دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

بسم الله الرحمن الرحيم

التعريف بعلمِ الاصول

كلمة تمهيدية :

بعد أن آمن الإنسان بالله والإسلام والشريعة ، وعرف أنّه مسؤول بحكم كونه عبداً لله تعالى عن امتثال أحكامه يصبح ملزماً بالتوفيق بين سلوكه في مختلف مجالات الحياة والشريعة الإسلامية ، وباتّخاذ الموقف العمليّ الذي تفرضه عليه تبعيّته للشريعة ، ولأجل هذا كان لزاماً على الإنسان أن يعيِّن هذا الموقف العملي ، ويعرف كيف يتصرّف في كلّ واقعة.

ولو كانت أحكام الشريعة في كلّ الوقائع واضحةً وضوحاً بديهياً للجميع لكان تحديد الموقف العمليّ المطلوب تجاه الشريعة في كلّ واقعةٍ أمراً ميسوراً لكلّ أحد ، ولمَا احتاج إلى بحثٍ علميٍّ ودراسةٍ واسعة ، ولكنّ عوامل عديدة ، منها : بعدنا الزمني عن عصر التشريع أدّت إلى عدم وضوح عددٍ كبيرٍ من أحكام الشريعة واكتنافها بالغموض.

وعلى هذا الأساس كان من الضروريِّ أن يوضع علم يتولّى دفع الغموض عن الموقف العمليِّ تجاه الشريعة في كلّ واقعةٍ بإقامة الدليل على تعيينه.

٤١

وهكذا كان ، فقد انشئ علم الفقه للقيام بهذه المهمّة ، فهو يشتمل على تحديد الموقف العمليّ تجاه الشريعة تحديداً استدلالياً ، والفقيه في علم الفقه يمارس إقامة الدليل على تعيين الموقف العمليّ في كلّ حدثٍ من أحداث الحياة ، وهذا ما نطلق عليه اسم « عملية استنباط الحكم الشرعي ».

ولأجل هذا يمكن القول بأنّ علم الفقه هو : علم استنباط الأحكام الشرعية ، أو علم عملية الاستنباط بتعبيرٍ آخر.

وتحديد الموقف العمليّ بدليلٍ يتمّ في علم الفقه باسلوبين :

أحدهما : تحديده بتعيين الحكم الشرعي.

والآخر : تحديد الوظيفة العملية تجاه الحكم المشكوك بعد استحكام الشكّ وتعذّر تعيينه. والأدلّة التي تستعمل في الاسلوب الأوّل نسمّيها بالأدلّة ، أو الأدلة المحرزة ، إذ يُحرز بها الحكم الشرعي ، والأدلّة التي تستعمل في الاسلوب الثاني تسمّى بالأدلّة العملية ، أو الاصول العملية.

وفي كلا الاسلوبين يمارس الفقيه في علم الفقه استنباط الحكم الشرعي ، أي يحدِّد الموقف العمليّ تجاهه بالدليل.

وعمليات الاستنباط التي يشتمل عليها علم الفقه بالرغم من تعدّدها وتنوّعها تشترك في عناصر موحّدةٍ وقواعد عامّة تدخل فيها على تعدّدها وتنوّعها ، وقد تطلّبت هذه العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وضع علمٍ خاصٍّ بها لدراستها وتحديدها وتهيئتها لعلم الفقه ، فكان علم الاصول.

تعريف علم الاصول :

وعلى هذا الأساس نرى أن يُعرَّف علم الاصول بأنّه « العلم

٤٢

بالعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي ».

ولكي نستوعب هذا التعريف يجب أن نعرف ما هي العناصر المشتركة في عملية الاستنباط؟

ولنذكر ـ لأجل ذلك ـ نماذج بدائية من هذه العملية في صيغٍ مختصرة. لكي نصل عن طريق دراسة هذه النماذج والمقارنة بينها إلى فكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط.

افرضوا أنّ فقيهاً واجه هذه الأسئلة :

١ ـ هل يحرم على الصائم أن يرتمس في الماء؟

٢ ـ هل يجب على الشخص إذا ورِث مالاً من أبيه أن يؤدّي خمسه؟

٣ ـ هل تبطل الصلاة بالقهقهة في أثنائها؟

فإذا أراد الفقيه أن يجيب على هذه الأسئلة فإنّه سوف يجيب على السؤال الأوّل ـ مثلاً ـ بالإيجاب ، وأ نّه يحرم الارتماس على الصائم ، ويستنبط ذلك بالطريقة التالية : قد دلّت رواية يعقوب بن شعيب عن الإمام الصادق عليه‌السلام على حرمة الارتماس على الصائم ، فقد جاء فيها أنّه قال : « لا يرتمس المحرِم في الماء ، ولا الصائم » (١). والجملة بهذا التركيب تدلّ في العرف العامّ على الحرمة. وراوي النصّ يعقوب بن شعيب ثقة ، والثقة وإن كان قد يخطئ أو يشذّ أحياناً ولكنّ الشارع أمرنا بعدم اتّهام الثقة بالخطأ أو الكذب ، واعتبره حجّة. والنتيجة هي : أنّ الارتماس حرام.

ويجيب الفقيه على السؤال الثاني بالنفي ؛ لأنّ رواية عليّ بن مهزيار جاءت في مقام تحديد الأموال التي يجب فيها الخمس ، وورد فيها أنّ

__________________

(١) الوسائل / ج٧ / ب ٣ / من ابواب ما يمسك عنه الصائم / ح١.

٤٣

الخمس ثابت في الميراث الذي لا يحتسب من غير أبٍ ولا ابن (١). والعرف العامّ يفهم من هذه الجملة أنّ الشارع لم يجعل خمساً على الميراث الذي ينتقل من الأب إلى ابنه ، والراوي ثقة ، وخبر الثقة حجّة. والنتيجة هي : أنّ الخمس في تركة الأب غير واجب.

ويجيب الفقيه على السؤال الثالث بالإيجاب ؛ بدليل رواية زرارة ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « القهقهة لا تنقض الوضوء ، وتنقض الصلاة » (٢). والعرف العامّ يفهم من النقض أنّ الصلاة تبطل بها ، وزرارة ثقة ، وخبر الثقة حجّة ، فالصلاة مع القهقهة باطلة إذن.

وبملاحظة هذه المواقف الفقهية الثلاثة نجد أنّ الأحكام التي استنبطها الفقيه كانت من أبوابٍ شتّى من الفقه ، وأنّ الأدلّة التي استند اليها الفقيه مختلفة. فبالنسبة إلى الحكم الأوّل استند إلى رواية يعقوب بن شعيب ، وبالنسبة إلى الحكم الثاني استند إلى رواية عليّ بن مهزيار ، وبالنسبة إلى الحكم الثالث استند إلى رواية زرارة. ولكلٍّ من الروايات الثلاث متنها وتركيبها اللفظيّ الخاصّ الذي يجب أن يدرس بدقّةٍ ويحدَّد معناه. ولكن توجد في مقابل هذا التنوّع وهذه الاختلافات بين المواقف الثلاثة عناصر مشتركة أدخلها الفقيه في عملية الاستنباط في المواقف الثلاثة جميعاً. فمن تلك العناصر المشتركة : الرجوع إلى العرف العامّ في فهم الكلام الصادر عن المعصوم ، وهو ما يعبّر عنه بحجّية الظهور العرفي. فحجّية الظهور إذن عنصر مشترك في عمليات الاستنباط

__________________

(١) الوسائل / ج٦ / ب ٨ / من ابواب ما يجب فيه الخمس / ح٥.

(٢) الوسائل / ج٤ / ب ٧ / من ابواب قاواطع الصلاة / ح١.

٤٤

الثلاث. وكذلك يوجد عنصر مشترك آخر ، وهو حجّية خبر الثقة. وهكذا نستنتج أنّ عمليات الاستنباط تشتمل على عناصر مشتركة ، كما تشتمل على عناصر خاصّة. ونعني بالعناصر الخاصّة : تلك العناصر التي تتغيّر من مسألةٍ إلى اخرى ، فرواية يعقوب بن شعيب عنصر خاصّ في عملية استنباط حرمة الارتماس ؛ لأنّها لم تدخل في عمليات الاستنباطالاخرى ، بل دخلت بدلاً عنها عناصر خاصّة اخرى ، كرواية علي بن مهزيار ورواية زرارة. ونعني بالعناصر المشتركة : القواعد العامّة التي تدخل في عمليات استنباط أحكامٍ عديدةٍ في أبوابٍ مختلفة.

وفي علم الاصول تدرس العناصر المشتركة ، وفي علم الفقه تدرس العناصر الخاصّة في كلّ مسألة.

وهكذا يترك للفقيه في كلّ مسألةٍ أن يفحص بدقّةٍ الروايات والمدارك الخاصّة التي ترتبط بتلك المسألة ، ويدرس قيمة تلك الروايات ويحاول فهم ألفاظها وظهورها العرفي وأسانيدها ، بينما يتناول الاصوليّ البحث عن حجّية الظهور وحجّية الخبر ، وهكذا.

وعلم الاصول لا يحدّد العناصر المشتركة فحسب ، بل يحدّد أيضاً درجات استعمالها والعلاقة بينها ، كما سنرى في البحوث المقبلة إن شاء الله تعالى.

موضوع علم الاصول :

لكلّ علمٍ ـ عادةً ـ موضوع أساسيّ ترتكز جميع بحوثه عليه وتدور حوله ، وتستهدف الكشف عمّا يرتبط بذلك الموضوع من خصائص وحالاتٍ وقوانين ، فالفيزياءُ ـ مثلاً ـ موضوعها الطبيعة ، وبحوث الفيزياء ترتبط كلّها

٤٥

بالطبيعة وتحاول الكشف عن حالاتها وقوانينها العامّة. والنحو موضوعه الكلمة ؛ لأنّه يبحث عن حالات إعرابها وبنائها ورفعها ونصبها. فما هو موضوع علم الاصول الذي تدور حوله بحوثه؟.

ونحن إذا لاحظنا التعريف الذي قدّمناه لعلم الاصول استطعنا أن نعرف أنّ علم الاصول يدرس في الحقيقة الأدلّة المشتركة في علم الفقه لإثبات دليليتها ، وبهذا صحّ القول بأنّ موضوع علم الاصول هو الأدلّة المشتركة في عملية الاستنباط.

علم الاصول منطق الفقه :

ولا بدّ أنّ معلوماتكم عن علم المنطق تسمح لنا أن نستخدمه كمثالٍ لعلم الاصول ، فإنّ علم المنطق ـ كما تعلمون ـ يدرس في الحقيقة عملية التفكير مهما كان مجالها وحقلها العلمي ، ويحدّد النظام العامّ الذي يجب أن تتّبعه لكي يكون التفكير سليماً ، مثلاً : يعلّمنا علم المنطق كيف يجب أن ننهج في الاستدلال بوصفه عملية تفكيرٍ لكي يكون الاستدلال صحيحاً ، كيف نستدلّ على أنّ سقراط فانٍ ، وكيف نستدلّ على أنّ نار الموقد الموضوع أمامي محرقة ، وكيف نستدلّ على أنّ مجموع زوايا المثلث تساوي قائمتين ، وكيف نستدلّ على أنّ الخطّ الممتدّ بدون نهاية مستحيل ، كلّ هذا يجيب عليه علم المنطق بوضع المناهج العامّة للاستدلال ، كالقياس والاستقراء ، فهو إذن علم لعملية التفكير إطلاقاً.

وعلم الاصول يشابه علم المنطق من هذه الناحية ، غير أنّه يبحث عن نوعٍ خاصٍّ من عملية التفكير ، أي عن عملية التفكير الفقهيِّ في

٤٦

استنباط الأحكام ، ويدرس العناصر المشتركة التي يجب أن تدخل فيها لكي يكون الاستنباط سليماً ، فهو يعلِّمنا كيف نستنبط الحكم بحرمة الارتماس على الصائم ، وكيف نستنبط اعتصام ماء الكرّ ، وكيف نستنبط الحكم باستحباب صلاة العيد أو وجوبها ، وذلك بوضع المناهج العامّة ، وتحديد العناصر المشتركة لعملية الاستنباط.

وعلى هذا الأساس يصحّ أن يطلق على علم الاصول اسم منطق علم الفقه ؛ لأنّه بالنسبة إليه بمثابة المنطق بالنسبة إلى الفكر البشريِّ بصورةٍ عامّة.

أهمّية علم الاصول في عملية الاستنباط :

ولسنا بعد ذلك بحاجةٍ إلى التأكيد على أهمّية علم الاصول وخطورة دوره في عالم الاستنباط ؛ لأنّه ما دام يقدِّم لعملية الاستنباط عناصرها المشتركة ، ويضع لها نظامها العامّ ، فهو عصب الحياة فيها ، وبدون علم الاصول يواجه الشخص في الفقه رُكاماً متناثراً من النصوص والأدلّة دون أن يستطيع استخدامها والاستفادة منها في الاستنباط ، كإنسانٍ يواجه أدوات النِجارة ويعطى منشاراً وفأساً وما إليهما من أدواتٍ دون أن يملك أفكاراً عامّةً عن عملية النجارة وطريقة استخدام تلك الأدوات. وكما أنّ العناصر المشتركة ضروريّة لعمليّة الاستنباط فكذلك العناصر الخاصّة التي تختلف من مسألة إلى اخرى ، كمفردات الآيات والروايات المتناثرة فإنّها الجزء الضروريّ الآخر فيها ، فلا يكفي مجرّد الاطّلاع على العناصر المشتركة التي يمثّلها علم الاصول ، ومَن يحاول الاستنباط على أساس الاطّلاع الاصولي فحسب نظير من يملك معلوماتٍ

٤٧

نظريّةً عامّةً عن عملية النجارة ولا يوجد لديه فأس ولا منشار وما اليهما من أدوات النجارة ، فكما يعجز هذا عن صنع سريرٍ خشبيٍّ ـ مثلاً ـ كذلك يعجز الاصوليّ عن الاستنباط إذا لم يفحص بدقّةٍ العناصر الخاصّة المتغيِّرة من مسألة إلى اخرى.

فالعناصر المشتركة والعناصر الخاصّة قطبان مندمجان في عملية الاستنباط ، ولا غنى للعملية عنهما معاً.

الاصول والفقه يمثِّلان النظرية والتطبيق :

ونخشى أن نكون قد أوحينا اليكم بتصوّرٍ خاطىً حين أوضحنا أنّ المستنبط يدرس في علم الاصول العناصر المشتركة ويحدّدها ، ويتناول في بحوث علم الفقه العناصر الخاصّة ليكمل بذلك عمليه الاستنباط ، إذ قد يتصوّر البعض أنَّا إذا درسنا في علم الاصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وعرفنا ـ مثلاً ـ حجّية الخبر وحجّية الظهور وما إليهما من العناصر الاصولية فلا يبقى علينا بعد ذلك أيّ جهدٍ علمي ، إذ لا نحتاج ما دمنا نملك تلك العناصر إلاّإلى مجرّد استخراج الروايات والنصوص من مواضعها ؛ لكي تضاف إلى العناصر المشتركة ويستنبط منها الحكم الشرعي ، وهو عمل سهل بطبيعته لا يشتمل على جهدٍ علمي.

ولكنّ هذا التصوّر خاطئ إلى درجةٍ كبيرة ؛ لأنّ المجتهد إذا مارس العناصر المشتركة لعملية الاستنباط وحدّدها في علم الاصول لا يكتفي بعد ذلك بتجميعٍ أعمى للعناصر الخاصّة من كتب الأحاديث والروايات مثلاً ، بل يبقى عليه أن يمارس في علم الفقه تطبيق تلك العناصر المشتركة ونظرياتها العامّة على العناصر الخاصّة ، والتطبيق مهمّة

٤٨

فكرية بطبيعتها تحتاج إلى درسٍ وتمحيص ، ولا يغني الجهد العلميّ المبذول اصولياً عن بذل جهدٍ جديدٍ في التطبيق ، فلنفرض ـ مثلاً ـ أنّ المجتهد آمن في علم الاصول بحجّية الظهور العرفيّ فهل يكفيه أن يضع إصبعه على رواية عليّ بن مهزيار التي حدّدت مجالات الخمس ـ مثلاً ـ ليضيفها إلى العنصر المشترك ويستنبط من ذلك عدم وجوب الخمس في ميراث الأب؟ أو ليس المجتهد بحاجةٍ إلى تدقيق مدلول النصّ في الرواية لمعرفة نوع مدلوله في العرف العامّ ودراسة كلّ ما يرتبط بتحديد ظهوره العرفيّ من قرائن وأماراتٍ داخل إطار النصّ أو خارجه ؛ لكي يتمكّن بأمانةٍ من تطبيق العنصر المشترك القائل بحجّية الظهور العرفي؟! وفي هذا الضوء نعرف أنّ البحث الفقهيّ عن العناصر الخاصّة في عملية الاستنباط ليس مجرّد عملية تجميع ، بل هو مجال التطبيق للنظريات الاصولية. وتطبيق النظريات العامّة له دائماً موهبته الخاصّة ودقّته ، ومجرّد الدقّة في النظريات العامّة لا يغني عن الدقّة في تطبيقها ، ألا ترون أنّ من يدرس بعمقٍ النظريات العامّة في الطبِّ يحتاج في مجال تطبيقها على حالةٍ مرضيةٍ إلى دقّةٍ وانتباهٍ كاملٍ وتفكيرٍ في تطبيق تلك النظريات على المريض الذي بين يديه؟!

التفاعل بين الفكر الاصوليِّ والفكر الفقهي :

عرفنا أنّ علم الاصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى علم الفقه ، والعلاقة بينهما علاقة النظرية والتطبيق ، وهذا الترابط الوثيق بينهما يفسِّر لنا التفاعل المتبادل بين الذهنية الاصولية على صعيد النظريات من ناحية ، وبين الذهنية الفقهية على صعيد التطبيق من ناحيةٍ اخرى ؛ لأنّ

٤٩

توسّع بحوث التطبيق يدفع بحوث النظرية خطوةً إلى الأمام ؛ لأنّه يثير أمامها مشاكل ويضطرّها إلى وضع النظريات العامّة لحلولها. كما أنّ دقّة البحث في النظريات الاصولية تنعكس على صعيد التطبيق ، إذ كلّما كانت النظريات أوفر وأدقّ تطلّبت طريقة تطبيقها دقّةً وعمقاً أكبر. وهذا التفاعل بين الذهنيتين : الاصولية والفقهية يؤكّده تأريخ العِلمَين على طول الخطّ ، وتكشف عنه بوضوحٍ دراسة المراحل التي مرَّ بها البحث الفقهيّ والبحث الاصوليّ في تأريخ العلم ، فقد نشأ علم الاصول في أحضان علم الفقه ، كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث.

ولم يكن علم الاصول مستقلاًّ عن علم الفقه في البداية ، ومن خلال نموِّ علم الفقه واتّساع افق التفكير الفقهيِّ أخذت الخيوط العامّة والعناصر المشتركة في عملية الاستنباط تبدو وتتكشّف ، وأخذ المُمارِسون للعمل الفقهيّ يلاحظون اشتراك عمليات الاستنباط في عناصر عامّةٍ لا يمكن استخراج الحكم الشرعيّ بدونها ، وكان ذلك إيذاناً بمولد علم الاصول ، واتّجاه الذهنية الفقهية اتجاهاً اصولياً ، فانفصل علم الاصول عن علم الفقه في البحث والتصنيف ، وأخذ يتّسع ويثرى تدريجاً من خلال نموِّ الفكر الاصوليِّ من ناحية ، وتبعاً لتوسّع البحث الفقهيِّ من ناحيةٍ اخرى ؛ لأنّ اتّساع نطاق التطبيق الفقهيّ كان يلفت أنظار الممارِسين إلى مشاكل جديدة ، فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة ، وتتَّخذ الحلول صورة العناصر المشتركة في علم الاصول.

وكلّما بَعُد الفقيه عن عصر النصّ تعدّدت جوانب الغموض في فهم الحكم من مداركه الشرعية ، وتنوّعت الفجوات في عملية الاستنباط

٥٠

نتيجةً للبُعد الزمني ، فيحسّ أكثر فأكثر بالحاجة إلى تحديد قواعد عامّةٍ يعالج بها جوانب الغموض ويملأ بها تلك الفجوات ، وبهذا كانت الحاجة إلى علم الاصول تأريخية ، بمعنى أنّها تشتدّ وتتأكّد كلّما ابتعد الفقيه تأريخياً عن عصر النصّ ، وتراكمت الشكوك على عملية الاستنباط التي يمارسها. وعلى هذا الأساس يمكن أن نفسِّر الفارق الزمنيّ بين ازدهار علم الاصول في نطاق التفكير الفقهيّ السنّيِّ وازدهاره في نطاق تفكيرنا الفقهيِّ الإمامي ، فإنّ التأريخ يشير إلى أنّ علم الاصول ترعرع وازدهر نسبياً في نطاق الفقه السنّيِّ قبل ترعرعه وازدهاره في نطاقنا الفقهيِّ الامامي ؛ وذلك لأنّ المذهب السنّيِّ كان يزعم انتهاء عصر النصوص بوفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحين اجتاز الفكر الفقهيّ السنّيّ القرن الثاني كان قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافةٍ زمنيةٍ كبيرةٍ تخلق بطبيعتها الثغرات والفجوات. وأمّا الإمامية فقد كانوا وقتئذٍ يعيشون عصر النصّ الشرعي ؛ لأنّ الإمام امتداد لوجود النبي ، فكانت المشاكل التي يعانيها فقهاء الإمامية في الاستنباط أقلّ بكثيرٍ إلى الدرجة التي لا تفسح المجال للإحساس بالحاجة الشديدة إلى وضع علم الاصول ، ولهذا نجد أنّ الإمامية بمجرّد أن انتهى عصر النصوص بالنسبة اليهم ببدء الغيبة أو بانتهاء الغيبة الصغرى بوجهٍ خاصٍّ تفتّحت ذهنيّتهم الاصولية وأقبلوا على درس العناصر المشتركة. وهذا لا يعني ـ طبعاً ـ أنّ بذور التفكير الاصوليّ لم توجد لدى فقهاء أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، بل قد وجدت هذه البذور منذ أيام الصادقين عليهما‌السلام على المستوى المناسب لتلك المرحلة. ومن الشواهد التأريخية على ذلك : ما ترويه كتب الحديث من أسئلةٍ ترتبط بجملةٍ من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، وجّهها عدد من

٥١

الرواة إلى الإمام الصادق وغيره من الأئمة عليهم‌السلام ، وتلقَّوا جواباً منهم ، فإنّ تلك الأسئلة تكشف عن وجود بذرة التفكير الاصوليّ عندهم. ويعزِّز ذلك : أنّ بعض أصحاب الأئمّة ألَّفوا رسائل في بعض المسائل الاصولية ، كهشام بن الحكم من أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام الذي روي أنّه ألَّف رسالةً في الألفاظ.

٥٢

جوازُ عمليّةِ الاستنباط

ما دام علم الاصول يرتبط بعملية الاستنباط ويحدّد عناصرها المشتركة فيجب أن نعرف قبل كلّ شيءٍ موقف الشريعة من هذه العملية ، فهل سمح الشارع لأحدٍ بممارستها لكي يوجد مجال لوضع علمٍ لدراسة عناصرها المشتركة؟

والحقيقة أنّ مسألة جواز الاستنباط حين تُطرح للبحث بالصيغة التي طرحناها لا يبدو أنّها جديرة بالنقاش ؛ لأنّنا حين نتساءل هل يجوز لنا ممارسة عملية الاستنباط ، أوْ لا؟ يجيء الجواب على البداهة بالإيجاب ؛ لأنّ عملية الاستنباط ـ كما تقدم ـ عبارة عن تحديد الموقف العمليّ تجاه الشريعة تحديداً استدلالياً. ومن البديهيّ أنّ الإنسان بحكم تبعيّته للشريعة ملزم بتحديد موقفه العمليّ منها ، ولمَّا لم تكن أحكام الشريعة غالباً في البداهة والوضوح بدرجةٍ تُغني عن إقامة الدليل فليس من المعقول أن يحرم على الناس جميعاً تحديد الموقف العمليّ تحديداً استدلالياً.

ولكن لسوء الحظّ اتّفق لهذه المسألة أن اكتسبت صيغةً اخرى

٥٣

لا تخلو عن غموضٍ وتشويش ، فأصبحت مثاراً للاختلاف نتيجةً لذلك الغموض والتشويش ، فقد استخدمت كلمة « الاجتهاد » للتعبير عن عملية الاستنباط. وطرح السؤال هكذا : هل يجوز الاجتهاد في الشريعة؟ وحينما دخلت كلمة « الاجتهاد » في السؤال ـ وهي كلمة مرّت بمصطلحاتٍ عديدةٍ في تأريخها ـ أدّت إلى إبقاء ظلال تلك المصطلحات السابقة على البحث ، ونتج عن ذلك أن أجاب البعض على السؤال بالنفي ، وأدّى ذلك إلى شجب علم الاصول كلّه ؛ لأنّه إنّما يراد لأجل الاجتهاد ، فإذا الغيَ الاجتهاد لم تَعدْ حاجة إلى علم الاصول.

وفي سبيل توضيح ذلك يجب أن نذكر التطوّر الذي مرّت به كلمة « الاجتهاد » ؛ لكي نتبيَّن كيف أنّ النزاع الذي وقع حول جواز عملية الاستنباط والضجّة التي اثيرت ضدّها لم يكن إلاّنتيجة فهمٍ غير دقيقٍ للاصطلاح العلمي ، وغفلةٍ عن التطوّرات التي مرّت بها كلمة « الاجتهاد » في تأريخ العلم.

* * *

الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد ، وهو : « بذل الوسع للقيام بعملٍ ما » ، وقد استعملت هذه الكلمة ـ لأوّل مرّةٍ ـ على الصعيد الفقهيّ للتعبير بها عن قاعدةٍ من القواعد التي قرّرتها بعض مدارس الفقه السنّيّ وسارت على أساسها ، وهي القاعدة القائلة : « إنّ الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكماً شرعياً ولم يجد نصّاً يدلّ عليه في الكتاب أو السنّة رجع إلى الاجتهاد بدلاً عن النصّ ». والاجتهاد هنا يعني التفكير الشخصي ، فالفقيه حيث لا يجد النصّ يرجع إلى تفكيره الخاصّ ويستلهمه ، ويبني على ما يرجّح في فكره الشخصيّ من تشريع ، وقد يعبرّ عنه بالرأي أيضاً.

٥٤

والاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلاً من أدلّة الفقيه ومصدراً من مصادره ، فكما أنّ الفقيه قد يستند إلى الكتاب أو السنّة ويستدلّ بهما معاً كذلك يستند في حالات عدم توفّر النصّ إلى الاجتهاد الشخصيّ ويستدلّ به.

وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السنّي ، وعلى رأسها مدرسة أبي حنيفة. ولقي في نفس الوقت معارضةً شديدةً من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام والفقهاء الذين ينتسبون إلى مدرستهم.

وتتبّع كلمة « الاجتهاد » يدلّ على أنّ الكلمة حملت هذا المعنى ، وكانت تستخدم للتعبير عنه منذ عصر الأئمّة إلى القرن السابع ، فالروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام تذمّ الاجتهاد (١) ، وتريد به ذلك المبدأ الفقهيّ الذي يتّخذ من التفكير الشخصيّ مصدراً من مصادر الحكم ، وقد دخلت الحملة ضدّ هذا المبدأ الفقهيّ دور التصنيف في عصر الأئمّة أيضاً والرواة الذين حملوا آثارهم ، وكانت الحملة تستعمل كلمة « الاجتهاد » غالباً للتعبير عن ذلك المبدأ وفقاً للمصطلح الذي جاء في الروايات. فقد صنّف عبد الله بن عبد الرحمان الزبيريّ كتاباً أسماه « الاستفادة في الطعون على الأوائل والردّ على أصحاب الاجتهاد والقياس ». وصنّف هلال بن إبراهيم ابن أبي الفتح المدنيّ كتاباً في الموضوع باسم كتاب « الرّد على من ردّ آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول ». وصنّف في عصر الغيبة الصغرى أو قريباً منه إسماعيل بن علي بن إسحاق ابن أبي سهل النوبختي كتاباً في الردّ على عيسى بن أبان في الاجتهاد ، كما نصّ

__________________

(١) الوسائل / ج١٨ / ب ٦ من أبواب صفات القاضي.

٥٥

على ذلك كلّه النجاشيّ صاحب الرجال في ترجمة كلّ واحدٍ من هؤلاء.

وفي أعقاب الغيبة الصغرى نجد الصدوق في أواسط القرن الرابع يواصل تلك الحملة ، ونذكر له ـ على سبيل المثال ـ تعقيبه على قصّة موسى والخضر ، إذ كتب يقول : « إنّ موسى مع كمال عقله وفضله ومحلّه من الله تعالى لم يدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر حتّى اشتبه عليه وجه الأمر به ، فإذا لم يجزْ لأنبياء الله ورسله القياس والاستدلال والاستخراج كان مَن دونهم مِن الامم أولى بأن لا يجوز لهم ذلك ... ، فإذا لم يصلح موسى للاختيار مع فضله ومحلّه فكيف تصلح الامّة لاختيار الإمام بآرائها؟! وكيف يصلحون لاستنباط الأحكام الشرعية واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة؟! ».

وفي اواخر القرن الرابع يجيء الشيخ المفيد فيسير على نفس الخطّ ويهجم على الاجتهاد ، وهو يعبّر بهذه الكلمة عن ذلك المبدأ الفقهي الآنف الذكر ، ويكتب كتاباً في ذلك باسم « النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي ».

ونجد المصطلح نفسه لدى السيّد المرتضى في أوائل القرن الخامس ، إذ كتب في الذريعة يذمّ الاجتهاد ، ويقول : إنّ الاجتهاد باطل ، وإنّ الإمامية لا يجوز عندهم العمل بالظنّ ، ولا الرأي ، ولا الاجتهاد ». وكتب في كتابه الفقهيّ « الانتصار » ـ مُعرِّضاً بابن الجنيد ـ قائلاً : إنّما عوَّل ابن الجنيد في هذه المسألة على ضربٍ من الرأي والاجتهاد ، وخطؤه ظاهر. وقال في مسألة مسح الرجلين في فصل الطهارة من كتاب الانتصار : « إنّا لا نرى الاجتهاد ، ولا نقول به ».

واستمرّ هذا الاصطلاح في كلمة « الاجتهاد » بعد ذلك أيضاً ، فالشيخ

٥٦

الطوسيّ ـ الذي توفِّي في أواسط القرن الخامس ـ يكتب في كتاب « العدّة » قائلاً : « أمّا القياس والاجتهاد فعندنا أنّهما ليسا بدليلين ، بل محظور استعمالهما » (٦).

وفي أواخر القرن السادس يستعرض ابن إدريس في مسألة تعارض البيّنتين من كتابه « السرائر » عدداً من المرجّحات لإحدى البيّنتين على الاخرى ، ثمّ يعقِّب ذلك قائلاً : « ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا ، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا » (١).

وهكذا تدلّ هذه النصوص بتعاقبها التأريخيّ المتتابع على أنّ كلمة « الاجتهاد » كانت تعبيراً عن ذلك المبدأ الفقهيّ المتقدّم إلى أوائل القرن السابع ، وعلى هذا الأساس اكتسبت الكلمة لوناً مقيتاً وطابعاً من الكراهية والاشمئزاز في الذهنية الفقهية الإمامية ؛ نتيجةً لمعارضة ذلك المبدأ ، والإيمان ببطلانه.

ولكنّ كلمة « الاجتهاد » تطوّرت بعد ذلك في مصطلح فقهائنا ، ولا يوجد لدينا الآن نصّ شيعيّ يعكس هذا التطوّر أقدم تأريخاً من كتاب المعارج للمحقّق الحلّي المتوفّى سنة ( ٦٧٦ ه‍ ) ، إذ كتب المحقّق تحت عنوان حقيقة الاجتهاد يقول : « وهو في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية ، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلّة الشرع اجتهاداً ؛ لأنّها تبتني على اعتباراتٍ نظريةٍ ليست مستفادةً من ظواهر النصوص في الأكثر ، سواء كان ذلك الدليل قياساً أو غيره ، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد.

فإن قيل : يلزم على هذا أن يكون الإمامية من أهل الاجتهاد.

قلنا : الأمر كذلك ، لكن فيه إيهام من حيث إنّ القياس من جملة

٥٧

الاجتهاد ، فإذا استثني القياس كنّا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس » (٢).

ويلاحظ على هذا النصّ بوضوحٍ : أنّ كلمة « الاجتهاد » كانت لا تزال في الذهنيّة الإماميّة مثقلةً بتَبِعة المصطلح الأوّل ، ولهذا يلمح النصّ إلى أنّ هناك من يتحرَّج من هذا الوصف ويثقل عليه أن يسمّي فقهاء الإماميّة مجتهدين.

ولكنّ المحقّق الحلّي لم يتحرّج عن اسم الاجتهاد بعد أن طوّره ، أو تطور في عرف الفقهاء تطويراً يتّفق مع مناهج الاستنباط في الفقه الإمامي ، إذ بينما كان الاجتهاد مصدراً للفقيه يصدر عنه ، ودليلاً يستدلّ به كما يصدر عن آيةٍ أو رواية ، أصبح في المصطلح الجديد يعبِّر عن الجهد الذي يبذله الفقيه في استخراج الحكم الشرعيّ من أدلّته ومصادره ، فلم يعدْ مصدراً من مصادر الاستنباط ، بل هو عملية استنباط الحكم من مصادره التي يمارسها الفقيه.

والفرق بين المعنيين جوهريّ للغاية ، إذ كان على الفقيه ـ على أساس المصطلح الأوّل للاجتهاد ـ أن يستنبط من تفكيره الشخصيّ وذوقه الخاصّ في حالة عدم توفّر النصّ ، فإذا قيل له : ما هو دليلك ومصدر حكمك هذا؟ استدلّ بالاجتهاد ، وقال : الدليل هو اجتهادي وتفكيري الخاصّ. وأمّا المصطلح الجديد فهو لا يسمح للفقيه أن يبرِّر أيّ حكمٍ من الأحكام بالاجتهاد ؛ لأنّ الاجتهاد بالمعنى الثاني ليس مصدراً للحكم ، بل هو عملية استنباط الأحكام من مصادرها ، فإذا قال الفقيه : « هذا اجتهادي » كان معناه أنّ هذا هو ما استنبطه من المصادر والأدلّة ، فمن حقِّنا أن نسأله ونطلب منه أن يُدِلَّنا على تلك المصادر والأدلّة التي

٥٨

استنبط الحكم منها.

وقد مرّ هذا المعنى الجديد لكلمة « الاجتهاد » بتطوّرٍ أيضاً ، فقد حدّده المحقّق الحلّيّ في نطاق عمليات الاستنباط التي لا تستند إلى ظواهر النصوص ، فكلّ عملية استنباطٍ لا تستند إلى ظواهر النصوص تسمّى اجتهاداً دون ما يستند إلى تلك الظواهر. ولعلّ الدافع إلى هذا التحديد أنّ استنباط الحكم من ظاهر النصّ ليس فيه كثير جهدٍ أو عناءٍ علميٍّ ليسمّى اجتهاداً.

ثمّ اتّسع نطاق الاجتهاد بعد ذلك ؛ فأصبح يشمل عملية استنباط الحكم من ظاهر النصّ أيضاً ؛ لأنّ الاصوليِّين بعد هذا لاحظوا بحقٍّ أنّ عملية استنباط الحكم من ظاهر النصّ تستبطن كثيراً من الجهد العلميّ في سبيل معرفة الظهور وتحديده وإثبات حجّية الظهور العرفي. ولم يقف توسّع الاجتهاد كمصطلحٍ عند هذا الحدّ ، بل شمل في تطوّرٍ حديثٍ عملية الاستنباط بكلّ ألوانها ، فدخلت في الاجتهاد كلّ عمليةٍ يمارسها الفقيه لتحديد الموقف العمليّ تجاه الشريعة عن طريق إقامة الدليل على الحكم الشرعي ، أو على تعيين الموقف العمليّ مباشرة.

وهكذا أصبح الاجتهاد يرادف عملية الاستنباط ، وبالتالي أصبح علم الاصول العلم الضروريّ للاجتهاد ؛ لأنّه العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط.

* * *

وعلى هذا الضوء يمكننا أن نفسِّر موقف جماعةٍ من علمائنا الأخيار ممّن عارضوا كلمة « الاجتهاد » بما تحمل من تراث المصطلح الأوّل الذي شنّ أهل البيت عليهم‌السلام حملةً شديدةً عليه ، وهو يختلف عن الاجتهاد بالمعنى

٥٩

الثاني ، وما دمنا قد ميّزنا بين معنيَيِ الاجتهاد فنستطيع أن نعيد إلى المسألة بداهتها ، ونتبيَّن بوضوحٍ جواز الاجتهاد بالمعنى المرادف لعملية الاستنباط ، وتترتّب على ذلك ضرورة الاحتفاظ بعلم الاصول لدراسة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط.

٦٠