دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

يلاحظ على ذلك أنه التزام بالتقدير ، وهو خلاف الاصل فى المحاورة ، والتزام بالتكرار لان عدم وجوب الوضوء يكون قد بين مرة قبل الجملة الشرطية ، ومرة فى جزائها المقدر.

وتندفع الملاحظة الاولى ، بأن التقدير فى مثل المقام ليس على خلاف الاصل لوجود القرينة المتصلة على تعيينه وبيانه ، حيث صرح بعدم وجوب الوضوء قبل الجملة الشرطية مباشرة. وتندفع الملاحظة الثانية بأن التكرار الملفق من التصريح والتقدير ليس على خلاف الطبع ، وليس هذا تكرارا حقيقيا ، كما هو واضح ، فهذا الاحتمال لاغبار عليه من هذه الناحية.

الثانى : أن يكون الجزاء قوله : ( فانه على يقين من وضوئه ) ، فيتخلص بذلك من التقدير ، ولكن يلاحظ حينئذ أنه لا ربط بين الشرط والجزاء ، لوضوح أن اليقين بالوضوء غير مترتب على عدم اليقين بالنوم ، بل هو ثابت على أى حال ، ومن هنا يتعين حينئذ لاجل تصوير الترتب بين الشرط والجزاء أن يحمل قوله : ( فانه على يقين من وضوئه ) على أنه جملة انشائية يراد بها الحكم بأنه متيقن تعبدا ، لا خبرية تتحدث عن اليقين الواقعى له بوقوع الوضوء منه ، فان اليقين التعبدى بالوضوء يمكن أن يكون مترتبا على عدم اليقين بالنوم لانه حكم شرعى ، خلافا لليقين الواقعى بالوضوء فانه ثابت على أى حال ، ولكن جمل الجملة المذكورة على الانشاء خلاف ظاهرها عرفا.

الثالث : أن يكون الجزاء قوله : ( ولا ينقض اليقين بالشك ) ، وأما قوله : ( فانه على يقين من وضوئه ) فهو تمهيد للجزاء أو تتميم للشرط.

وهذا الاحتمال أضعف من سابقه ، لان الجزاء لا يناسب الواو ،

٤٢١

والشرط وتتميماته لا تناسب الفاء.

وهكذا يتبين أن الاحتمال الاول هو الاقوى ، ولكن يبقى أن ظاهر قوله : ( فانه على يقين من وضوئه ) كونه على يقين فعلى بالوضوء ، وهذا إنما ينسجم مع حمل اليقين على اليقين التعبدى الشرعى كما يفترضه الاحتمال الثانى ، لان اليقين إذا حملناه على اليقين التعبدى الشرعى ، فهو يقين فعلى بالوضوء ، ولا ينسجم مع حمله على اليقين الواقعى ، لان اليقين الواقعى بالوضوء ليس فعليا ، بل المناسب حينئذ أن يقال فانه كان على يقين من وضوئه ، فظهور الجملة المذكورة فى فعلية اليقين قد يتخذ قرينة على حملها على الانشائية.

فان قيل : أو ليس المكلف عند الشك فى النوم على يقين واقعى فعلا بأنه كان متطهرا ، فلماذا تفترضون أن فعلية اليقين لا تنسجم مع حمله على اليقين الواقعى؟.

قلنا : إن إسناد النقض إلى الشك فى جملة ( ولا ينقض اليقين بالشك ) إنما يصح إذا الغيت خصوصية الزمان وجرد الشىء المتيقن والمشكوك عن وصف الحدوث والبقاء كما تقدم توضيحه ، وبهذا اللحاظ يكون الشك ناقضا لليقين ولا يكون اليقين فعليا حينئذ.

ولكن الظاهر أن ظهور جملة ( فانه على يقين من وضوئه ) فى أنه جملة خبرية لا انشائية أقوى من ظهور اليقين فى الفعلية ، وهكذا نعرف أن مفاد الرواية أنه إذا لم يستيقن بالنوم فلا يجب الوضوء ، لانه كان على يقين من وضوئه ثم شك ، ولا ينبغى أن ينقض اليقين بالشك.

الجهة الثانية : فى أن الرواية هل هى ناظرة إلى الاستصحاب أوإلى قاعدة المقتضى والمانع؟ فقد يقال : إن الاستصحاب يتعلق فيه الشك

٤٢٢

ببقاء المتيقن ، وقد فرض فى الرواية اليقين بالوضوء ، والوضوء ليس له بقاء ليعقل الشك فى بقائه ، وإنما الشك فى حدوث النوم وينطبق ذلك على قاعدة المقتضى والمانع ، لان الوضوء مقتض للطهارة والنوم رافع ومانع عنها ، فالمقتضى فى مورد الرواية معلوم والمانع مشكوك فيبنى على أصالة عدم المانع وثبوت المقتضى بالفتح.

ويرد على ذلك أن الوضوء قد فرض له فى الشريعة بقاء واستمرار ، ولهذا عبر عن الحدث بأنه ناقض للوضوء ، وقيل للمصلى انه على وضوء ، وليس ذلك إلا لافتراضه أمرا مستمرا فيتعلق الشك ببقائه وينطبق على الاستصحاب.

ونظرا إلى ظهورا قوله : ( ولا ينقض اليقين بالشك ) فى وحدة متعلق اليقين والشك يتعين تنزيل الرواية على الاستصحاب.

الجهة الثالثة : بعد افتراض تكفل الرواية للاستصحاب يقع الكلام فى أنه هل يستفاد منها جعل الاستصحاب على وجه كلى كقاعدة عامة ، أو لا تدل على أكثر من جريان الاستصحاب فى باب الوضوء عند الشك فى الحدث؟.

قد يقال بعدم الدلالة على الاستصحاب كقاعدة عامة لان اللام فى قوله : ( ولا ينقض اليقين بالشك ) ، كما يمكن أن يكون للجنس فتكون الجملة المذكورة مطلقة ، كذلك يحتمل أن يكون للعهد وللاشارة إلى اليقين المذكور فى الجملة السابقة ( فانه على يقين من وضوئه ) وهو اليقين بالوضوء ، فلا يكون للجملة إطلاق لغير مورد الشك فى انتقاض الوضوء ، وإجمال اللام وتردده بين الجنس والعهد كاف فى منع الاطلاق.

ويرد على ذلك أولا : أن قوله : ( فانه على يقين من وضوئه ) مسوق

٤٢٣

مساق التعليل للجزاء المحذوف ، كما تقدم ، وظهور التعليل فى كونه تعليلا بأمر عرفى وتحكيم مناسبات الحكم والموضوع المركوزة عليه ، يقتضى حمل اليقين والشك على طبيعى اليقين والشك ، لان التعليل بكبرى الاستصحاب عرفى ومطابق للمناسبات العرفية بخلاف التعليل باستصحاب مجعول فى خصوص باب الوضوء.

وثانيا : أن اللام فى قوله : ( ولا ينقض اليقين بالشك ) لو سلم أنها للعهد والاشارة إلى اليقين الوارد فى جملة ( فانه على يقين من وضوئه ) فلا يقتضى ذلك اختصاص القول المذكور بباب الوضوء ، لان قيد ( من وضوئه ) ليس قيدا لليقين ، حيث إن اليقين لا يتعدى عادة إلى متعلقه بـ ( من ) ، وإنما هو قيد للظرف ومحصل العبارة أنه من ناحية الوضوء على يقين ، وهذا يعنى أن كلمة اليقين استعملت فى معناها الكلى ، فاذا اشير إليها لم يقتض ذلك الاختصاص بباب الوضوء. خلافا لما إذا كان القيد راجعا إلى نفس اليقين ، وكان مفاد الجملة المذكورة أنه على يقين بالوضوء فان الاشارة إلى هذا اليقين توجب الاختصاص.

وعلى هذا فالاستدلال بالرواية تام ، وهناك روايات عديدة اخرى يستدل بها على الاستصحاب ، ولا شك فى دلالة جملة منها.

٤٢٤

٢ ـ أركان الاستصحاب

وبعد الفراغ عن ثبوت الاستصحاب شرعا يقع الكلام فى تحديد أركانه على ضوء دليله.

والمستفاد من دليل الاستصحاب المتقدم تقومه بأربعة أركان :

الاول : اليقين بالحدوث.

والثانى : الشك فى البقاء.

والثالث : وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة.

والرابع : كون الحالة السابقة فى مرحلة البقاء ذات أثر مصحح للتعبد ببقائها.

ولنأخذ هذه الاركان تباعا.

أما الركن الاول فهو مأخوذ فى لسان الدليل فى قوله : ( ولا ينقض اليقين بالشك ) وظاهر ذلك كون اليقين بالحالة السابقة دخيلا فى موضوع الاستصحاب ، فمجرد حدوث الشىء لا يكفى لجريان استصحابه ما لم يكن هذا الحدوث متيقنا ، ومجرد الشك فى وجود شىء لا يكفى لاستصحابه ما لم يكن ثبوته فى السابق معلوما.

٤٢٥

وعلى هذا ترتب بحث ، وهو : أن الحالة السابقة قد تثبت بالامارة لا باليقين ، فاذا كان الاستصحاب حكما مترتبا على اليقين فكيف يجرى إذا شك فى بقاء شىء لم يكن حدوثه متيقنا بل ثابتا بالامارة؟.

وقد حاول المحقق النائينى رحمه‌الله أن يخرج ذلك على أساس قيام الامارات مقام القطع الموضوعى ، فاليقين هنا جزء الموضوع للاستصحاب فهو قطع موضوعى وتقوم مقامه الامارة.

وهناك من أنكر ركنية اليقين بالحدوث واستظهر أنه مأخوذ فى لسان الدليل بما هو معرف ومشير إلى الحدوث ، فالاستصحاب مترتب على الحدوث لا على اليقين به ، والامارة تثبت الحدوث فتنقح بذلك موضوع الاستصحاب.

وأما الركن الثانى وهو الشك فمأخوذ أيضا فى لسان الدليل ، والمراد به مطلق عدم العلم ، فيشمل حالة الظن أيضا بقرينة قوله : ( ولكن انقضه بيقين آخر ) ، فان ظاهره حصر ما يسمح بأن ينقض به اليقين باليقين.

والشك تارة يكون موجودا وجودا فعليا ، كما فى الشاك الملتفت إلى شكه ، واخرى يكون موجودا وجودا تقديريا ، كما فى الغافل الذى لو التفت إلى الواقعة لشك فيها ، ولكنه غير شاك فعلا لغفلته ، ومن هنا وقع البحث فى أن الشك المأخوذ فى موضوع دليل الاستصحاب هل يشمل القسمين معا أو يختص بالقسم الاول؟ ، فاذا كان المكلف على يقين من الحدث ثم شك فى بقائه وقام وصلى ملتفتا إلى شكه ، فلا ريب فى أن استصحاب الحدث يجرى فى حقه وهو يصلى ، وبذلك تكون الصلاة من حين وقوعها محكومة بالبطلان ، وفى مثل هذه الحالة

٤٢٦

لا يمكن للمكلف إذا فرغ من صلاته هذه أن يتمسك لصحتها بقاعدة الفراغ لانها إنما تجرى فى صلاة لم يثبت الحكم ببطلانها حين إيقاعها. وأما إذا كان المكلف على يقين من الحدث ، ثم غفل وذهل عن حاله وقام وصلى ذاهلا ، وبعد الصلاة التفت وشك فى أنه هل كان لا يزال محدثا حين صلى أولا؟. فقد يقال : بأن استصحاب الحدث لم يكن جاريا حين الصلاة ، لان الشك لم يكن فعليا ، بل تقديريا ، فالصلاة لم تقترن بقاعدة شرعية تحكم ببطلانها ، فبامكان المكلف حينئذ أن يرجع عند التفاته بعد الفراغ من الصلاة إلى قاعدة الفراغ ، فيحكم بصحة الصلاة.

فان قيل : هب أن الاستصحاب لم يكن جاريا حين الصلاة ، ولكن لماذا لا يجرى الان مع أن الشك فعلى وباستصحاب الحدث فعلا يثبت أن صلاته التى فرغ منها باطلة.

قلنا : إن هذا الاستصحاب ظرف جريانه هو نفس ظرف جريان قاعدة الفراغ ، وكلما اتحد ظرف جريان الاستصحاب والقاعدة تقدمت قاعدة الفراغ خلافا لماإذا كان ظرف جريان الاستصحاب أثناء الصلاة ، فانه حينئذ لا يدع مجالا لرجوع المكلف بعد الفراغ من صلاته إلى قاعدة الفراغ ، لان موضوعها صلاة لم يحكم ببطلانها فى ظرف الاتيان بها.

ولكن الصحيح أن قاعدة الفراغ لا تجرى بالنسبة إلى الصلاة المفروضة فى هذا المثال على أى حال حتى لو لم يجر استصحاب الحدث فى أثنائها ، وذلك لان قاعدة الفراغ لا تجرى عندإحراز وقوع الفعل المشكوك الصحة مع الغفلة ، ففى المثال المذكور لا يمكن تصحيح الصلاة

٤٢٧

بحال.

أما الركن الثالث وهو وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ، فيستفاد من ظهور الدليل فى أن الشك الذى يمثل الركن الثانى يتعلق بعين ما تعلق به اليقين الذى يمثل الركن الاول ، إذ لو تغاير متعلق الشك مع متعلق اليقين فلن يكون العمل بالشك نقضا لليقين ، وإنما يكون نقضا له فى حالة وحدة المتعلق لهما معا ، والمقصود بالوحدة الوحدة الذاتية لا الزمانية ، فلا ينافيها أن يكون اليقين متعلقا بحدوث الشىء والشك ببقائه ، فان النقض يصدق مع الوحدة الذاتية وتجريد كل من اليقين والشك عن خصوصية الزمان كما تقدم ، وقد ترتب على هذا الركن عدة امور :

نذكر منها : ما قد لوحظ من أن هذا الركن يمكن تواجده فى الشبهات الموضوعية بأن تشك فى بقاء نفس ما كنت على يقين منه ، ولكن من الصعب الالتزام بوجوده فى الشبهات الحكمية ، وذلك لان الحكم المجعول تابع فى وجوده لوجود القيود المأخوذة فى موضوعه عند جعله ، فاذا كانت هذه القيود كلها متوفرة ومحرزة فلا يمكن الشك فى وجود الحكم المجعول ، وما دامت باقية ومعلومة فلا يمكن الشك فى بقاء الحكم المجعول ، وإنما يتصور الشك فى بقائه بعد اليقين بحدوثه إذا أحرز المكلف فى البداية أن القيود كلها موجودة ، ثم اختلت خصوصية من الخصوصيات فى الاثناء ، واحتمل المكلف أن تكون هذه الخصوصية من تلك القيود ، فانه سوف يشك حينئذ فى بقاء الحكم المجعول ، لاحتمال إنتفاء قيده.

ومثال ذلك : أن يكون الماء متغيرا بالنجاسة فيعلم بنجاسته ، ثم

٤٢٨

يزول التغير الفعلى فيشك فى بقاء النجاسة ، لاحتمال أن فعلية التغير قيد فى النجاسة المجعولة شرعا ، وفى هذه الحالة لو لا حظ المكلف بدقة قضيتة المتيقنة وقضيته المشكوكة لرآهما مختلفتين ، لان القضية المتيقنة هى نجاسة الماء المتصف بالتغير الفعلى ، والقضية المشكوكة هى نجاسة الماء الذى زال عنه التغير الفعلى ، فكيف يجرى الاستصحاب؟.

وقد ذكر المحققون أن الوحدة المعتبرة بين المتيقن والمشكوك ليست وحدة حقيقية مبنية على الدقة والاستيعاب ، بل وحدة عرفية على نحو لو كان المشكوك ثابتا فى الواقع لا عتبر العرف هذا الثبوت بقاء لما سبق لا حدوثا لشىء جديد ، إذ كلما صدق على المشكوك أنه بقاء عرفا للمتيقن انطبق على العمل بالشك أنه نقض لليقين بالشك فيشمله دليل الاستصحاب ، ولا شك فى أن الماء المتغيرإذا كان نجسا بعد زوال التغير فليست هذه النجاسة عرفاإلا امتدادا للنجاسة المعلومة حدوثا ، وإن كانت النجاستان مختلفتين فى بعض الخصوصيات والظروف ، فيجرى استصحاب النجاسة.

نعم بعض القيود تعتبر عرفا مقومة للحكم ومنوعة له على نحو يرى العرف أن الحكم المرتبط بها مغاير للحكم الثابت بدونها ، كما فى وجوب إكرام الضيف المرتبط بالضيافة فان الضيافة قيد منوع ، فلو وجب عليك أن تكرم ضيفك بعد خروجه من ضيافتك أيضا بوصفه فقيرا فلا يعتبر هذا الوجوب استمرارا لوجوب إكرامه من أجل الضيافة ، بل وجوبا آخر ، لان الضيافة خصوصية مقومة ومنوعة ، فاذا كنت على يقين من وجوب إكرام الضيف وشككت فى وجوب إكرامه بعد خروجه من ضيافتك باعتبار فقره لم يجر استصحاب الوجوب ، لان الوجوب

٤٢٩

المشكوك هنا مغاير للوجوب المتيقن وليس استمرارا له عرفا.

وهكذا نخرج بنتيجة وهى : أن القيود للحكم على قسمين عرفا : فقسم منها يعتبر مقوما ومنوعا ، وقسم ليس كذلك ، وكلما نشأ الشك من القسم الاول لم يجر الاستصحاب ، وكلما نشأ من القسم الثانى جرى. وقد يسمى القسم الاول بالحيثيات التقييدية ، والقسم الثانى بالحيثيات التعليلية.

وأما الركن الرابع فقد يبين باحدى صيغتين :

الاولى : أن الاستصحاب يتوقف جريانه على أن يكون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا يترتب عليه الحكم الشرعى ، لانه إذا لم يكن كذلك يعتبر أجنبيا عن الشارع ، فلا معنى لصدور التعبد منه بذلك.

وهذه الصيغة تسبب عدة مشاكل :

منها : كيف يجرى استصحاب عدم التكليف مع أن عدم التكليف ليس حكما ولا موضوعا لحكم.

ومنها : أنه كيف يجرى استصحاب شرط الواجب وقيده كالطهارة ، كما هو مورد الرواية ، فان قيد الواجب ليس حكما ولا موضوعا يترتب عليه الحكم ، فان الحكم إنما يترتب على قيد الوجوب لا على قيد الواجب ، ومن هنا وضعت الصيغة الاخرى كما يلى.

الثانية : أن الاستصحاب يتوقف جريانه على أن يكون لاثبات الحالة السابقة فى مرحلة البقاء أثر عملى ، أى صلاحية للتنجيز والتعذير ، وهذا حاصل فى موارد استصحاب عدم التكليف ، فان إثبات عدم التكليف بقاء معذر ، وكذلك فى موارد استصحاب قيد الواجب ، فان إثباته بقاء معذر فى مقام الامتثال.

٤٣٠

وهذه الصيغة هى الصحيحة لان برهان هذا الركن لا يثبت أكثر مما تقرره هذه الصيغة ، كما سنرى ، وبرهان توقف الاستصحاب على هذا الركن أمران :

أحدهما : أن إثبات الحالة السابقة فى مرحلة البقاء تعبداإذا لم يكن مؤثرا فى التنجيز والتعذير يعتبر لغوا.

والاخر : أن دليل الاستصحاب ينهى عن نقض اليقين بالشك ولا يراد بذلك النهى عن النقض الحقيقى ، لان اليقين ينتقض بالشك حقيقة ، وإنما يراد النهى عن النقض العملى ، ومرجع ذلك إلى الامر بالجرى على طبق ما يقتضيه اليقين من إقدام أو إحجام وتنجيز وتعذير ، ومن الواضح أن المستصحب إذا لم يكن له أثر عملى وصلاحية للتنجير والتعذير ، فلا يقتضى اليقين به جريا عمليا محددا ليؤمر المكلف بايقاء هذا الجرى وينهى عن النقض العملى.

وهذا الركن يتواجد فيما إذا كان المستصحب حكما قابلا للتنجيز والتعذير ، أو عدم حكم قابل لذلك ، أو موضوعا لحكم كذلك ، أو متعلقا لحكم [ كذلك ].

والظرف الذى يعتبر فيه تواجد هذا الركن هو ظرف البقاء لا ظرف الحدوث ، فاذا كان للحالة السابقة أثر عملى وصلاحية للتنجيز والتعذير فى مرحلة البقاء جرى الاستصحاب فيها ، ولو لم يكن لحدوثها أثر ، فمثلا إذا لم يكن لكفر الابن فى حياة أبيه أثر عملى ، ولكن كان لبقائه كافرا إلى حين موت الاب أثر عملى ، وهو نفى الارث عنه ، وشككنا فى بقائه كافرا كذلك ، جرى استصحاب كفره.

٤٣١

٣ ـ مقدار ما يثبت بالاستصحاب

دليل الاستصحاب كما عرفنا مفاده النهى عن النقض العملى لليقين عند الشك.

وهذا النهى لا يراد به تحريم النقض العملى ، بل يراد به بيان أن الشارع حكم ببقاء المتيقن عند الشك فى بقائه ، والنهى ارشاد إلى هذا الحكم فكأنه قال : لا ينقض اليقين بالشك ، لانى أحكم بأن المتيقن باق. والحكم ببقاء المتيقن هنا لا يعنى بقاءه حقيقة وإلا لزال الشك مع أن الاستصحاب حكم الشك ، بل يعنى بقاءه من الناحية العملية ، أى تنزيله منزلة الباقى عمليا ، ومرجع ذلك إلى القول بأن الشىء الذى كنت على يقين منه فشككت فى بقائه نزل منزلة الباقى ، فاذا كان المستصحب حكما فتنزيله منزلة الباقى معناه التعبد ببقائه ، وإذا كان موضوعا لحكم فتنزيله منزلة الباقى معناه التعبد بحكمه وأثره ، وإذا كان للمستصحب حكم شرعى ، وكان هذا الحكم بنفسه موضوعا لحكم شرعى آخر ، فتنزيله منزلة الباقى معناه التعبد بحكمه ، والتعبد بحكمه هو بدوره يعنى التعبد بما لهذا الحكم من حكم أيضا وهكذا.

٤٣٢

وقد لا يكون المستصحب حكما ولا موضوعا لحكم ، ولكنه سبب تكوينى أو ملازم خارجى لشىء آخر ، وذلك الشىء هو موضوع الحكم ، كما لو فرضنا أن حياة زيد التى كنا على يقين منها ثم شككنا فى بقائها سبب على تقدير بقائهاإلى زمان الشك لنبات لحيته ، وكان نبات اللحية موضوعا لحكم شرعى ، ففى مثل ذلك هل يجرى استصحاب حياة زيد لاثبات ذلك الحكم الشرعى تعبدا أولا؟.

والمشهور بين المحققين عدم اقتضاء دليل الاستصحاب لذلك ، وهذا هو الصحيح ، لانه إن اريدإثبات ذلك الحكم الشرعى باستصحاب حياة زيد مباشرة بلا تعبد بنبات اللحية فهو غير ممكن ، لان ذلك الحكم موضوعه نبات اللحية لا حياة زيد ، فما لم يثبت بالتنزيل والتعبد نبات اللحية لا يترتب الحكم ، وإن اريد إثبات نبات اللحية أولا باستصحاب الحياة ، وبالتالى إثبات ذلك الحكم الشرعى فهو خلاف ظاهر دليل الاستصحاب ، لان مفاده كما عرفنا تنزيل مشكوك البقاء منزلة الباقى ، والتنزيل دائما ينصرف عرفاإلى توسعة دائرة الاثار المجعولة من قبل المنزل لا غيرها ، ونبات اللحية أثر للحياة ولكنه أثر تكوينى وليس بجعل من الشارع بما هو شارع ، فهو كما لو قال الشارع : نزلت الفقاع منزلة الخمر ، فكما يترتب على ذلك توسعة دائرة الحرمة لا توسعة الاثار التكوينية للخمر بالتنزيل ، كذلك يترتب على استصحاب الحياة توسعة الاحكام الشرعية للحياة عمليا لا توسعة آثارها التكوينية التى منها نبات اللحية.

ومن هنا صح القول بأن الاستصحاب يترتب عليه الاحكام الشرعية للمستصحب دون الاثار العقلية التكوينية وأحكامها الشرعية.

٤٣٣

ويسمى الاستصحاب الذى يراد به إثبات حكم شرعى مترتب على أثر تكوينى للمستصحب بالاصل المثبت ، ويقال عادة بعدم جريان الاصل المثبت ، ويراد به أن مثل استصحاب الحياة لا يثبت الحكم الشرعى لنبات اللحية ، ويسمى نبات اللحية بالواسطة العقلية.

٤٣٤

٤ ـ عموم جريان الاستصحاب

بعد أن تمت دلالة النصوص على جريان الاستصحاب نتمسك باطلاقها لاثبات جريانه فى كل الحالات التى تتم فيها أركانه ، وهذا معنى عموم جريانه ، ولكن هناك أقوال تتجه إلى التفصيل فى جريانه بين بعض الموارد وبعض ، بدعوى قصورإطلاق الدليل عن الشمول لجميع الموارد ، ونقتصر على ذكر أهمها وهو : ما ذهب إليه الشيخ الانصارى والمحقق النائينى ( رحمهما الله ) من جريان الاستصحاب فى موارد الشك فى الرافع وعدم جريانه فى موارد الشك فى المقتضى.

وتوضيح مدعاهما : أن المتيقن الذى يشك فى بقائه تارة يكون شيئا قابلا للبقاء والاستمرار بطبعه ، وإنما يرتفع برافع ، والشك فى بقائه ينشأ من احتمال طرو الرافع ، ففى مثل ذلك يجرى استصحابه ، ومثاله : الطهارة التى تستمر بطبعها متى ما حدثت ما لم ينقضها حدث.

واخرى يكون المتيقن الذى يشك فى بقائه محدود القابلية للبقاء فى نفسه ، كالشمعة التى تنتهى لا محالة بمرور زمن حتى لو لم يهب عليها الريح ، فاذا شك فى بقاء نورها لاحتمال انتهاء قابليته لم يجر

٤٣٥

الاستصحاب ، ويسمى ذلك بمورد الشك فى المقتضى.

وبالنظرة الاولى يبدو أن هذا التفصيل على خلاف إطلاق دليل الاستصحاب ، لشمول إطلاقه لموارد الشك فى المقتضى ، فلا بد للقائلين بعدم الشمول من إبراز نكتة فى الدليل تمنع عن إطلاقه ، وهذه النكتة قد أدعى أنها كلمة ( النقض ) وتقريب استفادة الاختصاص منها بوجهين :

الوجه الاول : أن النقض حل لما هو محكم ومبرم ، وقد جعل الاستصحاب بلسان النهى عن النقض ، فلا بد أن تكون الحالة السابقة التى ينهى عن نقضها محكمة ومبرمة ومستمرة بطبيعتها لكى يصدق النقض على رفع اليد عنها ، وأماإذا كانت مشكوكة القابلية للبقاء فهى على فرض انتهاء قابليتها لا يصح إسناد النقض إليها ، لا نحلالها بحسب طبعها ، فأنت لا تقول عن الخيوط المتفككة : إنى نقضتها ، إذا فصلت بعضها عنه بعض ، وإنما تقول عن الحبل المحكم ذلك إذا حللته ، فيختص الدليل إذن بمواردإحراز قابلية المستصحب للبقاء والاستمرار.

ويرد على هذا الوجه أن النقض لم يسندإلى المتيقن والمستصحب لنفتش عن جهة إحكام فيه حتى نجدها فى افتراض قابليته للبقاء ، بل اسندإلى نفس اليقين فى الرواية ، واليقين بنفسه حالة مستحكمة وفيها رسوخ مصحح لاسناد النقض إليها بقطع النظر عن حالة المستصحب ومدى قابليته للبقاء.

الوجه الثانى : أن دليل الاستصحاب يفترض كون العمل بالشك نقضا لليقين بالشك ، وهذا لا يصدق حقيقة إلاإذا كان الشك متعلقا بعين ما تعلق به اليقين حقيقة أو عناية ، ومثال الاول : الشك فى قاعدة

٤٣٦

اليقين مع يقينها ، ومثال الثانى : الشك فى بقاء الطهارة مع اليقين بحدوثها ، فان الشك هنا وإن كان متعلقا بغير ما تعلق به اليقين حقيقة ، لانه متعلق بالبقاء ، واليقين متعلق بالحدوث ، ولكن حيث أن المتيقن له قابلية البقاء والاستمرار فكأن اليقين بالعناية قد تعلق به بما هو باق ومستمر ، فيكون الشك متعلقا بعين ما تعلق به اليقين ، وبهذا يصدق النقض على العمل بالشك ، وأما فى موارد الشك فى المقتضى ، فاليقين غير متعلق بالبقاء لا حقيقة ولا عناية ، أما الاول فواضح ، وأما الثانى فلان المتيقن لم تحرز قابليته للبقاء ، وعليه فلا يكون العمل بالشك نقضا لليقين ليشمله النهى المجعول فى دليل الاستصحاب.

والجواب على ذلك بأن صدق النقض وإن كان يتوقف على وحدة متعلق اليقين والشك ، ولكن يكفى فى هذه الوحدة تجريد اليقين والشك من خصوصية الزمان الحدوثى والبقائى وإضافتهما إلى ذات واحدة كما تقدم توضيحه فيما مضى ، وهذه العناية التجريدية تطبق على موارد الشك فى المقتضى أيضا.

وعليه فالاستصحاب يجرى فى موارد الشك فى المقتضى أيضا.

٤٣٧

٥ ـ تطبيقات

١ ـ استصحاب الحكم المعلق :

فى موارد الشبهة الحكمية تارة يشك فى بقاء الجعل لاحتمال نسخه ، فيجرى استصحاب بقاء الجعل ، واخرى يشك فى بقاء المجعول بعد إفتراض تحققه وفعليته ، كماإذا حرم العصير العنبى بالغليان وشك فى بقاء الحرمة بعد ذهاب الثلثين بغير النار ، فيجرى استصحاب المجعول ، وثالثة يكون الشك فى حالة وسطى بين الجعل والمجعول ، وتوضيح ذلك فى المثال الاتى :

إذا جعل الشارع حرمة العنب إذا غلى ، ونفترض عنبا ولكنه بعد لم يغل ، فهنا المجعول ليس فعليا ، بل فعليته فرع تحقق الغليان ، فلا علم لنا بفعلية المجعول الان ، ولكنا نعلم بقضية شرطية وهى : أن هذا العنب لو غلى لحرم ، فاذا تيبس العنب بعد ذلك وأصبح زبيبا نشك فى أن تلك القضية الشرطية هل لا تزال باقية بمعنى أن هذا الزبيب إذا غلى يحرم كالعنب أولا؟ فالشك هنا ليس فى بقاء الجعل ونسخه إذ لا نحتمل النسخ ، وليس فى بقاء المجعول بعد العلم بفعليته إذ لم يوجد علم بفعلية المجعول بعد ، وإنما الشك فى بقاء تلك القضية الشرطية.

٤٣٨

فقد يقال : إنه يجرى استصحاب تلك القضية الشرطية لانها متيقنة حدوثا ومشكوكة بقاء ، ويسمى باستصحاب الحكم المعلق أو بالاستصحاب التعليقى.

ولكن ذهب المحقق النائينى رحمه‌الله إلى عدم جريان الاستصحاب ، إذ ليس فى الحكم الشرعى إلا الجعل والمجعول ، والجعل لا شك فى بقائه ، فالركن الثانى مختل ، والمجعول لا يقين بحدوثه ، فالركن الاول مختل.

وأما القضية الشرطية فليس لها وجود فى عالم التشريع بما هى قضية شرطية وراء الجعل والمجعول ليجرى استصحابها.

٢ ـ استصحاب التدريجيات :

الاشياء ، إما قارة توجد وتبقى ، وإما تدريجية كالحركة توجد وتفنى باستمرار.

فبالنسبة إلى القسم الاول لاإشكال فى جريان الاستصحاب.

وأما بالنسبة إلى القسم الثانى ، فقد يقال بعدم اجتماع الركن الاول والثانى معا ، لان الامر التدريجى سلسلة حدوثات ، فاذا علم بأن شخصا يمشى وشك فى بقاء مشيه لم يكن بالامكان استصحاب المشى لترتيب ما له من الاثر ، لان الحصة الاولى منه معلومة الحدوث ، ولكنها لا شك فى تصرمها ، والحصة الثانية مشكوكة ولا يقين بها ، فلم تتم أركان الاستصحاب فى شىء. ومن هنا يستشكل فى إجراء الاستصحاب فى الزمان كاستصحاب النهار ونحو ذلك لانه من الامور التدريجية.

والجواب على هذا الاشكال : أن الامر التدريجى على الرغم من

٤٣٩

تدرجه فى الوجود وتصرمه قطعة بعد قطعة له وحدة ويعتبر شيئا واحدا مستمرا على نحو يصدق على القطعة الثانية عنوان البقاء ، فتتم أركان الاستصحاب حينما نلحظ الامر التدريجى بوصفه شيئا واحدا مستمرا فنجد أنه متيقن بداية ومشكوك نهاية فيجرى استصحابه ، وهذه الوحدة مناطها فى الامر التدريجى اتصال قطعاته بعضها ببعض اتصالا حقيقيا ، كما فى حركة الماء من أعلى إلى أسفل. أو اتصالا عرفيا ، كما فى حركة المشى عند الانسان ، فان المشى يتخلله السكون والوقوف ولكنه يعتبر عرفا متواصلا.

٣ ـ استصحاب الكلى :

إذا وجد زيد فى المسجد مثلا ، فقد وجد الانسان فيه ضمنا ، لان الطبيعى موجود فى ضمن فرده ، فهناك وجود واحد يضاف إلى الفرد وإلى الطبيعى الكلى ، ومن حيث تعلق اليقين بالحدوث والشك فى البقاء به تارة يتواجد كلا هذين الركنين فى الفرد والطبيعى معا ، واخرى يتواجدان فى الطبيعى فقط ، وثالثة لا يتواجدان لا فى الفرد ولا فى الطبيعى ، فهناك ثلاث حالات :

الحالة الاولى : أن يعلم بدخول زيدإلى المسجد ويشك فى خروجه ، فهنا الوجود الحادث فى المسجد بما هو وجود لزيد ، وبما هو وجود لطبيعى الانسان متيقن الحدوث ومشكوك البقاء ، فان كان الاثر الشرعى مترتبا على وجود زيد بأن قيل : سبح ما دام زيد موجودا فى المسجد ، جرى استصحاب الفرد ، وإن كان الاثر مترتبا على وجود الكلى بأن قيل : سبح ما دام إنسان فى المسجد ، جرى استصحاب الكلى ، ويسمى

٤٤٠