دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد ، وعلى الهداة الميامين من آله الطاهرين.

٣
٤

الحلقة الثالثة

- ١ -

تمهيد

تعريف علم الاصول.

موضوع علم الاصول.

الحكم الشرعى وتقسيماته.

تقسيم بحوث الكتاب.

٥
٦

تعريف علم الأصول

عرف علم الاصول بأنه « العلم بالقواعد بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعى ». وقد لوحظ على هذا التعريف :

أولا : بأنه يشمل القواعد الفقهية ، كقاعدة أن ما يضمن بصحيحه يضمن بفساده.

وثانيا : بانه لا يشمل الاصول العلمية ، لأنها مجرد أدلة عملية وليست أدلة محرزة ، فلا يثبت بها الحكم الشرعى ، وانما تحدد بها الوظيفة العلمية.

وثالثا : بانه يعم المسائل اللغوية ، كظهور كلمة الصعيد مثلا ، لدخولها فى استنباط الحكم.

أما الملاحظة الاولى : فتندفع بأن المراد بالحكم الشرعى الذى جاء فى التعريف ، جعل الحكم الشرعى على موضوعه الكلى ، فالقاعدة الاصولية ما يستنتج منها جعل من هذا القبيل ، والقاعدة الفقهية هى بنفسها جعل من هذا القبيل ، ولا يستنتج منها الا تطبيقات ذلك الجعل وتفصيلاته. ففرق كبير بين حجية خبر الثقة ، والقاعدة الفقهية المشار اليها ، لأن الاولى يثبت بها جعل وجوب السورة تارة ، وجعل حرمة العصير العنبى اخرى ، وهكذا ، فهى اصولية. وأما الثانية فهى جعل

٧

شرعى للطمان على موضوع كلى ، وبتطبيقه على مصاديقة المختلفة ، كالاجارة والبيع مثلا ، نثبت ضمانات متعددة مجعولة كلها بذلك الجعل الواحد.

وأما الملاحظة الثانية : فقد يجاب عليها تارة باضفاة قيد الى التعريف ، وهو ( او التى ينتهى اليها فى مقام العمل ) كما صنع صاحب الكفاية (١) ، واخرى بتفسير الاستنباط بمعنى الاثبات التنجيزى والتعذيرى ، وهو اثبات تشترك فيه الأدلة المحرزة والاصول العلمية معا.

وأما الملاحظة الثالثة : فهناك عدة محاولات للجواب عليها :

منها : ما ذكره المحقق النائينى قدس الله روحه (٢) من إضافة قيد الكبروية فى التعريف لاخراج ظهور كلمة الصعيد ، فالقاعدة الاصولية يجب ان تقع كبرى فى قياس الاستنباط ، وأما ظهور كلمة الصعيد فهو صغرى فى القياس ، وبحاجة الى كبرى حجية الظهور.

ويرد عليه : أن جملة من القواعد الأصولية لا تقع كبرى أيضا ، كظهور صيغة الأمر فى الوجوب ، وظهور بعض الأدوات فى العموم أو فى المفهوم ، فانها محتاجة الى كبرى حجية الظهور ، فما الفرق بينها وبين المسائل اللغوية؟ وكذلك أيضا مسألة اجتماع الأمر والنهى ، فان الامتناع فيها يحقق صغرى لكبرى التعارض بين خطابى « صل » و « لا تغصب » ، والجواز فيها يحقق صغرى لكبرى حجية الاطلاق.

ومنها : ما ذكره السيد الاستاذ من استبدال قيد الكبروية بصفة اخرى ، وهى ان تكون القاعدة وحدها كافية لاستنباط الحكم الشرعى

ــــــــ

(١) كفاية الأصول : ح ١ ص ٩.

(٢) فوائد الاصول : ج ١ ص ٢٩ ط مؤسسة النشر الاسلامى.

٨

بلا ضم قاعدة اصولية اخرى (١) ، فيخرج ظهور كلمة الصعيد ، لاحتياجه الى ضم ظهور صيغة إفعل فى الوجوب ، ولا يخرج ظهور صيغة إفعل فى الوجوب ، وان كان محتاجا الى كبرى حجية الظهور ، لأن هذه الكبرى ليست من المباحث الاصولية ، للاتفاق عليها.

ونلاحظ على ذلك :

أولا : أن عدم احتياج القاعدة الاصولية الى اخرى ، إن اريد به عدم الاحتياج فى كل الحالات ، فلا يتحقق هذا فى القواعد الاصولية ، لأن ظهور صيغة الأمر فى الوجوب مثلا ، بحاجة فى كثير من الاحيان الى دليل حجية السند ، حينما تجىء الصيغة فى دليل طنى السند. وإن اريد به عدم الاحتياج ، ولو فى حالة واحدة ، فهذا قد يتفق فى غيرها ، كما فى ظهور كلمة الصعيد اذا كانت سائر جهات الدليل قطيعة.

وثانيا : أن ظهور صيغة الأمر فى الوجوب ، وأى ظهور آخر بحاجة الى ضم قاعدة حجية الظهور ، وهى الصولية ، لأن مجرد عدم الخلاف فيها لا يخرجها عن كونها اصولية ، لان المسألة لا تكتسب اصوليتها من الخلاف فيها ، وانما الخلاف ينصب على المسألة الأصولية.

وهكذا يتضح أن الملاحظة الثالثة واردة على تعريف المشهور.

والأصح فى التعريف أن يقال : « علم الاصول هو العلم بالعناصر المشتركة لاستنباط جعل شرعى » وعلى هذا الأساس تخرج المسألة اللغوية ، كظهور كلمة الصعيد ، لأنها لا تشترك إلا فى استنباط حال الحكم المتعلق بهذه المادة فقط ، فلا تعتبر عنصرا مشتركا.

ــــــــ

(١) المحاضرات : ج ١ ص ٨.

٩

موضوع عليم الاصول

موضوع عليم الاصول ، كما تقدم فى الحلقة السابقة « (١) الأدلة المشتركة فى الاستدلال الفقهى ». والبحث الاصولى يدور دائما حول دليليتها.

وعدم تمكن بعض المحققين من تصوير موضوع العلم على النحو الذى ذكرناه ، أدى الى التشكك فى ضرورة أن يكون لكل علم موضوع ، ووقع ذلك موضعا للبحث ، فاستدل على ضرورة وجود موضوع لكل علم بدليلين :

أحدهما : أن التمايز بين العلوم بالموضوعات ، بمعنى أن استقلال علم النحو عن علم الطب ، إنما هو باختصاص كل منهما بموضوع كلى يتميز عن موضوع الاخر ، فلابد من اتفراض الموضوع لكل علم.

وهذا الدليل أشبه بالمصادرة ، لأن كون التمايز بين العلوم بالموضوعات فرع وجود موضوع لكل علم ، وإلا تعين أن يكون التمييز قائما على أساس آخر ، كالغرض.

والاخر : أن التمايز بين العلوم إن كان بالموضوع فلا بد من موضوع لكل علم إذن ، لكى يحصل التمايز ، وإن كان بالغرض على اساس أن

ــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ١٦٠.

١٠

لكل علم غرضا يختلف عن الغرض من العلم الاخر ، فحيث إن الغرض من كل علم واحد ، والواحد لا يصدرإلا من واحد ، فلا بد من افتراض مؤثر واحد فى ذلك الغرض. ولما كانت مسائل العلم متعددة ومتغايرة ، فيستحيل أن تكون هى المؤثرة بما هى مصاديق لأمر واحد. وهذا يعنى فرض قضية كلية تكون بموضوعها جامعة بين الموضوعات ، وبمحمولها جامعة بين المحمولات للمسائل ، وهذه القضية الكلية هى المؤثرة. وبذلك يثبت أن لكل علم موضوع ، وهو موضوع تلك القضية الكلية فيه.

وقد أجيب على ذلك بأن الواحد على ثلاثة اقسام : واحد بالشخص ، وواحد بالنوع ، وهو الجامع الذاتى لأفراده ، وواحد بالعنوان ، وهو الجامع الانتزاعى الذى قد ينتزع من أنواع متخالفة. واستحالة صدور الواحد من الكثير تختص بالأول ، والغرض المفترض لكل علم ليست وحدته شخصية ، بل نوعية أو عنوانية ، فلا ينطبق برهان تلك الاستحالة فى المقام.

وهكذا يرفض بعض المحققين الدليل على وجود موضوع لكل علم ، بل قيد يبرهن على عدمه بأن بعض العلوم تشتمل على مسائل موضوعها الفعل والوجود ، وعلى مسائل موضوعها الترك والعدم ، وتنتسب موضوعات مسائل الى مقولات ماهوية وأجناس متباينة ، كعلم الفقه الذى موضوع مسائل الفعل تارة ، والترك اخرى ، والوضع تارة والكيف اخرى ، فكيف يمكن الحصول على جامع بين موضوعات مسائله؟

وعلى هذا الأساس استساغوا أن لا يكون لعلم الاصول موضوع. غير أنك عرفت أن لعلم الاصول موضوعا كليا على ما تقدم.

١١

الحكم الرعى وتقسيماته

الأحكام التكليفية والوضعية :

قد تقدم فى الحلقة السابقة (١) ان الأحكام الشرعية على قسمين. أحدهما الأحكام التكليفية ، والاخر الأحكام الوضعية ، وقد عرفنا سابقا نبذة عن الأحكام التكليفية. وأما الأحكام الوضعية فهى على نحوين :

الأول : ما كان واقعا موضوعا للحكم التكليفى ، كالزوجية الواقعة موضوعا لوجوب الانفاق ، والملكية الواقعة موضوعا لحرمة تصرف الغير فى المال بدون إذن المالك.

الثانى : ما كان منتزعا عن الحكم التكليفى ، كجزئية السورة للواجب المنتزعة عن الأمر بالمركب منها ، وشرطية الزوال للوجوب المجعول لصلاة الظهر المنتزعة عن جعل الوجوب المشروط بالزوال.

ولا ينبغى الشك فى أن القسم الثانى ليس مجعولا للمولى بالاستقلال ، وإنما هو منتزع عن جعل الحكم التكليفى ، لان ه مع جعل الأمر بالمركب من السورة وغيرها ، يكفى هذا الأمر التكليفى فى انتزاع عنوان الجزئية للواجب من السورة ، وبدونه لا يمكن ان تتحقق الجزئية

ــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ١٦٢.

١٢

لواجب بمجرد إنشائها وجعلها مستقلا.

وبكلمة اخرى أن الجزئية للواجب من الامور الانتزاعية الواقعية ، وإن كان وعاء واقعها هو عالم جعل الوجوب. فلا فرق بينها وبين جزئية الجزء للمركبات الخارجية من حيث كونها أمرا انتزاعيا واقعيا ، وان اختلفت الجزئيتان فى وعاء الواقع ومنشأ الانتزاع ، وما دامت الجزئية أمرا واقعيا ، فلا يمكن أيجادها بالجعل التشريعى والاعتبار.

وأما القسم الأول فمقتضى وقوعه موضوعا للأحكام التكليفية عقلائيا وشرعا ، هو كونه مجعولا بالاستقلال لا منتزعا عن الحكم التكليفى ، لأن موضوعيته للحكم الكليفى تقتضى سبقه عليه رتبة ، مع أن انتزاعه يقتضى تأخره عنه.

وقد تثار شبهة لنفى الجعل الاستقلالى لهذا القسم أيضا بدعوى أنه لغو ، لأنه بدون جعل الحكم التكليفى المقصود ، لا أثر له ، ومعه لا حاجة الى الحكم الوضعى ، بل يمكن جعل الحكم التكليفى ابتداء على نفس الموضوع الذى يفترض جعل الحكم الوضعى عليه.

والواجب على هذه الشبهة : أن الاحكام الوضعية التى تعود الى القسم الأول اعتبارات ذات جذور عقلائية ، الغرض من جعلها تنظيم الأحكام اتلكليفية وتسهيل صياغتها التشريعية ، فلا تكون لغلوا.

شمول الحكم للعالم والجاهل :

وأحكام الشريعة تكليفية ووضعية تشمل فى الغالب العالم بالحكم والجاهل على السواء ، ولا تختص بالعالم. وقد ادعى أن الأخبار الدالة على ذلك مستفيضة ، ويكفى دليلا على ذلك إطلاقات أدلة تلك

١٣

الأحكام. ولهذا أصبحت قاعدة اشتراك الحكم الشرعى بين العالم والجاهل مورد للقبول على وجه العموم بين أصحابنا ، إلا اذا دل دليل خاص على خلاف ذلك فى مورد.

وقد يبرهن على هذا القاعدة عن طريق اثبات استحالة اختصاص الحكم بالعلم ، لأنه يعنى أن العلم بالحكم قد أخذ فى موضوعه ، وينتج عن ذلك تأخر الحكم رتبة عن العلم به وتوقفه عليه ، وفقا لطبيعة العلاقة بين الحكم وموضوعه.

لكن قد مر بنا فى الحلقة السابقة (١) ان المستحيل هو أخذ العلم بالحكم المجعول فى موضوعه ، لا أخذ العلم بالجعل فى موضوع الحكم المجعول فيه.

ويترتب على ما ذكرناه من الشمول ، أن الامارات والاصول التى يرجع اليها المكلف الجاهل فى الشبهة الحكمية أو الموضوعية ، قد تصيب الواقع ، وقد تخطىء. فلشارع إذن أحكام واقعية محفوظة فى حق الجميع ، والأدلة والأصول فى معرض الاصابة والخطأ ، غير ان خطأها مغتفر ، لأن الشارع جعلها حجة ، وهذا معنى القول بالتخطئة.

وفى مقابله ما يسمى بالقول بالتصويب ، وهو ان أحكام الله تعالى ما يؤدى اليه الدليل والأصل ، ومعنى ذلك أنه ليس له من حيث الأساس أحكام ، وانما يحكم تبعا للدليل أو الأصل ، فلا يمكن أن يختلف الحكم الواقعى عنها.

وهناك صورة مخففة للتصويب ، مؤداها أن الله تعالى له أحكام

ــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ٣٣٤.

١٤

واقعية ثابتة من حيث الأساس ، ولكنها مقيدة بعدم قيام الحجة من إمارة أو أصل على خلافها ، فان قامت الحجة على خلافها ، تبدلت واستقر ما قامت عليه الحجة.

وكلا هذين النحوين من التوصيب باطل :

أما الأول فلسناعته ووضوح بطلانه ، حيث إن الأدلة والحجج انما جاءت لتخبرنا عن حكم الله وتحدد موقفنا تجاهه ، فكيف نفترض أنه لا حكم لله من حيث الأساس.

وأما الثانى فلأنه مخالف لظواهر الأدلة ، ولما دل على اشتراك الجاهل والعالم فى الأحكام الواقعية.

الحكم الواقعى والطاهرى

ينقسم الحكم الشرعى ، كما عرفنا سابقا الى واقعى لم تؤخذ فى موضوعه الشك ، وطاهرى أخذ فى موضوعه الشك فى حكم شرعى مسبق. وقد كنا نقصد حتى الان فى حديثنا عن الحكم ، الأحكام الواقعية.

وقد مر بنا فى الحلقة السابقة (١) ان مرحلة الثبوت للحكم الحكم الواقعى تشتمل على ثلاثة عناصر : وهى الملاك والارادة والاعتبار ، وقلناإن الاعتبار ليس عنصرا ضروريا ، بل يستخدم غالبا كعمل تنظيمى وصياغى.

ونريد ان نشير الان الى حقيقة العنصر الثالث الذى يقوم الاعتبار

ــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ١٦٢.

١٥

بدور التعبير عنه غالبا ، وتوضيحه ان المولى كما ان له حق الطاعة على المكلف فيما يريده منه ، كذلك له حق تحديد مركز حق الطاعة فى حالات ارادته شيئا من المكلف. فليس ضروريا اذا تم الملاك فى شىء وأراده المولى أن يجعل نفس ذلك الشىء فى عهدة المكلف مصبا لحق الطاعة ، بل يمكنه أن يجعل مقدمة ذلك الشىء التى يعلم المولى بأنها مودية اليه ، فى عهدة المكلف دون نفس الشىء ، فيكون حق الطاعة منصبا على المقدمة ابتداء ، وان كان الشوق المولوى غير متعلق بها إلا تبعا. وهذا يعنى ان حق الطاعة ينصب على ما يحدده المولى عند ارادته لشىء مصبا له ويدخله فى عهدة المكلف ، والاعتبار هو الذى يستخدم عادة للكشف عن المصب الذى عينه المولى لحق الطاعة ، فقد يتحد مع مصب إرادته وقد يتغاير.

وأما الأحكام الظاهرية فهى مثار لبحث واسع ، وجهت فيه عدة اعتراضات للحكم الظاهرى تبرهن على استحالة جعله عقلا ، ويمكن تلخيص هذه البراهين فيما يلى :

١ ـ ان جعل الحكم الطاهرى يؤدى الى اجتماع الضدين أو المثلين ، لان الحكم الواقعى ثابت فى فرض الشك ، بحكم قاعدة الاشتراك المتقدمة ، وحينئذ فان كان الحكم الظاهرى المجعول على الشاك مغايرا للحكم الواقعى نوعا ، كالحية والحرمة ، لزم اجتماع الضدين والالزم اجتماع المثلين.

وما قيل سابقا : من أنه لا تنافى بين الحكم الواقعى والظاهرى ، لانهما سنخان ، مجرد كلام صورى اذا لم يعط مضمونا محددا ، لأن مجرد تسمية هذا بالواقعى وهذا بالظاهرى ، لا يخرجهما عن كونهما حكمين من

١٦

الأحكام التكليفية ، وهى متضادة.

٢ ـ ان الحكم الظاهرى اذا خالف الحكم الواقعى ، فحيث ان الحكم الواقعى بمبادئه محفوظ فى هذا الفرض ، بحكم قاعدة الاشتراك ، يلزم من جعل الحكم الظاهرى فى هذه الحالة نقض المولى لغرضه الواقعى بالسماح للمكلف بتفويته ، اعتمادا على الحكم الظاهرى فى حالات عدم تطابقه مع الواقع ، وهو يعنى إلقاء المكلف فى المفسدة ، وتوفيت المصالح الواقعية المهمة عليه.

٣ ـ إن الحكم الظاهرى من المستحيل أن يكون منجزا للتكليف الواقعى المشكوك ، ومصححا للعقاب على مخالفة الواقع ، لأن الواقع لا يخرج عن كونه مشكوكا بقيام الأصل أو الأمارة المثبتين للتكليف. ومعه يشمله حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، بناء على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، والأحكام العقلية غير قابلة للتخصيص.

شبهة التضاد ونقض الغرض :

أما الاعتراض الأول فقد اجيب عليه بوجوه :

منها : ما ذكره المحقق النائينى قدس سره (١) ، من ان اشكال التضاد نشأ من افتراض ان الحكم الظاهرى حكم تكليفى ، وان حجية خبر الثقة مثلا ، معناها جعل حكم تكليفى يطابق ما أخبر عنه الثقة من أحكام ، وهو ما يسمى بجعل الحكم المماثل ، فان أخبر الثقة بوجوب شىء وكان حراما فى الواقع ، تمثلت حجيته فى جعل وجوب ظاهرى

ـــــــــــــــ

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ص ١٠٥ ط مؤسسة النشر الاسلامى.

١٧

لذلك الشىء ، وفقا لما أبخر به الثقة فيلزم على هذا الاساس اجتماع الضدين ، وهما الوجوب الظاهرى والحرمة الواقعية.

ولكن الافتراض المذكور خطأ ، لان الصحيح أن معنى حجية خبر الثقة مثلا جعله علما وكاشفا تاما عن مؤداه بالاعتبار ، فلا يوجد حكم تكليفى ظاهرى زائدا على الحكم التكليفى الواقعى ، ليلزم اجتماع حكمين تكليفين متضادين ، وذلك لأن المقصود من جعل الحجية للخبر مثلا ، جعله منجدزا للأحكام الشرعية التى يحكى عنها ، وهذا يحصل بجعله علما وبيانا تاما ، لأن العلم منجز سواء كان علما حقيقة ، كالقطع ، أو علما بحكم الشارع ، كالامارة. وهذا ما يسمى بمسالك جعل الطريقة.

والجواب : على ذلك ان التضاد بين الحكمين التكليفيين ليس بلحاظ اعتباريهما ، حتى يندفع بمجرد تغيير الاعتبار فى الحكم الظاهرى من اعتبار الحكم التكليفى الى اعتبار العلمية والطريقية ، بل بلحاظ مبادىء الحكم ، كما تقدم السابقة (١).

وحينئذ فان قيل بأن الحكم الظاهرى ناشىء من مصلحة ملزمة وشوق فى فعل المكلف الذى تعلق به ذلك الحكم ، حصل التنافى بينه وبين الحرمة الواقعية ، مهما كانت الصيغة الاعتبارية لجعل الحكم الظاهرى. وان قيل بعدم نشوئه من ذلك ، ولو بافتراض قيام المبادىء بنفس جعل الحكم الظاهرى ، زال التنافى بين الحكم الواقعى والحكم الظاهرى ، سواء جعل هذا حكما تكليفيا أو بلسان جعل الطريقة.

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ١٦٤.

١٨

ومنها : ما ذكره السيد الاستاذ (١) من أن التنافى بين الحرمة والوجوب مثلا ، ليس بين اعتباريهما ، بل بين مبادئهما من ناحية ، لان الشىء الواحد لا يمكن أن يكون مبغوضا ومحبوبا ، وبين متطلباتها فى مقام الامتثال من ناحية أخرى ، لأن كلا منهما يستدعى تصرفا مخالفا لما يستدعيه الاخر. فاذا كانت الحرمة واقعية والوجوب ظاهريا ، فلا تنافى بينهما فى المبادىء ، لأننا نفترض مبادى الحكم الظاهرى فى نفس جعله ، لا فى المتعلق المشترك بينه وبين الحكم الواقعى. ولا تنافى بينهما فى متطلبات مقام الامتثال ، لان الحرمة الواقعية غير واصلة ، كما يقتضيه جعل الحكم الظاهرى فى موردها ، فلا امتثال لها ولا متطلبات عملية ، لأن استحقاق الحكم للامتثال فرع الوصول والتنجز.

ولكن نتساءل هل يمكن ان يجعل المولى وجوبا أو حرمة لملاك فى نفس الوجوب أو الحرمة؟ ولو اتفق حقا ان المولى أحسن بأن من مصلحته ان يجعل الوجوب على فعل بدون أن يكون مهتما بوجوده اطلاقا ، وانما دفعه الى ذلك وجود المصلحة فى نفس الجعل ، كما اذا كان ينتظر مكافأة على نفس ذلك من شخص ، ولا يهمه بعد ذلك أن يقع الفعل أو لا يقع ، أقول : لو اتفق ذلك حقا ، فلا أثر لمثل هذاالجعل ، ولا يحكم العقل بوجوب امتثاله. فافتراض ان الأحكام الظاهرية ناشئة من مبادىء فى نفس الجعل ، يعنى تفريغها من حقيقة الحكم ومن أثر عقلا.

فالجواب المذكور فى افتراضه المصلحة فى نفس الجعل غير تام ،

ـــــــــــــــ

(١) مصباح الأصول ج ٢ ص ١٠٨.

١٩

ولكنه فى افتراضه ان الحكم الظاهرى لا ينشأ من مبادىء فى متعلقه بالخصوص تام ، فنحن بحاجة إذن فى تصوير الحكم الظاهرى الى افتراض أن مبادئه ليس من المحتوم تواجدها فى متعلقه بالخصوص ، لئلا يلزم التضاد ، ولكنها فى نفس الوقت ليست قائمة بالجعل فقط ، لئلا يلزم تفريغ الحكم الظاهرى من حقيقة الحكم ، وذلك بأن نقول : إن مبادىء الأحكام الظاهرية هى نفس مبادىء الأحكام الواقعية.

وتوضيح ذلك ان كل حرمة واقعية لها ملاك اقتضائى ، وهو المفسدة والمبغوضية القائمتان بالفعل ، وكذلك الأمر فى الوجوب ، وأما الاباحة فقد تقدم فى الحلقة السابقة (١) ، ان ملاكها قد يكون اقتضائيا ، وقد يكون غير اقتضائى ، لانها قد تنشأ عن وجود ملاك فى أن يكون المكلف مطلق العنان ، وقد تنشأ عن خلو الفعل المباح من أى ملاك.

وعليه فاذا اختلطت المباحات بالمحرمات ، ولم يتميز بعضها عن البعض ، لم يؤد ذلك الى تغير فى الاغراض والملاكات والمبادىء للأحكام الواقعية ، فلا المباح بعدم تمييز المكلف له عن الحرام يصبح مبغوضا ، ولا الحرام بعدم تمييزه عن المباح تسقط مبغوضيته ، فالحرام عغلى حرمته واقعا ، ولا يوجد فيه سوى مبادىء الحرمة. والمباح على اباحته ، ولا توجد فيه سوى مبادىء الاباحة.

غير ان المولى فى مقام التوجيه للمكلف الذى اختلطت عليه المباحات بالمحرمات بين أمرين : أما أن يرخصه فى ارتكاب ما يحتمل اباحته ، وأما أن يمنعه عن ارتكاب ما يحتمل حرمته. ووواضح ان

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ج ١ ص ١٦٤.

٢٠