دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

التخيير والكفائية فى الواجب

الخطاب الشرعى المتكفل للوجوب على نحوين :

أحدهما : أن يبين فيه وجوب عنوان كلى واحد ، وتجرى قرينة الحكمة لاثبات الاطلاق فى الواجب ، وأنه إطلاق بدلى ، كماإذا قال : صل ، فيكون الواجب طبيعى الصلاة ، ويكون مخيرا بين أن يطبق هذا الطبيعى على الصلاة فى المسجد أو على الصلاة فى البيت ، إلا أن هذا التخيير ليس شرعيا ، بل هو عقلى بمعنى أن الخطاب الشرعى لم يتعرض إلى هذا التخيير ، ولم يذكر هذه البدائل مباشرة ، وإنما يحكم العقل والعرف بالتخيير المذكور.

والنحو الاخر : أن يتعرض الخطاب الشرعى مباشرة للتخيير بين شيئين ، فيأمر بهما على سبيل البدل فيقول مثلا : صل أو أعتق رقبة ، ويسمى التخيير حينئذ شرعيا ، والوجوب بالوجوب التخييرى.

التخيير الشرعى فى الواجب :

ولا شك فى أن الوجوب التخييرى ثابت فى الشريعة فى مواقع

٣٤١

عديدة ، وله خصائص متفق عليها ، منها :

( أن المكلف يعد ممتثلا بإتيان أحد الشيئين أو الاشياء ) ، ( ويعد عاصياإذا ترك البدائل كلها ، غير أنها معصية واحدة ، ولها عقاب واحد ) ، ( وإذا أتى بالشيئين معا فقد امتثل أيضا ).

وقد وقع البحث فى تحليل حقيقة الوجوب التخييرى ، فقيل : إن مرجعه إلى التخيير العقلى بمعنى أنه وجوب واحد متعلق بالجامع بين الشيئين تبعا لقيام الملاك به ، سواء كان هذا الجامع عنوانا أصيلا ، أو عنواناإنتزاعيا كعنوان ( أحدهما ) ، وقيل : إن مرجعه إلى وجوبين مشروطين بمعنى : أن كلا من العدلين واجب وجوبا مشروطا بترك الاخبر ، ومرد هذين الوجوبين إلى ملاكين وغرضين غير قابلين للاستيفاء معا ، فمن أجل تعدد الملاك وقيام ملاك خاص بكل من العدلين تعدد الوجوب ، ومن أجل عدم إمكان استيفاء الملاكين معا جعل الوجوب فى كل منهما مشروطا بترك الاخر.

وقد لوحظ على التفسير الثانى بأن لازمه :

أولا : تعدد المعصية والعقاب فى حالة ترك العدلين معا ، كما هو الحال فى حالات التزاحم بين واجبين لو تركهما المكلف معا.

وثانيا : عدم تحقق الامتثال عند الاتيان بكلا الامرين ، إذ لا يكون كل من الوجوبين حينئذ فعليا ، وكلا اللازمين معلوم البطلان.

وتوجد ثمرات تترتب على تفسير الوجوب التخييرى بهذا الوجه أو بذاك ، وقد يذكر منها جواز التقرب بأحد العدلين بخصوصه على التفسير الثانى لانه متعلق للامر بعنوانه ، وعدم جواز ذلك على التفسير الاول ، لان الامر متعلق بالجامع ، فالتقرب ينبغى أن يكون بالجامع المحفوظ فى

٣٤٢

ضمنه كما هى الحالة فى سائر موارد التخيير العقلى.

ثم إن العدلين فى موارد الوجوب التخييرى يجب أن يكونا متباينين ، ولا يمكن أن يكونا من الاقل والاكثر ، لان الزائد حينئذ مما يجوز تركه بدون بديل ، ولا معنى لافتراضه واجبا ، فالتخيير بين الاقل والاكثر فى الايجاب غير معقول.

ويشابه ما تقدم الحديث عن الوجوب الكفائى ، وهل هو وجوب موجه إلى جامع المكلف ، أو وجوبات متعددة بعدد أفراد المكلفين ، غير أن الوجوب على كل فرد مشروط بترك الاخرين.

التخيير العقلى فى الواجب :

حينما يأمر المولى بطبيعى فعل على نحو صرف الوجود والاطلاق البدلى ، فيقول : أكرم زيدا ، والاكرام له حصص ، فالتخيير بين الحصص عقلى لا شرعى كما تقدم ، وإذا اختار المكلف أن يكرمه باهداء كتاب له لا يكون اختيار المكلف لهذه الحصة من الاكرام موجبا للكشف عن تعلق الوجوب بها خاصة ، بل الوجوب بمبادئه متعلق بالطبيعى الجامع ، ولهذا لو أتى المكلف بحصة اخرى لكان ممتثلا أيضا ، وبهذا صح أن يقال : إن تلك الحصة ليست متعلقا للامر ، وإنما هى مصداق لمتعلق الامر ، وإن متعلق الامر نسبته إلى سائر الحصص على نحو واحد ، والوجوب لا يسرى من الجامع إلى الحصة بمجرد تطبيق المكلف ، لان استقرار الوجوب على متعلقه إنما هو بالجعل ، والمفروض أنه قد جعل على الطبيعى الجامع الملحوظ بنحو صرف الوجود.

وخلافا لذلك ماإذا أمر المولى بالطبيعى على نحو الاطلاق الشمولى

٣٤٣

أو العموم ومطلق الوجود ، فقال : أكرم زيدا بكل أشكال الاكرام ، فان كل شكل منها يعتبر متعلقا للوجوب وليس مجرد مصداق للمتعلق ، فالوجوب هنا يتعدد وتنال كل حصة وجوبا خاصا بها.

وكما رأينا سابقا وجود محاولة لارجاع الوجوب التخييرى إلى وجوب واحد للجامع ، فان هناك محاولة معاكسة ممن يرى أن الوجوب التخييرى وجوبان مشروطان وهى : محاولة إرجاع الوجوب المتعلق بالطبيعى الجامع على نحو صرف الوجودإلى وجوبات متعددة للحصص ، مشروط كل واحد منها بعدم الاتيان بسائر الحصص ، وقد يعبر عن هذه المحاولة بأن الاوامر متعلقة بالافراد لا بالطبائع.

٣٤٤

امتناع اجتماع الامر والنهى

لا شك فى التنافى والتضاد بين الاحكام التكليفية الواقعية كما تقدم ، وهذا التنافى إنما يتحقق إذا كان المتعلق واحدا ، فوجوب الصلاة ينافى حرمتها ، ولا ينافى حرمة النظر إلى الاجنبية ، لان الصلاة والنظر أمران متغايران ، وإن كانا قد يوجدان فى وقت واحد وفى موقف واحد ، فلا محذور فى أن يكون أحدهما حراما والاخر واجبا.

وهناك حالتان يقع البحث فى أنهما هل تلحقان بفرض وحدة المتعلق أو تعدده.

الحالة الاولى : فيماإذا كان الوجوب متعلقا بالطبيعى على نحو صرف الوجود والاطلاق البدلى ، والحرمة متعلقة بحصة من حصص ذلك الطبيعى ، كما فى ( صل ) و ( لا تصل فى الحمام ) مثلا ، فإن الحصة والطبيعى باعتبار وحدتهما الذاتية قد يقال : إن المتعلق واحد فيستحيل أن يتعلق الوجوب بالطبيعى والحرمة بالحصة ، وباعتبار تغاير هما بالاطلاق والتقييد قد يقال : بأنه لا محذور فى وجوب الطبيعى وحرمة الحصة.

٣٤٥

والتحقيق : أن وجوب الطبيعى يستدعى التخيير العقلى فى مقام الامتثال بين حصصه وأفراده.

فان قلنا : بأن هذا الوجوب مرده إلى وجوبات مشروطة للحصص ، فالصلاة فى الحمام إذن باعتبارها حصة من الطبيعى متعلق لوجوب خاص مشروط ، فلو تعلقت بها الحرمة أيضا لزم اجتماع الحكمين المتنافيين على متعلق واحد.

وإن أنكرنا إرجاع وجوب الطبيعى إلى وجوبات مشروطة ، ولكن قلنا : إن الحصة التى يختارها المكلف فى مقام امتثاله يسرى إليها الوجوب ، أو على الاقل تسرى إليها مبادى الوجوب من الحب والارادة ، وتقع على صفة المحبوبية الفعلية ، فأيضا لا يمكن أن نفترض حينئذ تعلق الحرمة بالحصة ، إذ فى حالة إيقاعها فى الخارج يلزم أن تكون محبوبة ومبغوضة فى وقت واحد وهو مستحيل.

وأما إذا قلنا بأن الوجوب وجوب واحد متعلق بالجامع ولا يسرى إلى الحصص ، وأن الحصة التى تقع خارجا منه لا تكون متعلقا للوجوب ولا لمبادئه ، وإنما هى مصداق للواجب وللمحبوب وليست هى الواجب أو المحبوب ، فلا محذور فى أن يتعلق الامر بالجامع على نحو صرف الوجود ، ويتعلق النهى بحصة منه.

ثم إذا تجاوزنا هذا البحث وافترضنا الاستحالة ، فبالامكان أن ندخل عنصرا جديدا ، لنرى أن الاستحالة هل ترتفع بذلك أولا ، فنحن حتى الان كنا نفترض أن الامر والنهى يتعلقان بعنوان واحد وهو الصلاة غير أن الامر متعلق بالطبيعى والنهى متعلق بالحصة ، والان نفترض الحالة الثانية.

٣٤٦

الحالة الثانية : أن لا يكون النهى المتعلق بالحصة متعلقا بها بنفس العنوان الذى تعلق به الامر ، وهو الصلاة فى المثال ، بل بعنوان آخر ، كما فى ( صل ) و ( لا تغصب ). فاذا صلى فى مكان مغصوب كان ما وقع منه باعتباره صلاة مصداقا للواجب ، وباعتباره غصبا حراما ، أى أن له عنوانين ، والامر متعلق بأحدهما والنهى بالاخر ، فهل يكفى تغاير العنوانين فى إمكان التوفيق بين الامر بالصلاة والنهى عن الغصب وتصادقهما على الصلاة فى المغصوب أولا؟.

فقد يقال بأن ذلك يكفى لان الاحكام تتعلق بالعناوين لا بالاشياء الخارجية مباشرة ، وبحسب العناوين يكون متعلق الامر مغايرا لمتعلق النهى ، وأما الشىء الخارجى الذى تصادق عليه العنوانان ، فهو وإن كان واحدا ولكن الاحكام لا تتعلق به مباشرة ، فلا محذور فى إجتماع الامر والنهى عليه بتوسط عنوانين ، بل هناك من يذهب إلى أن تعدد العنوان يكشف عن تعدد الشىء الخارجى أيضا ، فكما أن الغصب غير الصلاة عنوانا ، كذلك غيرها مصداقا ، وإن كان المصداقان متشابكين وغير متميزين خارجا ، فيكون الجواز لو صح هذا أوضح.

وقد يقال : بأن تعدد العنوان لا يكفى ، لان العناوين إنما تتعلق بها الاحكام باعتبارها مرآة للخارج لا بما هى مفاهيم مستقلة فى الذهن ، فلكى يرتفع التنافى بين الامر والنهى لابد أن يتعدد الخارج ، ولا يمكن أن نبرهن على تعدده عن طريق تعدد العنوان ، لان العناوين المتعددة قد تنتزع عن شىء واحد فى الخارج.

وثمرة هذا البحث واضحة ، فانه على القول بامتناع إجتماع الامر والنهى ، يقع التعارض حتما بين دليل الامر ودليل النهى ، لان الاخذ

٣٤٧

باطلاق الدليلين معا معناه إجتماع الامر والنهى ، وهو مستحيل بحسب الفرض ، ويجب أن يعالج هذا التعارض بين الدليلين وفقا للقواعد العامة للتعارض ، وخلافا لذلك إذا قلنا بالجواز ، فانا نأخذ حينئذ باطلاق الدليلين معا بدون محذور.

٣٤٨

الوجوب الغيرى لمقدمات الواجب

لا شك فى أن المكلف مسؤول عقلا عن توفير المقدمات العقلية والشرعية للواجب ، إذ لا يمكنه الامتثال بدون ذلك ، ولكن وقع البحث فى أن هذه المقدمات هل تتصف بالوجوب الشرعى تبعا لوجوب ذيها ، بمعنى أنه هل يترشح عليها فى نفس المولى إرادة من إرادته للواجب الاصيل ، ووجوب من إيجابه لذلك الواجب؟.

فهناك من ذهب إلى أن إرادة شىء وإيجابه يستلزمان إرادة مقدماته وإيجابها ، وتسمى الارادة المترشحة بالارادة الغيرية ، والوجوب المترشح بالوجوب الغيرى ،فى مقابل الارادة النفسية والوجوب النفسى ، وهناك من أنكر ذلك.

وقد يقال بالتفصيل بين الارادة والايجاب ، فبالنسبة إلى الارادة وما تعبر عنه من حب يقال بالملازمة والترشح ، فحب الشىء يكون علة لحب مقدمته ، وبالنسبة إلى الايجاب والجعل يقال بعدم الملازمة.

والقائلون بالملازمة يتفقون على أن الوجوب الغيرى معلول للوجوب النفسى ، وعلى هذا الاساس لا يمكن أن يسبقه فى الحدوث ، كما لا يمكن

٣٤٩

أن يتعلق بقيود الوجوب ، لان الوجوب النفسى لا يوجد إلا بعد افتراض وجودها ، والوجوب الغيرى لا يوجدإلا بعد افتراض الوجوب النفسى ، وهذا يعنى أن الوجوب الغيرى مسبوق دائما بوجود قيود الوجوب ، فكيف يعقل أن يتعلق بها وإنما يتعلق بقيود الواجب ومقدماته العقلية والشرعية.

كما أنهم يتفقون على أن الوجوب الغيرى ليس له حساب مستقل فى عالم الادانة واستحقاق العقاب ، لوضوح أنه لا يتعدد استحقاق العقاب بتعدد ما للواجب النفسى المتروك من مقدمات ، كما أن الوجوب الغيرى لا يمكن أن يكون مقصودا للمكلف فى مقام الامتثال على وجه الاستقلال ، بل يكون التحرك عنه دائما فى إطار التحرك عن الوجوب النفسى ، فمن لا يتحرك عن الامر بذى المقدمة ، لا يمكنه أن يتحرك من قبل الوجوب الغيرى ، لان الانقياد إلى المولى إنما يكون بتطبيق المكلف إرادته التكوينية على إرادة المولى التشريعية ، ولما كانت إرادة المولى للمقدمة تبعية ، فكذلك لابد أن يكون حال المكلف.

واختلاف القائلون بالملازمة بعد ذلك فى أن الوجوب الغيرى ، هل يتعلق بالحصة الموصلة من المقدمة إلى ذيها ، أو بالجامع المنطبق على الموصل وغيره؟.

فلو أتى المكلف بالمقدمة ولم يأت بذيها يكون قد أتى بمصداق الواجب الغيرى على الوجه الثانى دونه على الوجه الاول.

ولا برهان على أصل الملازمة إثباتا أو نفيا فى عالم الارادة ، وإنما المرجع الوجدان الشاهد بوجودها ، وأما فى عالم الجعل والايجاب فالملازمة لا معنى لها ، لان الجعل فعل إختيارى للفاعل ، ولا يمكن أن

٣٥٠

يترشح من شىء آخر ترشحا ضروريا ، كما هو معنى الملازمة.

وأما ثمرة هذا البحث : فقد يبدو على ضوء ما تقدم أنه لا ثمرة له مادام الوجوب الغيرى غير صالح للادانة والمحركية ، وإنما هو تابع محض ، ولا إدانة ولا محركية إلا للوجوب النفسى ، والوجوب النفسى يكفى وحده لجعل المكلف مسؤولا عقلا عن توفير المقدمات ، لان امتثاله لا يتم بدون ذلك ، فأى فرق بين افتراض وجود الوجوب الغيرى وافتراض عدمه.

ولكن قد يمكن تصوير بعض الثمرات ، ومثال ذلك :

أنه إذا وجب إنقاذ الغريق ، وتوقف على مقدمة محرمة أقل أهمية ، وهى إتلاف زرع الغير ، فيجوز للمكلف ارتكاب المقدمة المحرمة تمهيدا لانقاذ الغريق ، فاذاافترضنا أن المكلف ارتكب المقدمة المحرمة ولم ينقذ الغريق ، فعلى القول بالملازمة ، وبأن الوجوب الغيرى يتعلق بالجامع بين الحصة الموصلة وغيرها ، تقع المقدمة التى ارتكبها المكلف مصداقا للواجب ولا تكون محرمة فى تلك الحالة ، لامتناع إجتماع الوجوب والحرمة على شىء واحد ، وعلى القول بانكار الملازمة أو باختصاص الوجوب الغيرى بالحصة الموصلة لا تقع المقدمة المذكورة مصداقا للواجب ، ولا موجب حينئذ لسقوط حرمتها ، بل تكون محرمة بالفعل ، وإنما تسقط الحرمة عن الحصة الموصلة من المقدمة خاصة.

٣٥١

اقتضاء وجوب الشىء لحرمة ضده

قد يقال بأن إيجاب شىء يستلزم حرمة الضد. والضد على قسمين :

أحدهما : الضد العام ، وهو بمعنى النقيض.

والاخر : الضد الخاص ، وهو الفعل الوجودى الذى لا يجتمع مع الفعل الواجب.

والمعروف بين الاصوليين أن إيجاب شىء يقتضى حرمة ضده العام. ولكنهم اختلفوا فى جوهر هذا الاقتضاء ، فزعم البعض أن الامر بالشىء عين النهى عن ضده العام ، وذهب بعض آخرإلى أنه يتضمنه ، بدعوى أن الامر بالشىء مركب من طلب ذلك الشىء والمنع عن تركه ، وقال آخرون بالاستلزام.

وأما بالنسبة إلى الضد الخاص ، فقد وقع الخلاف فيه ، وذهب جماعة إلى أن إيجاب شىء يقتضى تحريم ضده الخاص ، فالصلاة وإزالة النجاسة عن المسجد إذا كان المكلف عاجزا عن الجمع بينهما فهما ضدان ، وإيجاب أحدهما يقتضى تحريم الاخر.

وقد استدل البعض على ذلك بأن ترك أحد الضدين مقدمة لوقوع

٣٥٢

الضد الاخر فيكون واجبا بالوجوب الغيرى ، وإذا وجب أحد النقيضين حرم نقيضه ، وبهذا يثبت حرمة الضد الخاص.

ولكن الصحيح أنه لا مقدمية لترك أحد الفعلين لا يقاع الفعل الاخر ، فان المقدمة هى العلة أو جزء العلة ، ونحن نلاحظ أن المكلف فى مثال الصلاة والازالة يكون اختياره هو العلة الكفيلة بتحقق ما يختاره ونفى ما لا يختاره ، فوجود أحد الفعلين وعدم الاخر كلاهما مرتبطان باختيار المكلف لا أن أحدهما معلول للاخر ، ولو كان ترك الصلاة علة أو جزء العلة للازالة ، وترك الازالة علة أو جزء العلة للصلاة ، لكان فعل الصلاة نقيضا لعلة الازالة ، ونقيض العلة علة لنقيض المعلول ، فينتج أن فعل الصلاة علة لترك الازالة. وهذا يؤدى إلى الدور إذ يكون كل من الضدين معلولا لترك الاخر وعلة للترك نفسه.

فان قيل : إن عدم المانع من أجزاء العلة ، ولا شك فى أن أحد الضدين مانع عن وجود ضده فعدمه عدم المانع ، فيكون من أجزاء العلة ، وبذلك تثبت مقدميته.

كان الجواب : أن المانع على قسمين :

أحدهما : مانع يجتمع مع مقتضى الممنوع كالرطوبة المانعة عن احتراق الورقة والتى تجتمع مع وجود النار وإصابتها للورقة بالفعل.

والاخر : مانع لا يمكن أن يجتمع مع مقتضى الممنوع ، كالازالة المضادة للصلاة التى لا تجتمع مع المقتضى للصلاة ، وهو إرادتها ، إذ من الواضح أنه كلما أراد الصلاة لم توجد الازالة ، وما يعتبر عدمه من أجزاء العلة هو القسم الاول دون الثانى ، والضد مانع من القسم الثانى دون الاول.

٣٥٣

وثمرة هذا البحث : أنه إذا وجبت الازالة فى المثال المذكور ، فان قلنا : بأن وجوب شىء يقتضى حرمة ضده حرمت الصلاة ، ومع حرمتها لا يعقل أن تكون مصداقا للواجب لاستحالة اجتماع الوجوب والحرمة ، فلو ترك المكلف الازالة واختار الصلاة لوقعت باطلة ، وإن قلنا : بأن وجوب شىء لا يقتضى حرمة ضده فلا محذور فى أن يتعلق الامر بالصلاة ، ولكن على وجه الترتب ومشروطا بترك الازالة ، لما تقدم من أن الامرين بالضدين على وجه الترتب معقول ، فاذا ترك المكلف الازالة وصلى كانت صلاته مأمورا بها ، وتقع صحيحة ، وإن اعتبر عاصيا بتركه للازالة.

٣٥٤

اقتضاء الحرمة للبطلان

الحرمة حكم تكليفى ، والبطلان حكم وضعى قد توصف به العبادة ، وقد توصف به المعاملة ، ويراد ببطلان العبادة أنها غير مجزية ، ولابد من إعادتها أو قضائها ، وببطلان المعاملة أنها غير مؤثرة ولا يترتب عليها مضمونها ، وقد وقع الكلام فى أن التحريم هل يستلزم البطلان أولا؟

أما تحريم العبادة فيستلزم بطلانها وذلك :

أما أولا فلان تحريمها يعنى عدم شمول الامر لها ، لامتناع إجتماع الامر والنهى ، ومع عدم شموله لها لا تكون مجزية ولا يسقط بها الامر ، وهو معنى البطلان.

فان قيل : إن الامر غير شامل ، ولكن لعل ملاك الوجوب شامل لها ، وإذا كانت واجدة للملاك ومستوفية له فيسقط الامر بها.

قلنا : إنه بعد عدم شمول الامر لها لا دليل على شمول الملاك ، لان الملاك إنما يعرف من ناحية الامر.

وهذا البيان ، كما يأتى فى العبادة المحرمة ، يأتى أيضا فى كل مصداق لطبيعة مأمور بها ، سواء كان الامر تعبديا أو توصليا.

٣٥٥

وأما ثانيا : فلاننا نفترض مثلا أن الملاك موجود فى تلك العبادة المحرمة ، ولكنها ما دامت محرمة ومبغوضة للمولى فلا يمكن التقرب بها نحوه ، ومعه لا تقع عبادة لتصح وتجزى عن الامر ، وهذا البيان يختص بالعبادات ولا يجرى فى غيرها.

وأما تحريم المعاملة فتارة يراد به تحريم السبب المعاملى الذى يمارسه المتعاملان ، وهو الايجاب والقبول مثلا ، واخرى يراد به تحريم المسبب ، أى التمليك الحاصل نتيجة لذلك.

ففى الحالة الاولى لا يستلزم تحريم السبب بطلانه وعدم الحكم بنفوذه ، كما لا يستلزم صحته ونفوذه ، ولا يأبى العقل عن أن يكون صدور شىء من المكلف مبغوضا للمولى ، ولكنه إذا صدر ترتب عليه بحكم الشارع أثره الخاص به كما فى الظهار ، فانه محرم ولكنه نافذ ويترتب عليه الاثر.

وفى الحالة الثانية قد يقال : إن التحريم المذكور يستلزم الصحة. لانه لا يتعلق إلا بمقدور ، ولا يكون المسبب مقدوراإلاإذا كان السبب نافذا ، فتحريم المسبب يستلزم نفوذ السبب وصحة المعاملة.

وينبغى التنبيه هنا على أن النهى فى موارد العبادات والمعاملات كثيرا ما يستعمل لا لافادة التحريم ، بل لا فادة مانعية متعلق النهى ، أو شرطية نقيضه ، وفى مثل ذلك لا إشكال فى أنه يدل على البطلان ، كما فى ( لا تصل فيما لا يؤكل لحمه ) الدال على مانعية لبس ما هو مأخوذ مما لا يؤكل لحمه أو ( لا تبع بدون كيل ) الدال على شرطية الكيل ، ونحو ذلك ، ودلالته على البطلان باعتباره إرشاداإلى المانعية أو الشرطية ، ومن الواضح أن المركب يختل بوجود المانع أو فقدان الشرط ، ولا علاقة لذلك باستلزام الحرمة التكليفية للبطلان.

٣٥٦

مسقطات الحكم

يسقط الحكم بالوجوب وغيره بعدة امور :

منها : الاتيان بمتعلقه.

ومنها : عصيانه.

وهذان الامران ليسا قيدين فى حكم المجعول ، وإنما تنتهى بهما فاعلية هذا الحكم ومحركيته.

ومنها : الاتيان بكل فعل جعله الشارع مسقطا للوجوب ، بأن أحد عدمه قيدا فى بقاء الوجوب المجعول.

ومنها : امتثال الامر الاضطرارى ، فانه مجز عن الامر الواقعى الاولى فى بعض الحالات ، وتفصيل ذلك : أنه إذا وجبت الصلاة مع القيام ، وتعذر القيام على المكلف ، فأمر الشارع أمراإضطراريا بالصلاة من جلوس ، فلذلك صورتان :

الاولى : أن يفرض إختصاص الامر الاضطرارى بمن يستمر عجزه عن القيام طيلة الوقت.

الثانية : أن يفرض شموله لكل من كان عاجزا عن القيام عند

٣٥٧

إرادة الصلاة ، سواء تجددت له القدرة بعد ذلك أولا.

ففى الصورة الاولى لو صلى المكلف العاجز جالسا فى أول الوقت ، وتجددت له القدرة على القيام قبل خروج الوقت وجبت عليه الاعادة ، لان الامر الواقعى الاولى بالصلاة قائما يشمله بمقتضى إطلاق دليله ، وما أتى به لا موجب للاكتفاء به.

وأما فى الصورة الثانية فلا تجب الاعادة على من صلى جالسا فى أول الوقت ثم تجددت له القدرة قبل خروجه ، وذلك لان صلاة الجالس التى أداها قد تعلق بها الامر بحسب الفرض ، وهذا الامر ليس تعيينيا ، لانه لو لم يصل من جلوس فى أول الوقت وصلى من قيام فى آخر الوقت لكفاه ذلك بلاإشكال ، فهوإذن أمر تخييرى بين الصلاة الاضطرارية فى حال العجز والصلاة الاختيارية فى حال القدرة ، ولو وجبت الاعادة لكان معنى هذا أن التخيير لا يكون بين هذه الصلاة وتلك ، بل بين أن يجمع بين الصلاتين وبين أن ينتظر ويقتصر على الصلاة الاختيارية ، وهذا تخيير بين الاقل والاكثر فى الايجاب ، وهو غير معقول ، كما تقدم. وبهذا يثبت أن الامر الاضطرارى فى الصورة الثانية يقتضى كون إمتثاله مجزيا عن الامر الواقعى الاختيارى. وتعرف بذلك ثمرة البحث فى إمتناع التخيير بين الاقل والاكثر.

٣٥٨

امكان النسخ وتصويره

من الظواهر المألوفة فى الحياة الاعتيادية أن يشرع المشرع حكما مؤمنا بصحة تشريعه ، ثم ينكشف له أن المصلحة على خلافه ، فينسخه ويتراجع عن تقديره السابق للمصلحة وعن إرادته التى نشأت من ذلك التقدير الخاطى.

وهذا الافتراض مستحيل فى حق البارى سبحانه وتعالى ، لان الجهل لا يجوز عليه عقلا ، فأى تقدير للمصلحة وأى إرادة تنشأ من هذا التقدير لا يمكن أن يطرأ عليه تبدل وعدول مع حفظ مجموع الظروف التى لوحظت عند تحقق ذلك التقدير وتلك الارادة.

ومن هنا صح القول بأن النسخ بمعناه الحقيقى المساوق للعدول غير معقول فى مبادىء الحكم الشرعى من تقدير المصلحة والمفسدة وتحقق الارادة والكراهة.

وكل حالات النسخ الشرعى مردهاإلى أن المصلحة المقدرة مثلا كان لها أمد محدد من أول الامر وقد انتهى ، وأن الارادة التى حصلت بسبب ذلك التقدير كانت محددة تبعا للمصلحة ، والنسخ معناه انتهاء

٣٥٩

حدها ووقتها الموقت لها من أول الامر ، وهذا هو النسخ بالمعنى المجازى.

ولكن هناك مرحلة للحكم بعد تلك المبادىء ، وهى مرحلة الجعل والاعتبار ، وفى هذه المرحلة يمكن تصوير النسخ بمعناه الحقيقى ، ومعناه المجازى معا.

أما تصويره بالمعنى الحقيقى فبأن نفترض أن المولى جعل الحكم على طبيعى المكلف دون أن يقيده بزمان دون زمان ، ثم بعد ذلك يلغى ذلك الجعل ويرفعه تبعا لما سبق فى علمه من أن الملاك مرتبط بزمان مخصوص ، ولا يلزم من ذلك محذور ، لان الاطلاق فى الجعل لم ينشأ من عدم علم المولى بدخل الزمان المخصوص فى الملاك ، بل قد ينشأ لمصلحة اخرى كاشعار المكلف بهيبة الحكم وأبديته.

وأما تصويره بالمعنى المجازى فبأن نفترض أن المولى جعل الحكم على طبيعى المكلف المقيد بأن يكون فى السنة الاولى من الهجرة مثلا ، فإذا انتهت تلك السنة انتهى زمان المجعول ولم يطرأ تغيير على نفس الجعل.

والافتراض الاول أقرب إلى معنى النسخ ، كما هو ظاهر.

٣٦٠