دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

كون الحافز شرعيا فيثبت الرجحان ، ويساعد على هذا الاحراز تكرار صدور العمل من المعصوم ، أو مواظبته عليه مع كونه من الاعمال التى لا يقتضى الطبع تكرارها والمواظبة عليها.

وهل يدل الفعل على عدم كونه مرجوحا ، إما مطلقا ، وإما فى حالة تكرار صدوره من المعصوم ، أو لا يدل على أكثر مما تقدم من نفى الحرمة فى ذلك؟ وجوه مبنية على أن المعصوم هل يجوز فى حقه ترك الاولى وفعل المكروه ، أو يجوز حتى التكرار والمواظبة على ذلك ، أو لا يجوز شىء من هذا بالنسبة إليه؟ ويلاحظ أنه على تقدير عدم تجويز ترك الاولى على المعصوم ، إما مطلقا أو بنحو المواظبة على الترك ، نستطيع أن نستفيد من الترك عدم استحباب المتروك ، كما نستفيد من الفعل عدم كونه مكروها وعدم كون الترك مستحبا.

وتبقى هناك نقطة ينبغى أن تؤخذ بعين الاعتبار وهى : أن هذه الدلالات إنما تتحقق فى إثبات حكم للمكلف عند افتراض وحدة الظروف المحتمل دخلها فى الحكم الشرعى ، فان الفعل لما كان دالا صامتا وليس له إطلاق ، فلا يعين ما هى الظروف التى لها دخل فى إثبات ذلك الحكم للمعصوم ، فما لم نحرز وحدة الظروف المحتمل دخلها لا يمكن أن نثبت الحكم.

ومن هنا قد يثار اعتراض عام فى المقام ، وهو أن نفس النبوة والامامة ظرف يميز المعصوم دائما عن غيره ، فكيف يمكن أن نثبت الحكم على أساس فعل المعصوم.

والجواب على ذلك : أن احتمال دخل هذا الظرف فى الحكم المكتشف ملغى بقوله تعالى : ولكم فى رسول الله أسوة حسنة (١) وما يناظره من الادلة

__________________

(١) سورة الاحزاب : ٢١.

٢٦١

الشرعية الدالة على جعل النبى والامام قدوة ، فان فرض ذلك يقتضى إلغاء دخل النبوة والامامة فى سلوكهما لكى يكون قدوة لغير النبى والامام ، فما لم يثبت بدليل أن الفعل المعين من مختصات النبى والامام يبنى على عدم الاختصاص.

دلالة السكوت والتقرير :

وأما السكوت فقد يقال : إنه دليل الامضاء ، وتوضيح ذلك : أن المعصوم إذا واجه سلوكا معينا ، فاما أن يبدى موقف الشرع منه ، وهذا يعنى وجود الدليل الشرعى اللفظى. وإما أن يسكت ، وهذا السكوت يمكن أن يعتبر دليل على الامضاء ، ودلالته على الامضاء تارة تدعى على أساس عقلى ، واخرى على أساس الظهور الحالى.

أما الاساس العقلى فيمكن توضيحة : إما بملاحظة المعصوم مكلفا ، فيقال : إن هذا السلوك لو لم يكن مرضيا لوجب النهى عنه على المعصوم لوجوب النهى عن المنكر ، أو لوجوب تعليم الجاهل ، فعدم نهيه وسكوته مع عصمته يكشف عقلا عن كون السلوك مرضيا ، وإما بملاحظة المعصوم شارعا وهادفا ، فيقال : إن السلوك الذى يواجهه المعصوم لو كان يفوت عليه غرضه بما هو شارع لتعين الوقوف فى وجهه ، ولما صح السكوت ، لانه نقض للغرض ، ونقض الغرض من العاقل الملتفت مستحيل.

وكل من اللحاظين له شروطه ، فاللحاظ الاول يتوقف على توفر شروط وجوب النهى عن المنكر ، واللحاظ الثانى يتوقف على أن يكون السلوك المسكوت عنه مما يهدد بتفويت غرض شرعى فعلى بأن يكون

٢٦٢

مرتبطا بالمجال الشرعى مباشرة ، كالسلوك القائم على العمل بأخبار الاحاد الثقات فى الشرعيات ، أو ناشئا من نكتة تقتضى بطبعها الامتداد إلى المجال الشرعى على نحو يتعرض الغرض الشرعى للخطر والتفويت ، كما لو كان العمل بأخبار الاحاد قائما فى المجالات العرفية ، ولكن بنكتة تقتضى بطبعها تطبيق ذلك على الشرعيات أيضا عند الحاجة.

وأما الاساس الاستظهارى فيقوم على دعوى أن ظاهر حال المعصوم بوصفه المسؤول العام عن تبليغ الشريعة وتقويم الزيغ عند سكوته عن سلوك يواجهه ارتضاء ذلك السلوك ، وهذا ظهور حالى ، وتكون الدلالة حينئذ استظهارية ولا تخضع لجملة من الشروط التى يتوقف عليها الاساس العقلى.

السيرة :

ومن الواضح أن لسكوت إنما يدل على الامضاء فى حالة مواجهة المعصوم لسلوك معين ، وهذه المواجهة على نحوين :

أحدهما : مواجهة سلوك فرد خاص يتصرف أمام المعصوم ، كأن يمسح أمام المعصوم فى وضوئه منكوسا ويسكت عنه.

والاخر : مواجهة سلوك اجتماعى وهو ما يسمى بالسيرة العقلائية ، كما إذا كان العقلاء بما هم عقلاء يسلكون سلوكا معينا فى عصر المعصوم ، فانه بحكم تواجده بينهم يكون مواجها لسلوكهم العام ، ويكون سكوته دليلا على الامضاء. ومن هنا أمكن الاستدلال بالسيرة العقلائية عن طريق استكشاف الامضاء من سكوت المعصوم.

٢٦٣

والامضاء المستكشف بالسكوت ينصب على النكتة المركوزة عقلائيا لاعلى المقدار الممارس من السلوك خاصة. وهذا يعنى :

أولا : أن الممضى ليس هو العمل الصامت لكى لا يدل على أكثر من الجواز ، بل هو النكتة ، أى المفهوم العقلائى المرتكز عنه فقد يثبت به حكم تكليفى أو حكم وضعى.

وثانيا : أن الامضاء لا يختص بالعمل المباشر فيه عقلائيا فى عصر المعصوم ، ففيماإذا كانت النكتة أوسع من حدود السلوك الفعلى كان الظاهر من حال المعصوم إمضاءها كبرويا وعلى امتدادها.

وعلى ضوء ما ذكرناه نعرف أن ما يمكن الاستدلال به على إثبات حكم شرعى هو السيرة المعاصرة للمعصومين ، لانها هى التى ينعقد لسكوت المعصوم عنها ظهور فى الامضاء دون السيرة المتأخرة.

وقد يتوهم أن السيرة المتأخرة معاصرة أيضا للمعصوم وإن كان غائبا ، فيدل سكوته عنها على إمضائه ، وليست لدينا سيرة غير معاصرة للمعصوم.

والجواب على هذا التوهم : أن سكوت المعصوم فى غيبته لا يدل على إمضائه لا على أساس العقل ولا على أساس استظهارى ، أما الاول فلانه غير مكلف فى حال الغيبة بالنهى عن المنكر وتعليم الجاهل ، وليس الغرض بدرجة من الفعلية تستوجب الحفاظ عليه بغير الطريق الطبيعى الذى سبب الناس أنفسهم إلى سده بالتسبيب إلى غيبته. وأما الثانى فلان الاستظهار مناطه حال المعصوم ، ومن الواضح أن حال الغيبة لا يساعد على استظهار الامضاء من السكوت.

وعلى هذا يعرف أن كشف السيرة العقلائية عن إمضاء الشارع إنما

٢٦٤

هو بملاك دلالة السكوت عنها على الامضاء ، لا بملاك أن الشارع سيد العقلاء وطليعتهم فما يصدق عليهم يصدق عليه ، كما يظهر من بعض الاصوليين ، وذلك لان كونه كذلك بنفسه يوجب احتمال تميزه احتمال تميزه عنهم فى بعض المواقف ، وتخطئته لهم فى غير ما يرجع إلى المدركات السليمة الفطرية لعقولهم ، كما هو واضح.

٢٦٥
٢٦٦

إثبات

صغرى الدليل الشرعى

١ ـ وسائل الاثبات الوجدانى.

٢ ـ وسائل الاثبات التعبدى.

٢٦٧
٢٦٨

تمهيد :

الدليل الشرعى شىء يصدر من الشارع وله دلالة على حكم شرعى ، وقد تقدم فى البحث الاول عدد من الضوابط الكلية للدلالة. وهنا نتكلم عن كيفى إثبات كون الدليل صادرا من الشارع ، وهذا ما نعبر عنه باثبات صغرى الدليل الشرعى.

وهذا الاثبات على نحوين : أحدهما : الاثبات الوجدانى وذلك باحراز الصدور وجدانا ، والاخر : الاثبات التعبدى وذلك بأن يتعبد الشارع بالصدور كأن يقول مثلا : اعملوا بما يرويه الثقاة ، وهذا معنى جعل الحجية ، فالكلام يقع فى قسمين :

٢٦٩

١ ـ وسائل الاثبات الوجدانى

وسائل الاثبات الوجدانى للدليل الشرعى بالنسبة إلى غير المعاصرين للشارع هى الطرق التى توجب العلم بصدور الدليل من الشارع ، ولا يمكن حصر هذه الطرق ، ولكن يمكن إبراز ثلاث طرق رئيسية وهى :

أولا : الاخبار الحسى المتعدد بدرجة توجب اليقين ، وهو المسمى بالخبر المتواتر.

ثانيا : الاخبار الحدسى المتعدد بالدرجة نفسها ، وهو المسمى بالاجماع.

ثالثا : آثار محسوسة تكشف على سبيل الان عن الدليل الشرعى.

ونتكلم الان عن كل واحد من هذه الطرق تباعا.

الخبر المتواتر :

كل خبر حسى يحتمل فى شأنه بما هو خبر الموافقة للواقع والمخالفة له ، واحتمال المخالفة يقوم على أساس احتمال الخطأ فى المخبر ، أو

٢٧٠

احتمال تعمد الكذب لمصلحة معينة له تدعوه إلى إخفاء الحقيقة ، فاذا تعدد الاخبار عن محور واحد ، تضاءل احتمال المخالفة للواقع ، لان احتمال الخطأ أو تعمد الكذب فى كل مخبر بصورة مستقلة إذا كان موجودا بدرجة ما ، فاحتمال الخطأ أو تعمد الكذب فى مخبرين عن واقعة واحدة معا أقل درجة ، لان درجة احتمال ذلك ناتج ضرب قيمة احتمال الكذب فى أحد المخبرين بقيمة احتماله فى المخبر الاخر ، وكلما ضربنا قيمة احتمال بقيمة احتمال آخر ، تضاءل احتمال ، لان قيمة الاحتمال تمثل دائما كسرا محددا من رقم اليقين. فإذا رمزنا إلى رقم اليقين بواحد ، فقيمة الاحتمال هى ٢ ١ أو ٣ ١ أو أى كسر آخر من هذا القبيل ، وكلما ضربنا كسرا بكسر آخر خرجنا بكسر أشد ضالة كما هو واضح. وفى حالة وجود مخبرين كثيرين لابد من تكرار الضرب بعدد إخبارات المخبرين لكى نصل إلى قيمة احتمال كذبهم جميعا ، ويصبح هذ الاحتمال ضئيلا جدا ، ويزداد ضالة كلما ازداد المخبرون حتى يزول عمليا ، بل واقعيا لضالته وعدم إمكان احتفاظ الذهن البشرى بالاحتمالات الضئيلة جدا. ويسمى حينئذ ذلك العدد من الاخبارات التى يزول معها هذا الاحتمال عمليا أو واقعيا بالتواتر ، ويسمى الخبر بالخبر المتواتر.

ولا توجد هناك درجة معينة للعدد الذى يحصل به ذلك. لان هذا يتأثر إلى جانب الكم بنوعية المخبرين ، ومدى وثاقتهم ونباهتهم وسائر العوامل الدخيلة فى تكوين الاحتمال.

وبهذا يظهر أن الاحراز فى الخبر المتواتر يقوم على أساس حساب الاحتمالات.

٢٧١

والتواتر تارة يكون لفظيا ، واخرى معنويا ، وثالثة إجماليا ، وذلك أن المحور المشترك لكل الاخبارات إن كان لفظا محددا ، فهذا من الاول ، وإن كان قضية معنوية محددة ، فهذا من الثانى ، وإن كان لازما منتزعا ، فهذا من الثالث. وكلما كان المحور أكثر تحديدا كان حصول التواتر الموجب لليقين بحساب الاحتمالات أسرع ، إذ يكون افتراض تطابق مصالح المخبرين جميعا بتلك الدرجة من الدقة رغم اختلاف أحوالهم وأوضاعهم أبعد فى منطق حساب الاحتمالات.

وكما تدخل خصائص المخبرين من الناحية الكمية والكيفية فى تقييم الاحتمال ، كذلك تدخل خصائص المخبر عنه أى مفاد الخبر وهى على نحوين : خصائص عامة وخصائص نسبية.

والمراد بالخصائص العامة كل خصوصية فى المعنى تشكل بحساب الاحتمال عاملا مساعدا على كذب الخبر أو صدقه ، بقطع النظر عن نوعية المخبر. ومثال ذلك : غرابة القضية المخبر عنها ، فانها عامل مساعد على الكذب فى نفسه فيكون موجبا لتباطؤ حصول اليقين بالتواتر ، وعلى عكس ذلك كون القضية اعتيادية ومتوقعة ومنسجمة مع سائر القضايا الاخرى المعلومة ، فان ذلك عامل مساعد على الصدق ويكون حصول اليقين حينئذ أسرع.

والمراد بالخصائص النسبية كل خصوصية فى المعنى تشكل بحساب الاحتمال عاملا مساعدا على صدق الخبر أو كذبه فيماإذا لوحظ نوعية الشخص الذى جاء بالخبر ، ومثال ذلك : غير الشيعى إذا نقل ما يدل على إمامة أهل البيت عليهم‌السلام ، فان مفاد الخبر نفسه يعتبر بلحاظ خصوصية المخبر عاملا مساعدا لاثبات صدقه بحساب الاحتمال ، لان

٢٧٢

افتراض مصلحة خاصة تدعوه إلى الافتراء بعيد.

وقد تجتمع خصوصية عامة وخصوصية نسبية معا لصالح صدق الخبر كما فى المثال المذكور ، إذا فرضنا صدور الخبر فى ظل حكم بنى أمية ، وأمثالهم ممن كانوا يحاولون المنع من أمثال هذه الاخبار ، ترهيبا وترغيبا. فان خصوصية المضمون بقطع النظر عن مذهب المخبر شاهد قوى على الصدق ، وخصوصية المضمون مع أخذ مذهب المخبر بعين الاعتبار أقوى شهادة على ذلك.

الاجماع :

الاجماع اتفاق عدد كبير من أهل النظر والفتوى فى الحكم بدرجة توجب إحراز الحكم الشرعى ، وذلك أن فتوى الفقية فى مسألة شرعية بحتة تعتبرإخبارا حدسيا عن الدليل الشرعى ، والاخبار الحدسى هو الخبر المبنى على النظر والاجتهاد فى مقابل الخبر الحسى القائم على أساس المدارك الحسية ، وكما يكون الخبر الحسى ذا قيمة احتمالية فى إثبات مدلوله ، كذلك فتوى الفقيه بوصفها خبرا حدسيا يحتمل فيه الاصابة والخطأ معا ، وكما أن تعدد الاخبارات الحسية يؤدى بحساب الاحتمالات إلى نمو احتمال المطابقة وضالة احتمال المخالفة ، كذلك الحال فى الاخبارات الحدسية ، حتى تصل إلى درجة توجب ضالة احتمال الخطأ فى الجميع جدا ، وبالتالى زوال هذا الاحتمال عمليا أو واقعيا. وهذا ما يسمى بالاجماع. فالاجماع والخبر المتواتر مشتركان فى طريقة الاثبات بحساب الاحتمالات ، ويعتمد الكشف فى كل منهما على هذا الحساب ، ولكنهما يتفاوتان فى درجة الكشف ، فان نمو

٢٧٣

الاحتمال الموافق وتضاؤل احتمال المخالفة أسرع حركة فى التواتر منه فى الاجماع ، وذلك لعدة امور يمكن إبراز أهمها فى النقاط التالية :

الاولى : أن القيمة الاحتمالية للمفردات فى الاجماع أصغر من القيمة الاحتمالية للمفردات فى التواتر ، لان نسبة وقوع الخطأ فى الحدسيات أكبر من نسبة وقوعه فى الحسيات.

الثانية : أن الخطأ المحتمل فى مفردات الاجماع لا يتعين أن يكون ذا مركز واحد ، بينما يكون الخطأ فى الاخبار الحسية منصبا على مركز واحد عادة. فحينما يفتى فقهاء عديدون بوجوب غسل الشعر فى غسل الجنابة ، ويكونون على خطأ مثلا ، قد يكون خطأ أحدهم ناشئا من اعتماده على رواية غير تامة السند ، وخطأ الاخر ناشئا من اعتماده على رواية غير تامة الدلالة ، وخطأ الثالث ناشئا من اعتماده على أصالة الاحتياط وهكذا. وكلما كان المركز المحتمل للاخطاء المتعددة واحدا أو متقاربا ، كان احتمال تراكم الاخطاء عليه أضعف ، والعكس صحيح.

الثالثة : أن احتمال تأثير الخبر الاول فى الخبر الثانى موجود فى مجال الاخبار الحدسية ، وغير موجود عادة فى مجال الاخبار الحسية ، وهذا يعنى أن احتمال الخطأ فى الخبر الاول يتضمن فى مجال الحدسيات احتمالا للخطا فى الخبر الثانى ، بينما هو فى مجال الحسيات حيادى تجاه كون الثانى مخطئا أو مصيبا.

الرابعة : أن احتمال الخطأ فى قضية حسية يقترن عادة باحراز وجود المقتضى للاصابة ، وهو سلامة الحواس والفطرة ، وينشأ من احتمال وجود المانع عن تأثير المقتضى ، وأما احتمال الخطأ فى قضية نظرية حدسية ، فهو يتضمن أحيانا احتمال عدم وجود المقتضى للاصابة ، أى

٢٧٤

احتمال كون عدم الاصابة ناشئا من القصور لا لعارض من قبيل الذهول أو ارتباك البال.

الخامسة : أن الاخطاء المحتملة فى مجموعة الاخبار الحدسية يحتمل نشوؤها من نكتة مشتركة ، وأما الاخطاء المحتملة فى مجموعة الاخبار الحسية فلا يحتمل فيها ذلك عادة ، بل هى ترتبط فى كل مخبر بظروفه الخاصة ، وكلما كان هناك احتمال النكتة المشتركة موجودا ، كان احتمال المجموع أقرب من احتماله فى حالة عدم وجودها.

ويتأثر حساب الاحتمال فى الاجماع بعوامل عديدة : منها : نوعية العلماء المتفقين من الناحية العلمية ، ومن ناحية قربهم من عصر النصوص.

ومنها : طبيعة المسألة المتفق على حكمها ، وكونها من المسائل المترقب ورود النص بشأنها ، أو من التفصيلات والتفريعات.

ومنها : درجة ابتلاء الناس بتلك المسألة وظروفها الاجتماعية ، فقد يتفق أنها بنحو يقتضى توافر الدواعى والظروف [ على ] إشاعة الحكم المقابل لو لم يكن الحكم المجمع عليه ثابتا فى الشريعة حقا.

ومنها : لحن كلام اولئك المجمعين فى مقام الاستدلال على الحكم ، ومدى احتمال ارتباط موقفهم بمدارك نظرية موهونة. إلى غير ذلك من النكات والخصوصيات.

ولما كان استكشاف الدليل الشرعى من الاجماع مرتبطا بحساب الاحتمال ، لم يكن للاجماع بعنوانه موضوعية فى حصوله ، فقد يتم الاستكشاف حتى مع وجود المخالف إذا كان الخلاف بنحو لا يؤثر على حساب الاحتمال المقابل ، وهذا يرتبط إلى درجة كبيرة بتشخيص نوعية

٢٧٥

المخالف وعصره ، ومدى تغلغله فى الخط العلمى وموقعه فيه. كما أنه قد لا يكفى الاجماع بحساب الاحتمال للاستكشاف ، فتضم إليه قرائن احتمالية اخرى على نحو يتشكل من المجموع ما يقتضى الكشف بحساب الاحتمال.

سيرة المتشرعة :

ويناظر الاجماع السيرة المعاصرة والقريبة من عصر المعصومين عليهم‌السلام للمتشرعة بما هم متشرعة. وتوضيح ذلك أن العقلاء المعاصرين للمعصومين إذا اتجهوا إلى سلوك معين ، فتارة يسلكونه بما هم عقلاء كسلوكهم القائم على التملك بالحيازة مثلا ، واخرى يسلكونه بما هم متشرعة كمسحهم القدم فى الوضوء ببعض الكف مثلا. والاول هو السيرة العقلائية ، والثانى سيرة المتشرعة ، والفرق بين السيرتين أن الاولى لا تكون بنفسها كاشفة عن موقف الشارع ، وإنما تكشف عن ذلك بضم السكوت الدال على الامضاء ، كما تقدم ، وأما سيرة المتشرعة ، فبالامكان اعتبارها بنفسها كاشفة عن الدليل الشرعى على أساس أن المتشرعة حينما يسلكون سلوكا بوصفهم متشرعة ، يجب أن يكونوا متلقين ذلك من الشارع ، وهناك فى مقابل ذلك احتمال أن يكون السلوك المذكور مبنيا على الغفلة عن الاستعلام ، أو الغفلة فى فهم الجواب على تقدير الاستعلام ، غير أن هذا الاحتمال يضعف بحساب الاحتمال كلما لوحظ شمول السيرة وتطابق عدد كبير من المتشرعة عليها ، ومن هنا قلنا : إن سيرة المتشرعة تناظر الاجماع لانهما معا يقومان فى كشفهما على أساس حساب الاحتمال. غير أن الاجماع يمثل موقفا فتوائيا نظريا للفقهاء ،

٢٧٦

والاخر يمثل سلوكا عمليا دينيا للمتشرعة.

وكثيرا ما تشكل سيرة المتشرعة بالمعنى المذكور الحلقة الوسيطة بين الاجماع والدليل الشرعى ، بمعنى أن تطابق أهل الفتوى على حكم مع عدم كونه منصوصا فيما بأيدينا من نصوص يكشف بظن غالب اطمئنانى عن تطابق سلوكى وارتكازى من المتشرعة المعاصرين لعصر النصوص ، وهذا بدوره يكشف عن الدليل الشرعى. وبكلمة اخرى : إن الاجماع المذكور يكشف عن رواية غير مكتوبة ، ولكنها معاشة سلوكا وارتكازا بين عموم المتشرعة.

الاحراز الوجدانى للدليل الشرعى غير اللفظى :

مر بنا أن دليل السيرة العقلائية يعتمد على ركنين : أحدهما : قيام السيرة المعاصرة للمعصومين من العقلاء على شىء. والاخر : سكوت المعصوم الذى يدل كما تقدم على الامضاء. والسؤال الان كيف يمكن أن نحرز كل واحد من هذين الركنين؟ فاننا بحكم عدم معاصرتنا لهما زمانا يجب أن نستدل عليهما بقضايا معاصرة ثابتة وجدانا لكى نحرز بذلك هذا النوع من الدليل الشرعى.

١ ـ السيرة المعاصرة للمعصومين ]

أما السيرة المعاصرة للمعصومين عليهم‌السلام ، فهناك طرق يمكن أن يدعى الاستدلال بها عليها ، وقد تستعمل نفس الطرق لاثبات السيرة المعاصرة للمعصومين من المتشرعة بوصفهم الشرعى.

٢٧٧

الطريق الاول : أن نستدل على ماضى السيرة العقلائية بواقعها المعاصر لنا. وهذا الاستدلال يقوم على افتراض الصعوبة فى تحول السيرة من سلوك إلى سلوك مقابل ، وكون السيرة العقلائية معبرة بوصفها عقلائية ـ عن نكات فطرية وسليقة نوعية وهى مشتركة بين العقلاء فى كل زمان.

ولكن الصحيح عدم صحة هذا الاستدلال ، إذ لا صعوبة فى تصور تحول السيرة بصورة تدريجية وبطيئة إلى أن تتمثل فى السلوك المقابل بعد فترة طويلة من الزمن ، وما هو صعب الافتراض التحول الفجائى العفوى ، كما أن السلوك العقلائى ليس منبثقا دائما عن نكات فطرية مشتركة ، بل يتأثر بالظروف والبيئة والمرتكزات الثقافية إلى غير ذلك من العوامل المتغيرة ، فلا يمكن أن يعتبر الواقع المعاصر للسيرة دليلا على ماضيها البعيد.

الطريق الثانى : النقل التاريخى ، إما فى نطاق التاريخ العام ، أو فى نطاق الروايات والاحاديث الفقهية. ويتوقف اعتبار هذا النقل إما على كونه موجبا للوثوق والعلم ، أو على تجمع شرائط الحجية التعبدية فيه ، وفى هذا المجال يمكن الاستفادة من الروايات نفسها ، لانها تعكس ضمنا جوانب من حياة الرواة والناس وقتئذ ، كما يمكن الاستفادة أيضا من فتاوى الجمهور فى نطاق المعاملات مثلا باعتبارها منتزعة أحيانا عن الوضع العام المرتكز عقلائياإلى جانب دلالات التاريخ العام.

الطريق الثالث : أن يكون لعدم قيام السيرة المعاصرة للمعصومين على الحكم المطلوب لازم يعتبر انتفاؤه وجدانيا ، فيثبت بذلك قيام السيرة على ذلك النحو. ولنوضح ذلك فى مثال كما يأتى :

٢٧٨

لنفرض أننا نريد أن نثبت أن السيرة المعاصرة للائمة عليهم‌السلام كانت قائمة على الاجتزاء بالمسح ببعض الكف فى الوضوء ، فنقول : إن السيرة إذا كانت منعقدة على ذلك حقا ، فهذا سوف يكون دليلا على عدم الوجوب لدى من يحاول الاستعلام عن حكم المسألة فيغنيه عن السؤال ، وأماإذا لم تكن السيرة منعقدة على ذلك وكان افتراض المسح بتمام الكف واردا فى السلوك العملى لكثير من المتشرعة وقتئذ ، فهذا يعنى أن استعلام حكم المسألة ينحصر بالسؤال من المعصومين ، أو الرجوع إلى رواياتهم لان مسح المتشرعة بتمام الكف لا يكفى لاثبات الوجوب وحيث إن المسألة محل الابتلاء لعموم أفراد المكلفين ، ووجوب المسح بتمام الكف يستبطن عناية فائقة تحفز على السؤال ، فمن الطبيعى أن تكثر الاسئلة فى هذا المجال ، وتكثر الاجوبة تبعا لذلك ، وفى هذه الحالة يفترض عادة أن يصل إلينا مقدار من ذلك على أقل تقدير ، لاستبعاد اختفاء جلها ، مع توفر الدواعى على نقلها ، وعدم وجود ما يبرر الاختفاء ، فاذا لم يصل إلينا ذلك نعرف أنه لم تكن هناك أسئلة وأجوبة كثيرة ، وبالتالى لم تكن هناك حاجة إلى استعلام حكم المسألة عن طريق السؤال والجواب. وهذا يعين افتراض قيام السيرة على الاجتزاء بالمسح ببعض الكف.

وهذا الاستدلال يتوقف كما لا حظنا على :

أن المسألة محل الابتلاء للعموم.

وكون الحكم المقابل كوجوب المسح بتمام الكف فى المثال يتطلب سلوكا لا يقتضيه الطبع بنفسه.

وتوفر الدواعى على نقل ما يرد فى حكم المسألة.

٢٧٩

وعدم وجود مبررات للاخفاء.

وعدم وصول شىء معتد به فى هذا المجال لاثبات الحكم المقابل من الروايات وفتاوى المتقدمين.

الطريق الرابع : أن يكون للسلوك الذى يرادإثبات كونه ، سلوكا عاما للمعاصرين للائمة سلوك بديل على نحو لو لم نفترض ذاك يتعين افتراض هذا البديل ، ويكون هذا السلوك البديل معبرا عن ظاهرة اجتماعية غريبة لو كانت واقعة حقا لسجلت وانعكست علينا باعتبارها على خلاف المألوف ، وحيث لم تسجل يعرف أن الواقع خارجا كان هو المبدل لا البدل. ومثال ذلك : أن نقول : إن السلوك العام المعاصر للمعصومين كان منعقدا على اعتبار الظواهر والعمل بها ، إذ لو لا ذلك لكان لابد من سلوك بديل يمثل طريقة اخرى فى التفهيم ، ولما كانت الطريقة البديلة تشكل ظاهرة غريبة عن المألوف كان من الطبيعى أن تنعكس ويشار إليها ، والتالى غير واقع فكذلك المقدم ، وبذلك يثبت إستقرار السيرة على العمل بالظواهر.

الطريق الخامس : الملاحظة التحليلية الوجدانية بمعنى : أن الانسان إذا عرض مسألة على وجدانه ومرتكزاته العقلائية ، فرأى أنه منساق إلى اتخاذ موقف معين ، ولا حظ أن هذا الموقف واضح فى وجدانه بدرجة كبيرة ، واستطاع ان يتأكد من عدم ارتباطه بالخصوصيات المتغيرة من حال إلى حال ومن عاقل إلى عاقل بملاحظة تحليلية وجدانية ، أمكنه ان ينتهى إلى الوثوق بأن ما ينساق إليه من موقف حالة عامة فى كل العقلاء. وقد يدعم ذلك باستقراء حالة العقلاء فى مجتمعات عقلائية مختلفة للتأكد من هذه الحالة العامة. وهذا طريق قد يحصل للانسان

٢٨٠