دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

هذا بالقسم الاول من استصحاب الكلى.

الحالة الثانية : أن يعلم بدخول أحد شخصين إلى المسجد قبل ساعة ، إما زيد ، وإما خالد ، غير أن زيدا فعلا نراه خارج المسجد ، فاذا كان هو الداخل فقد خرج ، وأما خالد فلعله إذا كان هو الداخل لا يزال باقيا ، فهنا إذا لوحظ كل من الفردين فأركان الاستصحاب فيه غير متواجدة ، لان زيدا لا شك فى عدم وجوده فعلا ، وخالد لا يقين بوجوده سابقا ليستصحب ، ولكن إذا لوحظ طبيعى الانسان أمكن القول بأن وجوده متيقن حدوثا ومشكوك بقاء ، فيجرى استصحابة إذا كان له أثر ، ويسمى هذا بالقسم الثانى من استصحاب الكلى.

الحالة الثالثة : أن يعلم بدخول زيد وبخروجه أيضا ، ولكن يشك فى أن خالدا قد دخل فى نفس اللحظة التى خرج فيها زيد أو قبل ذلك على نحو لم يخل المسجد من إنسان ، فهنا لا مجال لاستصحاب الفرد كما تقدم فى الحالة السابقة. وقد يقال بجريان استصحاب الكلى ، لان جامع الانسان متيقن حدوثا مشكوك بقاء ، ويسمى هذا بالقسم الثالث من استصحاب الكلى. والصحيح عدم جريانه لاختلال الركن الثالث ، فان وجود الجامع المعلوم حدوثا مغاير لوجوده المشكوك والمحتمل بقاء ، فلم يتحد متعلق اليقين ومتعلق الشك ، وبكلمة اخرى : إن الجامع لو كان موجودا فعلا فهو موجود بوجود آخر غير ما كان حدوثا. خلافا للحالة الثانية ، فان الجامع لو كان موجودا فيها بقاء فهو موجود بعين الوجود الذى حدث ضمنه.

٤٤١

٤ ـ الاستصحاب فى حالات الشك فى التقدم والتأخر :

تارة يشك فى أن الواقعة الفلانية حدثت أو لا فيجرى استصحاب عدمها ، أو يشك فى أنها ارتفعت أو لا فيجرى استصحاب بقائها ، واخرى نعلم بأنها حدثت أو ارتفعت ولكنا لا نعلم بالضبط تاريخ حدوثها أو ارتفاعها ، مثلا نعلم أن زيدا الكافر قد أسلم ، ولكن لا نعلم هل أسلم صباحا أو بعد الظهر؟ فهذا يعنى أن فترة ما قبل الظهر هى فترة الشك ، فاذا كان لبقاء زيد كافرا فى هذه الفترة وعدم إسلامه فيها أثر مصحح للتعبد جرى إستصحاب بقائه كافرا وعدم إسلامه إلى الظهر ، وثبت بهذا الاستصحاب كل أثر شرعى يترتب على بقائه كافرا وعدم إسلامه فى هذه الفترة ، ولكن إذا كان هناك أثر شرعى مترتب على حدوث الاسلام بعد الظهر فلا يترتب هذا الاثر على الاستصحاب المذكور ، لان الحدوث كذلك لازم تكوينى لعدم الاسلام قبل الظهر ، فهو بمثابة نبات اللحية بالنسبة إلى حياة زيد.

ومن ناحية اخرى نلاحظ أن موضوع الحكم الشرعى قد يكون بكامله مجرى للاستصحاب إثباتا أو نفيا ، وقد يكون مركبا من جزءين أو أكثر ، ويكون أحد الجزءين ثابتا وجدانا ، والاخر غير متيقن.

ففى هذه الحالة لا معنى لا جراء الاستصحاب بالنسبة إلى الجزء الثابت وجدانا كما هو واضح ، ولكن قد تتواجد أركانه وشروطه لاثبات الجزء الاخر المشكوك فيثبت الحكم ، أو لنفيه فينفى الحكم ، ومثال ذلك : أن يكون إرث الحفيد من جده مترتبا على موضوع مركب من جزءين : أحدهما موت الجد ، والاخر عدم إسلام الاب إلى حين موت

٤٤٢

الجد ، وإلا كان مقدما على الحفيد ، فاذا افترضنا أن الجد مات يوم الجمعة وأن الابن كان كافرا فى حياة أبيه ولا ندرى هل أسلم على عهده أولا؟ فهنا الجزء الاول من موضوع إرث الحفيد محرز وجدانا ، والجزء الثانى وهو عدم إسلام الاب مشكوك ، فيجرى استصحاب الجزء الثانى ، وبضم الاستصحاب إلى الوجد ان نحرز موضوع الحكم الشرعى لارث الحفيد ، ولكن على شرط أن يكون الاثر الشرعى مترتبا على ذات الجزءين ، وأماإذا كان مترتبا على وصف الاقتران والاجتماع بينهما فلا جدوى للاستصحاب المذكور ، لان الاقتران والاجتماع لازم عقلى وأثر تكوينى للمستصحب ، وقد عرفنا أن الاثار الشرعية المترتبة على المستصحب بواسطة عقلية لا تثبت.

وقد يفترض أن الجزء الثانى معلوم الارتفاع فعلا بأن كنا نعلم فعلا أن الاب قد أسلم ، ولكن نشك فى تاريخ ذلك وأنه هل أسلم قبل وفاة أبيه أو بعد ذلك ، وفى مثل ذلك يجرى استصحاب كفر الاب إلى حين وفاة الجد ، ولا يضر بذلك أننا نعلم بأن الاب لم يعد كافرا فعلا ، لان المهم تواجد الشك فى الظرف الذى يراد إجراء الاستصحاب بلحاظه ، وهو فترة حياة الجد إلى حين وفاته فيستصحب بقاء الجزء الثانى من الموضوع ، وهو كفر الاب إلى حين حدوث الجزء الاول وهو موت ( الجد ) فيتم الموضوع.

وكما قد يجرى الاستصحاب على هذا الوجه لاحراز الموضوع بضم الاستصحاب إلى الوجدان ، كذلك قد يجرى لنفى أحد الجزءين ، ففى نفس المثال إذا كان الاب معلوم الاسلام فى حياة أبيه وشك فى كفره عند وفاته ، جرى استصحاب إسلامه وعدم كفره إلى حين موت الاب ،

٤٤٣

ونفينا بذلك إرث الحفيد من الجد سواء كنا نعلم بكفر الاب بعد وفاة أبيه أو لا.

[ حالة مجهولى التاريخ ]

وعلى هذا الاساس قد يفترض أن موضوع الحكم الشرعى مركب من جزءين [ من قبيل كفر الاب وموت الجد ] وأحد الجزءين [ كفر الاب ] معلوم الثبوت ابتداء ويعلم بارتفاعه ، ولكن لا ندرى بالضبط متى ارتفع. والجزء الاخر [ موت الجد ] معلوم العدم ابتداء ويعلم بحدوثه ، ولكن لا ندرى بالضبط متى حدث. وهذا يعنى أن هذا الجزءإذا كان قد حدث قبل أن يرتفع ذلك الجزء فقد تحقق موضوع الحكم الشرعى لوجود الجزءين معا فى زمان واحد ، وأما إذا كان قد حدث بعد ارتفاع الجزء الاخر فلا يجدى فى تكميل موضوع الحكم.

وفى هذه الحالة إذا نظرناإلى الجزء المعلوم الثبوت ابتداء [ كفر الاب ] نجد أن المحتمل بقاءه إلى حين حدوث الثانى [ موت الجد ] ، فنستصحب بقاءه إلى ذلك الحين ، لان أركان الاستصحاب متواجدة فيه ، ويترتب على ذلك ثبوت الحكم ، وإذا نظرنا إلى الجزء الثانى المعلوم عدمه ابتداء [ موت الجد ] نجد أن من المحتمل بقاء عدمه إلى حين ارتفاع الجزء الاول [ كفر الاب ] ، فنستصحب عدمه إلى ذلك الحين ، لان أركان الاستصحاب متواجدة فيه ، ويترتب على ذلك نفى الحكم ، والاستصحابان متعارضان لعدم إمكان جريانهما معا ولا مرجح لاحدهما على الاخر فيسقطان معا ، وتسمى هذه الحالة بحالة مجهولى التاريخ.

وحالة مجهولى التاريخ لها ثلاث صور :

٤٤٤

إحداها : أن يكون كل من زمان ارتفاع الجزء الاول [ كفر الاب ] وزمان حدوث الجزء الثانى [ موت الجد ] مجهولا.

ثانيتها : ان يكون زمان ارتفاع الجزء الاول [ كفر الاب ] معلوما ولنفرضه الظهر ولكن زمان حدوث الجزء الثانى [ موت الجد ] مجهول ولا يعلم هل هو قبل الظهر أو بعده.

ثالثتها : أن يكون زمان حدوث الجزء الثانى [ موت الجد ] معلوما ولنفرضه الظهر ولكن زمان ارتفاع الجزء الاول [ كفر الاب ] مجهول ولا يعلم هل هو قبل الظهر أو بعده.

وفى الصورة الاولى لا شك فى جريان كل من الاستصحابين المشار إليهما بمعنى استحقاقه للجريان ووقوع التعارض بينهما.

وأما فى الصورة الثانية فقد يقال بأن استصحاب بقاء الجزء الاول [ كفر الاب ] لا يجرى ، لان بقاءه ليس مشكوكا ، بل هو معلوم قبل الظهر ، ومعلوم العدم عند الظهر ، فكيف نستصحبه؟. وإنما يجرى استصحاب عدم حدوث الجزء الثانى [ موت الجد ] فقط.

وينعكس الامر فى الصورة الثالثة فيجرى استصحاب بقاء الجزء الاول دون عدم حدوث الجزء الثانى لنفس السبب ، وهذا ما يعبر عنه بأن الاستصحاب يجرى فى مجهول التاريخ دون معلومه.

وقد اعترض على ذلك بأن معلوم التاريخ إنما يكون معلوما حين ننسبه إلى ساعات اليوم الاعتيادية ، وأما حين ننسبه إلى الجزء الاخر المجهول التاريخ فلا ندرى هل هو موجود حينه أو لا؟ فيمكن جريان استصحابه إلى حين وجود الجزء الاخر ، وهذا ما يعبر عنه بأن الاستصحاب فى كل من مجهول التاريخ ومعلوم التاريخ يجرى فى نفسه

٤٤٥

ويسقط الاستصحابان بالمعارضة ، لان ما هو معلوم التاريخ إنما يعلم تاريخه فى نفسه لا بتاريخه النسبى ، أى مضافاإلى الاخر ، فهما معا مجهولان بلحاظ التاريخ النسبى.

[ توارد الحالتين ]

وقد تفترض حالتان متضادتان كل منهما بمفردها موضوع لحكم شرعى ، كالطهارة من الحدث والحدث ، أو الطهارة من الخبث والخبث ، فاذا علم المكلف باحدى الحالتين وشك فى طرو الاخرى استصحب الاولى ، وإذا علم بطرو كلتا الحالتين ولم يعلم المتقدمة والمتأخرة منهما تعارض استصحاب الطهارة مع استصحاب الحدث أو الخبث ، لان كلا من الحالتين متيقنة سابق ومشكوكة بقاء ، ويسمى أمثال ذلك بتوارد الحالتين.

٥ ـ الاستصحاب فى حالات الشك السببى والمسببى :

تقدم أن الاستصحاب إذا جرى وكان المستصحب موضوعا لحكم شرعى ترتب ذلك الحكم الشرعى تعبدا على الاستصحاب المذكور ، ومثاله أن يشك فى بقاء طهارة الماء فنستصحب بقاء طهارته ، وهذه الطهارة موضوع للحكم بجواز شربه فيترتب جواز الشرب على الاستصحاب المذكور ، ويسمى بالنسبة إلى جواز الشرب بالاستصحاب الموضوعى ، لانه ينقح موضوع هذا الاثر الشرعى. وأما إذا لا حظنا جواز الشرب نفسه فى المثال فهو أيضا متيقن الحدوث ومشكوك البقاء ، لان الماء حينما كان طاهرا يقينا كان جائز الشرب يقينا أيضا ، وحينما أصبح

٤٤٦

مشكوك الطهارة فهو مشكوك فى جواز شربه أيضا. ولكن استصحاب جواز الشرب وحده لا يكفى لاثبات طهارة الماء ، لان الطهارة ليست أثرا شرعيا لجواز الشرب بل العكس هو الصحيح ، وتنزيل مشكوك البقاء منزلة الباقى ناظر إلى الاثار الشرعية كما تقدم. فمن هنا يعرف أن استصحاب الموضوع يحرز به الحكم تعبدا وعمليا ، وأما استصحاب الحكم فلا يحرز به الموضوع كذلك ، وكل استصحابين من هذا القبيل يطلق على الموضوعى منهما اسم ( الاصل السببى ) لانه يعالج المشكلة فى مرحلة الموضوع الذى هو بمثابة السبب الشرعى للحكم ، ويطلق على الاخر منهم اسم ( الاصل المسببى ) لانه يعالج المشكلة فى مرحلة الحكم الذى هو بمثابة المسبب شرعا للموضوع.

وفى الحالة التى شرحنا فيها فكرة الاصل السببى والمسببى لا يوجد تعارض بين الاصلين فى النتيجة لان طهارة الماء وجواز الشرب متلائمان ، ولكن هناك حالات لا يمكن أن تجتمع فيها نتيجة الاصل السببى ونتيجة الاصل المسببى معا فيتعارض الاصلان ، ونجد مثال ذلك فى نفس الماء المذكور سابق إذا استصحبنا طهارته وغسلنا به ثوبا نجسا ، فان من أحكام طهارة الماء أن يطهر الثوب بغسله به ، وهذا معناه أن استصحاب طهارة الماء يحرز تعبدا وعمليا أن الثوب قد طهر لانه أثر شرعى للمستصحب ، ولكن إذا لا حظنا الثوب نفسه نجد أنا على يقين من نجاسته وعدم طهارته سابقا ، ونشك الان فى أنه طهر أو لا ، لاننا لا نعلم ماإذا كان قد غسل بماء طاهر حقا ، وبذلك تتواجد الاركان لجريان استصحاب النجاسة وعدم الطهارة فى الثوب ، ونلاحظ بناء على هذا أن الاصل السببى الذى يعالج المشكلة فى مرحلة الموضوع

٤٤٧

والسبب ويجرى فى حكم الماء نفسه يتعبدنا بطهارة الثوب ، وأن الاصل المسببى الذى يعالج المشكلة فى مرحلة الحكم والمسبب ويجرى فى حكم الثوب نفسه يتعبدنا بعدم طهارة الثوب ، وهذا معنى التنافى بين نتيجتى الاصلين وتعارضهما وتوجد هنا قاعدة تقتضى تقديم الاصل السببى على الاصل المسببى ، وهى : أنه كلما كان أحد الاصلين يعالج مورد الاصل الثانى دون العكس قدم الاصل الاول على الثانى.

وهذه القاعدة تنطبق على المقام ، لان الاصل السببى يحرز لنا تعبدا طهارة الثوب لانها أثر شرعى لطهارة الماء ، ولكن الاصل المسببى لا يحرز لنا نجاسة الماء ولا ينفى طهارته لان ثبوت الموضوع ليس أثرا شرعيا لحكمه ، وعلى هذا الاساس يقدم الاصل السببى على الاصل المسببى.

وقد عبر الشيخ الانصارى والمشهور عن ذلك بأن الاستصحاب السببى حاكم على الاستصحاب المسببى ، لان الركن الثانى فى المسببى هو الشك فى نجاسة الثوب وطهارته ، والركن الثانى فى السببى هو الشك فى طهارة الماء ونجاسته ، والاصل السببى باحرازه الاثر الشرعى وهو طهارة الثوب يهدم الركن الثانى للاصل المسببى ، ولكن الاصل المسببى باعتبار عجزه عن إحراز نجاسة الماء كما تقدم لا يهدم الركن الثانى للاصل السببى ، فالاصل السببى تام الاركان فيجرى ، والاصل المسببى قد انهدم ركنه الثانى فلا يجرى.

وقد عممت فكرة الحكومة للاصل السببى على الاصل المسببى لحالات التوافق بين الاصلين أيضا ، فاعتبر الاصل المسببى طوليا دائما ومترتبا على عدم جريان الاصل السببى سواء كان موافقا له أو مخالفا ، لان الاصل السببى إذا جرى ألغى موضوع الاصل المسببى على أى حال.

٤٤٨

تعارض الادلة

١ ـ التعارض بين الادلة المحرزة.

٢ ـ التعارض بين الاصول العملية.

٣ ـ التعارض بين الادلة المحرزة والاصول العملية.

٤٤٩
٤٥٠

عرفنا فيما سبق أن الادلة على قسمين وهما :

الادلة المحرزة والادلة العملية أو الاصول العملية ، ومن هنا يقع البحث تارة فى التعارض بين دليلين من الادلة المحرزة ، واخرى فى التعارض بين دليلين عمليين ، وثالثة فى التعارض بين دليل محرز ودليل عملى.

فالكلام فى ثلاثة فصول نذكرها فيما يلى تباعا إن شاء الله تعالى.

٤٥١

١ ـ التعارض بين الادلة المحرزة

الدليل المحرز كما تقدم إما دليل شرعى لفظى ، أو دليل شرعى غير لفظى ، أو دليل عقلى ، والدليل العقلى لا يكون حجة إلاإذا كان قطعيا ، وأما الدليل الشرعى بقسميه فقد يكون قطعيا وقد لا يكون قطعيا مع كونه حجة.

فاذا تعارض الدليل العقلى مع دليل ما فان كان الدليل العقلى قطعيا قدم على معارضه على أى حال ، لانه يقتضى القطع بخطأ المعارض ، وكل دليل يقطع بخطئه يسقط عن الحجية ، وإن كان الدليل العقلى غير قطعى فهو ليس حجة فى نفسه لكى يعارض ما هو حجة من الادلة الاخرى.

وإذا تعارض دليلان شرعيان فتارة يكونان لفظيين معا ، واخرى يكون أحدهما لفظيا دون الاخر ، وثالثة يكونان معا من الادلة الشرعية غير اللفظية ، والمهم فى المقام الحالة الاولى لانها الحالة التى يدخل ضمنها جل موارد التعارض التى يواجهها الفقيه فى الفقه ، وسنقصر حديثنا عليها. فنقول : إن التعارض بين دليلين شرعيين لفظيين عبارة عن التنافى

٤٥٢

بين مدلولى الدليلين على نحو يعلم بأن المدلولين لا يمكن أن يكونا ثابتين فى الواقع معا. ولاجل تحديد مركز هذا التنافى نقدم مقدمتين :

الاولى : يجب أن نستذكر فيها ما تقدم من أن الحكم ينحل إلى جعل ومجعول ، وأن الجعل ثابت بتشريع المولى للحكم ، وأن المجعول لا يثبت إلا عند تحقق موضوعه وقيوده خارجا ، ومن الواضح أن الدليل الشرعى اللفظى متكفل لبيان الجعل لا لبيان المجعول ، لان المجعول يختلف من فردإلى آخر فهو موجود فى حق هذا وغير موجود فى حق ذاك تبعا لتواجد القيود ، فقوله مثلا : « لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا » (١) ، مدلوله جعل وجوب الحج على المستطيع ، لا تحقق الوجوب المجعول ، لان هذا تابع لوجود الاستطاعة ، ولا نظر للمولى إلى ذلك ، فمدلول الدليل دائما هو الجعل لا المجعول.

والثانية : أن التنافى قد يكون بين جعلين وقد يكون بين مجعولين مع عدم التنافى بين الجعلين ، ومثال الاول : جعل وجوب الحج على المستطيع وجعل حرمة الحج على المستطيع ، فان التنافى هنا بين الجعلين ، لان الاحكام التكليفية متضادة كما تقدم ، ومثال الثانى : جعل وجوب الوضوء على الواجد للماء وجعل وجوب التيمم على الفاقد له ، فان الجعلين هنا لا تنافى بينهماإذ يمكن صدور هما معا من الشارع ، ولكن المجعولين لا يمكن فعليتهما معا ، لان المكلف إن كان واجدا للماء ثبت المجعول الاول عليه وإلا ثبت المجعول الثانى ، ولا يمكن ثبوت المجعولين معا على مكلف واحد فى حالة واحدة.

__________________

(١) سورة آل عمران. آية ٩٧.

٤٥٣

وقد لا يوجد تناف بين الجعلين ولا بين المجعولين ، ولكن التنافى فى مرحلة امتثال الحكمين المجعولين بمعنى أنه لا يمكن امتثالهما معا ، وذلك كما فى حالات الامرين بالضدين على وجه الترتب بنحو يكون الامر بكل من الضدين مثلا مقيدا بترك الضد الاخر ، فان بالامكان صدور جعلين لهذين الامرين معا ، كما أن بالامكان أن يصبح مجعولا هما فعليين معا ، وذلك فيماإذا ترك المكلف كلا الضدين فيكون كل من المجعولين ثابتا لتحقق قيده ، ولكن التنافى واقع بين امتثاليهما إذ لا يمكن للمكلف أن يمتثلهما معا ، ويتلخص من ذلك أن التنافى وعدم إمكان الاجتماع تارة بين نفس الجعلين ، واخرى بين المجعولين ، وثالثة بين الامتثالين.

وإذا اتضحت هاتان المقدمتان فنقول : إذا ورد دليلان على حكمين وحصل التنافى ، فان كان التنافى بين الجعلين لهذين الحكمين فهو تناف بين مدلولى الدليلين ، لما عرفت فى المقدمة الاولى من أن مدلول الدليل هو الجعل ، ويتحقق التعارض بين الدليلين حينئذ لان كلا منهما ينفى مدلول الدليل الاخر ، وإن لم يكن هناك تناف بين الجعلين بل كان بين المجعولين أو بين الامتثالين ، فلا يرتبط هذا التنافى بمدلول الدليل لما عرفت من أن فعلية المجعول فضلا عن مقام امتثاله ليست مدلولة للدليل ، فلا يحصل التعارض بين الدليلين لعدم التنافى بين مدلوليهما.

وتسمى حالات التنافى بين المجعولين مع عدم التنافى بين الجعلين بالورود ، ويعبر عن الدليل الذى يكون المجعول فيه نافيا لموضوع المجعول فى الدليل الاخر بالدليل الوارد ، ويعبر عن الدليل الاخر بالمورود.

وينبغى أن يعلم أن مصطلح ( الورود ) لا يختص بماإذا كان أحد الدليلين نافيا لموضوع الحكم فى الاخر ، بل ينطبق على ماإذا كان موجدا

٤٥٤

لفرد من موضوع الحكم فى الدليل الاخر.

ومثاله : دليل حجية الامارة بالنسبة إلى دليل جواز الاقناء بحجة ، فان الاول يحقق فردا من موضوع الدليل الثانى.

وتسمى حالات التنافى بين الامتثالين مع عدم التنافى بين الجعلين والمجعولين بالتزاحم ، ومن هنا نعرف أن حالات الورود وحالات التزاحم خارجة عن نطاق التعارض بين الادلة ، ولا ينطبق عليها أحكام هذا التعارض ، بل حالات الورود يتقدم فيها الوارد على المورود دائما ، وحالات التزاحم يتقدم فيها الاهم على الاقل أهمية ، كما تقدم فى مباحث الدليل العقلى.

ويتلخص من ذلك كله أن التعارض بين الدليلين هو التنافى بين مدلولى هذين الدليلين الحاصل من أجل التضاد بين الجعلين المفادين بهما.

وهذا التنافى على قسمين لانه تارة يكون ذاتيا ، كما فى ( صل ) و ( لا تصل ). واخرى يكون عرضيا حصل بسبب العلم الاجمالى من الخارج بأن المدلولين غير ثابتين معا ، كما فى ( صل الجمعة ) و ( صل الظهر ) حيث أننا نعلم بعدم وجوب الصلاتين معا ، فانه لو لا هذا العلم لامكن ثبوت المفادين معا ، وأما مع هذا العلم فلا يمكن ثبوتهما معا ، بل يكون كل من الدليلين مكذبا للاخر ونافيا له بالدلالة الالتزامية ، ولا فرق بين هذين القسمين فى الاحكام التالية.

الحكم الاول قاعدة الجمع العرفى :

والحكم الاول من أحكام تعارض الادلة اللفظية ما تقرره قاعدة

٤٥٥

الجمع العرفى ، وحاصلها أن التعارض إذا لم يكن مستقرا فى نظر العرف بل كان أحد الدليلين قرينة على تفسير مقصود الشارع من الدليل الاخر ، وجب الجمع بينهما بتأويل الدليل الاخر وفقا للقرينة.

ونقصد بالقرينة الكلام المعد من قبل المتكلم لاجل تفسير الكلام الاخر.

والوجه فى هذه القاعدة واضح ، فان المتكلم إذا صدر منه كلامان وكان الظاهر من أحدهما ينافى الظاهر من الاخر ، ولكن أحد الكلامين كان قد اعد من قبل المتكلم لتفسير مقصوده من الكلام المقابل له ، فلا بد أن يقدم ظاهر ما أعده المتكلم كذلك على الاخر ، لاننا يجب أن نفهم مقصود المتكلم من مجموع كلاميه وفقا للطريقة التى يقررها.

وإعداد المتكلم أحد الكلامين لتفسير مقصوده من الكلام الاخر على نحوين :

النحو الاول : الاعداد الشخصى ، أى الاعداد من قبل شخص المتكلم. وهذا الاعداد قد يفهم بعبارة صريحة ، كماإذا قال فى أحد كلاميه أقصد بكلامى السابق كذا ، وقد يفهم بظهور الكلام فى كونه ناظرا إلى مفاد الكلام الاخر وإن لم تكن العبارة صريحة فى ذلك.

والنظر تارة يكون بلسان التصرف فى موضوع القضية التى تكفلها الكلام الاخر ، واخرى بلسان التصرف فى محمولها.

ومثال الاول : أن يقول : ( الربا حرام ) ، ثم يقول : ( لا ربا بين الوالد وولده ). فان الكلام الثانى ناظرإلى مدلول الكلام الاول بلسان التصرف فى موضوع الحرمة ، إذ ينفى انطباقه على الربا بين الوالد وولده ، وليس المقصود نفيه حقيقة وإنما هو مجرد لسان وادعاء للتنبيه على أن

٤٥٦

الكلام الثانى ناظرإلى مفاد الكلام الاول ليكون قرينة على تحديد مدلوله.

ومثال الثانى أن يقول : ( لا ضرر فى الاسلام ) ، أى لا حكم يؤدى إلى الضرر ، فان هذا ناظر إجمالا إلى الاحكام الثابتة فى التسريعة وينفى وجودها فى حالة الضرر ، فيكون قرينة على أن المراد بأدلة سائر الاحكام تشريعها فى غير حالة الضرر.

وكل دليل ثبت إعداده الشخصى للقرينية على مفاد الاخر بسوقه مساق التفسير صريحا أو بظهوره فى النظر إلى الموضوع أو المحمول يسمى بالدليل الحاكم ، ويسمى الاخر بالدليل المحكوم ، ويقدم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم بالقرينية. ونتيجة تقديم الحاكم فى الامثلة المذكورة تضييق دائرة الدليل المحكوم وإخراج بعض الحالات عن إطلاقه.

ولا يختص الحاكم بالتضييق ، بل قد يكون موسعا ، كما فى حالات التنزيل نظير قولهم : « الطواف بالبيت صلاة » ، فانه حاكم على أدلة أحكام الصلاة من قبيل [ : ( لا صلاة إلا بطهور » لانه ناظرإلى تلك الاحكام وموصع لموضوعها بالتنزيل إذ ينزل الطواف منزلة الصلاة.

ويلاحظ من خلال ما ذكرناه التشابه بين الدليل الوارد النافى لموضوع الحكم فى الدليل المورود ، وبين الدليل الحاكم الناظر إلى موضوع القضية فى الدليل المحكوم ، ولكنهما يختلفان اختلافا أساسيا ، لان الدليل الوارد ناف لموضوع الحكم فى الدليل المورود حقيقة ، وأما الدليل الحاكم المذكور فهو يستعمل النفىكمجرد لسان لاجل التنبيه على أنه ناظر إلى الدليل المحكوم وقرينة عليه.

ويترتب على هذا الاختلاف الاساسى بين الدليل الوارد والدليل

٤٥٧

الحاكم المذكور ، أن تقدم الدليل الوارد بالورود لا يتوقف على أن يكون فيه ما يشعر أو يدل على نظره إلى الدليل المورود ولحاظه له ، لانه ينفى موضوع الدليل المورود ، ومع نفيه لموضوعه ينتفى حكمه حتما سواء كان ناظراإليه أولا ، وأما الدليل الحاكم فهو حتى لو كان لسانه لسان نفى الموضوع لا ينفى موضوع الدليل المحكوم حقيقة ، وإنما يستعمل هذا اللسان لكى ينفى الحكم ، فمفاد الدليل الحاكم لبا وحقيقة نفى الحكم ولكن بلسان نفى الموضوع ، وهذا اللسان يؤتى به لكى يثبت نظر الدليل الحاكم إلى مفاد الدليل المحكوم وتقدمه عليه بالقرينية ، وكلما انتفى ظهوره فى النظر انتفت قرينيته ، وبالتالى زال السبب الموجب لتقديمه.

النحو الثانى : الاعداد العرفى النوعى بمعنى أن المتكلم العرفى استقر بناؤه عموما كلما تكلم بكلامين من هذا القبيل أن يجعل من أحدهما المعين قرينة على الاخر ، وحيث ان الاصل فى كل متكلم أنه يجرى وفق المواصفات العرفية العامة للمحاورة فيكون ظاهر حاله هو ذلك.

ومن حالات الاعداد العرفى النوعى إعداد الكلام الاخص موضوعا ليكون قرينة ومحددا لمفاد الكلام الاعم موضوعا ، ومن هنا تعين تخصيص العام بالخاص ، وتقييد المطلق بالمقيد ، بل تقديم كل ظاهر على ما هو أقل منه ظهورا بدرجة ملحوظة وواضحة عرفا ، لوجود بناءات عرفية عامة على أن المتكلم يعول على الاخص والاظهر فى تفسير العام والظاهر.

وتسمى جميع حالات القرينية بموارد الجمع العرفى ، ويسمى التعارض فى موارده بالتعارض غير المستقر ، لانه يحل بالجمع العرفى ،

٤٥٨

تمييزا له عن التعارض المستقر ، وهو التعارض الذى لا يتيسر فيه الجمع العرفى.

الحكم الثانى قاعدة تساقط المتعارضين :

وإذا لم يكن أحد الدليلين قرينة بالنسبة إلى الدليل الاخر فالتعارض مستقر فى نظر العرف ، وحينئذ نتكلم عن القاعدة بلحاظ دليل الحجية ، بمعنى أنناإذا لم يوجد أمامنا سوى دليل الحجية العام الذى ينتسب إليه المتعارضان فما هو مقتضى هذا الدليل بالنسبة إلى هذه الحالة؟.

وقبل أن نشخص ما هو مقتضى دليل الحجية نستعرض الممكنات ثبوتا ، ثم نعرض دليل الحجية على هذه الممكنات لنرى وفاءه بأى واحد منها.

ولا ستعراض الممكنات ثبوتا نذكر عددا من الفروض لنميز بين ما هو ممكن منها وما هو مستحيل ثبوتا وواقعا.

الافتراض الاول : أن يكون الشارع قد جعل الحجية لكل من الدليلين المتعارضين. وهذا مستحيل لان هذين الدليلين كل واحد منهما يكذب الاخر فكيف يطلب الشارع منا أن نصدق المكذب بالكسر والمكذب بالفتح معا.

فان قلت : إن الحجية لا تطلب منا تصديق الدليل بمعنى الاقتناع الوجدانى به ، بل تصديقه بمعنى العمل على طبقه وجعله منجزا ومعذرا.

قلت : نعم الامر كذلك ، غير أن التصديق العملى بالمتكاذبين غير ممكن أيضا ، فدليل الحرمة معنى حجيته الجرى على أساس أن هذا حرام

٤٥٩

وتنجز الحرمة علينا ، والدليل المعارض يكذبه وينفى الحرمة ومعنى حجيته الجرى على أساس أن هذا ليس بحرام وإطلاق العنان والتأمين من ناحية الحرمة ، ولا يمكن أن تجتمع هاتان الحجيتان.

الافتراض الثانى : أن يكون الشارع قد جعل الحجية لكل منهما ، ولكنها حجية مشروطة بعدم الالتزام بالاخر ، فهناك حجيتان مشروطتان ، فاذا التزم المكلف بأحد الدليلين لم يكن الاخر حجة عليه ، بل الحجة عليه ما التزم به خاصة.

وهذا غير معقول أيضا ، إذ فى حالة عدم التزام المكلف بكل من الدليلين يكون كل منهما حجة عليه ، فيعود محذور الافتراض الاول ، وهو ثبوت الحجية للمكذب والمكذب بالفتح وبالكسر فى وقت واحد.

الافتراض الثالث : أن يكون الشارع قد جعل الحجية لاحدهما المعين ، بأن اختار أحد المتعارضين لميزة فى نظره فجعله حجة دون الاخر ، وهذا افتراض معقول.

الافتراض الرابع : أن يكون قد جعل حجية واحدة تخييرية بمعنى أنه أوجب العمل والالتزام بمؤدى أحد الدليلين ، فلا بد للمكلف إما أن يلتزم بمفاد دليل الحرمة مثلا ، فيبنى على حرمة الفعل وتكون الحرمة منجزة عليه ، وإما أن يلتزم بالدليل المعارض الدال على الاباحة مثلا ، فيلتزم بالاباحة وتكون الحرمة مؤمنا عنها حينئذ ، وهذا الافتراض معقول أيضا ، وأثره أنه لا يسمح للمكلف باهمال الدليلين المتعارضين والرجوع إلى أصل عملى أو دليل عام قد يثبت به حكم ثالث غير ما دل عليه كلا الدليلين المتعارضين.

الافتراض الخامس : أن يكون الشارع قد أسقط كلا الدليلين عن

٤٦٠