دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

قاعدة تنوع القيود وأحكامها

تنوع القيود :

حينما يقال : إذا زالت الشمس صل متطهرا ، فالجعل يتحقق بنفس هذا الانشاء ، وأما المجعول وهو وجوب الصلاة فعلا ، فهو مشروط بالزوال ، ومقيد به. فلا وجوب قبل الزوال.

ونلاحظ قيدا آخر وهو الطهارة ، وهذا القيد ليس قيدا للوجوب المجعول لوضوح أن الشمس إذا زالت وكان الانسان محدثا وجبت عليه الصلاة أيضا ، وإنما هو قيد لمتعلق الوجوب ، أى للواجب وهو الصلاة. ومعنى كون شىء قيدا للواجب أن المولى حينما أمر بالصلاة أمر بحصة خاصة منها لابها كيفما اتفقت ، حيث إن الصلاة تارة تقع مع الطهارة ، واخرى بدونها ، فاختار الحصة الاولى وأمر بها. وحينما نحلل الحصة الاولى نجد أنها تشتمل على صلاة ، وعلى تقيد بالطهارة ، فالامر بها أمر بالصلاة وبالتقيد. ومن هنا نعرف أن معنى أخذ الشارع شيئا قيدا فى الواجب تحصيص الواجب به والامر به بما هو مقيد بذلك القيد.

وفى المثال السابق حينما نلاحظ الطهارة مع ذات الصلاة ، لا نجد أن إحداهما علة للاخرى أو جزء العلة لها ، ولكن حينما نلاحظ الطهارة مع

٣٢١

تقيد الصلاة بها ، نجد أن الطهارة علة لهذا التقيد ، إذ لولاها لما وجدت الصلاة مقيدة ومقترنة بالطهارة.

ومن ذلك نستخلص ، أن أخذ الشارع قيدا فى الواجب يعنى أولا : تخصيص الواجب به ، وثانيا : أن الامر يتعلق بذات الواجب والتقيد بذلك القيد ، وثالثا : أن نسبة القيد إلى القيد نسبة العلة إلى المعلول ، وليس كذلك نسبته إلى ذات الواجب.

وقد يؤخذ شىء قيدا للوجوب وللواجب معا ، كشهر رمضان الذى هو قيد لوجوب الصيام ، فلا وجوب للصيام بدون رمضان ، وهو أيضا قيد للصيام الواجب ، بمعنى أن الصوم المأمور به هو الحصة الواقعة فى ذلك الشهر خاصة ، وبموجب كون الشهر قيدا للوجوب فالوجوب تابع لوجود هذا القيد ، وبموجب كونه قيدا للواجب يكون الوجوب متعلقا بالمقيد به ، أى أن الامر متعلق بذات الصوم وبتقيده بأن يكون فى شهر رمضان.

أحكام القيود المتنوعة :

لا شك فى أن الواجبات تشتمل على نوعين من القيود :

أحدهما : قيود يلزم على المكلف تحصيلها ، بمعنى أنه لو لم يحصلها لاعتبر عاصيا للامر بذلك الواجب ، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة.

والاخر : القيود التى لا يلزم على المكلف تحصيلها ، بمعنى أنه لو لم يأت بها المكلف وبالتالى لم يأت بالواجب لا يعتبر عاصيا ، كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج.

والقضية التى نبحثها هى محاولة التعرف على الفرق بين هذين النوعين من القيود ، وما هو الضابط فى كون القيد مما يلزم تحصيله أولا؟

٣٢٢

والصحيح أن الضابط فى ذلك أن كل ما كان قيدا لنفس الوجوب ، فلا يجب تحصيله ، ولا يكون المكلف مسؤولا عن إيجاده من قبل ذلك الوجوب ، لانه ما لم يوجد القيد لا وجود للوجوب ، كما تقدم. وكلما كان القيد قيدا لمتعلق الوجوب أى للواجب فهذا يعنى أن الوجوب قد تعلق بالمقيد كما تقدم ، أى بذات الواجب وبالتقيد بالقيد المذكور ، وحينئذ يلاحظ هذا القيد فان كان قيدا فى نفس الوقت للوجوب أيضا ، لم يكن المكلف مسؤولا عقلا من قبل ذلك الوجوب عن إيجاده ، وإنما هو مسؤول متى ما وجد القيد عن إيجاد ذات الواجب وإيجاد تقيده بذلك القيد ، وإن لم يكن القيد قيدا للوجوب ، بل كان قيدا للواجب ، فهذا يعنى أن الوجوب فعلى حتى لو لم يوجد هذا القيد ، وإذا كان الوجوب فعليا فالمكلف مسؤول عن امتثاله والاتيان بمتعلقه وهو المقيد وكان عليه حينئذ عقلا أن يوفر القيد لكى يوجد المقيد الواجب.

ونستخلص من ذلك :

أولا : أنه كلما كان القيد قيدا للوجوب فقط فلا يكون المكلف مسؤولا عن إيجاد القيد.

وثانيا : أنه كلما كان القيد قيدا للواجب فقط ، فالمكلف مسؤول عن إيجاد القيد.

وثالثا : أنه كلما كان القيد قيدا للوجوب وللواجب معا ، فالمكلف غير مسؤول عن إيجاد القيد ، ولكنه مسؤول عن إيجاد التقيد حينما يكون القيد موجودا.

وإذا ضممنا إلى هذه النتائج ما تقدم من أنه لا إدانة بدون قدرة ،

٣٢٣

وأن القدرة شرط فى التكليف ، نستطيع أن نستنتج القاعدة القائلة : إن كل القيود التى تؤخذ فى الواجب دون الوجوب لابد أن تكون اختيارية ومقدورة للمكلف ، لان المكلف مسؤول عن توفيرها ، كما عرفنا آنفا ، ولا مسؤولية ولا تكليف إلا بالمقدور ، فلا بدإذن أن تكون مقدورة ، وهذا خلافا لقيود الوجوب ، فانها قد تكون مقدورة كالاستطاعة ، وقد لا تكون كزوال الشمس ، لان المكلف غير مسؤول عن إيجادها.

قيود الواجب على قسمين :

عرفنا حتى الان من قيود الواجب القيد الذى يأخذه الشارع قيدا ، فيحصص به الواجب ويأمر بالحصة الخاصة كالطهارة ، وتسمى هذه بالقيود أو المقدمات الشرعية. وهناك قيود ومقدمات تكوينية يفرضها الواقع بدون جعل من قبل المولى ، وذلك من قبيل إيجاد واسطة نقل ، فانها مقدمة تكوينية للسفر بالنسبة إلى من لا يستطيع المشى على قدميه ، فاذا وجب السفر كان توفير واسطة النقل مقدمة للواجب حتى بدون أن يشيرإليها المولى أو يحصص الواجب بها ، وتسمى بالمقدمة العقلية.

والمقدمات العقلية للواجب من ناحية مسؤولية المكلف تجاهها كالقيود الشرعية ، فان أخذت المقدمة العقلية للواجب قيدا للوجوب لم يكن المكلف مسؤولا عن توفيرها ، وإلا كان مسؤولا عقلا عن ذلك ، بسبب كونه ملزما بامتثال الامر الشرعى الذى لا يتم بدون إيجادها.

والمسؤولية تجاه قيود الواجب سواء كانت شرعية أو عقلية ، إنما تبدأ بعد أن يوجد الوجوب المجعول ويصبح فعليا بفعلية كل القيود المأخوذة فيه ، فالمسؤولية تجاد الطهارة والوضوء مثلا ، تبدأ من قبل وجوب صلاة

٣٢٤

الظهر بعد أن يصبح هذا الوجوب فعليا بتحقق شرطه وهو الزوال ، وأما قبل الزوال فلا مسؤولية تجاه قيود الواجب ، إذ لا وجوب لكى يكون الانسان ملزما عقلا بامتثاله ، وتوفير كل ما له دخل فى ذلك.

المسؤولية قبل الوجوب :

إذا كان للواجب مقدمة عقلية أو شرعية ، وكان وجوبه منوطا بزمان معين ، وافترضنا أن تلك المقدمة من المتعذر على المكلف إيجادها فى ذلك الزمان ، ولكن كان بامكانه إيجادها قبل ذلك ، فهل يكون المكلف مسؤولا عقلا عن توفيرها أولا؟.

ومثال ذلك : أن يعلم المكلف بأنه لن يتمكن من الوضوء والتيمم عند الزوال لانعدام الماء والتراب ، ولكنه يتمكن منه قبل الزوال ، فهل يجب عليه أن يتوضأ قبل الزوال أولا؟.

والجواب : أن مقتضى القاعدة هو عدم كونه مسؤولا عن ذلك ، إذ قبل الزوال لا وجوب للصلاة لكى يكون مسؤولا من ناحيته عن توفير المقدمات للصلاة ، وإذا ترك المقدمة قبل الزوال فلن يحدث وجوب عند الزوال ليبتلى بمخالفته ، لانه سوف يصبح عند الزوال عاجزا عن الاتيان بالواجب ، وكل تكليف مشروط بالقدرة ، فلا ضير عليه فى ترك إيجاد المقدمة قبل الزوال ، وكل مقدمة يفوت الواجب بعدم المبادرة إلى الاتيان بها قبل زمان الوجوب ، تسمى بالمقدمة المفوتة. وبهذا صح أن القاعدة تقتضى عدم كون المكلف مسؤولا عن المقدمات المفوتة.

ولكن قد يتفق أحيانا أن يكون للواجب دائما مقدمة مفوتة ، على نحو لو لم يبادر المكلف إلى إيقاعها قبل الوقت لعجز عن الواجب فى حينه.

٣٢٥

ومثال ذلك : الوقوف بعرفات الواجب على من يملك الزاد والراحلة ، فان الواجب منوط بظهر اليوم التاسع من ذى الحجة ، ولكن لو لم يسافر المكلف قبل هذا الوقت ، لما أدرك الواجب فى حينه ، وفى مثل ذلك لا شك فقهيا فى أن المكلف مسؤول عن أيجاد المقدمة المفوتة قبل الوقت ، وقد وقع البحث أصوليا فى تفسير ذلك وتكييفه ، وأنه كيف يكون المكلف مسؤولا عن توفير المقدمات لامتثال وجوب غير موجود بعد ، وستأتى بعض المحاولات فى تفسير ذلك فى حلقة مقبلة.

٣٢٦

القيود المتأخرة زمانا عن المقيد

القيد تارة يكون قيدا للحكم المجعول ، واخرى يكون قيدا للواجب الذى تعلق به الحكم كما تقدم. والغالب فى القيود فى كلتا الحالتين أن يكون المقيد موجودا حال وجود القيد أو بعده ، فاستقبال القبلة قيد يجب أن يوجد حال الصلاة ، والوضوء قيد يجب أن توجد الصلاة بعده ، ويسمى الاول بالشرط المقارن ، والثانى بالشرط المتقدم ، ولكن قد يدعى أحيانا شرط للحكم أو للواجب ، ويكون متأخرا زمانا عن ذلك الحكم أو الواجب.

ومثاله : ما يقال من أن غسل المستحاضة فى ليلة الاحد شرط فى صحة صوم نهار السبت ، فهذا شرط للواجب ، ولكنه متأخر عنه زمانا.

ومثال آخر : ما يقال من أن عقد الفضولى ينفذ من حين صدوره إذا وقعت الاجازة بعده ، فهذا شرط للحكم ، ولكنه متأخر عنه زمانا.

وقد وقع البحث أصوليا فى إمكان ذلك واستحالته ، إذ قد يقال بالاستحالة لان الشرط بالنسبة إلى المشروط بمثابة العلة بالنسبة إلى المعلول ، ولا يعقل أن تكون العلة متأخرة زمانا عن معلولها. وقد يقال

٣٢٧

بالامكان ، ويرد على هذا البرهان ، أما بالنسبة إلى الشرط المتأخر للواجب ، فبأن القيود الشرعية للواجب لا يتوقف عليها وجود ذات الواجب ، وإنما تنشأ قيديتها من تحصيص المولى للطبيعة بحصة عن طريق تقييدها بقيد ، فكما يمكن أن يكون القيد المحصص مقارنا أو متقدما يمكن أن يكون متأخرا ، وأما بالنسبة إلى الشرط المتأخر للوجوب ، فبأن قيود الوجوب كلها قيود للحكم المجعول لا للجعل كما تقدم ، لوضوح أن الجعل ثابت قبل وجودها ، والمجعول وجوده مجرد إفتراض ، وليس وجودا حقيقيا خارجيا ، فلا محذور فى إناطته بأمر متأخر.

٣٢٨

زمان الوجوب والواجب

لكل من الوجوب أى الحكم المجعول والواجب زمان ، والزمانان متطابقان عادة ، فوجوب صلاة الفجر مثلا زمانه الفترة الممتدة بين الطلوعين ، وهذه الفترة هى بنفسها زمان الواجب ، ويستحيل أن يكون زمان الوجوب بكامله متقدما على زمان الواجب ، لان هذا معناه أنه فى هذا الظرف الذى يترقب فيه صدور الواجب لا وجوب ، فلا محرك للمكلف إلى الاتيان بالواجب ، وهذا واضح. ولكن وقع البحث فى أنه ، هل بالامكان أن تتقدم بداية زمان الوجوب على زمان الواجب مع استمراره وامتداده وتعاصره بقاء مع الواجب؟.

ومثال ذلك : الوقوف بعرفات فانه واجب على المستطيع ، وزمان الواجب هو يوم عرفة من الظهرإلى الغروب ، وأما زمان الوجوب فيبدأ من حين حدوث الاستطاعة لدى المكلف التى قد تسبق يوم عرفة بفترة طويلة ، ويستمر الوجوب من ذلك الحين إلى يوم عرفة الذى هو زمان الواجب.

وقد ذهب جماعة من الاصوليين إلى أن هذا معقول ، وسموا كل

٣٢٩

واجب تتقدم بداية زمان وجوبه على زمان الواجب بالواجب المعلق ، وحاولوا عن هذا الطريق أن يفسروا ما سبق من مسؤولية المكلف تجاه المقدمات المفوتة ، وذلك لان الاشكال فى هذه المسؤولية كان يبتنى على إفتراض أن الوجوب لا يحدث إلا فى ظرف إيقاع الواجب ، فاذا افترضنا أن الوجوب غير مشروط بزمان الواجب ، بل يحدث قبله ويصبح فعليا بالاستطاعة ، فمن الطبيعى أن يكون المكلف مسؤولا عن المقدمات المفوتة قبل مجىء يوم عرفة ، لان الوجوب فعلى ، وهو يستدعى عقلا التهيؤ لامتثاله.

والصحيح أن زمان الواجب يجب أن يكون قيدا للوجوب ، ولا يمكن أن يكون قيدا للواجب فقط ، لانه أمر غير اختيارى ، وقد تقدم أن كل القيود التى تؤخذ فىالواجب فقط يلزم أن تكون اختيارية ، فبهذا نبرهن على أنه قيد للوجوب وحينئذ فان قلنا باستحالة الشرط المتأخر للحكم ، ثبت أن الوجوب مادام مشروطا بزمان الواجب ، فلا بد أن يكون حادثا بحدوثه لا سابقا عليه ، لئلا يلزم وقوع الشرط المتأخر ، وبهذا يتبرهن أن الواجب المعلق مستحيل. وإن قلنا بامكان الشرط المتأخر جاز أن يكون زمان الواجب شرطا متأخرا للوجوب ، فوجوب الوقوف بعرفات يكون له شرطان :

أحدهما : مقارن يحدث الوجوب بحدوثه ، وهو الاستطاعة.

والاخر : متأخر يسبقه الوجوب وهو مجىء يوم عرفة على المكلف المستطيع وهو حى ، فكل من استطاع فى شهر شعبان مثلا ، وكان ممن سيجىء عليه يوم عرفة وهو حى فوجوب الحج يبدأ فى حقه من شعبان وبذلك يصبح مسؤولا عن توفير المقدمات المفوتة له من أجل فعلية الوجوب.

٣٣٠

متى يجوز عقلا التعجيز؟

تارة يترك المكلف الواجب وهو قادر على إيجاده ، وهذا هو العصيان ، واخرى يتسبب إلى تعجيز نفسه عن الاتيان به ، وهذا التسبيب له صورتان :

الاولى : أن يقع بعد فعلية الوجوب ، كحال إنسان يحل عليه وقت الفريضة ولديه ماء فيريق الماء ويعجز نفسه عن الصلاة مع الوضوء ، وهذا لا يجوز عقلا لانه معصية.

الثانية : أن يقع قبل فعلية الوجوب ، كما لو أراق الماء فى المثال قبل دخول الوقت ، وهذا يجوز ، لانه باراقة الماء يجعل نفسه عاجزا عن الواجب عند تحقق ظرف الوجوب ، وحيث أن الوجوب مشروط بالقدرة فلا يحدث الوجوب فى حقه ، ولا محذور فى أن يسبب المكلف إلى أن لا يحدث الوجوب فى حقه ، وإنما المحذور فى أن لا يمتثله بعد أن يحدث.

ولكن قد يقال هنا بالتفصيل بين ما إذا كان دخل القدرة فى هذا الوجوب عقليا أو شرعيا ، فاذا كان الدخل شرعيا جاز التعجيز المذكور ، لانه لا يفوت على المولى بذلك شيئا ، إذ يصبح عاجزا ولا ملاك للواجب

٣٣١

فى حق العاجز ، وإذا كان الدخل عقليا وكان ملاك الواجب ثابتا فى حق العاجز أيضا وإن اختص التكليف بالقادر بحكم العقل فلا يجوز التعجيز المذكور لان المكلف يعلم بأنه بهذا سوف يسبب إلى تفويت ملاك فعلى فى ظرفه المقبل ، وهذا لا يجوز بحكم العقل.

وعلى هذا الاساس يمكن تخريج مسؤولية المكلف تجاه المقدمات المفوتة فى بعض الحالات ، بأن يقال : إن هذه المسؤولية تثبت فى كل حالة يكون دخل القدرة فيها عقليا لا شرعيا.

٣٣٢

اخذ العلم بالحكم فى موضوع الحكم

استحالة اختصاص الحكم بالعالم به :

إذا جعل الحكم على نحو القضية الحقيقية واخذ فى موضوعه العلم بذلك الحكم ، إختص بالعالم به ولم يثبت للشاك أو القاطع بالعدم ، لان العلم يصبح قيدا للحكم ، غير أن أخذ العلم قيدا كذلك قد يقال : إنه مستحيل ، وبرهن على استحالته بالدور ، وذلك لان ثبوت الحكم المجعول متوقف على وجود قيوده ، والعلم بالحكم متوقف على الحكم توقف كل علم على معلومه ، فاذا كان العلم بالحكم من قيود نفس الحكم ، لزم توقف كل منهما على الاخر ، وهو محال. وقد اجيب على ذلك بمنع التوقف الثانى ، لان العلم بشىء لا يتوقف على وجود ذلك الشىء وإلا لكان كل علم مصيبا ، وإنما يتوقف على الصورة الذهنية له فى افق نفس العالم ، أى أن العلم يتوقف على المعلوم بالذات لا على المعلوم بالعرض ، فلا دور.

إلا أن هذا الجواب لا يزعزع الاستحالة العقلية ، لان العقل قاض بأن العلم وظيفته تجاه معلومه مجرد الكشف ودوره دور المرآة ، ولا يعقل للمرآة أن تخلق الشىء الذى تكشف عنه ، فلا يمكن أن يكون العلم

٣٣٣

بالحكم دخيلا فى تكوين شخص ذلك الحكم.

غير أن هذه الاستحالة إنما تعنى عدم إمكان أخذ العلم بالحكم المجعول قيدا له ، وأما أخذ العلم بالجعل قيدا للحكم المجعول فلا محذور فيه بناء على ما تقدم منالتمييز بين الجعل والمجعول ، فلا يلزم دور ولا إخراج للعلم عن دوره الكاشف البحت.

والثمرة التى قد تفترض لهذا البحث هى أن التقييد بالعلم بالحكم إذا كان مستحيلا ، فهذا يجعل الاطلاق ضروريا ، ويثبت بذلك أن الاحكام الشرعية مشتركة بين العالم وغيره على مبنى من يقول : بأن التقابل بين التقييد والاطلاق الثبوتيين تقابل السلب والايجاب ، وعلى العكس تكون استحالة التقييد موجبة لاستحالة الاطلاق على مبنى من يقول : إن التقابل بين التقييد والاطلاق كالتقابل بين البصر والعمى ، فكما لا يصدق الاعمى حيث لا يمكن البصر ، كذلك لا يمكن الاطلاق حيث يتعذر التقييد ، ومن هنا تكون الاحكام على هذا القول مهملة لا هى بالمقيدة ولا هى بالمطلقة ، والمهملة فى قوة الجزئية.

أخذ العلم لحكم فى موضوع حكم آخر :

قد يؤخذ العلم بحكم فى موضوع حكم آخر ، والحكمان إما أن يكونا متخالفين أو متضادين أو متماثلين فهذه ثلاث حالات :

أما الحالة الاولى فلا شك فى إمكانها ، كماإذا قال الامر : إذا علمت بوجوب الحج عليك فاكتب وصيتك ، ويكون العلم بوجوب الحج هنا قطعا موضوعيا بالنسبة إلى وجوب الوصية ، وطريقيا بالنسبة إلى متعلقه.

٣٣٤

وأما الحالة الثانية فلا ينبغى الشك فى استحالتها ، ومثالها أن يقول الامر : إذا علمت بوجوب الحج عليك فهو حرام عليك ، والوجه فى الاستحالة ما تقدم من أن الاحكام التكليفية الواقعية متنافية متضادة ، فلا يمكن للمكلف القاطع بالوجوب أن يتصور ثبوت الحرمة فى حقه.

وأما الحالة الثالثة فقد يقال باستحالتها ، على أساس أن اجتماع حكمين متماثلين مستحيل ، كاجتماع المتنافيين ، فاذا قيل إن قطعت بوجوب الحج وجب عليك ، بنحو يكون الوجوب المجعول فى هذه القضية غير الوجوب المقطوع به مسبقا ، كان معنى ذلك فى نظر القاطع أن وجوبين متماثلين قد اجتمعا عليه.

٣٣٥

أخذ قصد امتثال الامر فى متعلقه

قد يكون غرض المولى قائما باتيان المكلف للفعل كيفما اتفق ، ويسمى بالواجب التوصلى ، وقد يكون غرضه قائما بأن يأتى المكلف بالفعل بقصد امتثال الامر ، ويسمى بالواجب التعبدى. والسؤال هو : أنه هل بامكان المولى عند جعل التكليف والوجوب فى الحالة الثانية أن يدخل فى متعلق الوجوب قصد امتثال الامر أولا؟. قد يقال بأن ذلك مستحيل ، لان قصد امتثال الامر إذا دخل فى الواجب كان نفس الامر قيدا من قيود الواجب ، لان القصد المذكور مضاف إلى نفس الامر ، وإذا لا حظنا الامر وجدنا أنه ليس اختياريا للمكلف كما هو واضح ، وحينئذ نطبق القاعدة السابقة القائلة : إن القيود المأخوذة فى الواجب فقط يجب أن تكون اختيارية ، لنستنتج أن هذا القيدإذن لا يمكن أن يكون قيدا للواجب فقط ، بل لابد أن يكون أيضا قيدا للوجوب ، وهذا يعنى أن الامر مقيد بنفسه وهو محال. وهكذا يتبرهن بأن أخذ قصد إمتثال الامر فى متعلق نفسه يؤدى إلى المحال.

وثمرة هذا البحث أن هذه الاستحالة إذا ثبتت فسوف يختلف

٣٣٦

الموقف تجاه قصدإمتثال الامر عن الموقف تجاه أى خصوصية اخرى بشك فى دخلها فى الواجب ، وذلك أنا إذا شككنا فى دخل خصوصية إيقاع الصلاة مع الثوب الابيض فى الواجب ، أمكن التمسك باطلاق كلام المولى لنفى دخل هذه الخصوصية فى الواجب بحسب عالم الوجوب والجعل ، وإذا ثبت عدم دخلها فى الواجب بحسب عالم الجعل يثبت عدم دخلها فى الغرض ، إذ لو كانت دخيلة فى الغرض لا خذت فى الواجب ، ولو اخذت كذلك لذكرت فى الكلام. وهذا الاسلوب لا يمكن تطبيقه على قصدإمتثال الامر عند الشك فى دخله فى الغرض ، لان إطلاق كلام المولى وأمره إنما يعنى عدم أخذ هذا القصد فى متعلق الوجوب ، ونحن بحكم الاستحالة الانفة الذكر نعلم بذلك بدون حاحة للرجوع إلى كلام المولى ، ولكن لا يمكن أن نستكشف من ذلك عدم كون القصد المذكور دخيلا فى الغرض المولوى ، لان المولى مضطر على أى حال لعدم أخذه فى الواجب ، سواء كان دخيلا فى غرضه أولا ، فلا يدل عدم أخذه على عدم دخله ، وهذا يعنى أن الاستحالة المذكورة تبطل إمكان التمسك باطلاق كلام المولى لنفى التعبدية وإثبات التوصلية.

ومن هنا يمكن أن نصور الثمرة لاستحالة أخذ العلم بالحكم قيدا لنفسه على وجه آخر غير ما تقدم فى ذلك البحث فنقول : إن هذه الاستحالة تبطل إمكان التمسك باطلاق كلام المولى لنفى اختصاص أغراضه بالعالمين بالاحكام بنفس الطريقة المشار إليها فى قصد إمتثال الامر.

٣٣٧

اشتراط التكليف بالقدرة بمعنى آخر

مربنا أن التكليف مشروط بالقدرة ، وكنا نريد بها القدرة التكوينية ، وهذا يعنى أن التكليف لا يشمل العاجز. وكذلك لا يشمل أيضا من كان قادرا على الامتثال ، ولكنه مشغول فعلا بامتثال واجب آخر مضاد لا يقل عن الاول أهمية ، فاذا وجب إنقاذ غريق يعذر المكلف فى ترك إنقاذه إذا كان عاجزا تكوينا ، كما يعذر إذا كان قادرا ، ولكنه اشتغل بانقاذ غريق آخر مماثل على نحو لم يبق بالامكان إنقاذ الغريق الاول معه. وهذا يعنى أن كل تكليف مشروط بعدم الاشتغال بامتثال مضاد لا يقل عنه أهمية ، وهذا القيد دخيل فى التكليف بحكم العقل ، ولو لم يصرح به المولى فى خطابه ، كما هو الحال فى القدرة التكوينية. ولنطلق على القدرة التكوينية اسم القدرة بالمعنى الاخص ، وعلى ما يشمل هذا القيد الجديد اسم القدرة بالمعنى الاعم.

والبرهان على هذا القيد الجديد : أن المولى إذا أمر بواجب ، وجعل أمره مطلقا حتى لحالة الاشتغال بامتثال مضاد لا يقل عنه أهمية ، فان أراد بذلك أن يجمع بين الامتثالين ، فهو غير معقول لانه غير مقدور

٣٣٨

للمكلف ، وإن أراد بذلك أن يصرف المكلف عن ذلك الامتثال المضاد فهذا بلا موجب بعد افتراض أنهما متساويان فى الاهمية ، فلا بد إذن من أخذ القيد المذكور.

ومن هنا يعرف أن ثبوت أمرين بالضدين مستحيل إذا كان كل من الامرين مطلقا لحالة الاشتغال بامتثال الامر الاخر أيضا ، وأماإذا كان كل منهما مقيدا بعدم الاشتغال بالاخر ، أو كان أحدهما كذلك ، فلا استحالة ، ويقال عن الامرين بالضدين حينئذ : إنهما مجعولان على وجه الترتب ، وإن هذا الترتب هو الذى صحح جعلهما على هذا الوجه ، وهذا ما يحصل فى كل حالة يواجه فيها المكلف واجبين شرعيين ، ويكون قادرا على امتثال كل منهما بمفرده ، ولكنه غير قادر على الجمع بينهما ، فإنهما إن كانا متكافئين فى الاهمية ، كان وجوب كل منهما مشروطا بعدم امتثال الاخر ، وإن كان أحدهما أهم من الاخر ملاكا ، فوجوب الاهم غير مقيد بعدم الاتيان بالاقل أهمية ( المهم ) ، ولكن وجوب المهم مقيد بعدم الاتيان بالاهم ، وتسمى هذه الحالات بحالات التزاحم.

وقد تعترض وتقول : إن الامرين بالضدين على وجه الترتب مستحيل ، لان المكلف فى حالة تركه لكلا الضدين يكون كل من الامرين فعليا وثابتا فى حقه لان شرطه محقق ، وهذا يعنى أن المكلف فى هذه الحالة يطلب منه كلا الضدين وهو محال.

والجواب على الاعتراض : أن الامرين والوجوبين ، وإن كانا فعليين معا فى الحالة المذكورة ، ولكن لا محذور فى ذلك ، إذ مادام امتثال أحدهما ينفى شرط الاخر وموضوعه ، وبالتالى ينفى فعلية الوجوب الاخر ،

٣٣٩

فلا يلزم من اجتماع الامرين أن يكون المطلوب من المكلف ما لا يطاق ، وهو الجمع بين الضدين ، ولهذا لو فرض المحال وصدر كلا الضدين من المكلف ، لما وقعا على وجه المطلوبية معا. فليس المطلوب خارجا عن حدود القدرة. وبهذا يتضح أن إمكان وقوع الامرين بالضدين على وجه الترتب واجتماعهما معا ، نشأ من خصوصية الترتب بينهما أى من خصوصية كون أحدهما ، أو كل منهما ، بامتثاله نافيا لموضوع الاخر ومعدما لشرطه.

٣٤٠