المعلق ، فتأتى الاشارة اليهاإن شاء الله تعالى.

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٣٣٠.

٢٣٥

المسؤولية عن المقدمات قبل الوقت

اتضح مما تقدم ان المسؤولية تجاه مقدمات الواجب من قبل الوجوب انما تبدأ ببداية فعلية هذا الوجوب. ويترتب على ذلك ان الواجب اذا كان له زمن متأخر ، وكان يتوقف على مقدمة ، ولم يكن بالامكان توفيرها فى حينها ، ولكن كان بالامكان إيجادها قبل الوقت ، فلا يجب على المكلف ايجادها قبل الوقت ، إذ لا مسؤولية تجاه مقدمات الواجب إلا بعد فعلية الوجوب ، وفعلية الوجوب منوطة بالوقت. وتسمى المقدمة فى هذه الحالة بالمقدمة المفوتة.

ومثال ذلك : ان يعلم المكلف قبل الزوال بانه إذا لم يتوضأ الان ، فلن يتاح له الوضوء بعد الزوال ، فيمكنه ان لا يتوضأ ، ولا يكون بذلك مخالفا للتكليف بالصلاة بوضوء ، لان هذا التكليف ليس فعليا الان ، وانما يصبح فعليا عند الزوال ، وفعليته وقتئذ منوطة بالقدرة على متعلقه فى ذلك الظرف ، لاستحالة تكليف العاجز ، والقدرة فى ذلك الظرف على الصلاة بوضوء متوقفه بحسب الفرض على أن يكون المكلف قد توضأ قبل الزوال. فالوضوء قبل الزوال إذن يكون من مقدمات الوجوب ،

٢٣٦

وبترك المكلف له يحول دون تحقق الوجوب وفعليته فى حينه ، لا انه يتورط فى مخالفته.

ولكن يلاحظ أحيانا ان الواجب قد يتوقف على مقدمة تكون دائما من هذا القبيل. ومثلها وجوب الحج الموقوت بيوم عرفة ، ووجوب الصيام الموقوت بطلوع الفجر ، مع ان الحج يتوقف على السفر الى الميقات قبل ذلك ، والصيام من الجنب يتوقف على الاغتسال قبل طلوع الفجر. ولا شك فى ان المكلف مسؤول عن طى المسافة من قبل وجوب الحج ، وعن الاغتسال قبل الطلوع من قبل وجوب الصيام. ومن هنا وقع البحث فى تفسير ذلك ، وفى تحديد الظوابط التى يلزم المكلف فيها بايجاد المقدمات المفوتة.

وقد ذكرت فى المقام عدة تفسيرات :

التفسير الأول : انكار الوجوب المشروط رأسا ، وافتراض ان كل وجوب فعلى قبل تحقق الشروط والقيود المحددة له فى لسان الدليل. وإذا كان فعليا كذلك ، فتبدأ محركيته نحو مقدمات الواجب قبل مجىء ظرف الواجب. ومن هنا كان امتناع الوجوب المشروط ، يعنى من الناحية العملية إلزام المكلف بالمقدمات المفوتة للواجب من قبل ذلك الوجوب. وهذه هى ثمرة البحث فى امكان الوجوب المشروط وامتناعه. وقد تقدم ان الصحيح امكان الوجوب المشروط ، خلافا لما فى تقريرات الشيخ الأنصارى (١) الذى تقدم بالتفسير المذكور.

التفسير الثانى : وهو يعترف بامكان الوجوب المشروط ، ولكن يقول

ـــــــــــــــ

(١) مطارح الانظار : ص ٥٣. ذيل قوله : ولنا فى المقام مسلك آخر.

٢٣٧

بامكان الوجوب المعلق أيضا ، ويفترض انه فى كل مرود يقوم فيه الدليل على لزوم المقدمة المفوتة من قبل وجوب ذيها تستكشف ان الوجوب معلق ، أى انه سابق على زمان الواجب. وفى كل مورد يقوم فيه الدليل على ان الوجوب معلق ، نحكم فيه بمسؤولية المكلف تجاه المقدمات المفوتة ، وهذه هى ثمرة البحث عن إمكان الواجب المعلق وامتناعه.

التفسير الثالث : ان القدرة المأخوذة قيدا فى الوجوب ، إن كانت عقلية ، بمعنى انها غير دخيلة فى ملاكه ، فهذا يعنى ان الملكف بتركه للمقدمة المفوتة يعجز نفسه عن تحصيل الملاك ، مع فعليته فى ظرفه ، وهذا لا يجوز عقلا ، لأن تفويت الملاك بالتعجيز ، كتفويت التكليف بالتعجيز.

وان كانت القدرة شرعية ، بمعنى انها دخيلة فى الملاك أيضا ، فلا ملاك فى فرض ترك المكلف للمقدمة المفوتة المؤدى الى عجزه فى ظرف الواجب ، وفى هذه الحالة لا مانع من ترك المقدمة المفوتة.

وعلى هذا ففى كل حالة يثبت فيها كون المكلف مسؤولا عن المقدمات المفوتة ، نستكشف من ذلك ان القدرة فى زمان الواجب غير دخيلة فى الملاك. كما انه فى كل حالة يدل فيها الدليل على ان القدرة كذلك ، يثبت لزوم المقدمات المفوتة ، غير ان هذا المعنى يحتاج الى دليل خاص ، ولا يكفيه دليل الواجب العام ، لان دليل الواجب له مدلول مطابقى وهو الوجوب ، ومدلول التزامى وهو الملاك. ولا شك فى ان الملدلو المطابقى مقيد بالقدرة ، ومع سقوط الاطلاق فى الدلالة المطابقية يسقط فى الدلالة الالتزامية أيضا ، لتبعية. فلا يمكن ان نثبت به كون الملاك ثابتا فى حالتى القدرة والعجز معا.

٢٣٨

أخذ القطع بالحكم فى موضوع الحكم

قد يفترض تارة أخذ القطع بالحكم فى موضوع نفس ذلك الحكم. واخرى أخذه فى موضوع حكم مضاد له. وثالثة أخذه فى موضوع مثله. ورابعة أخذه فى موضوع حكم مخالف. ولا شك فى إمكان الاخير ، وانما وقع الكلام فى الافتراضات الثلاثة الاولى :

اخذ العلم بالحكم فى موضوع نفسه :

أما الافتراض الأول ، فقد يبرهن على استحالته باداءه للدور ، إذ يتوقف كل من الحكم والعلم به على الاخر.

وقد يجاب بانه لا دور ، لأن الحكم وان كان متوقفا على القطع ، لأنه مأخوذ فى موضوعه ، إلا ان القطع بالحكم لا يتوقف على ثبوت الحكم. وتحقيق الحال فى ذلك ان القطع بالحكم إذا أخذ فى موضوع شخص ذلك الحكم ، فاما أن يكون الحكم المقطوع دخيلا فى الموضوع أيضا ، وذلك بأن يؤخذ القطع بالحكم بما هو مصيب فى الموضوع. وإما أن لا يكون لثبوت ذات المقطوع دخل فى الموضوع. ففى الحالة الاولى تعتبر

٢٣٩

الاستحالة واضحة ، لوضوح الدور وتقوف الحكم على نفسه عندئذ. وأما فى الحالة الثانية فلا يجرى الدور بالتقريب المذكور ، ولكن الافتراض مع هذا مستحيل. وقد برهن على استحالته بوجوه :

منها : ان الافتراض المذكور يجعل الحكم المقطوع منوطا بنفس القطع ، وهذا أمر يستحيل ان يسلم به القاطع ، لانه يخالف طبيعة الكاشفية فى القطع التى تجعل القاطع دائما يرى ان مقطوعه ثابت بقطع النظر عن قطعه.

ومنها : انه يلزم الدور فى مرحلة وصول التكليف ، لأن العلم بكل تكليف يتوقف على العلم بتحقق موضوعه ، وموضوعه بحسب الفرض هو العلم به ، فيكون العلم بالتكليف متوقفا على العلم بالعلم بالتكليف. والعلم بالعلم نفس العلم ، لأن العلم لا يعلم بعلم زائد ، بل هو معلوم بالعلم الحضورى ، لحضوره لدى النفس مباشرة ، وهذا ينتج توقف العلم على نفسه.

إلا ان كل هذاإنما يردإذا أخذ العلم بالمجعول فى موضوعه ، ولا يتجه إذا أخذ العلم بالجعل فى موضوع المجعول. فبامكان المولى أن يتوصل الى المقصود بتقييد المجعول بالعلم بالجعل ، وأما من لم يأخذ هذا المخلص بعين الاعتبار ، كالمحقق النائينى رحمه الله (١) فقد وقع فى حيرة من ناحيتين :

الاولى : انه كيف يتوصل الشارع الى تخصيص الحكم بالعالم به إذا كان التقييد المذكور مستحيلا؟

الثانية : انه إذا استحال التقييد ، استحال الاطلاق ، بناء على

ـــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ص ١٢.

٢٤٠