دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

الشرعيات لو ترك المتشرعة إلى ميولهم العقلائية ، وفى حالة من هذا القبيل يكون عدم الردع والسكوت كاشفا عن الامضاء.

وقد تقدم فى بحث دلالات الدليل الشرعى غير اللفظى استعراض عدد من الاوجه لتفسير دلالة السكوت على الامضاء ، ويلاحظ هنا أن واحدا من تلك الاوجه لا يمكن تطبيقه فى المقام ، وهو تفسير الدلالة على أساس الظهور الحالى ، لان الكلام هنا فى حجية الظهور ، فلا يكفى فى إثباتها ظهور حال المعصوم فى الامضاء.

النحو الثانى : أن نتمسك بسيرة المتشرعة من أصحاب الائمة ، وفقائهم ، فاننا لا نشك فى أن عملهم فى مقام الاستنباط كان يقوم فعلا على العمل بظواهر الكتاب والسنة ، ويمكن إثبات ذلك باستعمال الطريق الرابع من طرق إثبات السيرة المتقدمة فلاحظ. وعلى هذا تكون السيرة المذكورة كاشفة كشفاإنيا مباشرا عن الامضاء ، ولا حاجة حينئذإلى توسيط قاعدة « أن السكوت كاشف عن الامضاء » على ما تقدم من الفرق بين سيرة المتشرعة والسيرة العقلائية.

ويواجه الاستدلال بالسيرة هنا نفس ما واجهه الاستدلال بالسيرة فى بحث حجية الخبر ، إذ يعترض بأن هذه السيرة مردوع عنها بالمطلقات الناهية عن العمل بالظن أو باطلاق أدلة الاصول.

والجواب على الاعتراض يعرف مما تقدم فى بحث حجية الخبر ، مضافا إلى أن ما دل على النهى عن العمل بالظن يشمل إطلاق نفسه ، لانه دلالة ظنية أيضا ، ولا نحتمل الفرق بينها وبين غيرها من الدلالات والظواهر الظنية ، فيلزم من حجيته التعبد بعدم حجية نفسه ، وما ينفى نفسه كذلك لا يعقل الاكتفاء به فى مقام الردع.

٣٠١

موضوع الحجية :

عرفنا سابقا أن الدلالة تصورية وتصديقية. وعليه فهناك ظهور على مستوى الدلالة التصورية ، وهناك ظهور على مستوى الدلالة التصديقية.

ومعنى الظهور الاول أن يكون أحد المعنيين أسرع انسباقاإلى تصور الانسان وذهنه من الاخر عند سماع اللفظ.

ومعنى الظهور الثانى أن يكون كشف الكلام تصديقا عما فى نفس المتكلم يبرز هذا المعنى دون ذاك ، فيقال حينئذ : إنه ظاهر فيه بحسب الدلالة التصديقية.

وقد تقدم أن الظاهر من كل كلام أن يتطابق مدلوله التصورى مع مدلولها التصديقى.

وعلى أى حال ، فموضوع الحجية هو الظهور على مستوى الدلالة التصديقية ، لان الحجية معناهاإثبات مراد المتكلم وحكمه بظهور الكلام ، والكاشف عن المراد والحكم إنما هو الدلالة التصديقية والظهور التصديقى. وأما الدلالة التصورية فلا تكشف عن شىء لكى تكون حجة فى إثباته ، وإنما هى مجردإخطار وتصور ، نعم الظهور على مستوى الدلالة التصورية هو الذى يعين لنا عادة الظهور التصديقى ، لان ظاهر الكلام هو التطابق بين ما هو الظاهر تصورا وما هو المراد تصديقا وجدا. فالظهور التصورى إذن يؤخذ كأداة لتعيين الظهور التصديقى الذى هو موضوع الحجية لا أنه موضوع لها مباشرة.

وقد يوضح المتكلم فى نفس كلامه ، أن مراده الجدى يختلف عما هو الظاهر من الكلام فى مرحلة المدلول التصورى ، وبهذا يصبح الظهور

٣٠٢

التصديقى الذى هو موضوع الحجية مختلفا عن الظهور التصورى ، كماإذا قال ، جئنى بأسد وأعنى به الرجل الشجاع ، وتسمى الجملة التى سببت هذا الاختلاف بالقرينة المتصلة. وهذه القرينة تارة يكون تواجدها فى الكلام مؤكدا ، كما فى هذا المثال ، واخرى يكون محتملا ، كما لو كنا نستمع إلى المتكلم ثم ذهلنا عن الاستماع واحتملنا أنه قال شيئا من ذلك القبيل.

وفى كل من الحالتين لا يمكن الاخذ بالظهور التصديقى للكلام فى إرادة الحيوان المفترس ، إذ فى الحالة الاولى لا ظهور كذلك جزما ، لاننا نعلم بأن الظهور التصديقى اختلف عن الظهور التصورى ، وفى الحالة الثانية نشك فى وجود ظهور تصديقى على طبق الظهور التصورى ، لان احتمال القرينة يوجب احتمال التخالف بين الظهورين ، ومع الشك فى وجوده لا يمكن البناء على حجيته ، وهذا يعنى أن احتمال القرينة المتصلة كالقطع بها ، يوجب عدم جواز الاخذ بالظهور الذى كان من المترقب أن يثبت للكلام فى حالة تجرده عن القرينة.

ظواهر الكتاب الكريم :

ذهب جماعة من العلماءإلى استثناء ظواهر الكتاب الكريم من الحجية ، وقالوا : بأنه لا يجوز العمل فيما يتعلق القرآن العزيزإلا بما كان نصا فى المعنى أو مفسرا تفسيرا محددا من قبل النبى (ص) أو المعصومين من آله عليهم الصلاة والسلام.

وقد يستدل على ذلك بما يلى :

الدليل الاول قوله تعالى : « هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات

٣٠٣

محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ... » الاية (١).

فانه يدل على النهى عن اتباع المتشابه ، وكل ما لا يكون نصا فهو متشابه لتشابه محتملاته فى علاقتها باللفظ ، سواء كان اللفظ مع أحدها أقوى علاقة أولا.

والجواب من وجوه :

الاول : أن اللفظ الظاهر ليس من المتشابه ، إذ لا تشابه ولا تكافؤ بين معانيه فى درجة علاقتها باللفظ ، بل المعنى الظاهر متميز فى درجة علاقته ، وعليه فالمتشابه يختص بالمجمل.

الثانى : لو سلمنا أن الظاهر من المتشابه ، فلا نسلم أن الاية الكريمة تنهى عن مجرد العمل بالمتشابه ، وإنما هى فى سياق ذم من يلتقط المتشابهات فيركز عليها بصورة منفصلة عن المحكمات ابتغاء الفتنة ، وهذا مما لاإشكال فى عدم جوازه حتى بالنسبة إلى ظواهر الكتاب ، فمساق الاية مساق قول القائل : إن عدوى يحاول أن يبرز النقاط الموهمة من سلوكى ، ويفصلها عن ملا بساتها التى توضح سلوكى العام.

الثالث : ما قد يقال : من أن الاية ليست نصا فى الشمول لظاهر الكتاب ، وإنما هى ظاهرة على أكثر تقدير فى الشمول ، وهذا الظهور يشمله النهى نفسه ، فيلزم من حجية ظاهر الاية فى إثبات الردع عن العمل بظواهر الكتاب الكريم نفى هذه الحجية.

الدليل الثانى : الروايات الناهية عن الرجوع إلى ظواهر القرآن

__________________

(١) سورة آل عمران : ٧.

٣٠٤

الكريم (١) ، ويمكن تصنيفهاإلى ثلاث طوائف :

الاولى : ما دل من الروايات على أن القرآن الكريم مبهم وغامض قد استهدف المولى إغماضه وإبهامه لاجل تأكيد حاجة الناس إلى الحجة ، وأنه لا يعرفه إلا من خوطب به ، وأن غير المعصوم لا يصل إلى مستوى فهمه.

وهذه الطائفة يرد عليها :

أولا : أن رواياتها جميعا ضعيفة السند ، بل قد يحصل الاطمئنان بكذبها نتيجة لضعف رواتها ، وكونهم فى الغالب من ذوى الاتجاهات الباطنية المنحرفة على ما يظهر من تراجمهم. مع الالتفات إلى أن إسقاط ظواهر الكتاب الكريم عن الحجية أمر فى غاية الاهمية ، فلو كان الائمة بصدد بيانه لما أمكن عادة افتراض اختصاص هؤلاء الضعاف بالاطلاع على ذلك والاخبار عنه دون فقهاء أصحاب الائمة الذين عليهم المعول وإليهم تفزع الشيعة فى الفتوى والاستنباط بأمر الائمة وإرجاعهم.

وثانيا : أن هذه الروايات معارضة للكتاب الكريم الدال على أنه نزل تبيانا لكل شىء وهدى وبلاغا ، والمخالف للكتاب من أخبار الاحاد لا يشمله دليل حجية خبر الواحد كما أشرنا سابقا.

الطائفة الثانية : ما دل من الروايات على عدم جواز الاستقلال فى فهم القرآن عن الحجة. وهذه لا تدل على عدم جواز العمل بظاهر الكتاب بعد الفحص فى كلمات الائمة وعدم الظفر بقرينة على خلاف الظاهر ، لان هذا النحو من العمل ليس استقلالا عن الحجة فى مقام

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ب ١٣ من ابواب صفات القاضى.

٣٠٥

فهم القرآن الكريم.

الطائفة الثالثة : ما دل من الروايات على النهى عن تفسير القرآن بالرأى وأن من فسر القرآن برأيه فقد كفر.

وقد أجيب على الاستدلال بها بأن حمل اللفظ على معناه الظاهر ليس تفسيرا ، لان التفسير كشف القناع ، ولا قناع على المعنى الظاهر.

وقد يقال : إن هذا الجواب لا ينطبق على بعض الحالات ، حينما يكون الدليل مشتملا على ظواهر اقتضائية عديدة متضاربة ، على نحو يحتاج تقدير الظهور الفعلى المتحصل من مجموع تلك الظواهر بعد الموازنة والكسر والانكسار ، إلى نظر وإمعان ، فيكون لونا من كشف القناع.

ولهذا نرى أن الفقهاء قد يختلفون فى فهم دليل ، فيفهم بشكل من فقيه ، ويأتى فقيه آخر فيبرز نكتة من داخل الدليل تعين فهمه بشكل آخر على أساس ما تقتضيه تلك النكتة من ظهور.

فالاحسن الجواب :

أولا : بأن كلمة الرأى منصرفة على ضوء ما نعرفه من ملابسات عصر النص ، وظهور هذه الكلمة كمصطلح وشعار لا تجاه فقهى واسع إلى الحدس والاستحسان ، فلا تشمل الرأى المبنى على قريحة عرفية عامة.

وثانيا : أن إطلاق الروايات المذكورة للظاهر لا يصلح أن يكون رادعا عن السيرة على العمل بالظواهر ، سواء أريد بها السيرة العقلائية أو سيرة المتشرعة ، نظير ما تقدم فى بحث حجية خبر الواحد.

أما الاولى فلان الردع يجب أن يتناسب حجما ووضوحا مع درجة استحكام السيرة.

٣٠٦

وأما الثانية ، فلانناإذا ادعينا أن سيرة المتشرعة من أصحاب الائمة كانت على العمل بظواهر الكتاب وإلا لعرف الخلاف عنهم فنفس هذه السيرة تثبت عدم صلاحية الاطلاق المذكور للردع ، بل تكون مقيدة له.

ومما يدفع به الاستدلال بالروايات المذكورة عموما ما دل من الروايات على الامر بالتمسك بالقرآن الكريم الصادق عرفا على العمل بظواهره ، وعلى إرجاع الشروطإليه وإبطال ما كان منها مخالفا له (١) ، فان المخالفة إن كان المراد بها المخالفة للفظه ، فتصدق على مخالفة ظاهره ، وإن كان المراد بها المخالفة لواقع مضمونه ، فمقتضى الاطلاق المقامى إمضاء ما عليه العرف من موازين فى استخراج المضمون ، فيدل على حجية الظهور.

وأوضح من ذلك ما دل على طرح ما ورد عنهم عليهم‌السلام على الكتاب والاحجام عن العمل بما كان مخالفا له (٢) ، فانه لا يحتمل فيه أن يراد منه المخالفة للمضمون القرآنى المكتشف بالخبر ، لانه بصدد بيان جعل الضابط لما يقبل وما لا يقبل من الخبر ، كما أنه لا يحتمل اختصاص المخالفة فيه بالمخالفة للنص لندرة الخبر المخالف للنص ، وكون روايات طرح المخالف ناظرة إلى ما هو الشائع من المخالفة.

فان قدمت هذه الروايات الدالة على حجية ظواهر الكتاب على الروايات التى استدل بها على نفى الحجية فهو ، وإن تكافأ الفريقان فعلى

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٢ باب ٦ من ابواب الخيار.

(٢) الوسائل ، ح ١٨ باب ٩ من ابواب صفات القاضى.

٣٠٧

الاقل يلتزم بالتساقط ، ويقال بالحجية حينئذ ، لان الردع غير ثابت فتثبت الحجية بالسيرة العقلائية بصورة مستقلة ، أو بضم استصحاب مفادها الثابت فى صدر الشريعة.

الدليل الثالث : ومرده إلى إنكار الظهور بدعوى أن القرآن الكريم مجمل ، إما لتعمد من الله تعالى فى جعله مجملا لتأكيد حاجة الناس إلى الامام ، وإما لاقتضاء طبع المطلب ذلك ، لان علو المعانى وشموخها يقتضى عدم تيسرها للفهم.

والجواب على ذلك : أن التعمد المذكور على خلاف الحكمة من نزول القرآن ، وربط الناس بالامام فرع إقامة الحجة على أصل الدين المتوقفة على فهم القرآن وإدراك مضامينه ، كما أن شموخ المعانى وعلوها ينبغى أن لا يكون على حساب الهدف من بيانها ، ولما كان الهدف هداية الانسان ، فلا بد أن تبين المعانى على نحو يؤثر فى تحقق هذا الهدف ، وذلك موقوف على تيسير فهمه.

فالصحيح أن ظواهر الكتاب الكريم حجة كظواهر السنة.

٣٠٨

٢ ـ الدليل العقلى

١ ـ إثبات القضايا العقلية.

٢ ـ حجية الدليل العقلى.

٣٠٩
٣١٠

تمهيد :

الدليل العقلى كل قضية يدركها العقل ويمكن أن يستنبط منها حكم شرعى ، والبحث عن هذه القضايا العقلية تارة يقع صغرويا فى صحة القضية العقلية ومدى إدراك العقل لها ، واخرى يقع كبرويا فى حجية الادراك العقلى لها.

والقضايا العقلية على قسمين :

أحدهما : قضايا تشكل عناصر مشتركة فى عملية الاستنباط ، كالقضية العقلية القائلة : إن إيجاب شىء يستلزم إيجاب مقدمته.

والاخر : قضايا مرتبطة بأحكام شرعية معينة ، كحكم العقل بحرمة المخدر قياسا له على الخمر لوجود صفة مشتركة وهى : إذهاب الشعور ، وحكم العقل بحرمة الكذب لانه قبيح.

والقسم الاول يدخل بحثه الصغروى والكبروى معا فى علم الاصول ، فقد يبحث عن أصل وجودإدراك عقلى ، وهذا بحث صغروى ، وقد يبحث عن حجيته ، وهذا بحث كبروى ، وكلاهما اصولى لانهما بحثان فى العناصر المشتركة فى عملية الاستنباط.

٣١١

والقسم الثانى لا يدخل بحثه الصغروى فى علم الاصول ، لانه بحث فى عنصر غير مشترك ، وإنما يدخل بحثه الكبروى فى هذا العلم ، لكونه بحثا فى عنصر مشترك ، كالبحث عن حجية القياس ، وهكذا يتضح أن البحث الصغروى لا يكون اصولياإلا فى القسم الاول ، وأن البحث الكبروى اصولى فى كلا القسمين.

غير أن الادراك العقلى إذا كان قطعيا فلا موجب للبحث عن حجيته للفراغ عن حجيته بعد الفراغ عن حجية القطع ، وإنما نحتاج إلى البحث عن حجيته ، إذا لم يكن قطعيا كالقياس مثلا :

وسوف نصنف البحث فى القضايا العقلية إلى بحثين :

أحدهما : صغروى فى إثبات القضايا العقلية التى تشكل عناصر مشتركة.

والاخر : كبروى فى حجية إدراك العقل غير القطعى.

٣١٢

١ ـ إثبات القضايا العقلية

تقسيمات للقضايا العقلية :

القضايا العقلية التى تشكل عناصر مشتركة فى عملية الاستنباط وأدلة عقلية على الحكم الشرعى يمكن أن تقسم كما يلى :

أولا : تنقسم إلى ما يكون دليلا عقليا مستقلا ، وما يكون عقليا غير مستقل.

والمراد بالاول ما يحتاج إلى إثبات قضية شرعية لاستنباط الحكم منه.

والمراد بالثانى ما يحتاج إلى إثبات قضية شرعية كذلك.

ومثال الاول : القضية القائلة : بأن كل ما حكم العقل بحسنه أو قبحه حكم الشارع بوجوبه أو حرمته ، فان تطبيقها لاستنباط حرمة الظلم مثلا ، لا يتوقف على إثبات قضية شرعية مسبقة.

ومثال الثانى : القضية القائلة : إن وجوب شىء يستلزم وجوب مقدمته ، فان تطبيقها لاستنباط وجوب الوضوء يتوقف على إثبات قضية شرعية مسبقة ، وهى وجوب الصلاة.

ثانيا : تنقسم القضية العقلية إلى قضية تحليلية ، وقضية تركيبية ،

٣١٣

والمراد بالقضية التحليلية ما كان البحث فيها يدور حول تفسير ظاهرة معينة ، كالبحث عن حقيقة الوجوب التخييرى ، والمراد بالقضية التركيبية ما كان البحث فيها يدور حول استحالة شىء أو ضرورته بعد الفراغ عن معناه وحقيقته فى نفسه ، كالبحث عن استحالة الامر بالضدين فى وقت واحد.

ثالثا : تنقسم الادلة العقلية المستقلة التركيبية فى دلالتهاإلى سالبة وموجبة. والمراد بالسالبة : الدليل العقلى المستقل فى استنباط نفى حكم شرعى. والمراد بالموجبة : الدليل العقلى المستقل فى استنباطإثبات حكم شرعى.

ومثال الاول : القضية القائلة باستحالة التكليف بغير المقدور.

ومثال الثانى : القضية المشارإليها آنفا القائلة : بأن كل ما حكم العقل بقبحه حكم الشارع بحرمته.

والقضايا العقلية متفاعلة فيما بينها. فقد يتفق أن تدخل قضية عقلية تحليلية فى البرهنة على قضية اخرى تحليلية أو تركيبية ، كما قد تدخل قضية تركيبية فى البرهنة على قضايا تحليلية ، وهذا ما سنراه فى البحوث الاتية إن شاء الله تعالى.

٣١٤

قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور

يستحيل التكليف بغير المقدور ، وهذا له معنيان :

أحدهما : أن المولى يستحيل أن يدين المكلف بسبب فعل أو ترك غير صادر منه بالاختيار ، وهذا واضح ، لان العقل يحكم بقبح هذه الادانة ، لان حق الطاعة لا يمتد إلى ما هو خارج عن الاختيار.

والمعنى الاخر : أن المولى يستحيل أن يصدر منه تكليف بغير المقدور فى عالم التشريع ، ولو لم يرتب عليه إدانة ومؤاخذة للمكلف ، فليست الادانة وحدها مشروطة بالقدرة بل التكليف ذاته مشروط بها أيضا.

وتوضيح الحال فى ذلك أن مقام الثبوت للحكم يشتمل كما تقدم على ملاك وإرادة واعتبار ، ومن الواضح أنه ليس من الضرورى أن يكون الملاك مشروطا بالقدرة ، كما أن بالامكان تعلق إرادة المولى بأمر غير مقدور ، لاننا لا نريد بالارادة إلا الحب الناشىء من ذلك الملاك ، وهو مهما كان شديدا ، يمكن افتراض تعلقة بالمستحيل ذاتا فضلا عن الممتنع بالغير ، والاعتبار إذا لوحظ بما هو اعتبار يعقل أيضا أن يتكفل جعل الوجوب على غير المقدور ، لان الاعتبار سهل المؤونة ، وليس لغوا فى

٣١٥

هذه الحالة ، إذ قد يراد به مجرد الكشف بالصياغة التشريعية التى اعتادها العقلاء عن الملاك والمبادىء ، ولكن إذا لوحظ الجعل والاعتبار بما هو ناشىء من داعى البعث والتحريك ، فمن الواضح أن القدرة على مورده تعتبر شرطا فيه ، لان داعى تحريك العاجز يستحيل أن ينقدح فى نفس العاقل الملتفت.

وحيث إن الاعتبار الذى يكشف عنه الخطاب الشرعى هو الاعتبار بهذا الداعى ، كما يقتضيه الظهور التصديقى السياقى للخطاب ، فلا بد من اختصاصه بحال القدرة ، ويستحيل تعلقه بغير المقدور.

ومن هنا كان كل تكليف مشروطا بالقدرة على متعلقه بدون فرق بين التكاليف الالزامية وغيرها. وكما يشترط فى التكليف الطلبى ( الوجوب والاستحباب ) القدرة على الفعل ، كذلك يشترط الشىء نفسه فى التكليف الزجرى ( الحرمة والكراهة ) لان الزجر عما لا يقدر المكلف على إيجاده ، أو عن الامتناع عنه ، غير معقول أيضا.

وهكذا نعرف ، أن القدرة شرط ضرورى فى التكليف ، ولكنها ليست شرطا ضروريا فى الملاك والمبادىء. ولكن هذا لا يعنى أنها لا تكون شرطا ، فان مبادىء الحكم يمكن أن تكون ثابتة وفعلية فى حال القدرة والعجز على السواء ، ويمكن أن تكون مختصة بحالة القدرة ، ويكون انتفاء التكليف عن العاجز لعدم المقتضى وعدم الملاك رأسا.

وفى كل حالة من هذا القبيل يقال. إن دخل القدرة فى التكليف شرعى. وقد تسمى القدرة حينئذ بـ ( القدرة الشرعية ) بهذا الاعتبار تمييزا لذلك عن حالات عدم دخل القدرة فى الملاك ، إذ يقال عندئذ : إن دخل القدرة فى التكليف عقلى ، وقد تسمى القدرة حينئذ بـ ( القدرة

٣١٦

العقلية ).

ولا فرق فى استحالة التكليف بغير المقدور ، بين أن يكون التكليف مطلقا من قبيل أن يقول الامر لمأموره ( طرفى السماء ) ، أو مقيدا بقيد برتبط بارادة المكلف واختياره من قبيل أن يقول : ( إن صعدت إلى السطح فطرإلى السماء ) ، فان التكليف فى كلتا الحالتين مستحيل.

والثمرة فى اشتراط القدرة فى صحة الادانة ( المعنى الاول ) واضحة ، وأما الثمرة فى اشتراط القدرة فى التكليف ذاته ( المعنى الثانى ) فقد يقال : إنها نمير واضحة إذ ما دام العاجز غير مدان على أى حال ، فلا يختلف الحال سواء افترضنا أن القدرة شرط فى التكليف أو نفينا ذلك وقلنا بأن التكليف يشمل العاجز ، إذ لا أثر لذلك بعد افتراض عدم الادانة ، ولكن الصحيح وجود ثمرة على الرغم من أن العاجز غير مدان على أى حال ، وهى تتصل بملاك الحكم ، إذ قد يكون من المفيد أن نعرف أن العاجز هل يكون ملاك الحكم فعليا فى حقه وقد فاته بسبب العجز لكى يجب القضاء مثلا ، أو أن الملاك لا يشمله رأسا فلم يفته شىء ليجب القضاء ، أى أن نعرف أن القدرة هل هى دخيلة فى الملاك أولا ، فإذا جاء الخطاب الشرعى مطلقا ولم ينص فيه الشارع على قيد القدرة ظهرت الثمرة ، لانناإن قلنا باشتراط القدرة فى التكليف ذاته كما تقدم ، كان حكم العقل بذلك بنفسه قرينة على تقييد إطلاق الخطاب ، فكأنه متوجه إلى القادر خاصة وغير شامل للعاجز ، وفى هذه الحالة لا يمكن إثبات فعلية الملاك فى حق العاجز ، وأنه قد فاته الملاك ليجب عليه القضاء مثلا ، لانه لا دليل على ذلك نظرا إلى أن الخطاب إنما يدل على ثبوت الملاك بالدلالة الالتزامية ، وبعد سقوط المدلول المطابقى

٣١٧

للخطاب ، وتبعية الدلالة الالتزامية على الملاك للدلالة المطابقية على التكليف ، لا يبقى دليل على ثبوت الملاك فى حق العاجز ، وإن لم نقل باشتراط القدرة فى التكليف ، أخذنا باطلاق الخطاب فى المدلول المطابقى والالتزامى معا ، وأثبتنا التكليف والملاك على العاجز وبذلك يثبت أن العاجز قد فاته الملاك وإن كان معذورا فى ذلك ، إذ لا يدان العاجز على أى حال.

٣١٨

قاعدة إمكان التكليف المشروط

مر بنا أن مقام الثبوت للحكم يشتمل على عنصر يسمى بالجعل والاعتبار ، وفى هذه المرحلة يجعل الحكم على نهج القضية الحقيقية ، كما تقدم ، فيفترض المولى كل الخصوصيات والقيود التى يريدإناطة الحكم بها ، ويجعل الحكم منوطا بها فيقول مثلا : إذا استطاع الانسان وكان صحيح البدن مخلى السرب وجب عليه الحج.

ونحن إذا لا حظنا هذا الجعل نجد هناك شيئا قد تحقق بالفعل ، وهو نفس الجعل الذى يعتبر فى قوة قضية شرطية ، شرطها القيود المفترضة ، وجزاؤها ثبوت الحكم ، ولكن هناك شىء قد لا يكون متحققا فعلا ، وإنما يتحقق إذا وجد فى الخارج مستطيع صحيح مخلى ، وهو الوجوب على هذا أو ذلك الذى يمثل فعلية الجزاء فى تلك القضية الشرطية ، فان فعلية الجزاء فى كل قضية شرطية تابعة لفعلية الشرط ، فما لم تتحقق تلك القيود لا يكون الوجوب فعليا ، ويسمى الوجوب الفعلى بالمجعول.

ومن هنا أمكن التمييز بين الجعل والمجعول ، لان الاول موجود منذ البداية ، والثانى لا يوجد إلا بعد تحقق القيود خارجا ، والقيود بالنسبة إلى

٣١٩

المجعول بمثابة العلة ، وليست كذلك بالنسبة إلى الجعل ، لان الجعل متحقق قبل وجودها خارجا ، نعم الجعل يتقوم بافتراض القيود وتصورها ، إذ لو لم يتصور المولى الاستطاعة والصحة مثلا لما أمكنه أن يجعل تلك القضية الشرطية ، وبذلك تعرف أن الجعل متقوم بلحاظ القيود وتصورها ذهنا ، والمجعول متقوم بوجود القيود خارجا ، ومترتب عليها من قبيل ترتب المعلول على علته.

وعلى هذا الاساس نعرف أن الحكم المشروط ممكن ، ونعنى بالحكم المشروط : أن يكون تحقق الحكم منوطا بتحقق بعض القيود خارجا فلا وجود له قبلها ، فقد عرفنا أن المجعول يمكن أن يكون مشروطا ، سواء كان حكما تكليفيا كالوجوب والحرمة ، أو وضعيا كالملكية والزوجية.

وبذلك يندفع ما قد يقال : من أن الحكم المشروط غير معقول ، لان الحكم فعل للمولى ، وهذا الفعل يصدر ويتحقق بمجردإعمال المولى لحاكميته ، فأى معنى للحكم المشروط؟. ووجه الاندفاع أن ما يتحقق كذلك إنما هو الجعل لا المجعول ، والحكم المشروط هو المجعول دائما.

٣٢٠