دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

عقابا واحدا. وهذا من نتائج الشمولية فى اطلاق متعلق النهى التى تقتضى تعدد الحكم ، والبدلية فى اطلاق متعلق الأمر الذى يقتضى وحدة الحكم.

ولكن قد يتجاوز هذا ويفترض النهى فى حالة لا يعبر الا عن تحريم واحد ، كما فى النهى المتعلق بما هية لا تقبل التكرار ، من قبيل ( لا تحدث ) بناء على ان الحدث لا يتعدد ، ففى هذه الحالة يكون التحريم واحدا ، كما ان الوجوب فى ( صل ) واحد ، ولكن مع هذا نلاحظ ان هناك فارقا يظل ثابتا بين الامر والنهى أو بين الوجوب والتحريم ، وهو ان الوجوب الواحد المتعلق بالطبيعة لا يستدعى الا الاتيان بفرد من افرادها ، واما التحريم الواحد المتعلق بها فهو يستدعى اجتناب كل افرادها ولا يكفى ان يترك بعض الافراد.

وهذا الفارق ليس مرده الى الاختلاف فى دلالة اللفظ أو الاطلاق ، بل الى أمر عقلى ، وهو ان الكبيعة توجد بوجود فرد واحد ، ولكنها لا تنعدم الا بانعدام جميع افرادها. وحيث إن النهى عن الكبيعة يستدعى انعدامها ، فلابد من ترك سائر افرادها. وحيث إن الأمر بها يستدعى إيجادها ، فيكفى ايجاد فرد من افرادها.

التنبيه الرابع : انه فى الحالات التى يكون الاطلاق فيها شموليا ، يسرى الحكم الى كل الافراد ، فيكون كل فرد من الطبيعة المطلق شموليا ، موضوعا لفرد من الحكم ، كما فى الاطلاق الشمولى للعالم فى ( اكرم العلم ).

ولكن هذا التكثر فى الحكم والتكثر فى موضوعه ليس على مستوى الجعل ولحاظ المولى عند جعله للحكم بوجوب الاكرام على طبيعى

١٠١

العالم ، فان المولى فى مقام الجعل يلاحظ طبيعى العالم ولا يلحظ العلماء بما همم كثرة ، فبنظره الجعلى ليس لديه الا موضوع واحد وحكم واحد ، ولكن التكثر يكون فى مرحلة المجعول. وقد ميزنا سابقا بين الجعل والمجعول ، وعرفنا ان فعلية المجعول تابعة لفعلية موضوعة خارجا ، فيتكثر وجوب الاكرام المجعول فى المثال تبعا لتكثر افراد العالم فى الخارج.

والخطاب الشرعى مفاده ومدلوله التصديقى ، انما هو الجعل ، أى الحكم على نحو القضية الحقيقية ، وليس ناظرا الى فعلية المجعول. وهذا يعنى ان الشمولية وتكثر الحكم فى موارد الاطلاق الشمولى انما يكون فى مرتبة غير المرتبة التى هى مفاد الدليل.

ومن هنا صح القول بأن السريان بمعنى تعدد الحكم وتكثره الثابت بقرينة الحكمة ليس من شؤون مدلول الكلام ، بل هو من شؤون عالم التحليل والمجعول.

١٠٢

أدوات العموم

تعريف العموم وأقسامه :

العموم هو الاستيعاب المدلول عليه باللفظ. وباشتراط أن يكون مدلولا عليه باللفظ ، يخرج الملطلق الشمولى ، فان الشمولية فيه ليست مدلولة للكلام ، لأنها من شؤون عالم المجعول ، والكلام انما ينظر الى عالم الجعل ، خلافا للعالم فان تكثر الافراد فيه ملحوظ فى نفس مدلول الكلام وفى عالم الجعل. ودلالة الكلام على الاستيعاب تفترض عادة دالين :

احدهما : يدل على نفس الاستيعاب ، ويسمى بأداة العموم.

والاخر : يدل على المفهوم المستوعب لأفراده ، ويسمى بمدخول الأداة.

ففى قولنا : أكرم كل فقير ، الدال على الاستيعاب كلمة ( كل ) والدال على المفهوم المستوعب لا فراده كلمة ( فقير ).

وأداة العموم الدالة على الاستيعاب ، تارة تكون اسما وتدل على الاستيعاب بما هو مفهوم اسمى ، كما فى كل وجميع. واخرى تكون حرفا وتدل عليه بما هو نسبة استيعابية ، كما فى لام الجمع فى قولنا : العلماء ، بناء على ان الجمع المعرف باللام يدل على العموم ، فان أداة العموم فيه

١٠٣

هى اللام ، وللام حرف ، فاذا دلت على الاستيعاب ، فهى إنما تدل عليه بما هو نسبة. وسيأتى تصوير ذلك ان شاء الله تعالى.

ثم ان العموم ينقسم الى الاستغراقى والبدلى والمجموعى ، لأن الاستيعاب لكل افراد المفهوم يعنى مجموعة تطبيقاته على افراده ، وهذه التطبيقات تارة تلحظ عرضية ، واخرى تبادلية ، فالثانى هو البدلى ، والأول إن لوحظت فيه عناية وحدة تلك التطبيقات ، فهو المجموعى ، وإلا فهو عموم استغراقى.

وقد يقال : إن انقسام العموم الى هذه الاقسام إنما هو فى مرحلة تعلق الحكم به ، لأن الحكم إن كان متكثرا بتكثر الافراد ، فهو استغراقى. وإن كان واحد ويكتفى فى امتثاله بأى فرد من الأفراد ، فهو بدلى. وإن كان يقتضى الجمع بين الافراد ، فهو مدموعى.

ولكن الصحيح ان هذا الانقسام يمكن افتراضه بقدع النظر عن ورود الحكم ، لوضوح الفرق بين التورات التى تعطيها كلمات من قبيل : « جميع العلماء » و( ( أحد العلماء » و « مجموع العلماء » حتى لو لوحظت بما هى كلمات مفردة وبدون افتراض حكم ، فالاستغراقية والبدلية والمجموعية تعبر عن ثلاث صور ذنية للعموم ينسجها ذهن المتكلم وفقا لغرضه ، توطئه لجعل الحكم المناسب عليها.

نحو دلالة أدوات العموم :

لا شك فى وجود أدوات تدل على العموم بالوضع ، ككلمة « كل » و « جميع » ونحوهما من الالفاظ الخاصة بافادة الاستيعاب ، غير ان النقطة الجديرة بالبحث فيها وفى كل ما يثبت أنه من أدوات العموم هى ان اسراء

١٠٤

الحكم الى تمام افراد مدخول الأداة أى ( عالم ) مثلا فى قولنا ( أكرم كل عالم ) هل يتوقف على اجراء الاطلاق وقرينة الحكمة فى المدخول ، أو أن دخول أداة العموم على الكلمة تغنيها عن قرينة الحكمة ، وتتولى الأداة نفسها دور تلك القرينة؟

وظاهر كلام صاحب الكفاية رحمه الله (١) ان كلا الوجهين ممكن من الناحية النظرية ، لأن أداة العموم اذا كانت موضوعة لاستيعاب ما يراد من المدخول ، تعين الوجه الأول ، لأن المراد بالمدخول لا يعرف حينئذ من ناحية الأداة بل من قرينة الحكمة. واذا كانت موضوعة لا ستيعاب تمام ما يصلح المدخول للانطباق عليه ، تعين الوجه الثانى ، لل أن مفاد المدخول صالح ذاتا للانطباق على تمام الافراد ، فيتم تطبيقه عليها فعلا بتوسط الأداة مباشرة. وقد استظهر بحق الوجه الثانى.

وقد يبرهن على إبطال الوجه الأول ببرهانين :

البرهان الأول : لزوم اللغوية منه ، كما تقدم توضيحه فى الحلقة السابقة (٢). ولكن التحقيق عدم تمامية هذا البرهان ، لعدم لزوم لغوية وضع الأداة للعموم من قبل الواضع ، ولا لغوية استعمالها فى مقام التفهيم من قبل المتكلم ، وذلك لأن العموم والاطلاق ليس مفادهما مفهوما وتصورا شيئا واحدا ، فان أداة العموم مفادها الاستيعاب وإراءة الافراد فى مرحلة مدلول الخطاب ، وأما قرينة الحكمة فلا تفيد الاسيتعاب ، ولا ترى الفاراد فى مرحلة مدلول الخطاب ، بل تفيد نفى الخصوصيات ولحاظ الطبيعة مجرد عنها فالتكثر ملحوظ فى العموم بينما الملحوظ فى

ـــــــــــــــ

(١) كفاية الاصول : ج ١ ص ٣٣٥.

(٢) راجع : ج ١ ص ٢٤٤.

١٠٥

الاطلاق ذات الطبيعة ، وهذا يكفى لتصحيح الوضع ، حتى لو لم ينته الى نتيجة عملية بالنسبة الى الحكم الشرعى ، لأن الفائدة المترقبة من الوضع إنما هى افادة المعانى المختلفة ، وكذلك يكفى لتصحيح الاستعمال ، إذ قد يتعلق غرض المستعمل بافادة التكثر بنفس مدلول الخطاب.

البرهان الثانى : إن قرينة الحكمة ناظرة كما تقدم فى بحث الاطلاق الى المدلول التصديقى الجدى ، فهى تعين المراد التصديقى ، ولا تساهم فى تكوين المدلول التصورى. وأداة العموم تدخل فى تكوين المدلول التصورى للكلام ، فلو قيل بانها موضوعة لاستيعاب المراد من المدخول الذى تعينه قرينة الحكمة ، وهو المدلول التصديقى ، كان معنى ذلك ربط المدلول التورى للأداة بالمدلول التصديقى لقرينة الحكمة ، وهذا واضح البطلان ، لأن المدلول التصورى لكل جزء من الكلام انما يرتبط بما يساويه من مدلول الاجزاء الاخرى ، أى بمدلولاتها التصورية ، ولا شك فى أن للأداة مدلولا تصوريا محفوظا حتى لو خلا الكلام الذى وردت فيه من المدلول التصديقى نهائيا ، كما فى حالات الهزل ، فكيف يناط مدلولها الوضعى بالمدلول التصديقى؟

العموم بلحاظ الاجزاء والافراد :

يلاحظ أن كلمة « كل » مثلا ترد على النكرة ، فتدل على العموم والاستيعاب لا فراد هذه النكرة. وترد على المعرفة ، فتدل على العموم والاستيعاب أيضا ، لكنه استيعاب لا جزاء مدلول تلك المرعفة لا لافرادها. ومن هنا اختلف قولنا « اقرأ كل كتاب » ، عن قولنا « اقرأ كل الكتاب » ، وعلى هذا الاساس يطرح السؤال التالى :

١٠٦

هل أن لأداة العموم وضعين لنحوين من الاستيعاب ، وإلا كيف فهم منها فى الحالة الاولى استيعاب الافراد ، وفى الحالة الثانية استيعاب الاجزاء؟

وقد أجاب المحقق العراقى ( رحمه الله ) (١) على هذا السؤال : بأن ( كل ) تدل على استيعاب مدخولها للافراد ، ولكن إتجاه الاستيعاب نحو الأجزاء فى حالة كون المدخول معرفا باللام ، من أجل أن الأصل فى اللام أن يكون للعهد ، والعهد يعنى تشخيص الكلام فى المثالث المتقدم ، ومع التشخيص لا يمكن الايتيعاب للافراد ، فيكون هذا قرينة عامة على إتجاه الاستيعاب نحو الاجزاء كلما كان المدخول معرفا باللام.

دلالة الجمع المعرف باللام على العموم :

قد عد الجمع المعرف باللام من أدوات العموم ، ولابد من تحقيق كيفية دلالة ذلك على العموم ثبوتا أولا ، ثم تفصيل الكلام فى ذلك اثباتا.

أما الأمر الأول ، فهناك تصويرات لهذه الدلالة :

منها أن يقال : إن الجمع المعروف باللام يشتمل على ثلاث دوال :

أحدها : مادة الجمع التى تدل فى كلمة ( العلماء ) على طبيعى العالم.

والاخر : هيئة الجمع التى تدل على مرتبة من العدد لا تقل عن ثلاثة من أفراد تلك المادة.

والثالث : اللام ، وتفترض دلالتها على استيعاب هذه المرتبة لتمام

ـــــــــــــــ

(١) المقالات : ج ١ ص ١٤٧.

١٠٧

أفراد المادة ، ويكون الاستيعاب مدلولا للام بما هو معنى حرفى ونسبة استيعابية قائمة بين المستوعب ( بالكسر ) وهو مدلول هيئة الجمع ، والمستوعب ( بالفتح ) وهو مدلول مادة الجمع.

وأما الأمر الثانى ، فاثبات اقتضاء اللام الداخلة على الجميع للعموم يتوقف على إحدى دعويين :

إما أن يدعى وضعها للعموم ابتداء ، وحيث ان اللام الداخلة على المفرد لا تدل على العموم ، فلابد أن يكون المدعى وضع اللام الداخلة على الجمع بالخصوص لذلك.

وإما أن يدعى انها تدل على معنى واحد فى موارد دخولها على المفرد وعلى الجمع ، وهو التعين فى المدخول ، على ما تقدم فى معنى اللام الداخلة على اسم الجنس فى الحلقة السابقة (١).

فاذا كان مدخولها اسم الجنس ، كفى فى التعين المدلول عليه باللام ، تعين الجنس الذى هو نحو تعين ذهنى للطبيعة ، كما تقدم فى محله.

واذا كان مدخولها الجمع ، فلابد من فرض التعين فى الجمع ، ولا يكفى التعين الذهنى للطبيعة المدلولة لمادة الجمع. وتعين الجمع بما هو جمع ، انما يكون بتحدد الافراد الداخلة فيه ، وهذا التحدد لا يحصل إلا مع ارادة المرتبة الاخيرة من الجمع المساوقة للعموم ، لأن أى مرتبة اخرى ، لا يتميز فيها من ناحية اللفظ الفرد الداخل عن الخارج.

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٢٣٩.

١٠٨

النكرة فى سياق النهى أو النفى :

ذكر بعض : ان وقوع النكرة فى سياق النهى أو النفى من أدوات العموم. وأكبر الظن ان الباعث على هذه الدعوى ، ان النكرة كما تقدم فى حالات اسم الجنس من الحلقة السابقة (١) يمتنع اثبات الاطلاق الشمولى لها بقرينة الحكمة ، لأن مفهومها يأبى عن ذلك ، بينما نجد اننا نستفيد الشمولية فى حالات وقوع النكرة فى سياق النهى أو النفى ، فلابد أن يكون الدال على هذه الشمولية شيئا غير اطلاق النكرة نفسها ، فمن هنا يدعى ان السياق أى وقوع النكرة متعلقا للنهى أو النفى من أدوات العموم ، ليكون هو الدال على هذه الشمولية.

ولكن التحقيق ان هذه الشمولية سواء كانت على نحو شمولية العام أو على نحو شمولية المطلق بحاجة الى افتراض مفهوم اسمى قابل للاستيعاب والشمول لافراده بصورة عرضية ، لكى يدل السياق حينئذ على استيعابه لافراده ، والنكرة لا تقبل الاستيعاب العرضى ، كما تقدم.

فمن أين يأتى المفهوم الصالح لهذا الاستيعاب ، لكى يدل السياق على عمومه وشموله؟

ومن هنا نحتاج إذن الى تفسير للشمولية التى نفهمها من النكرة الواقعة فى سياق النهى والنفى ، ويمكن أن يكون ذلك بأحد الوجهين التاليين :

الأول : أن يدعى كون السياق قرينة على إخراج الكلمة عن كونها

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٢٣٩.

١٠٩

نكرة ، فيكون دور السياق إثبات ما يصلح للاطلاق الشمولى. وأما الشمولية فتثبت باجراء قرينة الحكمة فى تلك الكلمة بدون حاجة الى افتراض دلالة السياق نفسه على الشمولية والعموم.

الثانى : ما ذكره صاحب الكفاية ( رحمه الله ) (١) من أن الشمولية ليست مدلولا لفظيا ، وانما هى بدلالة عقلية ، لأن النهى يستدعى إعدام متعلقه ، والنكرة لا تنعدم ما دام هناك فرد واحد.

غير ان هذه الدلالة العقلية انما تعين طريقة امتثال النهى ، وان إتمثاله لا يتحقق إلا بترك جميع افراد الطبيعة ، ولا تثبت الشمولية بمعنى تعدد الحكم والتحريم بعدد تلك الافراد ، كما هو واضح.

ـــــــــــــــ

(١) كفاية الاصول : ج ١ ص ٣٣٤.

١١٠

المفاهيم

تعريف المفهوم :

لا شك فى ان المفهوم مدلول التزامى للكلام ، ولا شك أيضا فى أنه ليس كل مدلول التزامى يعتبر مفهوما بالمصطلح الاصصولى.

ومن هنا احتجنا الى تعريف يميز المفهوم عن بقية المدلولات الالتزامية.

وقد ذكر المحقق النائينى ( رحمه الله ) بهذا الصدد أن المفهوم هو اللازم البين مطلقا أو اللازم البين بالمعنى الأخص فى مصطلح المناطقة (١).

ونلاحظ على ذلك أن بعض الأدلة التى تساق لاثبات مفهوم الشرط مثلا ، تثبت المفهوم كلازم عقلى بحت دون أن يكون مبينا على ما يأتى إن شاء الله تعالى.

فالاولى أن يقال : إن المدلول الالتزامى تارة يكون متفرعا على خصوصية الموضوع فى القضية المدلولة للكلام بالمطابقة ، على نحو يزول بالستبداله بموضوع آخر. واخرى يكون متفرعا على خصوصية المحول بهذا النحو ، وثالثة يكون متفرعا على خصوصية الربط القائم بين طرفى

ـــــــــــــــ

(١) راجع : أجود التقريرات : ج ١ ص ٤١٣.

١١١

القضية ، على نحو يكون محفوظا ولو تبدل كلا الطرفين. فقولنا : « إذا زارك ابن كريم وجب احترامه » يدل التزاما على وجوب احترام الكريم نفسه عند زيارته ، وعلى وجوب تهيئة المقدمات التى يتوقف عليها احترام الابن الزائر ، وعلى انه لا يجب الاحترام المذكور فى حالة عدم الزيارة.

والمدلول الأول مرتبط بالموضوع ، فلو بدلنا ابن الكريم باليتيم مثلا ، لم يكن له هذا المدلول. والمدلول الثانى مرتبط بالمحمول وهو الوجوب ، فلو بدلناه بالاباحة ، لم يكن له هذا المدلول. والمدلول الثالث متفرع على الربط الخاص بين الجزاء والشرط ، ومهما غيرنا من الشرط والجزائر يظل المدلول الثالث بروحه ثابتا معبرا عن انتفاء الشرط ، وان كان التغيير ينعكس عليه ، فيغير من مفرداته تبعا لما يحدث فى المنطوف من تغير فى المفردات.

وهذا هو المفهوم ، لكن على أن يتضمن انتفاء طبيعى الحكم لا شخص الحكم المدلول عليه بالخطاب ، تمييزا للمفهوم عن قاعدة احترازية القيود التى تقتضى انتفاء خص الحكم بانتفاء القيد.

ضابط المفهوم :

ونريد الان أن تعرف الربط المخصوص الذى يؤخذ فى المنطوق ويكون منتجا للمفهوم ، وتوضيح ذلك انا اذا أخذنا الجملة الشرطية كمثال للقضايا التى يبحث عن ضابط ثبوت المفهوم لها ، نجد ان لها مدلولا تصوريا ومدلولا تصديقيا.

وحينما نفترض المفوم للجملة الشرطية ، تارة نفترضه على مستوى مدلولها التصورى ، بمعنى ان الضابط الذى به يثبت المفهوم يكون داخلا

١١٢

فى المدلول التصورى للجملة ، واخرى نفترضه على مستوى ملدلولها التصديقى ، بمعنى ان الظابط الذى به يثبت المفهوم لا يكون مدلولا عليه بدلالة تصورية بل بدلالة تصديقية.

اما الضابط لافادة المفهوم فى مرحلة المدلول التصورى ، فهو أن يكون الربط المدلول عليه بالأداة أو الهيئة فى هذه المرحلة من النوع الذى يستلزم الانتفاء عند الانتفاء ، لأن ربط قضية أو حادثة بقضية أو حادثة اخرى ، اذا أردنا أن نعبر عنه بمعنى اسمى ، وجدنا بالامكان التعبير عنه بشكلين :

فنقول تارة ( زيارة شخص للانسان تستلزم أو توجد وجوب اكرامه ).

ونقول اخرى ( ان وجوب اكرام شخص يتوقف على زيارته ، أو هو معلق على فرض الزيارة وملتصق بها ).

ففى القول الأول استعملنا معنى الاستلزام ، وفى القول الثانى استعملنا معنى التوقف والتعليق والالتصاق. والمعنى الأول لا يدل التزاما على الانتفاء عند الانتفاء ، والثانى يدل عليه.

فلكى تكون الجملة الشرطية مثلا ، مشتملة فى مرحلة المدلول التصورى على ضابط إفادة المفهوم ، لابد أن تكون داللة على ربط الجزاء بالشرط بما هو معنى حرفى مواز للمعنى الاسمى للتوقف والالتصاق ، لا على الربط بما هو معنى حرفى مواز للمعنى الاسمى لاستلزام الشرط للجزاء.

ولا بد اضافة الى ذلك أن يكون المرتبط على نحو التوقف والالتصاق طبيعى الوجوب لا وجوبا خاصا ، وإلا لم يقتض التوقف إلا انتفاء ذلك

١١٣

الوجوب الخاص ، وهذا القدر من الانتفاء يتحقق بنفس قاعدة احترازية القيود ولو لم نفترض مفهوما.

واذا ثبتت دلالة الجملة فى مرحلة المدلول التصورى على النسبة التوقفية والالتصاقية ثبت المفهوم ، ولو لم يثبت كون الشرط علة للجزاء أو جزء علة له ، بل ولو لم يثبت اللزوم اطلاقا ، وكان التوقف لمجرد صدفة.

واما على مستوى المدلول التصديقى للجملة ، فقد تكشف الجملة فى هذه المرحلة عن معنى يبرهن على أن الشرط علة منحصرة ، أو جزء علة منحصرة للجزاء ، وبذلك يثبت المفهوم ، وهذا من قبيل المحاولة الهادفة لاثبات المفهوم تمسكا بالاطلاق الأحوالى للشرط ، لاثبات كونه مؤثرا على أى حال ، سواء سبقه شىءة خر أو لا ، ثم لاستنتاج انحصار العلة بالشرط من ذلك ، إذ لو كانت للجزاء علة اخرى لما كان الشرط مؤثرا فى حال سبق تلك العلة ، فان هذا انتزاع للمفهوم من المدلول التصديقى ، لان الاطلاق الاحوالى للشرط مدلول لقرينة الحكمة ، وقد تقدم سابقا ان ذ قرينة الحكمة ذات مدلول تصديقى ولا تساهم فى تكوين المدلول التصورى.

هذا ما ينبغى ان يقال فى تحدى الضابط.

واما المشهور فقد اتجهوا الى تحديد الضابط للمفهوم فى ركنين كما مر بنا فى الحلقة السابقة (١).

أحدهما : استفادة اللزوم العلى الانحصارى.

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٢٤٨.

١١٤

والاخر : كون المعلق مطلق الحكم لا شخصه ، ولا كلام لنا فعلا فى الركن الثانى. واما الركن الأول فالالتزام بركنيته غير صحيح ، اذ يكفى فى اثبات المفهوم كما تقدم دلالة الجملة على الربط بنحو التوقف ، ولو كان على سبيل الصدفة.

مورد الخلاف فى ضابط المفهوم :

ثم ان المحقق العراقى ( رحمه الله ) (١) ذهب الى انه لا خلاف فى ان جميع الجمل التى تكلم العلماء عن دلالتها على المفهوم ، تدل على الربط الخاص المستدعى للانتفاء عند الانتفاء ، أى على التوقف ، وذلك بدليل ان الكل متفقون على انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد شرطا أو وضعا وانما اختلفوا فى انتفاء طبيعى الحكم ، فلو لا اتفاقهم على ان الجملة تدل على الربط الخاص المذكور ، لما تسالموا على انتفاءا الحكم ولو شخصا بانتفاء القيد.

وعلى هذا الأساس فالبحث فى اثبات المفهوم فى مقابل المنكرين له ، ينحصر فى مدى إمكان اثبات ان طرف الربط الخاص المذكور ليس هو شخص الحكم ، بل طبيعيه ، ليكون هذا الربط مستدعيا لانتفاء الطبيعى بانتفاء القيد.

وإمكان اثبات ذلك مرهون باجراء الاطلاق وقرينة الحكمة فى مفاد هيئة الجزاء ونحوها مما يدل على الحكم فى القضية.

وهكذا يعود البحث فى ثبوت المفهوم لجملة « اذا كان الانسان عالما

ـــــــــــــــ

(١) نهاية الافكار : ج ٢ ص ٤٦٩.

١١٥

فأكرمه » أو لجملة « أكرم الانسان العالم » ، الى انه هل يجرى الاطلاق فى مفاد أكرم فى الجملتين لاثبات ان المعلق على الشرط أو الوصف طبيعى الحكم ، أو لا؟ ونسمى هذا بمسلك المحقق العراقى فى اثبات المفهوم.

مفهوم الشرط :

ذهب المشهور الى دلالة الجملة الشرطية على المفهوم ، وقرب ذلك بعدة وجوه :

الأول : دعوى دلالة الجملة الشرطية بالوضع على أن الشرط علية منحصرة للجزاء ، وذلك بشهادة التبادر.

وعلى الرغم من صحة هذا التبادر ، اصطدمت الدعوى المذكورة بملاحظة ، وهى انها تؤدى الى افتراض التجوز عند استعمال الجملة الشرطية فى موارد عدم الانحصار ، وهو خلاف الوجان ، فكأنه يوجد فى الحقيقة وجدانان لابد من التوفيق بينهما :

أحدهما : وجدان التبادر المدعى فى هذا الوجه.

والاخر : وجدان عدم الاحساس بالتجوز عند استعمال الجملة الشرطية فى حالات عدم الانحصار.

الثانى : دعوى دلالة الجملة الشرطية على اللزوم وضعا ، وعلى كونه لزوما عليا انحصاريا بالانصراف ، لأنه أكمل افراد اللزوم.

ولوحظ على ذلك ان الأكملية لا توجب الانصراف ، وان الاستلزام فى فرض الانحصار ليس بأقوى منه فى فرض عدم الانحصار.

الثالث : دعوى دلالة الأداة على الربط اللزومى وضعا ، ودلالة

١١٦

تفريع الجزاء على الشرط فى الكلام ، على تفرعه عنه ثبوتا وكون الشرط علة تامة له ، لأصالة التطابق بين مقام الاثبات والكلام ومقام الثبوت والواقع ، ودلالة الاطلاق الاحوالى فى الشرط على انه علة تامة بالفعل دائما ، وهذا يستلزم عدم وجود علة اخرى للجزاء ، وإلا لكانت العلة فى حال اقترانها ، المجموع ، لا الشرط بصورة مستقلة ، لاستحالة اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد ، فيصبح الشرط جزء العلة ، وهو خلاف الاطلاق الاحوالى المذكور.

ويبطل هذا الوجه بالملاحظات التالية :

أولا : انه لا ينفى لو تم وجود علة اخرى للجزاء ، فيما اذا احتمل كونها مضادة بطبيعتها للشرط ، أو دخالة عدم الشرط فى عليتها للجزاء ، فان احتمال علة اخرى من هذا القبيل لا ينافى الاطلاق الاحوالى للشرط ، إذ ليس من احوال الشرط حينئذ حالة اجتماعه مع تلك العلة.

ثانيا : ان كون الشرط علة للجزاء لا يقتضيه مجرد تفريع الجزاء على الشرط فى الكلام ، الكاشف عن التفريع الثبوتى والواقعى ، وذلك لأن التفريع الثبوتى لا ينحصر فى العلية ، بدليل ان التفريع بالفاء كما يصح بين العلة والمعلول ، كذلك بين الجزء والكل والمتقدم زمانا والمتأخر كذلك ، فلا معين لاستفادة العلية من التفريع.

ثالثا : اذا سلمنا استفادة علية الشرط للجزاء من التفريع ، نقول : إن كون الشرط علة تامة للجزاء ، لا يقتضيه مجرد تفريع الجزاء على الشرط ، لأن التفريع يناسب مع كون المفرع عليه جزء العلة ، وإنما يثبت بالاطلاق ، لأن مقتضى اطلاق ترتب الجزاء على الشرط انه ترتب عليه فى جميع الحالات ، مع انه لو كان الشرط جزء من العلة التامة لاختص

١١٧

ترتب الجزاء على الشرط بحالة وجود الجزء الاخر ، فاطلاق ترتب الجزاء على الشرط فى جميع الحالات ، ينفى كون الشرط جزء العلة ، الا انه انما ينفى النقصان الذاتى للشرط ( والنقصان الذاتى معناه كونه بطبيعته محتاجا فى إيجاد الجزاء الى شىء آخر ) ولا ينفى النقصان العرضى الناشىء من اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد ( حيث إن هذا الاجتماع يؤدى الى صيرورة كل منهما جزء العلة ) ، لأن هذا النقصان العرضى لا يضر باطلاق ترتب الجزاء على الشرط.

الرابع : ويفترض فيه انا استفدنا العلية على أساس سابق ، فيقال فى كيفية استفادة الانحصار : انه لو كانت هناك علة اخرى ، فاما أن تكون كل من العلتين بعنوانها الخاص سببا للحكم ، وإما أن يكون السبب هو الجامع بين العلتين بعنوانها الخاص سببا للحكم ، وإما أن يكون السبب هو الجامع بين العلتين بدون دخل لخصوصية كل منهما فى العلة ، وكلاهما يغر صحيح. أما الأول فلأن الحكم موجود واحد ضخصى فى عالم التشريع ، والموجود الواحد الشخصى يستحيل ان تكون له علتان. وأما الثانى فلأن ظاهر الجملة الشرطية كون الشرط بعنوانه الخاص دخيلا فى الجزاء.

والجواب : بامكان اختيار الافتراض الأول ولا يلزم محذور ، وذلك بافتراض جعلين وحكمين متعددين فى عالم التشريع ، أحدهما معلول للشرط بعنوانه الخاص ، والاخر معلول لعلة اخرى ، فالبيان المذكورإنما يبرهن على عدم وجود علة اخرى لشخص الحكم لا لشخص آخر مماثل.

الخامس : ويفترض فيه أيضا انا استفدنا العلية على أساس سابق ، فيقال فى كيفية استفادة الانحصار : ان تقييد الجزاء بالشرط على نحوين :

١١٨

أحدهما : أن يكون تقييدا بالشرط فقط.

والاخر : أن يكون تقييدا به أو بعدل له على سبيل البدل.

والنحو الثانى ذو مؤونة ثبوتية تحتاج فى مقام التعبير عنها الى عطف العدل بأو ، فاطلاق الجملة الشرطية بدون عطف بـ ( أو ) يعين النحو الأول. وقد ذكر المحقق النائينى رحمه الله (١) ان هذاإطلاق فى مقابل التقييد بـ ( أو ) الذى يعنى تعدد العلة ، كما ان هناك اطلاقا للشرط فى مقابل التقييد بالواو الذى يعنى كون الشرط جزء العلة ، وكون المعطوف عليه بالواو الجزء الاخر.

وكل هذه الوجوه الخمسة تشترك فى الحاجة الى إثبات ان المعلق على الشرط طبيعى الحكم ، وذلك بالاطلاق وإجراء قرينة الحكمة فى مفاد الجزاء.

والتحقيق إن الربط المفترض فى مدلول الجملة الشرطية تارة يكون بمعنى توقف الجزاء على الشرط ، واخرى بمعنى استلزام الشرط واستتباعه للجزاء ، كما عرفنا سابقا.

فعلى الأول يتم إثبات المفهوم بلا حاجة الى ما افترضه المحقق النائينى رحمه الله من اطلاق مقابل للتقييد بأو ، وذلك لأن الجزاء متوقف على الشرط بحسب الفرض ، فلو كان يوجد بدون الشرط لما كان متوقفا عليه.

وعلى الثانى لا يمكن اثبات الانحصار والمفهوم بما سماه الميرزا بالاطلاق المقابل لـ ( أو ) لأو وجود علة اخرى لا يضيق من دائرة الربط

ـــــــــــــــ

(١) أجود التقريرات : ج ١ ص ٤١٨.

١١٩

الاستلزامى بين الشرط والجزاء ، فلا يكون العطف بأو تقييدا لما هو ملدلول الخطاب ، لينفى بالاطلاق ، بل أفادة لمطلب إضافى ، وليس كلما سكت المتكلم عن مكلب إضافى أمكن نفيه بالاطلاق ، ما لم يكن المطلوب السكوت عنه مؤديا الى تضييق وتقييد فى دائرة ملدلول الكلام.

فالأولى من ذلك كله أن يستظهر عرفا كون الجملة الشرطية موضوعة للربط بمعنى التوقف والالتصاق من قبل الجزاء بالشرط ، وعليه فيثبت المفهوم.

وأما ما تحسه من عدم التجوز فى حالات عدم الانحصار ، فيمكن أن يفسر بتفسيرات اخرى ، من قبيل ان هذه الحالات لا تعنى عدم استعمال الجملة الشرطية فى الربط المذكور ، بل عدم إرادة الملطق من مفاد الجزاء ، ومن الواضح ان هذا انما يثلم الاطلاق وقرينة الحكمة ، ولا يعنى استعمال اللفظ فى غير ما وضع له.

الشرط المسوق لتحقق الموضوع :

يلاحظ فى كل جملة شرطية تواجد ثلاثة أشياء وهى : الحكم ، والموضوع ، والشرط. والشرط تارة يكون أمرا مغايرا لموضوع الحكم فى الجزاء ، واخرى يكون محققا لوجوده.

فالأول ، كما فى قولنا : ( اذا جاء زيد فأكرمه ) فان موضوع الحكم زيد ، والشرط المجىء ، وهما متغايران.

والثانى ، كما فى قولنا : ( اذا رزقت ولدا فاختنه ) فان موضوع الحكم باختان هو الولد ، والشرط أن ترزق ولدا ، وهذا الشرط ليس مغايرا للموضوع ، بل هو عبارة اخرى عن تحققه ووجوده.

١٢٠