دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

واستيعابها ، وفى ذلك قد يتفوق السامع على الناقل.

الطائفة الخامسة : ما دل على ذم الكذب عليهم ، والتحذير من الكذابين عليهم ، فانه لو لم يكن خبر الواحد مقبولا ، لما كان هناك أثر للكذب ، ليستحق التحذير.

والصحيح ان الكذب كثيرا ما يوجب اقتناع السامع خطأ ، واذا افترض فى مجال العقائد واصول الدين ، كفى فى خطره مجرد ايجاد الاحتمال والظن. فاهتمام الأئمة بالتحذير من الكاذب لا يتوقف على افتراض الحجية التعبدية.

الطائفة السادسة : ما ورد فى الارجاع الى آحاد من اصحاب الأئمة بدون اعطاء ضابطة كلية للارجاع ، من قبيل إرجاع الامام إلى زرارة بقوله : « اذا اردت حديثا فعليك بهذا الجالس » (١) ، أو قول الامام الهادى عليه السلام : « فاسأل عنه عبدالعظيم بن عبدالله الحسنى واقرأه منى السلام » (٢).

وروايات الارجاع التى هى من هذا القبيل ، لما كانت غير متضمنة للضابطة الكلية ، فلا يمكن اثبات حجية خبر الثقة بها مطلقا ، حتى فى حالة احتمال تعمد الكذب ، إذ من الممكن ان يكون ارجاع الامام بنفسه معبرا عن ثقته ويقينه بعدم تعمد الكذب ما دام إرجاعه شخصيا غير معلل.

الطائفة السابعة : ما دل على ذم من يطرح ما يسمعه من حديث بمجرد عدم قبول طبعه له ، من قبيل قوله عليه السلام : « وأسوأهم عندى

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : د ١٨ باب ١١ح ١٩ وفيه : حديثنا ، بدل حديثا.

(٢) جامع احاديث الشيعة : ج ١ باب حجية اخبار الثقات ح ١٢.

١٦١

حالا وأمقتهم ، الذى يسمع الحديث ينسب الينا ويروى عنا ، فلم يقبله ، اشمئزمنه وجحده ، وكفر من دان به ، وهو لا يدرى لعل الحديث من عندنا خرج ، والينا اسند » (١) ، إذ قد يقال لو لا حجية الخبر لما استحق الطارح هذا الذم.

والجواب : انه استحقه على الاعتماد على الذوق والرأى فى طرح الرواية بدون تتبع وإعمال للموازين ، وعلى التسرع بالنفى والانكار. مع ان مجرد عدم الحجية لا يسوغ الانكار والتكفير.

الطائفة الثامنة : ما ورد فى الخبرين المتعارضين من الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، فلولا ان خبر الواحد حجة ، لما كان هناك معنى لفرض التعارض بين الخبرين ، وإعمال المرجحات بينهما.

ونلاحظ ان دليل الترجيح هذا يناسب الحديثين القطعيين صدورا إذا تعارضا ، فلا يتوقف تعقله على افتراض الحجية التعبدية.

الطائفة التاسعة : ما ورد فى الخبرين المتعارضين من الترجيح بالأوثقية ونحوها من الصفات الدخيلة فى زيادة قيمة الخبر وقوة الظن بصدوره ، وتقر يب الاستدلال كما تقدم فى الطائفة السابقة.

ولا يمكن هنا حمل هذا الدليل على الحديثين القطعيين ، لأن الاوثقية لا أثر لها فيهما ما دام كل منهما مقطوع الصدور.

الطائفة العاشرة : ما دل بشكل وة خر على الارجاع الى كلى الثقة إما ابتداء ، وإما تعليلا للارجاع الى اشخاص معينين على نحويفهم منه الضابط الكلى ... وهذه الطائفة هى أحسن ما فى الباب.

ـــــــــــــــ

(١) جامع أحاديث الشيعة : باب ٥ من ابواب المقدمات ح ٥ج ١ ص ٢٢٢.

١٦٢

وفى روايات هذه الطائفة ما لايخلو من مناقشة أيضا من قبيل قوله : « فانه لا عذر لاحد من موالينا فى التشكيك فيما روى عنا ثقاتنا ، قد عرفوا بأننا نفاوضهم بسرنا ، ونحمله اياهم اليهم » (١) فان عنوان ثقاتنا أخص من عنوان الثقات ، ولعله يتناول خصوص الاشخاص المعتمدين شخصيا للامام والمؤتمنين من قبله ، فلا يدل على الحجية فى نطاق أوسع من ذلك.

وفى رايات هذه الطائفة ما لا مناقشة فى دلالتها ، من قبيل ما رواه محمد بن عيسى : « قال : قلت لأبى الحسن الرضا : جعلت فداك انى لا أكاد أصل اليك لأسألك عن كل ما احتاج اليه من معالم دينى ، أفيونس بن عبدالرحمن ثقةة خذ عنه ما احتاج اليه من معالم دينى؟ فقال : « نعم » (٢) ولما كان المرتكز فى ذهن الراوى أن مناط التحويل هو الوثاقة ، وأقره الامام على ذلك ، دل الحديث على حجية خبر الثقة.

غير ان عدد الروايات التامة دلالة على هذا المنوال لا يبلغ مستوى التواتر ، لأنه عدد محدود. نعم قد تبذل عنايات فى تجميع ملاحظات توجب الاطمئنان الشخصى بصدور بعض هذه الروايات لمزايا فى رجال سندها ونحوها ذلك.

والطريق الاخر لاثبات السنة هو السيرة وذلك بتقريبين :

الأول : الاستدلال بسيرة المتشرعة من أصحاب الأئمة على العمل باخبار الثقات ، وقد تقدم فى الحلقة السابقة (٣) بيان الطريق لا ثبات هذه السيرة ، كما تقدم كيفية استكشاف الدليل الشرعى عن طريق

ـــــــــــــــ

(١) نفس المصدرح ٣ وفيه : إياه ، بدل إياهم.

(٢) نفس المصدرح ٢٤.

(٣) راجع : ج ١ ص ٢٨٩.

١٦٣

السيرة ، سواء كانت سيرة اولئك المتشرعة على ما ذكرناه بوصفهم الشرعى ، أو بما هم عقلاء.

الثانى : الاستدلال بسيرة العقلاء على التعويل على اخبار الثقات ، وذلك ان شأن العقلاء سواء فى مجال اغراضهم الشخصية التكوينية ، أو فى مجال الاغراض التشريعية وعلاقات الامرين بالمأمورين العمل بخبر الثقة والاعتماد عليه. وهذا الشأن العام للعقلاء يوجب قريحة وعادة لو ترك العقلاء على سجيتهم لأعملوها فى علاقاتهم مع الشارع ، ولعولوا على اخبار الثقات فى تعيين احكامه. وفى حالة من هذا القبيل لو أن الشارع كان لا يقر حجية خبر الثقة لتعين عليه الردع عنها ، حفاطا على غرضه ، فعدم الردع حينئذ معناه التقرير ومؤداه الامضاء.

والفارق بين التقريبين ان التقريب الأول يتكفل مؤونة اثبات جرى اصحاب الأئمة فعلا على العمل بخبر الثقة ، بينما التقريب الثانى لا يدعى ذلك ، بل يكتفى باثبات الميل العقلائى العام الى العمل بخبر الثقة ، الأمر الذى يفرض على الشارع الردع عنه على فرض عدم الحجية لئلا يتسرب هذا الميل الى مجال الشرعيات.

وهناك اعتارض يواجه الاستدلال بالسيرة ، وهو ان السيرة مردوع عنها بالايات الناهية عن العمل بالظن الشاملة باطلاقها لخبر الواحد.

وتوجد عدة أجوبة على هذا الاعتراض :

الجواب الأول : ما ذكره المحقق النائينى رحمه الله (١) من أن السيرة حاكمة على تلك الايات ، لأنها تخرج خبر الثقة عن الظن ، وتجعله علما

ـــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ص ١٦١.

١٦٤

بناء على مسلك جعل الضريقية فى تفسير الحجية.

ونلاحظ على ذلك :

أولا انه اذا كان معنى الحجية جعل الامارة علما ، كان مفاد الايات النافية لحجية غير العلم نفى جعلها علما ، وهذا يعنى ان مدلولها فى عرض مدلول ما يدل على الحجية ، وكلا المدلولين موضوعها ذات الظن ، فلا معنى لحكومته المذكورة.

ثانيا ان الحاكم ان كان هو نفس البناء العقلائى ، فهذا غير معقول ، لأن الحاكم يوسع موضوع الحكم أو يضيقه فى الدليل المحكوم ، وذلك من شأن نفس جاعل الحكم المراد توسيعه ، أو تضيقه ، ولا معنى لأن يوسع العقلاء أو يضيقون حكما مجعولا من قبل غيرهم.

وإن كان الحاكم الموسع والمضيق هو الشارع بامضاءه للسيرة ، فهذا يعنى انه لابد لنا من العلم بالامضاء ، لكى نحرز الحاكم. والكلام فى انه كيف يمكن إحراز الامضاء مع وجود النواهى المكذورة الدالة على عدم حجية؟

الجواب الثانى : ما ذكره صاحب الكفاية رحمه الله (١) من أن الردع عن السيرة بتلك العمومات الناهية غير معقول ، لانه دور. وبيانه ان الردع بالعمومات عنها يتوقف على حجية تلك العمومات فى العموم ، وهذه الحجية تتوقف على عدم وجود مخصص لها ، وعدم وجود مخصص يتوقف على كونها رادعة عن السيرة ، وإلا لكانت مخصصة بالسيرة ولسقطت حجيتها فى العموم.

ـــــــــــــــ

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ص ٩٩.

١٦٥

والجواب على ذلك : ان توقف الردع بالعمومات على حجيتها فى العموم صحيح ، غير ان حجيتها كذلك لا تتوقف على عدم وجود مخصص لها ، بل على عدم احراز المخصص ، وعدم احراز المخصص حاصل فعلا ما دامت السيرة لم يعلم بامضائها ، فلا دور.

الجواب الثالث : ما ذكره المحقق الاصفهانى رحمه الله (١) من أن ظهور العمومات المدعى ردعها لا دليل على حجيته ، لأن الدليل على حجية الظهور هو السيرة العقلائية ، ومع انعقادها على العمل بخبر الثقة لا يمكن انعقادها على العمل بالظهور المانع عن ذلك ، لأن العمل بالمتناقضين غير معقول.

وهذا الجواب غريب ، لأن انعقاد السيرة على العمل بالظهور معناه انعقادها على اكتشاف مراد المولى بالظهور ، وتنجزه بذلك ، فالعمل العقلائى بخبر الثقة ينافى مدلول الظهور فى العمومات الناهية ، ولا ينافى نفس بنائهم على العمل بهذا الظهور وجعله كاشفا وحجة.

فالصحيح فى الجواب أن يقال : انه إن ادعى كون العمومات رادعة عن سيرة المتشرعة المعاصرين للمعصومين من صحابة ومحدثين ، فهذا خلاف الواقع ، لأننا اثبتنا فى التقريب الأول ان هذه السيرة كانت قائمة فعلا على الرغم من تلك العمومات. وهذا يعنى انها لم تكن كافية للردع واقامة الحجة.

وإن ادعى كونها رادعة عن السيرة العقلائية بالتقريب الثانيى ، فقد

ـــــــــــــــ

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٩٤.

١٦٦

يكون له وجه ، ولكن الصحيح مع هذا عدم صلاحيتها لذلك أيضا ، لأن مثل هذا الأمر المهم لا يكتفى فى الردع عنه عادة باطلاق دليل من هذا القبيل.

٣ ـ وأما دليل العقل فله شكلان :

أ ـ الشكل الأول ، ويتلخص فى الاستدلال على حجية الروايات الواصلة الينا عن طريق الثقات من الرواة بالعلم الاجمالى ، وبيانه : انا نعلم اجمالا بصدور عدد كبير من هذه الروايات عن المعصومين عليهم السلام ، والعلم الاجمالى منجز بحكم العقل كالعلم التفصيلى على ما تقدم فى حلقة سابقة (١) ، فتجب موافقته القطعية ، وذلك بالعلم بكل تلك الروايات التى يعمل اجمالا بصدور قسط وافر منها.

وقد اعترض على هذا الدليل باعتراضين :

الأول نقضى : وحاصله انه لو تم هذا ، لأمكن بنفس الطريقة اثبات حجية كل خبر ، حتى اختبار الضعاف ، لأننا اذا لاحظنا مجموع الاخبار بما فيها الاخبار الموثقة وغيرها ، نجد انا نعلم اجمالا أيضا بصدور عدد كبير منها ، فهل يلتزم بوجوب العمل بكل تلك الاخبار تطبيقا لقانون منجزية العلم الاجمالى؟

والجواب على هذا النقص ما ذكره صاحب الكفاية (٢) من انحلال احد العلمين الاجماليين بالاخر ، وفقا لقاعدة انحلال العلم الاجمالى الكبير بالعلم الاجمالى الصغير المتقدمة فى الحلقة السابقة (٣) إذ يوجد لدينا علمان إجماليان :

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٣٩٧.

(٢) كفاية الاصول : ج ٢ ص ١٠٥.

(٣) راجع ج ١ ص ٤٠٥.

١٦٧

الأول : العلم الذى ابرز من خلال هذا النقض ، واطرافه كل الأخبار.

والثانى : العلم المستدل به ، واطرافه أخبار الثقات.

ولانحلال علم اجمالى بعلم اجمالى ثان ، وفقا للقاعدة التى اشرنا اليها ، شرطان كما تقدم فى محله :

أحدهما : ان تكون اطراف الثانى بعض اطراف الأول.

والاخر : ان لا يزيد المعلوم بالأول عن المعلوم بالثانى ، وكلا الشرطين منطبقان فى المقام ، فان العلم الاجمالى الثانى فى المقام أى العلم المستدل به على الحجية اطرافه بعض اطراف العلم الاول الذى ابرز فى النقض ، والمعلوم فى الاول لا يزيد على المعلوم فيه ، فينحل الأول بالثانى ، وفقا للقاعدة المذكورة.

الثانى جواب حلى : وحاصله ان تطبيق قانون تنجيز العلم الاجمالى لا يحقق الحجية بالمعنى المطلوب فى المقام ، وذلك :

أولا لأن هذا العلم لا يوجد لزوم العمل بالأخبار المتكلفة للاحكام الترخيصية ، لأن العلم الاجمالى إنما يكون منجزا وملزما ، فى حالة كونه علما اجماليا بالتكليف لا بالترخيص ، بينما الحجية المطلوبة هى حجية خبر الثقة بمعنى كونه منجزاإذا انبأ عن التكليف ، ومعذراإذا انبأ عن الترخيص.

وثانيا لأن العمل بأخبار الثقات على اساس العلم الاجمالى انما هو من اجل الاحتياط للتكاليف المعلومة بالاجمال. ومن الواضح ان الاحتياط لا يسوغ أن يجعل خبر الثقة مخصصا لعام أو مقيدا لمطلق فى دليل قطعى الصدور ، فان التخصيص والتقييد معناه رفع اليد عن عموم

١٦٨

العام أو اطلاق المطلق فى دليل قطعى الصدور ومعلوم الحجية. ومن الواضح انه لا يجوز رفع اليد عما هو معلوم الحجية إلا بحجية اخرى تخصيصا أو تقييدا ، فما لم تثبت حجية خبر الثقة ، لا يمكن التخصيص بها أو التقييد ، فاذا ورد مطلق قطعى الصدور يدل على الترخيص فى اللحوم مثلا ، وورد خبر ثقة على حرمة لحم الارنب ، لم يكن بالامكان الالتزام بتقييد ذلك المكلق بهذا الخبر ما لم تثبت حجيته بدليل شرعى.

اللهم إلا ان يقال : ان مجموعة العمومات والمطلقات الترخيصية فى الأدلة القطعية الصدور يعلم اجمالا بطرو التخصيص والتقييد عليها ، فاذا لم تثبت حجية خبر الثقة بدليل خاص ، فسوف لن نستطيع ان نعين مواطن التخصيص والتقييد ، وهذا يجعلنا لا نعمل بها جميعا ، تنفيذا لقانون تنجيز العلم الاجمالى. وبهذا ننتهى الى طرح اطلاق ما دل على حلية اللحوم فى المثال ، والتقيد احتياطا بما دل على حرمة لحم الارنب مثلا. وهذه نتيجة مشابهة للنتيجة التى ينتهى اليها عن طريق التخصيص والتقييد.

ب ـ الشكل الثانى للدليل العقلى ما يسمى بدليل الانسداد وهو لو تم يثبت حجية الظن بدون اختصاص بالظن الناشىء من الخبر ، فيكون دليلا على حجية مطلق الامارات الظنية ، بما فى ذلك اخبار الثقات ، وقد بين ضمن مقدمات :

الاولى انا نعلم اجمالا بتكاليف شرعية كثيرة فى مجموع الشبهات ، ولابد من التعرض لامتثالها بحكم تنجيز العلم الاجمالى.

الثانية انه لا يوجد طريق معتبر لا قطعى وجدانى ، ولا تعبدى قام الدليل الشرعى الخاص على حجيته يمكن التعويل عليه فى تعيين

١٦٩

مواطن تلك التكاليف ومحالها ، وهذا ما يعبر عنه بانسداد باب العلم والعلمى.

الثالثة ان الاحتياط بالموافقة القطعية للعلم الاجمالى المذكور فى المقدمة الاولى غير واجب ، لأنه يؤدى الى العسر والحرج نظرا الى كثرة اطراف العلم الاجمالى.

الرابعة انه لا يجوز الرجوع الى الاصول العلمية فى كل شبهة باجراء البراءة ونحوها ، لأن ذلك على خلاف قانون تنجيز العلم الاجمالى.

الخامسة انه ما دام لا يجوزإهمال العلم الاجمالى ، ولا يتيسر تعيين المعلوم الاجمالى بالعلم والعلمى ، ولا يراد منا الاحتياط فى كل واقعة ، ولا يسمح لنا بالرجوع الى الاصول العلمية فنحن إذن بين أمرين : اما ان نأخذ بما نظنه من التكاليف ونترك غيرها ، واما ان ناخذ بغيرها ونترك المظنونات. والثانى ترجيح للمرجوح على الراجح ، فيتعين الاول. وبهذا يثبت حجية الظن بما فى ذلك اخبار الثقات.

ونلاحظ على هذا الدليل :

أولا انه يتوقف على عدم قيام دليل شرعى خاص على حجية خبر الثقة ، وإلا كان باب العلمى مفتوحا وامكن باخبار الثقات تعيين التكاليف المعلومة بالاجمال ، فكأن دليل الانسداد ينتهى اليه حيث لا يحصل الفقيه على أى دليل شرعى خاص يدل على حجية بعض الامارات الشائعة.

وثانيا إن العلم الاجمالى المذكور فى المقدمة الاولى منحل بالعلم الاجمالى فى دائرة الروايات الواصلة الينا عن طريق الثقات ، كما تقدم. والاحتياط التام فى حدود هذا العلم الاجمالى ليس فيه عسر ومشقة.

١٧٠

وثالثا انا اذا سلمنا عدم وجوب الاحتياط التام لأنه يؤدى الى العسر والحرج فهذا انما يقتضى رفع اليد عن المرتبة العليا من الاحتياط بالقدر الذى يندفع به العسر والحرج ، مع الالتزام بوجوب سائر مراتبه ، لان الضرورات تقدر بقدرها ، فيكون الأخذ بالمظنونات حينئذ باعتباره مرتبة من مراتب الاحتياط الواجبة ، وأين هذا من حجية الظن؟ اللهم إلا أن يدعى قيام الاجماع على ان الشارع لا يرضى بابتناء التعامل مع الشريعة على أساس الاحتياط ، فاذا ضمت هذه الدعوى أمكن ان نستكشف حينئذ انه جعل الحجية للظن.

وقد تلخص من استعراض أدلة الحجية ان الاستدلال باية النبأ تام ، وكذلك بالسنة الثابتة بطريق قطعى ، كسيرة المتشرعة والسيرة العقلائية.

المرحلة الثانية

فى تحديد دائرة حجية الاخبار

ونأتى الان الى المرحلة الثانية فى تحديد دائرة هذه الحجية وشروطها ، والتحقيق فى ذلك ان مدرك حجية الخبرإن كان مختصا باية النبأ فهو لا يثبت سوى حجية خبر العادل خاصة ، ولا يشمل خبر الثقة غير العادل. وأما اذا لم يكن المدرك مختصا بذلك ، وفرض الاستدلال بالسيرة والروايات أيضا على ما تقدم فلا شك فى وفاء السيرة والروايات باثبات الحجية لخبر الثقة ، ولو لم يكن عادلا.

ومن هنا قد توقع المعارضة بالعموم من وجه بين ما دل على حجية

١٧١

خبر الثقة الشامل باطلاقه للثقة الفاسق ، ومنطوق آية النبأ الدال باطلاقه على عدم حجية خبر الفاسق ولو كان ثقة.

وقد يقال حينئذ بالتعارض والتساقط والرجوع الى أصالة عدم حجية خبر اليقة الفاسق ، إذ لم يتم الدليل على حجيته.

ولكن الصحيح انه لا اطلاق فى منطوق الاية الكريمة لخبر الثقة الفاسق ، لأن التعليل بالجهالة يوجب اختصاصه بموارد يكون العمل فيها بخبر الفاسق سفاهة ، وهذا يختص بخبر غير الثقة ، فلا تعارض اذن ، وبذلك يثبت حجية خبر الثقة ، دون غيره.

وهل يسقط خبر الثقة عن الحجية إذا وجدت امارة ظنية نوعية على كذبه؟ وهل يرتفع خبر غير الثقة الى مستوى الحجية إذا توفرت امارة من هذا القبيل على صدقه؟ فيه بحث وكلام ، قد تقدم موجز عن تحقيق ذلك فى الحلقة السابقة (١).

ولا شك فى ان أدلة حجية خبر الثقة والعادل لا تشمل الخبر الحدسى المبنى على الوظر والاستنباط ، وانما تختصص بالخبر الحسى المستند الى الاحساس بالمدلول ، كالاخبار عن نزول المطر ، أو الاحساس بة ثاره ولوازمه العرفية ، كالاخبار على العدالة.

وعلى هذا فقول المفتى ليس حجة على المفتى الاخر بلحاظ أدلة حجية خبر الثقة ، لأن إخباره بالحكم الشرعى ليس حسيا ، بل حدسيا واجتهاديا ، نعم هو حجة على مقلديه بدليل حجية قول أهل الخبرة والذكر.

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٢٩٢.

١٧٢

ومن أجل ذلك يقال : بأن الشخص إذا اكتشف بحدسه واجتهاده قول المعصوم عن طريق اتفاق عدد معين من العلماء على الفتوى ، فأخبر بقول المعصوم إستنادا الى اتفاق ذلك العدد ، لم يكن إخباره حجة فى اثبات قول المعصوم ، لانه ليس إخبارا حسيا عنه ، وانما يكون حجة فى اثبات اتفاق ذلك العدد من العلماء على الفتوى اذا لم يعلم منه التاسمح عادة فى مثل ذلك لأن إخباره عن اتفاق هذا العدد ، حسى ، فان كان اتفاق هذا العدد يكشف فى رأينا عن قول المعصوم ، استكشفناه ، وإلا فلا.

وعلى هذا الأساس نعرف الحال فى الاجماعات المنقولة ، فانه كان يقال عادة ان نقل الاجماع حجة فى اثبات الحكم الشرعى ، لأنه نقل بالمعنى لقول المعصوم واخبار عنه. وقد اعترض على ذلك المحققون المتأخرون بانه ليس نقلا حسيا لقول المعصوم ، بل هو نقل حدسى مبنى على ما يراه الناقل من كشف اتفاق الفتاوى التى لاحظها عن قول المعصوم ، فلا يكون حجة فى اثبات قول المعصوم ، بل فى اثبات تلك الفتاوى فقط.

حجية الخبر مع الواسطة :

ولا شك فى ان حجية الخبر تتقوم بركنين :

أحدهما : بمثابة الموضوع لها ، وهو نفس الخبر.

والاخر : بمثابة الشرط ، وهو وجود اثر شرعى لملدلو الخبر ، لوضوح انه اذا لم يكن لمدلوله اثر كذلك ، فلا معنى للتعبد به وجعل الحجية له.

والحجية متأخرة رتبة عن الخبر ، تأخر الحكم عن موضوعه ، وعن

١٧٣

افتراض اثر شرعى لمدلول الخبر ، تأخر المشروط عن شرطه.

وعلى هذا الاسساس قد يستشكل فى شمول دليل الحجية للخبر مع الواسطة ، وتوضيح ذلك انا اذا سمعنا زرارة ينقل عن الامام ان السورة واجبة ، أمكننا التمسك بدليل الحجية بدون شك ، لأن كلا الركنين ثابت ، فان خبر زراراة ثابت لدينا وجدانا بحسب الفرض ، وملدلوله ذو أثر شرعى ، لانه يتحدث عن وجوب السورة. وأما اذا نقل شخص عن زرارة الكلام المذكور ، فقد يتبادر الى الذهن اننا نتمسك بدليل الحجية أيضا ، وذلك بتطبيقه على الشخص الناقل عن زرارة أو لا ، فان اخباره ثابت لنا وجدانا ، وعن طريق حجيته يثبت لدينا خبر زرارة ، كما لو كان سمعنا منه ، وحييئذ نطبق دليل الحجية على خبر زرارة لاثبات كلام الامام.

ولكن قد استشكل فى ذلك ، وقيل بأن تطبيق دليل الحجية على هذا الترتيب مستحيل ، وبيان الاستحالة بتقريبين :

الأول انه يلزم منه اثبات الحكم لموضوعه ، مع ان الحكم متأخر رتبة عن موضوعه ، وذلك لأن خبر زرارة لم يثبت إلا بلحاظ دليل الحجية ، مع انه موضوع للحجية المستفادة من ذلك الدليل ، وهذا معنى اثبات الحكم لموضوعه.

الثانى انه يلزم منه اتحاد الحكم مع شروطه على الرغم من تأخر الحكم رتبة عن شرطه ، وذلك لان حجية خبر الناقل عن زرارة مشروطة بوجود اثر شرعى لما ينقله هذا الناقل ، وهذا انما ينقل خبر زرارة ، ولا أثر شرعيا لخبر زرارة الا الحجية ، فقد صارت الحجية محققة لشرط نفسها.

وجوب كلا التقريبين : ان حجية الخبر مجعولة على نهج القضية

١٧٤

الحقيقية على موضوعها وشرطها المقدر الوجود ، وفعلية الحجية المجعولة بفعلية الموضوع والشرط المقدر ، وتعدد الحجية الفعلية بتعددهما ، كما هو الشأن فى سائر الاحكام المجعولة على هذا النحو.

وعليه فنقول : انه توجد فى المقام حجيتان ، الاولى حجية خبر الناقل عن زرارة. والثانية حجية خبر زرارة. وما هو الموضوع للحجية الثانية وهو خبر زرارة لم يثبت بالحجية الثانية ، بل بالحجية الاولى ، فلا يلزم المحذور المذكور فى التقريب الاول ، كما ان الشرط المصحح للحجية الاولى وهو الأثر الشرعى يتمثل فى الحجية الثانية لا فى الحجية الاولى ، فلا يلزم المحذور المذكور فى التقريب الثانى.

قاعدة التسامح فى أدلة السنن :

ذكرنا ان موضوع الحجية ليس مطلق الخبر ، بل خبر الثقة على تفصيلات متقدمة ، ولكن قد يقال فى خصوصص باب المستحبات ، أو الاحكام غير الالزامية عموما ، ان موضوع الحجية مطلق الخبر ، ولو كان ضعيفا ، استنادا الى روايات دلت على ان من بلغه عن النبى ثواب على عمل فعمله كان له مثل ذلك وإن كان النبى لم يقله ، كصحيحة هشام ابن سالم عن أبى عبدالله عليه السلام : « قال : من سمع شيئا من الثواب على شىء فصنعه كان له اجره وإن لم يكن على ما بلغه » (١) بدعوى ان هذه الروايات تجعل الحجية لمطلق البلوغ فى موارد المستحبات.

والتحقيق ان هذه الروايات فيها بدوا أربعة احتمالات :

ـــــــــــــــ

(١) الوسائل : باب ١٨ من ابواب مقدمة العبادات ح ٦ج ١ ص ٦٠.

١٧٥

الأول : ان تكون فى مقام جعل الحجية لمطلق البلوغ.

الثانى : ان تكون فى مقام انشاء استحباب واقعى نفسى ، على طبق البلوغ بوصفه عنوانا ثانويا.

الثالث : ان تكون ارشادا الى حكم العقل بحسن الاحتياط ، واستحقاق المحتاط للثواب.

الرابع : ان تكون وعدا مولويا لمصلحة فى نفس الوعد ، ولو كانت هذه المصلحة هى الترغيب فى الاحتياط باعتبار حسنه عقلا.

والفارق بين هذه الاحتمالات الأربعة من الناحية النظرية واضح. فالاحتمال الثالث يختلف عن الباقى فى عدم تضمنه إعمال المولوية بوجه. والاحتمالان الأخيران يختلفان عن الأولين فى عدم تضمنهما جعل الحكم. ويختلف الأول عن الثانى مع اشتراكهما فى جعل الحكم فى أن الحكم المجعول على الأول ظاهرى ، وعلى الثانى واقعى.

وأما الأثر العملى لهذه الاحتمالات فهو واضح أيضا ، إذ لا يبرر الاحتمالان الأخيران الافتاء بالاستحباب ، بينما يبرر الاحتمالان الأولان ذلك.

ولكن قد يقال كما عن السيد الاستاذ (١) : انه لا ثمرة عملية يختلف بموجبها الاحتمالان الأولان ، لأنهما معا يسوغان الفتوى بالاستحباب ولافرق بينهما فى الاثار.

ولكن التحقيق وجود ثمرات عملية يختلف بموجبها الاحتمال الأول عن الاحتمال الثانى ، خلافا لما أفاده دام ظله ونذكر فيما يلى

ـــــــــــــــ

(١) الدراسات : ج ٣ ص ١٩٧.

١٧٦

جملة من الثمرات :

الثمرة الاولى : أن يدل خبر ضعيف على استحباب فعل ، وخبر ثقة على نفى استحبابه ، فاذا بنى على الاحتمال الأول وقع التعارض بين الخبرين ، لحجية كل منهما بحسب الفرض ونظرهما معا الى حكم واقعى واحد اثباتا ونفيا. واذا بنى على الاحتمال الثانى فلا تعارض ، لأن الخبر الضعيف الحاكى عن الاستحباب لا يثبت مؤداه ليعارض الخبر النافى له ، بل هو بنفسه يكون موضوعا لاستحباب واقعى مترتب على عنوان البلوغ ، والبلوغ محقق ، وكونه معارضا لا ينافى صدق عنوان البلوغ ، فيثبت الاستحباب.

الثمرة الثانية : أن يدل خبر ضعيف على وجوب شىء ، فعلى الاحتمال الثانى لا شك فى ثبوت الاستحباب ، لأنه مصصداق لبلوغ الثواب على عمل. وأما على الاحتمال الأول فلا يثبت شىء ، لأن اثبات الوجوب بالخبر الضعيف متعذر ، لعدم حجيته فى اثبات الاحكام الالزامية ، واثبات الاستحباب به متعذر أيضا ، لأنه لا يدل عليه ، فكيف يكون طريقا وحجة لاثبات غير مدلول ، وإثبات الجامع بين الوجوب والاستحباب به متعذر أيضا ، لأنه مدلول تحليلى للخبر ، فلا يكون حجة لاثباته عند من يرى كالسيد الاستاذ (١) ان حجية الخبر فى المدلول التحليلى متوقفة على حجيته فى المدلول المطابقى بكامله.

الثمرة الثالثة : ان يدل خبر ضعيف على استحباب الجلوس فى المسجد الى طلوع الشمس مثلا على نحو لا يفهم منه ان الجلوس بعد

ـــــــــــــــ

(١) مصصباح الاصصول : ج ٣ ص ٣٦٨.

١٧٧

ذلك مستحب أو لا. فعلى الاحتمال الأول يجرى استصحاب بقاء الاستحباب ، وعل الثانى لا يجرى ، لأنه مجعول بعنوان ما بلغه ثواب عليه ، وهذا مقطوع الارتفاع ، لاختصاص البلوغ بفترة ما قبل الطلوع.

ومهما بكن فلا شك فى ان الاحتمال الاول مخالف لظاهر الدليل ، كما تقدم فى الحلقة السابقة (١) ، فلا يمكن الالتزام بتوسعة دائرة حجية الخبر فى باب المستحباب.

١٧٨

البحث الثالث

فى حجية الظهور

أقسام الدلالة :

الدليل الشرعى قد يكون مدلوله مرددا بين أمرين أو امور ، وكلها متكافئة فى نسبتها اليه ، وهذا هو المجمل ، وقد يكون مدلوله متعينا فى أمر محدد ولا يحتمل مدلولا آخر بدلا عنه ، وهذا هو النص. وقد يكون قابلا لاحد مدلولين ، ولكن واحد منهما هو الظاهر عرفا ، والمنسبق الى ذهن الانسان العرفى ، وهذا هو الدليل الظاهر.

أما المجمل فيكون حجة فى اثبات الجامع بين المحتملات ، إذا كان له على اجماله أثر قابل للتنجيز ، ما لم يحصل سبب من الخارج يبطل هذا التنجيز ، إما بتعيين المراد من المجمل مباشرة ، وإما بنفى أحد المحتملين ، فانه بضمه الى المجمل يثبت كون المراد منه المحتمل الاخر ، وإما بمجملة خر مردد بين محتملين ، ويعلم بان المراد بالمجملين معا معنى واحد ، وليس هناك إلا معنى واحد قابل لهما معا ، فيحملان عليه ، وإما بقيام دليل على اثبات احد محتملى المجمل ، فانه وإن كان لا يكفى لتعيين المراد من المجمل فى حالة عدم التنافى بين المحتملين ، ولكنه يوجب سقوط حجية المجمل فى اثبات الجامع وعدم تنجزه ، لأن تنجز الجامع بالمجمل انما هو لقاعدة منجزية العلم الاجمالى ، وهذه القاعدة لها اركان أربعة ،

١٧٩

وفى مثل الفرض المذكور يختل ركنها الثالث كما أوضحنا ذلك فى الحلقة السابقة (١) حيث ان أحد المحتملين اذا ثبت بدليل ، فلا يبقى محذور فى نفى المحتمل الاخر بالأصل العلمى المؤمن.

وأما النص فلا شك فى لزوم العمل به ، ولا يحتاج الى التعبد بحجية الجانب الدلالى منه ، إذا كان نصا فى المدلول التصورى والمدلول التصديقى معا.

جليل حجية الظهور :

وأما الظاهر فظهوره حجة ، وهذه الحجية هى التى تسمى بأصالة الظهور ، ويمكن الاستدلال عليها بوجوه :

الوجه الأول : الاستدلال بالسنة المستكشفة من سيرة المتشرعين من الصحابة وأصحاب الأئمة عليهم السلام ، حيث كان عملهم على الاستناد الى ظواهر الأدلة الشرعية فى تعيين مفادها ، وقد تقدم فى الحلقة السابقة (٢) توضيح الطريق لاثبات هذه السيرة.

الوجه الثانى : الاستدلال بالسيرة العقلائية على العمل بظواهر الكلام ، وثبوت هذه السيرة عقلائيا مما لا شك فيه ، لانه محسوس بالوجدان. ويعلم بعدم كونها سيرة حادثة بعد عصر المعصومين ، إذ لم يعهد لها بدليل فى مجتمع من المجتمعات ، وم عدم الردع الكاشف عن التقرير والامضاء شرعا ، تكون هذه السيرة دليلا على حجية الظهور.

الوجه الثالث : التمسك بما دلى على لزوم التمسك بالكتاب والسنة

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٤٠٦.

(٢) راجع : ج ١ ص ٢٨٠.

١٨٠