دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

الحكم الشرعيّ وتقسيمه

عرفنا أنّ علم الاصول يدرس العناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي ، ولأجل ذلك يجب أن نكوّن فكرةً عامّةً منذ البدء عن الحكم الشرعيّ الذي يقوم علم الاصول بتحديد العناصر المشتركة في عملية استنباطه.

الحكم الشرعى : هو التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان. والخطابات الشرعية في الكتاب والسنّة مبرزة للحكم وكاشفة عنه ، وليست هي الحكم الشرعيّ نفسه.

وعلى هذا الضوء يكون من الخطأ تعريف الحكم الشرعيّ بالصيغة المشهورة بين قدماء الاصوليِّين ، إذ يعرِّفونه بأ نّه ( الخطاب الشرعيّ المتعلّق بأفعال المكلَّفين ) (١) ، فإنّ الخطاب كاشف عن الحكم ، والحكم هو مدلول الخطاب.

أضف إلى ذلك : أنّ الحكم الشرعيّ لا يتعلّق بأفعال المكلَّفين دائماً ، بل قد يتعلّق بذواتهم ، أو بأشياء اخرى ترتبط بهم ؛ لأنّ الهدف من الحكم الشرعيّ تنظيم حياة الإنسان ، وهذا الهدف كما يحصل بخطابٍ

٦١

متعلّقٍ بأفعال المكلَّفين ـ كخطاب « صلِّ » و « صُمْ » و « لا تَشرب الخمر » ـ كذلك يحصل بخطابٍ متعلّقٍ بذواتهم ، أو بأشياء اخرى تدخل في حياتهم ، من قبيل الأحكام والخطابات التي تنظِّم علاقة الزوجية وتعتبر المرأة زوجةً للرجل في ظلّ شروطٍ معيّنة ، أو تنظِّم علاقة الملكية وتعتبر الشخص مالكاً للمال في ظلّ شروطٍ معيّنة ، فإنّ هذه الأحكام ليست متعلّقةً بأفعال المكلّفين ، بل الزوجية حكم شرعيّ متعلّق بذواتهم ، والملكية حكم شرعيّ متعلّق بالمال. فالأفضل إذن استبدال الصيغة المشهورة بما قلناه من : « أنّ الحكم الشرعيّ هو التشريع الصادر من الله لتنظيم حياة الإنسان » ، سواء كان متعلّقاً بأفعاله أو بذاته أو بأشياء اخرى داخلةٍ في حياته.

تقسيم الحكم إلى تكليفيٍّ ووضعي :

وعلى ضوء ما سبق يمكننا تقسيم الحكم إلى قسمين :

أحدهما : الحكم الشرعيّ المتعلّق بأفعال الإنسان والموجّه لسلوكه مباشرةً في مختلف جوانب حياته الشخصية والعبادية والعائلية والاجتماعية التي عالجتها الشريعة ونظّمتها جميعاً ، كحرمة شرب الخمر ، ووجوب الصلاة ، ووجوب الإنفاق على بعض الأقارب ، وإباحة إحياء الأرض ، ووجوب العدل على الحاكم.

والآخر : الحكم الشرعيّ الذي لا يكون موجّهاً مباشراً للإنسان في أفعاله وسلوكه ، وهو كلّ حكمٍ يشرّع وضعاً معيّناً يكون له تأثير غير مباشرٍ في سلوك الإنسان ، من قبيل الأحكام التي تنظّم علاقات الزوجية ، فإنّها تشرّع بصورةٍ مباشرةٍ علاقةً معيّنةً بين الرجل والمرأة ، وتؤثّر

٦٢

بصورةٍ غير مباشرةٍ في السلوك وتوجّهه ؛ لأنّ المرأة بعد أن تصبح زوجةً ـ مثلاً ـ تُلزَم بسلوكٍ معيّنٍ تجاه زوجها ، ويسمّى هذا النوع من الأحكام بالأحكام الوضعية.

والارتباط بين الأحكام الوضعية والأحكام التكليفية وثيق ، إذ لايوجد حكم وضعيّ إلاّويوجد إلى جانبه حكم تكليفي. فالزوجية حكم شرعيّ وضعيّ توجد إلى جانبه أحكام تكليفية ، وهي : وجوب إنفاق الزوج على زوجته ، ووجوب التمكين على الزوجة. والملكية حكم شرعيّ وضعيّ توجد إلى جانبه أحكام تكليفيّة ، من قبيل حرمة تصرّف غير المالك في المال إلاّبإذنه ، وهكذا.

أقسام الحكم التكليفي :

ينقسم الحكم التكليفيّ ـ وهو الحكم المتعلّق بأفعال الإنسان والموجّه لها مباشرةً ـ إلى خمسة أقسام ، وهي كمايلي :

١ ـ الوجوب : وهو حكم شرعيّ يبعث نحو الشيء الذي تعلّق به بدرجة الإلزام ، نحو وجوب الصلاة ، ووجوب إعانة المعوزِّين على وليّ الأمر.

٢ ـ الاستحباب : وهو حكم شرعيّ يبعث نحو الشيء الذي تعلّق به بدرجةٍ دون الإلزام ، ولهذا توجد إلى جانبه دائماً رخصة من الشارع في مخالفته ، كاستحباب صلاة الليل.

٣ ـ الحرمة : وهي حكم شرعيّ يزجر عن الشيء الذي تعلّق به بدرجة الإلزام ، نحو حرمة الربا ، وحرمة الزنا ، وبيع الأسلحة من أعداء الإسلام.

٤ ـ الكراهة : وهي حكم شرعيّ يزجر عن الشيء الذي تعلّق به

٦٣

بدرجةٍ دون الإلزام ، فالكراهة في مجال الزجر كالاستحباب في مجال البعث ، كما أنّ الحرمة في مجال الزجر كالوجوب في مجال البعث ، ومثال المكروه : خلف الوعد.

٥ ـ الإباحة : وهي أن يفسح الشارع المجال للمكلّف لكي يختار الموقف الذي يريده ، ونتيجة ذلك أن يتمتّع المكلف بالحرية ، فله أن يفعل وله أن يترك.

٦٤

بحوث عِلم الاصول

٦٥
٦٦

تنويع البحث :

حينما يتناول الفقيه مسألةً كمسألة الإقامة للصلاة ، ويحاول استنباط حكمها يتساءل في البداية : ما هو نوع الحكم الشرعيّ المتعلّق بالإقامة؟ فإن حصل على دليلٍ يكشف عن نوع الحكم الشرعيّ للإقامة كان عليه أن يحدِّد موقفه العمليّ واستنباطه على أساسه ، فيكون استنباطاً قائماً على أساس الدليل.

وإن لم يحصل الفقيه على دليلٍ يعيّن نوع الحكم الشرعيّ المتعلّق بالإقامة فسوف يظلّ الحكم الشرعيّ مجهولاً للفقيه ، وفي هذه الحالة يستبدل الفقيه سؤاله الأوّل الذي طرحه في البداية بسؤالٍ جديدٍ كمايلي : ما هي القواعد التي تحدّد الموقف العمليّ تجاه الحكم الشرعيّ المجهول؟ وهذه القواعد تسمّى بالاصول العملية ، ومثالها : أصالة البراءة ، وهي القاعدة القائلة : « إنّ كلّ إيجابٍ أو تحريمٍ مجهولٍ لم يقم عليه دليل فلا أثر له على سلوك الإنسان ، وليس الإنسان ملزماً بالاحتياط من ناحيته والتقيّد به » ، ويقوم الاستنباط في هذه الحالة على أساس الأصل العمليّ بدلاً عن الدليل. والفرق بين الأصل والدليل : أنّ الأصل لا يحرز الواقع

٦٧

وإنّما يحدّد الوظيفة العملية تجاهه ، وهو نحوٌ من الاستنباط ، ولأجل هذا يمكننا تنويع عملية الاستنباط إلى نوعين : أحدهما : الاستنباط القائم على أساس الدليل ، كالاستنباط المستمدّ من نصٍّ دالٍّ على الحكم الشرعي. والآخر : الاستنباط القائم على أساس الأصل العملي ، كالاستنباط المستمدّ من أصالة البراءة.

ولمّا كان علم الاصول هو : العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط فهو يزوِّد كِلا النوعين بعناصره المشتركة ، وعلى هذا الأساس ننوِّع البحوث الاصولية إلى نوعين ، نتكلّم في النوع الأوّل عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط التي تتمثّل في أدلةٍ محرزةٍ للحكم ، ونتكلّم في النوع الثاني عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط التي تتمثّل في اصولٍ عملية.

العنصر المشترك بين النوعين :

ويوجد بين العناصر المشتركة في عملية الاستنباط عنصر مشترك يدخل في جميع عمليات استنباط الحكم الشرعيّ بكلا نوعيها : ما كان منها قائماً على أساس الدليل ، وما كان قائماً على أساس الأصل العملي.

وهذا العنصر هو حجّية القطع. ونريد بالقطع : انكشاف قضيةٍ من القضايا بدرجةٍ لا يشوبها شكّ. ومعنى حجّية القطع يتلخّص في أمرين :

أحدهما : أنّ العبد إذا تورّط في مخالفة المولى نتيجةً لعمله بقطعه واعتقاده فليس للمولى معاقبته ، وللعبد أن يعتذر عن مخالفته للمولى بأنّه عمل على وفق قطعه ، كما إذا قطع العبد خطأً بأنّ الشراب الذي أمامه ليس خمراً ، فشربه اعتماداً على قطعه ، وكان الشراب خمراً في الواقع

٦٨

فليس للمولى أن يعاقبه على شربه للخمر ما دام قد استند إلى قطعه ، وهذا أحد الجانبين من حجّية العلم ، ويسمّى بجانب المعذِّرية.

والآخر : أنّ العبد إذا تورّط في مخالفة المولى نتيجةً لتركه العمل بقطعه فللمولى أن يعاقبه ويحتجّ عليه بقطعه ، كما إذا قطع العبد بأنّ الشراب الذي أمامه خمر ، فشربه ، وكان خمراً في الواقع فإنّ من حقِّ المولى أن يعاقبه على مخالفته ؛ لأنّ العبد كان على علمٍ بحرمة الخمر وشربه فلا يُعذَر في ذلك ، وهذا هو الجانب الثاني من حجّية القطع ، ويسمّى بجانب المنجّزية.

وبديهيّ أنّ حجّية القطع بهذا المعنى الذي شرحناه لا يمكن أن تستغني عنها أيّ عمليةٍ من عمليات استنباط الحكم الشرعي ؛ لأنّ الفقيه يخرج من عملية الاستنباط دائماً بنتيجة ، وهي العلم بالموقف العمليّ تجاه الشريعة وتحديده على أساس الدليل ، أو على أساس الأصل العملي ، ولكي تكون هذه النتيجة ذات أثرٍ لا بدّ من الاعتراف مسبقاً بحجّية القطع ، إذ لو لم يكن القطع حجّةً ولم يكن صالحاً للاحتجاج به من المولى على عبده ، ومن العبد على مولاه لكانت النتيجة التي خرج بها الفقيه من عملية الاستنباط لغواً ؛ لأنّ علمه ليس حجّة ، ففي كلّ عملية استنباطٍ لا بدّ إذن أن يدخل عنصر حجّية القطع ؛ لكي تعطي العملية ثمارها ويخرج منها الفقيه بنتيجةٍ إيجابية.

وبهذا أصبحت حجّية القطع أعمّ العناصر الاصولية المشتركة وأوسعها نطاقاً.

وليست حجّية القطع عنصراً مشتركاً في عمليات استنباط الفقيه للحكم الشرعيّ فحسب ، بل هي في الواقع شرط اساسيّ في دراسة

٦٩

الاصوليِّ للعناصر المشتركة نفسها أيضاً ، فنحن حينما ندرس ـ مثلاً ـ مسألة حجّية الخبر أو حجّية الظهور العرفيّ إنّما نحاول بذلك تحصيل العلم بواقع الحال في تلك المسألة ، فإذا لم يكن العلم والقطع حجّةً فأيّ جدوى في دراسة حجّية الخبر والظهور العرفي؟!

فالفقيه والاصوليّ يستهدفان معاً من بحوثهما تحصيل العلم بالنتيجة الفقهية ( تحديد الموقف العمليّ تجاه الشريعة ) أو الاصولية ( العنصر المشترك ) ، فبدون الاعتراف المسبق بحجّية العلم والقطع تصبح بحوثهما عبثاً لا طائل تحته.

وحجّية القطع ثابتة بحكم العقل ، فإنّ العقل يحكم بأنّ للمولى سبحانه حقّ الطاعة على الإنسان في كلّ ما يعلمه من تكاليف المولى وأوامره ونواهيه ، فإذا علم الإنسان بحكمٍ إلزاميٍّ من المولى ( وجوبٍ أو حرمةٍ ) دخل ذلك الحكم الإلزاميّ ضمن نطاق حقّ الطاعة ، وأصبح من حقّ المولى على الإنسان أن يمتثل ذلك الإلزام الذي علم به ، فإذا قصّر في ذلك أو لم يؤدِّ حقّ الطاعة كان جديراً بالعقاب ، وهذا هو جانب المنجّزية في حجّية القطع. ومن ناحيةٍ اخرى يحكم العقل أيضاً بأنّ الإنسان القاطع بعدم الإلزام من حقّه أن يتصرّف كما يحلو لَه ، وإذا كان الإلزام ثابتاً في الواقع والحالة هذه فليس من حقّ المولى على الإنسان أن يمتثله ، ولا يمكن للمولى أن يعاقبه على مخالفته ما دام الإنسان قاطعاً بعدم الإلزام ، وهذا هو جانب المعذّرية في حجّية القطع.

والعقل كما يدرك حجّية القطع كذلك يدرك أنّ الحجّية لا يمكن أن تزول عن القطع ، بل هي لازمة له ، ولا يمكن حتّى للمولى أن يجرِّد القطع من حجّيته ويقول : إذا قطعت بعدم الإلزام فأنت لست معذوراً ،

٧٠

أو يقول : إذا قطعت بالإلزام فلك أن تهمله ، فإنّ كلّ هذا مستحيل بحكم العقل ؛ لأنّ القطع لا تنفكّ عنه المعذّرية والمنجّزية بحالٍ من الأحوال ، وهذا معنى القاعدة الاصولية القائلة باستحالة صدور الردع من الشارع عن القطع.

وقد تقول : هذا المبدأ الاصوليّ يعني أنّ العبد إذا تورّط في عقيدةٍ خاطئةٍ فقطع ـ مثلاً ـ بأنّ شرب الخمر حلال فليس للمولى أن ينبِّهه على الخطأ.

والجواب : أنّ المولى بإمكانه التنبيه على الخطأ وإخبار العبد بأنّ الخمر ليس مباحاً ؛ لأنّ ذلك يزيل القطع من نفس العبد ويردّه إلى الصواب ، والمبدأ الاصوليّ الآنف الذكر إنّما يقرِّر استحالة صدور الردع من المولى عن العمل بالقطع مع بقاء القطع ثابتاً ، فالقاطع بحلّية شرب الخمر يمكن للمولى أن يزيل قطعه ، ولكن من المستحيل أن يردعه عن العمل بقطعه ويعاقبه على ذلك ما دام قطعه ثابتاً ويقينه بالحلّية قائماً.

٧١

النوع الأوّل

الأدلّة المحرزة

مبادئ عامّة

الدليل الذي يستند إليه الفقيه في استنباط الحكم الشرعي : إمّا أن يؤدّي إلى العلم بالحكم الشرعي ، أوْ لا :

ففي الحالة الاولى يكون الدليل قطعياً ، ويستمدّ شرعيته وحجّيته من حجّية القطع ؛ لأنّه يؤدّي إلى القطع بالحكم ، والقطع حجّة بحكم العقل فيتحتّم على الفقيه أن يقيم على أساسه استنباطه للحكم الشرعي. ومن نماذجه القانون القائل : « كلّما وجب الشيء وجبت مقدّمته » ، فإنّ هذا القانون يعتبر دليلاً قطعياً على وجوب الوضوء بوصفه مقدمةً للصلاة.

وأمّا في الحالة الثانية فالدليل ناقص ؛ لأنّه ليس قطعيّاً ، والدليل الناقص إذا حكم الشارع بحجّيته وأمر بالاستناد إليه في عملية الاستنباط على الرغم من نقصانه أصبح كالدليل القطعيّ وتحتّم على الفقيه الاعتماد عليه. ومن نماذج الدليل الناقص الذي جعله الشارع حجّةً : خبر الثقة ، فإنّ خبر الثقة لا يؤدّي إلى العلم ؛ لاحتمال الخطأ فيه أو الشذوذ ، فهو دليل ظنّيّ ناقص وقد جعله الشارع حجّةً وأمر باتّباعه وتصديقه ، فارتفع بذلك في عملية الاستنباط إلى مستوى الدليل

٧٢

القطعي.

وإذا لم يحكم الشارع بحجّية الدليل الناقص فلا يكون حجّة ، ولا يجوز الاعتماد عليه في الاستنباط ؛ لأنّه ناقص يحتمل فيه الخطأ.

وقد نشكّ ولا نعلم هل جعل الشارع الدليل الناقص حجّةً ، أوْ لا؟ ولا يتوفّر لدينا الدليل الذي يثبت الحجية شرعاً أو ينفيها. وعندئذٍ يجب أن نرجع إلى قاعدةٍ عامّةٍ يقرِّرها الاصوليّون بهذا الصدد ، وهي القاعدة القائلة : « إنّ كلّ دليلٍ ناقصٍ ليس حجّةً ما لم يثبت بالدليل الشرعيّ العكس » ، وهذا هو معنى ما يقال في علم الاصول من : أنّ « الأصل في الظن هو عدم الحجّية ، إلاّما خرج بدليلٍ قطعي ». ونستخلص من ذلك : أنّ الدليل الجدير بالاعتماد عليه فقهيّاً هو الدليل القطعي ، أو الدليل الناقص الذي ثبتت حجّيته شرعاً بدليلٍ قطعي.

تقسيم البحث :

والدليل المحرز في المسألة الفقهية سواء كان قطعيّاً أوْ لا ينقسم إلى قسمين :

الأوّل : الدليل الشرعي ، ونعني به كلّ ما يصدر من الشارع ممّا له دلالة على الحكم الشرعي ، ويشتمل ذلك على الكتاب الكريم ، وعلى السنّة ، وهي : قول المعصوم وفعله وتقريره.

الثاني : الدليل العقلي ، ونعني به القضايا التي يدركها العقل ويمكن أن يستنبط منها حكم شرعي ، كالقضية العقلية القائلة بأنّ « إيجاب شيءٍ يستلزم إيجاب مقدّمته ».

والقسم الأوّل ينقسم بدوره إلى نوعين :

٧٣

أحدهما : الدليل الشرعيّ اللفظي ، وهو كلام الشارع كتاباً وسنّة.

والآخر : الدليل الشرعيّ غير اللفظي ، كفعل المعصوم وتقريره ، أي سكوته عن فعل غيره بنحوٍ يدلّ على قبوله.

وفي القسم الأوّل بكلا نوعيه نحتاج إلى أن نعرف :

أوّلاً : دلالة الدليل الشرعي ، وأ نّه على ماذا يدلّ بظهوره العرفي.

وثانياً : حجّية تلك الدلالة وذلك الظهور ووجوب التعويل عليه.

وثالثاً : صدور الدليل من الشارع حقّاً.

ومن هنا كان البحث في القسم الأوّل موزَّعاً إلى ثلاثة أبحاثٍ وفقاً لهذا التفصيل : فالبحث الأوّل في تحديد الدلالة ، والبحث الثاني في إثبات حجّية ما لَه من دلالةٍ وظهور ، والبحث الثالث في إثبات صدور الدليل من الشارع.

٧٤

١ ـ الدليل الشرعي

أ ـ الدليل الشرعي اللفظي.

الدلالة

تمهيد :

لمّا كانت دلالة الدليل اللفظيّ ترتبط بالنظام اللغويّ العامّ للدلالة نجد من الراجح أن نمهِّد للبحث في دلالات الأدلّة اللفظية بدراسةٍ إجماليةٍ لطبيعة الدلالة اللغوية ، وكيفية تكوّنها ، ونظرةٍ عامّةٍ فيها.

ما هو الوضع والعلاقة اللغوية؟

في كلّ لغةٍ تقوم علاقات بين مجموعةٍ من الألفاظ ومجموعةٍ من المعاني ، ويرتبط كلّ لفظٍ بمعنىً خاصٍّ ارتباطاً يجعلنا كلّما تصوّرنا اللفظ انتقل ذهننا فوراً إلى تصوّر المعنى ، وهذا الاقتران بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى وانتقال الذهن من أحدهما إلى الآخر هو ما نطلق عليه اسم « الدلالة » ، فحين نقول : « كلمة الماء تدلّ على السائل الخاص » نريد بذلك أنّ تصوّر كلمة « الماء » يؤدّي إلى تصوّر ذلك السائل الخاصّ ، ويسمّى اللفظ « دالاًّ » والمعنى « مدلولاً ». وعلى هذا الأساس نعرف أنّ العلاقة بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى تشابه إلى درجةٍ مّا العلاقة التي نشاهدها في حياتنا الاعتيادية بين النار والحرارة ، أو بين طلوع الشمس

٧٥

والضوء ، فكما أنّ النار تؤدّي إلى الحرارة وطلوع الشمس يؤدّي إلى الضوء كذلك تصوّر اللفظ يؤدّي إلى تصوّر المعنى ، ولأجل هذا يمكن القول بأنّ تصوّر اللفظ سبب لتصوّر المعنى ، كما تكون النار سبباً للحرارة وطلوع الشمس سبباً للضوء ، غير أنّ علاقة السببية بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى مجالها الذهن ؛ لأنّ تصوّر اللفظ والمعنى إنّما يوجد في الذهن ، وعلاقة السببية بين النار والحرارة أو بين طلوع الشمس والضوء مجالها العالم الخارجي.

والسؤال الأساسيّ بشأن هذه العلاقة التي توجد في اللغة بين اللفظ والمعنى هو السؤال عن مصدر هذه العلاقة وكيفية تكوّنها ، فكيف تكوّنت علاقة السببية بين اللفظ والمعنى؟ وكيف أصبح تصوّر اللفظ سبباً لتصور المعنى ، مع أنّ اللفظ والمعنى شيئان مختلفان كلّ الاختلاف؟ ويذكر في علم الاصول عادةً اتّجاهان في الجواب على هذا السؤال الأساسي. يقوم الاتّجاه الأوّل على أساس الاعتقاد بأنّ علاقة اللفظ بالمعنى نابعة من طبيعة اللفظ ذاته ، كما نبعت علاقة النار بالحرارة من طبيعة النار ذاتها ، فلفظ « الماء » ـ مثلاً ـ له بحكم طبيعته علاقة بالمعنى الخاصّ الذي نفهمه منه ، ولأجل هذا يؤكّد هذا الاتّجاه أنّ دلالة اللفظ على المعنى ذاتية ، وليست مكتسبةً من أيِّ سببٍ خارجي.

ويعجز هذا الاتّجاه عن تفسير الموقف تفسيراً شاملاً ؛ لأنّ دلالة اللفظ على المعنى وعلاقته به إذا كانت ذاتيةً وغير نابعةٍ من أيِّ سببٍ خارجيٍّ ، وكان اللفظ بطبيعته يدفع الذهن البشريّ إلى تصوّر معناه فلماذا يعجز غير العربيّ عن الانتقال إلى تصوّر معنى كلمة « الماء » عند تصوّره للكلمة؟ ولماذا يحتاج إلى تعلّم اللغة العربية لكي ينتقل ذهنه إلى

٧٦

المعنى عند سماع الكلمة العربية وتصوّرها؟ إنّ هذا دليل على أنّ العلاقة التي تقوم في ذهننا بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى ليست نابعةً من طبيعة اللفظ ، بل من سببٍ آخر يتطلّب الحصول عليه إلى تعلّم اللغة ، فالدلالة إذن ليست ذاتية.

وأمّا الاتّجاه الآخر فينكر بحقٍّ الدلالة الذاتية ، ويفترض أنّ العلاقات اللغوية بين اللفظ والمعنى نشأت في كلّ لغةٍ على يد الشخص الأوّل ، أو الأشخاص الأوائل الذين استحدثوا تلك اللغة وتكلّموا بها ، فإنّ هؤلاء خصّصوا ألفاظاً معيّنةً لمعانٍ خاصّة ، فاكتسبت الالفاظ نتيجةً لذلك التخصيص علاقةً بتلك المعاني ، وأصبح كلّ لفظٍ يدلّ على معناه الخاصّ ، وذلك التخصيص الذي مارسه اولئك الأوائل ونتجت عنه الدلالة يسمّى بـ « الوضع » ، ويسمّى المُمارِس له « واضعاً » ، واللفظ « موضوعاً » ، والمعنى « موضوعاً له ».

والحقيقة أنّ هذا الاتّجاه وإن كان على حقٍّ في إنكاره للدلالة الذاتية ولكنّه لم يتقدّم إلاّخطوةً قصيرهً في حلّ المشكلة الأساسية التي لا تزال قائمةً حتّى بعد الفرضية التي يفترضها أصحاب هذا الاتّجاه ، فنحن إذا افترضنا معهم أنّ علاقة السببية نشأت نتيجةً لعملٍ قام به مؤسِّسو اللغة ، إذ خصَّصوا كلّ لفظٍ لمعنىً خاصٍّ فلنا أن نتساءل : ما هو نوع هذا العمل الذي قام به هؤلاء المؤسِّسون؟ وسوف نجد أنّ المشكلة لا تزال قائمة ؛ لأنّ اللفظ والمعنى ما دام لا يوجد بينهما علاقة ذاتية ، ولا أيّ ارتباطٍ مسبق ، فكيف استطاع مؤسِّس اللغة أن يوجِد علاقة السببية بين شيئين لا علاقة بينهما؟ وهل يكفي مجرّد تخصيص المؤسِّس للَّفظ وتعيينه له سبباً لتصوّر المعنى لكي يصبح سبباً لتصوّر المعنى حقيقةً؟ وكلّنا نعلم

٧٧

أنّ المؤسِّس وأيَّ شخصٍ آخر يعجز أن يجعل من حمرة الحبر الذي يكتب به سبباً لحرارة الماء ، ولو كرَّر المحاولة مائة مرّةٍ قائلاً : خصَّصتُ حمرة الحبر الذي أكتبُ به لكي تكون سبباً لحرارة الماء. فكيف استطاع أن ينجح في جعل اللفظ سبباً لتصوّر المعنى بمجرّد تخصيصه لذلك دون أيّ علاقةٍ سابقةٍ بين اللفظ والمعنى؟. وهكذا نواجه المشكلة كما كنّا نواجهها ، فليس يكفي لحلِّها أن نفسِّر علاقة اللفظ بالمعنى على أساس عمليةٍ يقوم بها مؤسِّس اللغة ، بل يجب أن نفهم محتوى هذه العملية ؛ لكي نعرف كيف قامت علاقة السببية بين شيئين لم تكن بينهما علاقة.

والصحيح في حلّ المشكلة : أنّ علاقة السببية التي تقوم في اللغة بين اللفظ والمعنى توجد وفقاً لقانونٍ عامٍّ من قوانين الذهن البشري.

والقانون العام هو : أنّ كلّ شيئين إذا اقترن تصوّر أحدهما مع تصوّر الآخر في ذهن الإنسان مراراً عديدةً ولو على سبيل الصدفة قامت بينهما علاقة ، وأصبح أحد التصوّرين سبباً لانتقال الذهن إلى تصوّر الآخر.

ومثال ذلك في حياتنا الاعتيادية : أن نعيش مع صديقين لا يفترقان في مختلف شؤون حياتهما نجدهما دائماً معاً ، فإذا رأينا بعد ذلك أحد هذين الصديقين منفرداً ، أو سمعنا باسمه أسرع ذهننا إلى تصوّر الصديق الآخر ؛ لأنّ رؤيتهما معاً مراراً كثيرةً أوجدت علاقةً في تصوّرنا ، وهذه العلاقة تجعل تصوّرنا لأحدهما سبباً لتصوّر الآخر.

وقد يكفي أن تقترن فكرة أحد الشيئين بفكرة الآخر مرّةً واحدةً لكي تقوم بينهما علاقة ، وذلك إذا اقترنت الفكرتان في ظرفٍ مؤثّر ، ومثاله : إذا سافر شخص إلى بلدٍ ومُنِيَ هناك بالملاريا الشديدة ، ثمّ شُفِي منها ورجع فقد ينتج ذلك الاقتران بين الملاريا والسفر إلى ذلك البلد

٧٨

علاقة بينهما ، فمتى تصوّر ذلك البلد انتقل ذهنه إلى تصوّر الملاريا. وإذا درسنا على هذا الأساس علاقة السببية بين اللفظ والمعنى زالت المشكلة ، إذ نستطيع أن نفسِّر هذه العلاقة بوصفها نتيجةً لاقتران تصوّر المعنى بتصوّر اللفظ بصورةٍ متكرّرة أو في ظرفٍ مؤثّر ، الأمر الذي أدّى إلى قيام علاقةٍ بينهما ، كما وقع في الحالات المشار إليها.

ويبقى علينا بعد هذا أن نتساءل : كيف اقترن تصوّر اللفظ بمعنىً خاصٍّ مراراً كثيرة ، أو في ظرفٍ مؤثّرٍ فأنتج قيام العلاقة اللغوية بينهما؟

والجواب على هذا السؤال : أنّ بعض الألفاظ اقترنت بمعانٍ معيّنةٍ مراراً عديدةً بصورةٍ تلقائيةٍ فنشأت بينهما العلاقة اللغوية. وقد يكون من هذا القبيل كلمة « آه » إذ كانت تخرج من فم الإنسان بطبيعته كلّما أحسّ بالألم ، فارتبطت كلمة « آه » في ذهنه بفكرة الألم ، فأصبح كلّما سمع كلمة « آه » انتقل ذهنه إلى فكرة الألم.

ومن المحتمل أنّ الإنسان قبل أن توجد لديه أيُّ لغةٍ قد استرعى انتباهه هذه العلاقة التي قامت بين الألفاظ ، من قبيل « آه » ومعانيها نتيجةً لاقترانٍ تلقائيٍّ بينهما ، وأخذ يُنشِئ على منوالها علاقاتٍ جديدة بين الألفاظ والمعاني. وبعض الألفاظ قرنت بالمعنى في عمليةٍ واعيةٍ مقصودةٍ لكي تقوم بينهما علاقة سببية. وأحسن نموذجٍ لذلك : الأعلام الشخصية ، فأنتَ حين تريد أن تسمّي ابنك « عليّاً » تقرن اسم عليٍّ بالوليد الجديد لكي تُنشِئ بينهما علاقةً لغوية ويصبح اسم « عليٍّ » دالاًّ على وليدك ، ويسمّى عملك هذا « وضعاً » ، فالوضع هو : عملية تقرن بها لفظاً بمعنىً نتيجتها أن يقفز الذهن إلى المعنى عند تصوّر اللفظ دائماً.

ونستطيع أن نشبِّه الوضع على هذا الأساس بما تصنعه حين تسأل

٧٩

عن طبيب العيون فيقال لك : هو ( جابر ) ، فتريد أن تركِّز اسمه في ذاكرتك وتجعل نفسك تستحضره متى أردت ، فتحاول أن تقرن بينه وبين شيءٍ قريبٍ من ذهنك ، فتقول مثلاً : أنا بالأمس قرأت كتاباً أخذ من نفسي مأخذاً كبيراً اسم مؤلِّفه جابر ، فلأتذكّر دائماً أنّ اسم طبيب العيون هو اسم صاحب ذلك الكتاب. وهكذا توجِد عن هذا الطريق ارتباطاً خاصّاً بين صاحب الكتاب والطبيب جابر ، وبعد ذلك تُصبِح قادراً على استذكار اسم الطبيب متى تصوّرت ذلك الكتاب.

وهذه الطريقة في إيجاد الارتباط لا تختلف جوهرياً عن اتّخاذ الوضع كوسيلةٍ لإيجاد العلاقة اللغوية.

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ من نتائج الوضع : انسباق المعنى الموضوع له وتبادره إلى الذهن بمجرّد سماع اللفظ بسبب تلك العلاقة التي يحقّقها الوضع. ومن هنا يمكن الاستدلال على الوضع بالتبادر ، وجعله علامةً على أنّ المعنى المتبادر هو المعنى الموضوع له ؛ لأنّ المعلول يكشف عن العلّة كشفاً إنّياً ، ولهذا عُدَّ التبادر من علامات الحقيقة.

ما هو الاستعمال؟

بعد أن يوضع اللفظ لمعنىً يصبح تصوّر اللفظ سبباً لتصوّر المعنى ، ويأتي عندئذٍ دور الاستفادة من هذه العلاقة اللغوية التي قامت بينهما ، فإذا كنت تريد أن تعبِّر عن ذلك لشخصٍ آخر وتجعله يتصوّره في ذهنه فبإمكانك أن تنطق بذلك اللفظ الذي أصبح سبباً لتصوّر المعنى ، وحين يسمعه صاحبك ينتقل ذهنه إلى معناه بحكم علاقة السببية بينهما ، ويسمّى استخدامك اللفظ بقصد إخطار معناه في ذهن السامع

٨٠