دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

الوثوق بسببه ، ولكنه ليس طريقا استدلاليا موضوعياإلا بقدر ما يتاح للملاحظ من استقراء للمجتمعات العقلائية المختلفة.

[ ٢ ـ سكوت المعصوم ]

وأما سكوت المعصوم الدال على الامضاء فقد يقال : إن من الصعوبة بمكان الجزم به ، إذ كيف نعرف أنه لم يصدر من المعصوم ما يدل على الردع عن السيرة المعاصرة له ، وغاية ما نستطيع أن نتأكد منه هو عدم وجود هذا الردع فيما بأيدينا من نصوص ، غير أن ذلك لا يعنى عدم صدوره ، إذ لعله قد صدر ولم يصل.

غير أن الطريقة التى نتغلب بها على هذه الصعوبة تتم كما يأتى :

نطرح القضية الشرطية القائلة : لو كان قد ردع المعصوم عن السيرة لوصل إلينا ، والتالى باطل لان المفروض عدم وصول الردع ، فالمقدم مثله. ووجه الشرطية أن الردع عن سيرة عقلائية مستحكمة لا يتحقق بصورة جادة بمجرد نهى واحد أو نهيين ، بل يجب أن يتناسب حجم الردع مع قوة السيرة وترسخها ، فالردع إذن يجب أن يتمثل فى نواه كثيرة ، وهذه النواهى بنفسها تخلق ظروفا مناسبة لامثالها ، لانها تلفت نظار الرواة إلى السؤال ، وتكثر الاسئلة والاجوبة ، والدواعى متوفرة لضبط هذه النواهى من قبل الرواة ، فيكون من الطبيعى أن يصل إلينا شىء منها. وفى حالة عدم وصول شىء بالقدر الذى تفترضه الظروف المشارإليها نستكشف عدم صدور الردع ، وبذلك يتم كلا الركنين لدليل السيرة :

٢٨١

درجة الوثوق فى وسائل الاحراز الوجدانى :

وسائل الاحراز الوجدانى التى يقوم كشفها على حساب الاحتمال ، نؤدى تارة إلى القطع بالدليل الشرعى ، واخرى إلى قيمة احتمالية كبيرة ، ولكن تناظرها فى الطرف المقابل قيمة احتمالية معتد بها ، وثالثة إلى قيمة احتمالية كبيرة تقابلها فى الطرف المقابل قيمة احتمالية ضئيلة جدا ، وتسمى القيمة الاحتمالية الكبيرة فى هذه الحالة بالاطمئنان ، وفى الحالة السابقة بالظن. ولا شك فى حجية الاحراز الواصل إلى درجة القطع تطبيقا لمبدأ حجية القطع ، كما لا شك فى أن الاحراز الظنى غير كاف للمقصود ما لم يقم دليل شرعى على التعبد به فيدخل فى نطاق الاحراز التعبدى. وأما الاطمئنان فقد يقال بحجيته الذاتية عقلا تنجيزا وتعذيرا كالقطع ، بمعنى أن حق الطاعة الثابت عقلا كما يشمل حالة القطع بالتكليف كذلك يشمل حالة الاطمئنان به ، وكما لا يشمل حالة القطع بعدم التكليف كذلك لا يشمل حالة الاطمئنان بعدمه ، فإن صحت هذه الدعوى لم نكن بحاجة إلى تعبد شرعى للعمل بالاطمئنان ، مع فارق : وهو إمكان الردع عن العمل بالاطمئنان مع عدم إمكانه فى القطع كما تقدم ، وإن لم تصح هذه الدعوى تعين طلب الدليل على التعبد الشرعى بالاطمئنان. والدليل هو السيرة العقلائية الممضاة بدلالة السكوت. وفى مقام الاستدلال على حجية الاطمئنان شرعا بالسيرة العقلائية مع سكوت الشارع عنها ، لابد من افتراض القطع بهذين الركنين ، ولا يكفى الاطمئنان ، وإلا كان من الاستدلال على حجية الاطمئنان بالاطمئنان.

٢٨٢

٢ ـ وسائل الاحراز التعبدى

وأهم ما يبحث عنه فى علم الاصول كوسيلة تعبدية لاحراز صدور الدليل من الشارع : خبر الواحد ، ويراد به الخبر الذى لم يحصل منه القطع بثبوت مؤداه.

والكلام فيه فى ثلاث مراحل :

إحداها : استعراض الادلة المدعاة على حكم الشارع بحجيته.

وثانيتها : استعراض الادلة المدعى كونها معارضة لذلك.

والمرحلة الثالثة : تحديد دائرة الحجية وشروطها بعد فرض ثبوتها. وسنبحث هذه المراحل تباعا.

أدلة حجية خبر الواحد :

وقد استدل على الحجية بالكتاب والسنة.

أما الكتاب الكريم : فبايات :

منها : آية النبأ ، وهى قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبا فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم

٢٨٣

نادمين » (١).

وتقريب الاستدلال : أن الجملة فى الاية الكريمة شرطية ، والحكم فيها هو ( الامر بالتبين ) ، وموضوع الحكم ( النبأ ) وشرطه ( مجىء الفاسق به ) ، فتدل بالمفهوم على إنتفاء وجوب التبين عن النبأإذا انتفى الشرط ولم يجىء به الفاسق ، وهذا يعنى أنه لا يجب التبين فى حالة مجىء العادل بالنبأ ، وليس ذلك إلا لحجيته.

وقد نوقش فى الاستدلال المذكور بوجهين :

الاول ، أن مجىء الفاسق بالنبأ شرط محقق للموضوع لانه هو الذى يحقق النبأ ، وليس للجملة الشرطية مفهوم إذا كان الشرط مسوقا لتحقق الموضوع ، كما تقدم فى بحث مفهوم الشرط.

وحاول صاحب الكفاية أن يدفع هذه المناقشة بدعوى أنهاإنما تتم على الافتراض المتقدم فى تعيين الموضوع والشرط ، وأما إذا قيل بأن الموضوع هو ( الجائى بالنبأ ) ، والشرط هو ( الفسق ) ، كانت الابة فى قوة قولنا : ( إذا كان الجائى بالنبأ فاسقا فتبينوا ). ومن الواضح حينئذ أن الشرط هنا ليس محققا للموضوع ، فيتم المفهوم.

ولكن مجردإمكان هذه الفرضية لا يكفى لتصحيح الاستدلال ما لم يثبت كونها هى المستظهرة عرفا من الاية الكريمة.

الثانى : أن الحكم بوجوب التبين معلل فى الاية الكريمة بالتحرز من الاصابة بجهالة ، والعلة مشتركة بين أخبار الاحاد ، لان عدم العلم ثابت فيها جميعا ، فتكون بمثابة القرينة المتصلة على إلغاء المفهوم.

__________________

(١) سورة الحجرات : ٦.

٢٨٤

وأجيب عن ذلك :

تارة بأن الجهالة ليست مجرد عدم العلم ، بل تستبطن السفاهة ، وليس فى العمل بخبر العادل سفاهة ، لان سيرة العقلاء عليه.

وأخرى بأن المفهوم أخص من عموم التعليل ، لانه يقتضى حجية خبر العادل بينما التعليل يدل على عدم حجية كل ما هو غير علمى ، ويشمل باطلاقه خبر العادل ، فليكن المفهوم مقيدا لعموم التعليل.

وثالثة : بأن المفهوم مفاده أن خبر العادل لا حاجة إلى التبين بشأنه لانه بين واضح ، وهذا يعنى افتراضه بمثابة الدليل القطعى ، والامر بالتعامل معه على أساس أنه بين ومعلوم ، وبهذا يخرج عن موضوع عموم التعليل ، لان العموم فى التعليل موضوعه عدم العلم. فإذا كان خبر العادل واضحا بينا بحكم الشارع فهو علم ولا يشمله التعليل.

ومنها : آية النفر ، وهى قوله تعالى : « وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون » (١).

وتقريب الاستدلال بها أنها تدل على مطلوبية التحذر عند الانذار بقرينة وقوع الحذر موقع الترجى بدخول لعل عليه ، وجعله غاية للانذار الواجب ، ومقتضى الاطلاق كون التحذر واجبا عند الانذار ولو لم يحصل العلم من قول المنذر ، وهذا يكشف عن حجية إخبار المنذر.

والجواب على ذلك :

أولا : أن وجوب التحذر عند الانذار لا يكشف عن كون الحذر

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢٢.

٢٨٥

الواجب بملاك حجية خبر المنذر ، وذلك لان ( الانذار ) يفترض العقاب مسبقا ، وكون الحكم منجزا بمنجز سابق ، كالعلم الاجمالى أو الشك قبل الفحص ، ولا يصدق عنوان ( الانذار ) على الاخبار عن حكم لا يستتبع عقاباإلا بسبب هذا الاخبار.

وثانيا : لو سلمنا أن خبر المنذر بنفسه كان منجزا ، فهذا لا يساوق الحجية بمعناها الكامل لما سبق من أن أى دليل احتمالى على التكليف فهو ينجزه بحكم العقل ، فغاية ما تفيده الاية الكريمة أنها تنفى جعل أصالة البراءة شرعا فى موارد قيام الخبر على التكليف ، ولا تثبت جعل الشارع الحجية للخبر. نعم بناء على مسلك قبح العقاب بلا بيان يكشف ما ذكر عن الجعل الشرعى ، إذ لو لا الجعل الشرعى لجرت قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وثالثا : أن الاية الكريمة لو دلت على حجية قول المنذر شرعا ، فانما تدل على حجيته بما هو رأى ونظر ، لا بما هوإخبار وشهادة ، لان الانذار يعنى مزج الاخبار بتشخيص المعنى واقتناص النتيجة.

ومنها : آية الكتمان ، وهى قوله تعالى : « إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس فى الكتاب اؤلئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون » (١).

وتقريب الاستدلال بها : أنها تدل بالاطلاق على حرمة الكتمان ولو فى حالة عدم ترتب العلم على الابداء ، وهذا يكشف عن وجوب القبول فى هذه الحالة ، لان تحريم الكتمان من دون إيجاب القبول لغو ، ووجوب

__________________

(١) سورة البقرة : ١٥٩.

٢٨٦

القبول مع عدم العلم يساوق حكم الشارع بالحجية.

والجواب على ذلك :

أولا : أن الكتمان إنما يصدق فى حالة الاخفاء مع توفر مقتضيات الوضوح والعلم ، فلا يشمل الاطلاق المذكور عدم الاخبار فى مورد لا تتوفر فيه مقتضيات العلم.

وثانيا : أن تعميم حرمة الكتمان لعله بدافع الاحتياط من قبل المولى لعدم إمكان إعطاء قاعدة للتمييز بين موارد ترتب العلم على الاخبار وغيرها ، فان الحاكم قد يوسع موضوع حكمه الواقعى بدافع الاحتياط ، وهذا غير الامر بالاحتياط.

ومنها آية السؤال من أهل الذكر ، وهى قوله تعالى : « وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فاسألوا أهل الذكرإن كنتم لا تعلمون » (١).

وتقريب الاستدلال : أن الامر بالسؤال يدل باطلاقه على وجوب قبول الجواب ولو لم يفد العلم ، لانه بدون ذلك يكون الامر بالسؤال فى حال عدم إفادة الجواب للعلم لغوا ، وإذا وجب قبول الجواب ولو لم يفد العلم ، ثبتت الحجية.

وقد اتضح الجواب مما سبق إضافة إلى أن الامر بالسؤال فى الاية ليس ظاهرا فى الامر المولوى لكى يستفاد منه ذلك ، لانه وارد فى سياق الحديث مع المعاندين والمتشككين فى النبوة من الكفار ، ومن الواضح أن هذا السياق لا يناسب جعل الحجية التعبدية ، وإنما يناسب الارشادإلى الطرق التى توجب زوال التشكك ، ودفع الشبهة بالحجة القاطعة ، لان

__________________

(١) سورة النحل : ٤٣.

٢٨٧

الطرف ليس ممن يتعبد بقرارات الشريعة.

ونلاحظ أيضا أن الامر بالسؤال مفرع على قوله : « وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم » والتفريع يمنع عن انعقادإطلاق فى متعلق السؤال لكى يثبت الامر بالسؤال فى غير مورد المفرع عليه وأمثاله. هذا على أن مورد الاية لا حجية فيه لاخبار الاحاد لانه يرتبط باصول الدين.

وإذا قطعنا النظر عن كل ذلك ، فالاستدلال يتوقف على حمل أهل الذكر على العلماء والرواة لا أهل النبوات السابقة ، بحمل الذكر على العلم لا على الرسالة الالهية.

وأما السنة : فلا بد لكى يصح الاستدلال بها فى المقام أن تكون ثابتة بوسيلة من وسائل الاحراز الوجدانى ، ولا يكفى ثبوتها بخبر الواحد لئلا يلزم الدور. وهنا وسيلتان للاحراز الوجدانى.

إحداهما : التواتر فى الروايات الدالة على حجية خبر الواحد.

والاخرى : السيرة.

أما الوسيلة الاولى فتقريب الاستدلال بها : أن حجية خبر الواحد يمكن إقتناصها من ألسنة روايات كثيرة تشترك جميعا فى إفادة هذا المعنى وإن اختلفت مضامينها ، وبذلك يحصل التواتر الاجمالى ، ويثبت بالتواتر حجية خبر الواحد الواجد من المزايا لما يجعله مشمولا لمجموع تلك الروايات المكونة للتواتر ، فاذاإتفق وجود خبر من هذا القبيل يدل على حجية خبر الواحد فى دائرة أوسع أخذ به.

وأما الوسيلة الثانية ، فتقريب الاستدلال بها يشتمل على الامور التالية :

٢٨٨

أولا : إثبات السيرة وأن المتشرعة والرواة فى عصر الائمة كانوا يعملون بأخبار الثقات ولو لم تفدهم الاطمئنان الشخصى ، وفى هذا المجال يمكن استعمال الطريق الثالث من طرق إثبات السيرة المتقدمة ، وذلك لتوفر شروطه ، فانه لا شك فى وجود عدد كبير من هذه الروايات بأيدى المتشرعة المعاصرين للائمة ودخول حكمها فى محل ابتلائهم على أوسع نطاق ، فاما أن يكونوا قد انعقدت سيرتهم على العمل بها من أجل تلقى ذلك من الشارع ، أو جريا على سجيتهم ، وإما أن يكونوا قد توقفوا عن العمل بها.

والاول هو المطلوب إذا تثبت بذلك السيرة الممتدة فى تطبيقهاإلى المجال الشرعى.

وأما الثانى فليس من المحتمل أن يؤدى توقفهم إلى طرح تلك الروايات جميعا بدون استعلام الحكم الشرعى تجاهها ، لان ارتكاز الاعتماد على أخبار الثقات وكون طرح خبر الثقة على خلاف السجية العقلائية ، يحول عادة دون التوافق على الطرحبلا استعلام ، والاستعلام يجب أن يكون بحجم أهمية المسألة ، وهذا يقتضى افتراض أسئلة وأجوبة كثيرة ، فلو لم يكن خبر الثقة حجة لكان هذا يعنى تضافر النصوص بذلك فى مقام الجواب على أسئلة الرواة ، ومع توفر الدواعى على نقل ذلك لابد من وصول هذه النصوص إلينا ، ولو فى الجملة ، بينما لم يصل إلينا شىء من ذلك ، بل وصل ما يعزز الحجية ، وهذا يعين إما استقرار العمل بأخبار الثقات بدون استعلام ، وإما استقراره على ذلك بسبب الاستعلام وصدور البيانات المثبتة للحجية.

ثانيا : أن السيرة الثابتة بالبيان السابق إذا كانت سيرة لاصحاب

٢٨٩

الائمة بما هم متشرعة ، فهى تكشف عن الدليل الشرعى بلا حاجة إلى ضم مقدمة ، وإذاكانت سيرة لهم بما هم عقلاء ، ضممناإليها مقدمة اخرى وهى : أن الشارع لم يردع عنها إذ لو كان قد ردع بالدرجة الكافية لاثر هذا الردع من ناحية فى هدم السيرة ، ولو صل إلينا شىء من نصوص الردع.

ثالثا : أن الايات الناهية عن العمل بالظن قد يتوهم أنها تردع عن السيرة ، لان خبر الواحد أمارة ظنية فيشمله إطلاق النهى عن العمل بالظن ، ولكن الصحيح أنها لا تصلح أن تكون رادعة ، وذلك لاننا أثبتنا بالفعل انعقاد السيرة المعاصرة للائمة على العمل بأخبار الثقات فى الشرعيات ، وهذا يعنى بعد استبعاد العصيان : إما وصول دليل إليهم على الحجية ، أو غفلتهم عن اقتضاء تلك النواهى للردع ، أو عدم كونها دالة على ذلك فى الواقع ، وعلى كل من هذه التقادير لا يكون الردع تاما.

ومثل ذلك يقال فى مقابل التمسك بأدلة الاصول كدليل أصالة البراءة مثلا لاثبات الردع بإطلاقها لحالة قيام خبر الثقة على خلاف الاصل المقرر فيها.

رابعا : أن عدم الردع يكشف عن الامضاء ، وهذا واضح بعدإثبات امتداد السيرة إلى الشرعيات وجريانها على إثبات الحكم الشرعى بخبر الثقة ، الامر الذى يعرض الاغراض الشرعية للتفويت لو لم تكن مرضية ، مضافاإلى أن ظاهر الحال فى أمثال المقام هو الامضاء ، كما تقدم.

أدلة نفى الحجية :

وقد استدل على نفى الحجية بالكتاب والسنة :

٢٩٠

أما الكتاب فبما ورد فيه من النهى عن اتباع الظن ، كقوله تعالى : « ولا تقف ما ليس لك به علم » (١).

وقد يجاب على ذلك بأن النهى المذكورإنما يدل على نفى الحجية عن خبر الواحد بالاطلاق ، وهذا الاطلاق يقيد بدليل حجية خبر الواحد ، سواء كان لفظيا أو سيرة.

أما على الاول فواضح ، وأما على الثانى فلان إطلاق الايات لا يصلح أن يكون رادعا عن السيرة كما تقدم ، وهذا يعنى استقرار حجية السيرة فتكون مقيدة للاطلاق.

وأما السنة ففيها ما دل على عدم جواز العمل بالخبر غير العلمى (٢) ، وفيها ما دل على عدم جواز العمل بخبر لا يكون عليه شاهد من الكتاب الكريم (٣).

أما الفريق الاول فيرد عليه :

أولا : أنه من أخبار الاحاد الضعيفة سندا ولا دليل على حجيته.

وثانيا : أنه يشمل نفسه لانه خبر غير علمى بالنسبة إلينا ، ولا نحتمل الفرق بينه وبين سائر الاخبار غير العلمية ، وهذا يعنى إمتناع حجية هذا الخبر ، لان حجيتة تؤدى إلى نفى حجيته والتعبد بعدمها.

وأما الفريق الثانى فيرد عليه : أنه لو تم فى نفسه لكان مطلقا شاملا للاخبار الواردة فى اصول الدين ، والاخبار الواردة فى الاحكام ، فيعتبر

__________________

(١) سورة الاسراء : ٣٦.

(٢) مثل ماورد عن الامام العسكرى (ع) : « ما علمتم أنه قولنا فالزموه ، وما لم تعلموا فردوه إلينا ». الوسائل ج ١٨ ب ٩ من صفات القاضى ح ٣٦.

(٣) الوسائل ج ١٨ ب ٩ من صفات القاضى.

٢٩١

ما دل على الحجية فى القسم الثانى بالخصوص صالحا لتقييد إطلاق تلك الروايات.

تحديد دائرة الحجية :

وبعد افتراض ثبوت الحجية يقع الكلام فى تحديد دائرتها ، وتحديد الدائرة تارة بلحاظ صفات الراوى ، واخرى بلحاظ المروى.

أما باللحاظ الاول فصفوة القول فى ذلك : أن مدرك الحجية إذا كان مفهوم آية النبأ ، فهو يقتضى حجية خبر العادل ولا يشمل خبر الفاسق الثقة ، وإذا كان المدرك السنة على أساس الروايات والسيرة ، فلا شك فى أن موضوعها خبر الثقة ، ولو لم يكن عادلا من غير جهة الاخبار ، إلا أن وثاقة الراوى تارة تؤخذ مناطا للحجية على وجه الموضوعية ، واخرى تؤخذ مناطا لها على وجه الطريقية وبما هى سبب للوثوق غالبا بصدق الراوى وصحة نقله ، فان استظهر الاول لزم القول بحجية خبر الثقة ولو قامت أمارة عكسية مكافئة لوثاقة الراوى فى كشفها ، وإن استظهر الثانى لزم سقوط خبر الثقة عن الحجية فى حالة قيام أمارة من هذا القبيل.

وعليه يترتب أن إعراض القدماء من علمائنا عن العمل بخبر ثقة ، يوجب سقوطه عن الحجية إذا لم يحتمل فيه كونه قائما على أساس اجتهادى لانه يكون أمارة على وجود خلل فى النقل.

وأما خبر غير الثقة فان لم تكن هناك أمارات ظنية على صدقه ، فلا إشكال فى عدم حجيته ، وإن كانت هناك أمارات كذلك ، فان أفادت الاطمئنان الشخصى كان حجة لحجية الاطمئنان ، كما تقدم ،

٢٩٢

وإلا ففى حجية الخبر وجهان مبنيان على أن وثاقة الراوى هل هى مأخوذة مناطا للحجية على وجه الموضوعية ، أو بما هى سبب للوثوق الغالب بالمضمون على نحو يكون السبب والمسبب كلا هما دخيلين فى الحجية ، أو بما هى معرف صرف للوثوق الغالب بالمضمون دون أن يكون لوثاقة الراوى دخل بعنوانها.

فعلى الاول والثانى لا يكون الخبر المذكور حجة ، وعلى الثالث يكون حجة. وعلى هذه التقادير تبتنى إثباتا ونفيا مسألة إنجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور من قدماء العلماء. فان عمل المشهور به يعتبر أمارة على صحة النقل ، فقد يدخل فى نطاق الكلام السابق.

وأما باللحاظ الثانى فيعتبر فى الحجية أمران :

أحدهما : أن يكون الخبر حسيا لا حدسيا.

والاخر أن لا يكون مخالفا لدليل قطعى الصدور من الشارع ، كالكتاب الكريم.

أما الاول فلعدم شمول أدلة الحجية للاخبار الحدسية.

وأما الثانى فلما دل من الروايات على عدم حجية الخبر المخالف للكتاب الكريم (١) ، فانه يقيد أدلة حجية الخبر بغير صورة المخالفة للكتاب الكريم ، أو ما كان بمثابته من الادلة الشرعية القطعية صدورا وسندا.

قاعدة التسامح فى أدلة السنن :

ذكرنا أن خبر غير الثقة إذا لم تكن هناك أمارات على صدقه فهو

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ب ٩ من صفات القاضى.

٢٩٣

ليس بحجة ، ولكن قد يستثنى من ذلك الاخبار الدالة على المستحبات ، أو على مطلق الاوامر والنواهى غير الالزامية ، فيقال بأنها حجة فى إثبات الاستحباب أو الكراهة ما لم يعلم ببطلان مفادها. ويستند فى ذلك إلى روايات فيها الصحيحة وغيرها ، دلت على أن من بلغه عن النبى ثواب على عمل فعمله كان له مثل ذلك الثواب ، وإن كان النبى لم يقله ، بدعوى أن هذه الروايات تجعل الحجية لمطلق البلوغ فى موارد المستحبات ، ومن أجل هذا يعبر عن ذلك بالتسامح فى أدلة السنن.

والتحقيق أن هذه الروايات فيها بدوا عدة احتمالات :

الاول : أن تكون فى مقام جعل الحجية لمطلق البلوغ.

الثانى : أن تكون فى مقام إنشاء استحباب واقعى نفسى على طبق البلوغ ، فيكون بلوغ استحباب الفعل عنوانا ثانويا له يستدعى ثبوت استحباب واقعى بهذا العنوان.

الثالث : أن تكون إرشادا إلى حكم العقل بحسن الاحتياط واستحقاق المحتاط للثواب.

الرابع : أن تكون وعدا مولويا لمصلحة فى نفس الوعد ، ولو كانت هذه المصلحة هى الترغيب فى الاحتياط باعتبار حسنه عقلا.

والاستدلال بالروايات على ما ذكر مبنى على الاحتمال الاول ، وهو غير متعين ، بل ظاهر لسان الروايات ينفيه لانها تجعل للعامل الثواب ، ولو مع مخالفة الخبر للواقع. فلو كان وضع نفس الثواب تعبيرا عن التعبد بثبوت المؤدى وحجية البلوغ ، لما كان هناك معنى للتصريح بأن نفس الثواب محفوظ حتى مع مخالفة الخبر للواقع. كما أن الاحتمال الثانى لا موجب لاستفادته أيضا إلا دعوى أن الثواب على عمل فرع

٢٩٤

كونه مطلوبا ، وهى مدفوعة بأنه يكفى حسن الاحتياط عقلا ملاكا للثواب. فالمتعين هو الاحتمال الثالث ، ولكن مع تطعيمه بالاحتمال الرابع ، لان الاحتمال الثالث بمفرده لا يفسرإعطاء العامل نفس الثواب الذى بلغه ، لان العقل إنما يحكم باستحقاق العامل للثواب لا لشخص ذلك الثواب ، فلا بد من الالتزام بأن هذه الخصوصية مردها إلى وعد مولوى.

٢٩٥
٢٩٦

إثبات

حجية الدلالة فى الدليل الشرعى

٢٩٧
٢٩٨

تمهيد :

الدليل الشرعى قد يدل على حكم دلالة واضحة توجب اليقين أو الاطمئنان بأن هذا الحكم هو المدلول المقصود. وفى هذه الحالة يعتبر حجة فى دلالته على إثبات ذلك الحكم ، لان اليقين حجة والاطمئنان حجة ، من دون فرق بين أن يكون هذا الوضوح واليقين بالدلالة قائما على أساس كونها دلالة عقلية إنية من قبيل دلالة فعل المعصوم على عدم الحرمة ، أو على أساس كون الدليل لفظا لا يتحمل بحسب نظام اللغة وأساليب التعبير سوى إفادة ذلك المدلول وهو المسمى بالنص ، أو على أساس إحتفاف الدليل اللفظى بقرائن حالية أو عقلية تنفى احتمال مدلول آخر ، وإن كان ممكنا من وجهة نظر لغوية وعرفية عامة.

وقد يدل الدليل الشرعى على أحد أمرين أو امور على نحو تكون صلاحيته لافادة أى واحد منها مكافئة لصلاحيته لافادة غيره بحسب نظام اللغة وأساليب التعبير العرفى ، وهذا هو المجمل ، ويكون حجة فى إثبات الجامع على أساس العلم بأن المراد لا يخلو من أحد محتمليه أو محتملاته. هذا فيماإذا كان للجامع أثر قابل للتنجيز بالعلم المذكور ، وأما

٢٩٩

كل واحد من المحتملات بخصوصه فلا يثبت بالدليل المذكورإلا مع الاستعانة بدليل خارجى على نفى المحتمل الاخر ، فيضم إلى إثبات الجامع فينتج التعين فى المحتمل البديل.

وقد يدل الدليل الشرعى على أحد أمرين مع أولوية دلالته على أحدهما بنحو ينسبق إلى الذهن تصورا على مستوى المدلول التصورى ، وتصديقا على مستوى المدلول التصديقى ، وإن كانت إفادة المعنى الاخر تصورا وتصديقا بالدليل المذكور ممكنة ومحتملة أيضا بحسب نظام اللغة وأساليب التعبير ، وهذا هو الدليل الظاهر فى معنى ، وفى مثل ذلك يحمل على المعنى الظاهر، لان الظهور حجة فى تعيين مراد المتكلم. وهذه الحجية لا تقوم على أساس اعتبار العلم ، لان الظهور لا يوجب العلم دائما ، بل على أساس حكم الشارع بذلك.

ويعبر عن حجية الظهور بأصالة الظهور ، وعلى وزان ذلك يقال : أصالة العموم ، وأصالة الاطلاق ، وأصالة الحقيقة ، وأصالة الجد ، وغير ذلك من مصاديق لكبرى حجية الظهور.

الاستدلال على حجية الظهور :

وحكم الشارع بحجية الظهور يمكن الاستدلال عليه بالسيرة بأحد النحوين التاليين :

النحو الاول : أن نتمسك بالسيرة العقلائية بمعنى استقرار بناء العقلاء على اتخاذ الظهور وسيلة كافية لمعرفة مقاصد المتكلم ، وترتيب ما يرى لها من آثار بحسب الاغراض التكوينية أو التشريعية ، وهذه السيرة بحكم استحكامها تشكل دافعا عقلائيا عاما للعمل بالظهور فى

٣٠٠