دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

غير معلوم لهم جميعا ، فلا يشمل التكاليف التى يشك فيها بعض العباد دون بعض.

وقد يجاب على ذلك باستظهار الانحلالية من الحديث ، بمعنى أن كل ما حجب عن عبد فهو موضوع عنه ، فالعباد لوحظوا بنحو العموم الاستغراقى لا العموم المجموعى.

ومنها : رواية عبدالله بن سنان عن أبى عبدالله عليه‌السلام أنه قال : ( كل شىء فيه حلال وحرام فهو لك حلال [ أبدا ] ، حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ) (١).

وتقريب الاستدلال أنها تجعل الحلية مع افتراض وجود حرام وحلال واقعى ، وتضع لهذه الحلية غاية ، وهى تمييز الحرام ، فهذه الحلية ظاهرية إذن ، وهى تعبير آخر عن الترخيص فى ترك التحفظ والاحتياط.

ولكن ذهب جماعة من المحققين إلى أن هذه الرواية مختصة بالشبهات الموضوعية ، وذلك لقرينتين :

الاولى : أن ظاهر قوله ( كل شىء فيه حلال وحرام ) افتراض طبيعة منقسمة فعلاإلى أفراد محللة وأفراد محرمة ، وأن هذا الانقسام هو السبب فى الشك فى حرمة هذا الفرد أو ذاك ، وهذاإنما يصدق فى الشبهة الموضوعية ، لا فى مثل الشك فى حرمة شرب التتن مثلا وأمثاله من الشبهات الحكمية ، فان الشك فيها لا ينشأ من تنوع أفراد الطبيعة ، بل من عدم وصول النص الشرعى على التحريم.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ب ٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

٣٨١

الثانية : أن مفاد الحديث إذا حمل على الشبهة الحكمية كانت كلمة ( بعينه ) تأكيدا صرفا ، لان العلم بالحرام فيها مساوق للعلم بالحرام بعينه عادة. وأما إذا حمل على الشبهة الموضوعية كان للكلمة المذكورة فائدة ملحوظة لاجل حصر الغاية للحلية بالعلم التفصيلى دون العلم الاجمالى الذى يغلب تواجده فى الشبهات الموضوعية ، إذ من الذى لا يعلم عادة بوجود جبن حرام ، وبوجود لحم حرام ، وبوجود شراب نجس؟ وإنما الشك فى أن هذا الجبن أو اللحم أو الشراب المعين هل هو من الحرام النجس أولا؟ وعليه فيكون الحمل على الشبهة الموضوعية متعينا عرفا ، لان التأكيد الصرف خلاف الظاهر.

هذه هى أهم النصوص التى استدل بها على البراءة من الكتاب والسنة. وقد لا حظنا أن بعضها تام الدلالة.

وقد يضاف إلى ذلك التمسك بعموم دليل الاستصحاب ، وذلك بأحد لحاظين :

الاول : أن نلتفت إلى بداية الشريعة فنقول : إن هذا التكليف المشكوك لم يكن قد جعل فى تلك الفترة يقينا ، لان تشريع الاحكام كان تدريجيا فيستصحب عدم جعل ذلك التكليف.

الثانى : أن يلتفت المكلف إلى حالة ما قبل تكليفه ، كحالة صغره مثلا ، فيقول : إن هذا التكليف لم يكن ثابتا على فى تلك الفترة يقينا ، ويشك فى ثبوته بعد البلوغ فيستصحب عدمه.

وقد اعترض المحقق النائينى قدس‌سره على إجراء الاستصحاب بأحد هذين اللحاظين ، بأن استصحاب عدم حدوث ما يشك فى حدوثه ، إنما يجرى إذا كان الاثر المطلوب إثباته بالاستصحاب منوطا

٣٨٢

بعدم الحدوث ، فنتوصل إليه تعبدا بالاستصحاب. ومثاله : أن نشك فى حدوث النجاسة فى الماء ، والاثر المطلوب تصحيح الوضوء به ، وهو منوط بعدم حدوث النجاسة ، فنجرى استصحاب عدم حدوث النجاسة ونثبت بالتعبد الاستصحابى أن الوضوء به صحيح ، وأماإذا كان الاثر المطلوب إثباته بالاستصحاب يكفى فى تحققه واقعا مجرد عدم العلم بحدوث ذلك الشىء ، فيكون ذلك الاثر محققا وجدانا فى حالة الشك فى الحدوث ، ولا نحتاج حينئذإلى إجراء استصحاب عدم الحدوث ، ومثال ذلك : محل الكلام لان الاثر المطلوب هنا هو التأمين ونفى استحقاق العقاب ، وهذا الاثر مترتب على مجرد عدم البيان وعدم العلم بحدوث التكليف وفقا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فهو حاصل وجدانا ، وأى معنى حينئذ لمحاولة تحصيله تعبدا بالاستصحاب ، وهل هو إلا نحو من تحصيل الحاصل.

وهذا الاعتراض غير صحيح لعدة اعتبارات.

منها : أننا ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فالاثر المطلوب لا يكفى فيه إذن مجرد عدم العلم ، كما هو واضح من مسلك حق الطاعة.

ومنها : أنه حتى إذا آمنا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان فلا شك فى أن قبح العقاب على مخالفة تكليف مشكوك لم يصل إذن الشارع فيه ثابت بدرجة أقل من قبحه على مخالفة تكليف مشكوك قد بين إذن الشارع فى مخالفته ، والمطلوب بالاستصحاب تحقيق هذه الدرجة الاعلى من قبح العقاب والمعذرية ، وما هو ثابت بمجرد الشك الدرجة الادنى ، فليس هناك تحصيل للحاصل.

٣٨٣

الاعتراضات على أدلة البراءة :

ويوجد هناك اعتراضان رئيسيان على أدلة البراءة المتقدمة.

أحدهما : أن هذه الادلة ، إنما تشمل حالة الشك البدوى ولا تشمل حالة الشك المقترن بعلم إجمالى ، كما تقدم فى الحلقة السابقة ، والفقيه حينما يلحظ الشبهات الحكمية ككل ، يوجد لديه علم إجمالى بوجود عدد كبير من التكاليف المنتشرة فى تلك الشبهات ، فلا يمكنه إجراء أصل البراءة فى أى شبهة من تلك الشبهات.

والجواب : أن العلم الاجمالى المذكور وإن كان ثابتا ولكنه منحل ، لان الفقيه من خلال استنباطه وتتبعه يتواجد لديه علم تفصيلى بعدد محدد من التكاليف لا يقل عن العدد الذى كان يعلمه بالعلم الاجمالى فى البداية ، ومن هنا يتحول علمه الاجمالى إلى علم تفصيلى بالتكليف فى هذه المواقع ، وشك بدوى فى التكليف فى سائر المواقع الاخرى. وقد تقدم فى حلقة سابقة أن العلم الاجمالى إذا انحل إلى علم تفصيلى وشك بدوى ، بطلت منجزيته ، وجرت الاصول المؤمنة خارج نطاق العلم التفصيلى.

والاعتراض الاخر أن أدلة البراءة معارضة بأدلة شرعية وروايات تدل على وجوب الاحتياط ، وهذه الروايات إما رافعة لموضوع أدلة البراءة ، وإما مكافئة لها ، وذلك أن هذه الروايات بيان لوجوب الاحتياط لا للتكليف الواقعى المشكوك.

فدليل البراءة إن كانت البراءة فيه مجعولة فى حق من لم يتم عنده البيان لا على التكليف الواقعى ، ولا على وجوب الاحتياط ، كانت تلك

٣٨٤

الروايات رافعة لموضوع البراءة المجعولة فيه باعتبارها بيانا لوجوب الاحتياط ، وإن كانت البراءة فى دليلها مجعولة فى حق من لم يتم عنده البيان على التكليف الواقعى ، فروايات الاحتياط لا ترفع موضوعها ، ولكنها تعارضها ، ومع التعارض لا يمكن أيضا الاعتماد على أدلة البراءة.

ومثال النحو الاول من أدلة البراءة :

البراءة المستفادة من قوله تعالى : « وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا » ، فان الرسول اعتبر كمثال لمطلق البيان وإقامة الحجة ، وإقامة الحجة كما تحصل بايصال الحكم الواقعى ، كذلك بالايصال وجوب الاحتياط.

فروايات وجوب الاحتياط بمثابة بعث الرسول ، وبذلك ترفع موضوع البراءة.

ومثال النحو الثانى من أدلة البراءة [ : البراءة ] المستفادة من حديث الرفع أو الحجب ، فان مفاده الرفع الظاهرى للتكليف الواقعى المشكوك ، ومعنى الرفع الظاهرى عدم وجوب الاحتياط ، فالبراءة المستفادة من هذا الحديث وأمثاله تستبطن بنفسها نفى وجوب الاحتياط وليست منوطة بعدم ثبوته.

ونستعرض فيما يلى جملة من الروايات التى تدعى دلالتها على وجوب الاحتياط ، وسنرى أنها لا تنهض لاثبات ذلك :

فمنها : المرسل عن الصادق (ع) قال : « من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه » (١) ، ونلاحظ أن الرواية غاية ما تدل عليه الترغيب فى الاتقاء ، وليس فيها ما يدل على الالزام.

__________________

(١) جامع احاديث الشيعه ج ١ ب ٨ من أبواب المقدمات الحديث ٢٨.

٣٨٥

ومنها : ما روى عن أميرالمؤمنين (ع) من أنه قال لكميل : يا كميل أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت (١).

ونلاحظ أن الرواية وإن اشتملت على أمر بالاحتياط ولكنه قيد بالمشيئة ، وهذا يصرفه عن الظهور فى الوجوب ، ويجعله [ ظاهرا ] فى إفادة أن الدين أمر مهم ، فأى مرتبة من الاحتياط تلتزم بها تجاهه فهو حسن.

ومنها : ما عن أبى عبدالله (ع) : أورع الناس من وقف عند الشبهة (٢).

ونلاحظ أن هذا البيان لا يكفى لاثبات الوجوب إذ لم يدل دليل على وجوب الاورعية.

ومنها : خبر حمزة بن طيار (٣) : انه عرض على أبى عبدالله (ع) بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعا منها قال له : كف واسكت.

ثم قال : لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد ، ويجلوا عنكم فيه العمى ، ويعرفوكم فيه الحق. قال الله تعالى : « فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون » (٤).

ونلاحظ أن هذه الرواية تأمر بالكف والتريث من أجل مراجعة الامام وأخذ الحكم منه ، لا بالكف والاجتناب بعد المراجعة وعدم التمكن من تعيين الحكم ، وما نريده هو إجراء البراءة بعد المراجعة ، والفحص لما سيأتى من أن البراءة مشروطة بالفحص ، وبذل الجهد فى

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١٦ من أبواب صفات القاضى الحديث ٤١.

(٢) نفس المصدر الحديث ٢٤ و ٣٣.

(٣) نفس المصدر الحديث ٣.

(٤) سورة النحل : ٤٣.

٣٨٦

التوصل إلى الحكم الواقعى.

ومنها : رواية أبى سعيد الزهرى عن أبى جعفر (ع) قال : الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام فى الهلكة (١).

وتقريب الاستدلال أنها تدل على وجود هلكة فى إقتحام الشبهة ، وهذا يعنى تنجز التكليف الواقعى المشكوك وعدم كونه مؤمنا عنه ، وهو معنى وجوب الاحتياط.

ويرد على ذلك أن هذا يتوقف على حمل الشبهة على الاشتباه بمعنى الشك ، مع أن الاصل فى مدلول الشبهة لغة المثل والمحاكى ، وإنما يطلق على الشك عنوان الشبهة ، لان المماثلة والمشابهة تؤدى إلى التحير والشك ، وعليه فلا موجب لحمل الشبهة على الشك ، بل بامكان حملها على ما يشبه الحق شبها صوريا ، وهو باطل فى حقيقته ، كما هو الحال فى كثير من الدعوات الباطلة التى تبدو بالتدليس وكأنها واجدة لسمات الحق ، وقد فسرت الشبهة بذلك فى جملة من الروايات ، كما فى كلام للامام لابنه الحسن حيث روى عنه أنه قال :

( وإنما سميت الشبهة شبهة لانها تشبه الحق ، فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى ، وأما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى ) (٢).

وعلى هذا الاساس يكون مفاد الرواية التحذير من الانخراط فى الدعوات والاتجاهات التى تحمل بعض شعارات الحق لمجرد حسن

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١٢ من أبواب صفات القاضى الحديث ٢.

(٢) نفس المصدر الحديث ٢٠.

٣٨٧

الظن بوضعها الظاهرى بدون تمحيص وتدقيق فى واقعها ، ولا ربط لها حينئذ بتعيين الوظيفة العملية فى موارد الشك فى التكليف.

وأما مشهور المعلقين على الرواية ، فقد افترضوا أن الشبهة بمعنى الشك تأثرا بشيوع هذا الاطلاق فى عرفهم الاصولى ، وحاولوا المناقشة فى الاستدلال بوجه آخر مبنى على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إذ على هذا المسلك تكون الشبهة البدوية مؤمنا عنها بالقاعدة المذكورة ما لم يجعل الشارع منجزا للتكليف المشكوك بايجاب الاحتياط ونحو ذلك ، وهذا معناه أن التنجز واستحقاق العقاب من تبعات وجوب الاحتياط وليس سابقا عليه ، ونحن إذا لا حظنا الرواية المذكورة نجد أنها تفترض مسبقا أن الاقدام مظنة للهلكة ، وتنصح بالوقوف حذرا من الهلكة ، ومقتضى ذلك أنها تتحدث عن تكاليف قد تنجزت وخرجت عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان فى المرتبة السابقة ، وليست بصدد إيجاب الاحتياط وتنجيز الواقع المشكوك بنفسها ، ونتيجة ذلك أن الرواية لا تدل على وجوب الاحتياط ، وأنها تختص بالحالات التى يكون التكليف المشكوك فيها منجزا بمنجز سابق ، كالعلم الاجمالى ونحوه.

ومنها : رواية جميل عن أبى عبدالله (ع) عن آبائه قال : قال رسول الله (ص) : الامور ثلاثة : أمر بين لك رشده فاتبعه ، وأمر بين لك غيه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فرده إلى الله (١).

وكأنه يراد أن يدعى أن الشبهات الحكمية من القسم الثالث ، وقد

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ب ٨ من أبواب المقدمات الحديث ٤٥.

٣٨٨

أمرنا فيه بالردإلى الله وعدم الترسل فى التصرف ، وهو معنى الاحتياط.

ويرد عليه أولا : أن الردإلى الله ليس بمعنى الاحتياط ، بل لعله بمعنى الرجوع إلى الكتاب والسنة فى استنباط الحكم فى مقابل ما يكون بينا متفقا على رشده أو غيه ، فكأنه قيل : إن ما كان متفقا على غيه ورشده وبينا فى نفسه عومل على أساس ذلك ، وما كان مختلفا فيه فلا بد من الرجوع فيه إلى الكتاب والسنة ، ولا يجوز التخرص فيه والرجم بالغيب ، وبهذا يكون مفاد الرواية أجنبيا عما هو المقصود فى المقام.

وثانيا : لو سلم أن المراد بالامر بالردإلى الله الامر بالاحتياط ، فنحن ننكر أن تكون الشبهة الحكمية بعد قيام الدليل الشرعى على البراءة من القسم الثالث ، بل الاقدام فيها بين الرشد لقيام الدليل القطعى على إذن الشارع فى ذلك.

وعلى العموم فالظاهر عدم تمامية سائر الروايات التى يستدل بها على وجوب الاحتياط ، وعليه فدليل البراءة سليم عن المعارض.

ولو سلمنا المعارضة كان الرجحان فى جانب البراءة لا وجوب الاحتياط ، وذلك لوجوه :

منها : أن دليل البراءة قرآنى ، ودليل وجوب الاحتياط من أخبار الاحاد ، وكلما تعارض هذان القسمان قدم الدليل القرآنى القطعى ، ولم يكن خبر الواحد حجة فى مقابله.

ومنها : أن دليل البراءة لا يشمل حالات العلم الاجمالى كما سيأتى ، ودليل وجوب الاحتياط شامل لذلك ، فيكون دليل البراءة أخص فيخصصه.

ومنها : أن دليل وجوب الاحتياط أخص من دليل الاستصحاب

٣٨٩

القاضى باستصحاب عدم التكليف ، فان افترضنا أن دليل الاحتياط ودليل البراءة متكافئان وتساقطا رجعناإلى دليل الاستصحاب ، إذ كلما وجد عدم ( كدليل الاستصحاب ) ومخصص ( كدليل الاحتياط ) ومعارض للمخصص ( كدليل البراءة ) سقط المخصص مع معارضه ورجعناإلى العام.

٣٩٠

تحديد مفاد البراءة

بعد أن ثبت أن الوظيفة العملية الثانوية هى أصالة البراءة ، نتكلم عن تحديد مفاد هذا الاصل وحدوده ، وذلك فى عدة نقاط.

البراءة مشروطة بالفحص :

النقطة الاولى : فى أن هذا الاصل مشروط بالفحص واليأس عن الظفر بدليل فلا يجوز إجراء البراءة لمجرد الشك فى التكليف ، وبدون فحص فى مظان وجوده من الادلة.

وقد يتراءى فى بادىء الامر أن فى أدلة البراءة الشرعية إطلاقا حتى لحالة ما قبل الفحص ، كما فى ( رفع ما لا يعلمون ) فان عدم العلم صادق قبل الفحص أيضا ، ولكن هذا الاطلاق يجب رفع اليد عنه ، وذلك للامور التالية :

أولا : أن بعض أدلة البراءة تثبت المسؤولية والادانة فى حالة وجود بيان على التكليف فى معرض الوصول على نحو لو فحص عنه المكلف لوصل إليه ، فمثلا : الاية الثانية إذا تمت دلالتها على البراءة ، فهى تدل

٣٩١

فى نفس الوقت على أن البراءة مغياة ببعث الرسول ، وبعد حمل الرسول على المثال يثبت أن الغاية هى توفير البيان على نحو يتاح للمكلف الوصول إليه ، كما هو شأن الناس مع الرسول ، وعليه فيثبت بمفهوم الغاية أنه متى توفر البيان على هذا النحو فاستحقاق العذاب ثابت ، ومن الواضح أن الشاك قبل الفحص يحتمل تحقق الغاية وتوفر البيان ، فلا بد من الفحص ، وكذلك أيضا الاية الرابعة ، فان البيان لهم جعل غاية للبراءة ، وهو يصدق مع توفير بيان فى معرض الوصول.

وثانيا : أن للمكلف علماإجماليا بوجود تكاليف فى الشبهات الحكمية كما تقدم ، وهذا العلم إنما ينحل بالفحص لكى يحرز عدد من التكاليف بصورة تفصيلية ، وما لم ينحل لا تجرى البراءة ، فلا بد من الفحص إذن.

وثالثا : أن الاخبار الدالة على وجوب التعلم (١) وأن المكلف يوم القيامة يقال له : لماذا لم تعمل؟ فاذا قال : لم أعلم. يقال له : لماذا لم تتعلم؟ تعتبر مقيدة لاطلاق دليل البراءة ومثبتة أن الشك بدون فحص وتعلم ليس عذرا شرعا.

التمييز بين الشك فى التكليف والشك فى المكلف به :

النقطة الثانية : فى أن الضابط لجريان أصل البراءة هو الشك فى التكليف لا الشك فى المكلف به.

وتوضيح ذلك : أن المكلف تارة يشك فى ثبوت الحكم الشرعى ،

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة الباب الاول من أبواب المقدمات.

٣٩٢

كماإذا شك فى حرمة شرب التتن أو فى وجوب صلاة الخسوف ، وأخرى يعلم بالحكم الشرعى ويشك فى امتثاله ، كما إذا علم بأن صلاة الظهر واجبة وشك فى أنها هل أتى بها أولا.

فالشك الاول هو مجرى البراءة العقلية والبراءة الشرعية عند المشهور ، وهو مجرى البراءة الشرعية عندنا.

والشك الثانى لا تجرى فيه البراءة العقلية ولا الشرعية ، لان التكليف فيه معلوم ، وإنما الشك فى امتثاله والخروج عن عهدته ، فيجرى هنا أصل يسمى بأصالة الاشتغال ، ومفاده : كون التكليف فى العهدة حتى يحصل الجزم بامتثاله. وعلى الفقيه أن يميز بدقة كل حالة من حالات الشك التى يفترضها ، وهل أنها من الشك فى التكليف لتجرى البراءة ، أو من الشك فى المكلف به لتجرى أصالة الاشتغال؟.

والتمييز فى الشبهات الحكمية واضح عادة ، لان الشك فى الشبهة الحكمية إنما يكون عادة فى التكليف ، وأما الشبهات الموضوعية ، ففيها من كلا القسمين ، ولهذا لا بد من تمييز الشبهة الموضوعية بدقة وتحديد دخولها فى هذا القسم أو ذاك.

وقد يقال فى بادىء الامر أن الشبهة الموضوعية ليس الشك فيها شكا فى التكليف ، بل التكليف فى الشبهات الموضوعية معلوم دائما فلا تجرى البراءة.

والجواب : أن التكليف بمعنى الجعل معلوم فى حالات الشبهة الموضوعية ، وأما التكليف بمعنى المجعول فهو مشكوك فى كثير من هذه الحالات ، ومتى كان مشكوكا جرت البراءة.

وتوضيح ذلك : أن الحكم إذا جعل مقيدا بقيد كان وجود

٣٩٣

التكليف المجعول وفعليته تابعا لوجود القيد خارجا وفعليته ، وحينئذ فالشك يتصور على أنحاء :

النحو الاول : أن يشك فى أصل وجود القيد ، وهذا يعنى الشك فى فعلية التكليف المجعول فتجرى البراءة.

ومثاله : أن يكون وجوب الصلاة مقيدا بالخسوف ، فاذا شك فى الخسوف شك فى فعلية الوجوب ، فتجرى البراءة.

النحو الثانى : أن يعلم بوجود القيد فى ضمن فرد ويشك فى وجوده ضمن فرد آخر.

ومثاله : أن يكون وجوب إكرام الانسان مقيدا بالعدالة ، ويعلم بأن هذا عادل ويشك فى أن ذاك عادل.

ومثال آخر : أن يكون وجوب الغسل مقيدا بالماء ، بمعنى أنه يجب الغسل بالماء ويعلم بأن هذا ماء ويشك فى أن ذاك ماء.

وهناك فرق بين المثالين وهو أن المشكوك فى المثال الاول لو كان فردا ثانيا حقا لحدث وجوب آخر للاكرام ، لان وجوب الاكرام بالنسبة إلى أفراد العادل شمولى وانحلالى ، بمعنى أن كل فرد له وجوب إكرام ، وأما المشكوك فى المثال الثانى فهو لو كان فردا ثانيا حقا للماء لما حدث وجوب آخر للغسل ، لان وجوب الغسل بالنسبة إلى أفراد الماء بدلى ، فلا يجب الغسل بكل فرد من الماء بل بصرف الوجود ، فكون المشكوك فردا من الماء لا يعنى تعددا فى الواجب ، بل يعنى أنك لو غسلت به لكفاك ولا عتبرت ممتثلا ، وعلى هذا تجرى البراءة فى المثال الاولى ، لان الشك شك فى الوجوب الزائد فلا يجب أن تكرم من تشك فى عدالته ، وتجرى أصالة الاشتغال فى المثال الثانى ، لان الشك شك فى الامتثال

٣٩٤

فلا يجوز أن تكتفى بالغسل بالمائع الذى تشك فى أنه ماء.

النحو الثالث : أن لا يكون هناك شك فى القيدإطلاقا ، وإنما الشك فى وجود متعلق الامر ، وهذا واضح فى أنه شك فى الامتثال مع العلم بالتكليف ، فتجرى أصالة الاشتغال.

وهنا مورد الكلمة المعروفة القائلة : إن الشغل اليقينى يستدعى الفراغ اليقينى.

النحو الرابع : أن يشك فى وجود مسقط شرعى للتكليف ، ذلك أن التكليف كما يسقط عقلا بالامتثال أو العصيان ، كذلك قد يسقط بمسقط شرعى من قبيل الاضحية المسقطة شرعا للامر بالعقيقة ، وعليه فقد يشك فى وقوع المسقط الشرعى ، إما على نحو الشبهة الحكمية بأن يكون قد ضحى ويشك فى أن الشارع هل جعلها مسقطة؟. أو على نحو الشبهة الموضوعية بأن يكون عالما بأن الشارع جعل الاضحية مسقطة ، ولكنه يشك فى أنه ضحى.

والمسقط الشرعى لا يكون مسقطا إلا إذا أخذ عدمه قيدا فى الطلب أو الوجوب ، وحينئذ فان فرض أنه احتمل أخذ عدمه قيدا وشرطا فى الوجوب على نحو لا يحدث وجوب مع وجود المسقط ، فالشك فى المسقط بهذا المعنى يكون شكا فى أصل التكليف ، ويدخل فى النحو الاول المتقدم ، وإن فرض أن مسقطيته كانت بمعنى أخذ عدمه قيدا فى بقاء الوجوب ، فهو مسقط بمعنى كونه رافعا للوجوب لا أنه مانع عن حدوثه ، فالوجوب معلوم ويشك فى سقوطه ، والمعروف فى مثل ذلك أن الشك فى السقوط هنا كالشك فى السقوط الناشىء من احتمال الامتثال يكون مجرى لاصالة الاشتغال لا للبراءة ، ولكن الاصح أنه فى نفسه مجرى

٣٩٥

للبراءة ، لان مرجعه إلى الشك فى الوجوب بقاء ، ولكن استصحاب بقاء الوجوب مقدم على البراءة.

البراءة عن الاستحباب :

النقطة الثالثة : فى أن البراءة هل تجرى عند الشك فى التكاليف الالزامية فقط أو تشمل موارد الشك فى الاستحباب والكراهية أيضا؟

ولعل المشهور أنها لا تجرى فى موارد الشك فى حكم غيرإلزامى لقصور أدلتها. أما ما كان مفاده السعة ونفى الضيق والتأمين من ناحية العقاب فواضح ، لان الحكم الاستحبابى المشكوك مثلا لا ضيق ولا عقاب من ناحيته جزما ، فلا معنى للتأمين عنه بهذا اللسان. وأما ما كان بلسان ( رفع ما لا يعلمون ) فهو وإن لم يفترض كون المرفوع مما فيه مظنة للعقاب ، ولكن لا محصل لا جرائه فى الاستحباب المشكوك ، لانه إن اريد بذلك إثبات الترخيص فى الترك فهو متيقن فى نفسه ، وإن اريد عدم رجحان الاحتياط فهو معلوم البطلان ، لوضوح أن الاحتياط راجح على أى حال.

٣٩٦

٢ ـ قاعدة منجزية العلم الاجمالى

كل ما تقدم كان فى تحديد الوظيفة العملية فى حالات الشك البدوى المجرد عن العلم الاجمالى.

وقد نفترض الشك فى إطار علم إجمالى ، والعلم الاجمالى ، كما عرفنا سابقا ، علم بالجامع مع شكوك بعدد أطراف العلم ، وكل شك يمثل احتمالا من احتمالات انطباق الجامع ، ومورد كل واحد من هذه الاحتمالات يسمى بطرف من أطراف العلم الاجمالى ، والواقع المجمل المردد بينها هو المعلوم بالاجمال.

والكلام فى تحديد الوظيفة العملية تجاه الشك المقرون بالعلم الاجمالى تارة يقع بلحاظ حكم العقل وبقطع النظر عن الاصول الشرعية المؤمنة كأصالة البراءة ، واخرى يقع بلحاظ تلك الاصول ، فهنا مقامان :

منجزية العلم الاجمالى عقلا :

أما المقام الاول فلا شك فى أن العلم بالجامع الذى يتضمنه العلم

٣٩٧

الاجمالى حجة ومنجز.

ولكن السؤال أنه ما هو المنجز بهذا العلم؟.

فاذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة ، وكان الواجب فى الواقع الظهر ، فلا شك فى أن الوجوب يتنجز بالعلم الاجمالى ، وإنما البحث فى أن الوجوب بأى مقدار يتنجز بالعلم ، فهل يتنجز وجوب صلاة الظهر خاصة بوصفه المصداق المحقق واقعا للجامع المعلوم؟ أو كلا الوجوبين المعلوم تحقق الجامع بينهما؟ أو الوجوب بمقدارإضافته إلى الجامع بين الظهر والجمعة لاإلى الظهر بالخصوص ولا إلى الجمعة كذلك؟ فعلى الاول يدخل فى العهدة بسبب العلم صلاة الظهر خاصة باعتبارها الواجب الواقعى الذى تنجز بالعلم الاجمالى ، ولكن حيث أن المكلف لا يميز الواجب الواقعى عن غيره لزمه الاتيان بالطرفين ليضمن الاتيان بما تنجز واشتغلت به عهدته ، ويسمى الاتيان بكلا الطرفين موافقة قطعية للتكليف المعلوم بالاجمال.

وعلى الثانى يدخل فى العهدة بسبب العلم كلتا الصلاتين معا ، فتكون الموافقة القطعية واجبة عقلا بسبب العلم المذكور مباشرة.

وعلى الثالث يدخل فى العهدة بسبب العلم الجامع بين الصلاتين ، لان الوجوب لم يتنجز بالعلم إلا بقدر إضافته إلى الجامع ، فلا يسعه ترك الجامع بترك كلا الطرفين معا ، ويسمى تركهما معا بالمخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال فيكفيه أن يأتى بأحدهما ، لان ذلك يفى بالجامع ويسمى الاتيان بأحد الطرفين دون الاخر موافقة احتمالية.

وقد يقال بالافتراض الاول باعتبار أن المصداق الواقعى هو المطابق الخارجى للصورة العلمية ، وحيث أن العلم ينجز بما هو مرآة للخارج ،

٣٩٨

ولا خارج بازائه إلا ذلك المصداق ، فيكون هو المنجز بالعلم.

وقد يقال بالافتراض الثانى باعتبار أن العلم بالجامع نسبته بما هو إلى كل من الطرفين على نحو واحد ، ومجرد كون أحد الطرفين محققا دون الاخر لا يجعل الجامع بما هو معلوم منطبقا عليه دون الاخر.

وقد يقال بالافتراض الثالث باعتبار أن العلم حيث إنه لا يسرى من الجامع إلى أى من الطرفين بخصوصه ، فالتنجز المعلوم له يقف على الجامع أيضا ، ولا يسرى منه ، وهذا هو الصحيح.

وعليه فان بنى على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فاللازم رفع اليد عن هذه القاعدة بقدر ما تنجز بالعلم ، وهو الجامع ، فكل من الطرفين لا يكون منجزا بخصوصيته بل بجامعه ، وينتج حينئذ أن العلم الاجمالى يستتبع عقلا حرمة المخالفة القطعية دون وجوب الموافقة القطعية.

وإن بنى على مسلك حق الطاعة ، فالجامع منجز بالعلم ، وكل من الخصوصيتين للطرفين منجزة بالاحتمال ، وبذلك تحرم المخالفة القطعية ، وتجب الموافقة القطعية عقلا ، غير أن حرمة المخالفة القطعية عقلا تمثل منجزية العلم ، ووجوب الموافقة القطعية يمثل منجزية مجموع الاحتمالين.

وعلى هذا فالمسلكان مشتركان فى التسليم بتنجز الجامع بالعلم ، ويمتاز المسلك الثانى بتنجز الطرفين بالاحتمال.

هذا كله فى المقام الاول.

جريان الاصول فى أطراف العلم الاجمالى :

وأما المقام الثانى ، وهو الكلام عن جريان الاصول الشرعية المؤمنة

٣٩٩

فى أطراف العلم الاجمالى ، فهو تارة بلحاظ عالم الامكان ، واخرى بلحاظ عالم الوقوع.

أما بلحاظ عالم الامكان فقد ذهب المشهورإلى استحالة جريان البراءة وأمثالها فى كل أطراف العلم الاجمالى لامرين :

الاول : أنها ترخيص فى المخالفة القطعية ، والمخالفة القطعية معصية محرمة وقبيحة عقلا ، فلا يعقل ورود الترخيص فيها من قبل الشارع.

وهذا الكلام ليس بشىء ، لانه يرتبط بتشخيص نوعية حكم العقل بحرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال ، فان كان حكما معلقا على عدم ورود الترخيص الظاهرى من المولى على الخلاف ، فلا يكون الترخيص المولوى مصادما له بل رافعا لموضوعة ، فمرد الاستحالة إلى دعوى أن حكم العقل ليس معلقا ، بل هو منجز ومطلق ، وهى دعوى غير مبرهنة ولا واضحة.

الثانى : أن الترخيص فى المخالفة القطعية ينافى الوجوب الواقعى المعلوم بالاجمال ، فبدلا عن الاستدلال بالمنافاة بين الترخيص المذكور وحكم العقل كما فى الوجه السابق يستدل بالمنافاة بينه وبين الوجوب الواقعى المعلوم لما تقدم من أن الاحكام التكليفية متنافية ومتضادة ، فلا يمكن أن يوجب المولى شيئا ، ويرخص فى تركه فى وقت واحد.

وهذا الكلام [ إنما يتم ] إذا كان الترخيص المذكور واقعيا ، أى لم يؤخذ فى موضوعه الشك ، كما لو قيل بأنك مرخص فى ترك الواجب الواقعى المعلوم إجمالا ، ولا يتم إذا كان الترخيص المذكور متمثلا فى ترخيصين ظاهريين كل منهما مجعول على طرف ومترتب على الشك فى ذلك الطرف ، وذلك لما تقدم من أن التنافى إنما هو بين الاحكام

٤٠٠