دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

ترددنا فى هذه الصورة هل أنها تشتمل على قيد غير مذكور فى الكلام الذى سيق للتحدث عنها؟. كان مقتضى الظهور الحالى السياقى فى أن المتكلم يبين تمام المراد بالخطاب مع عدم ذكره للقيد هو الاطلاق ، وهذا هو الاطلاق اللفظى لانه يرتبط بمدلول اللفظ.

وأما الاطلاق المقامى فلا يراد به نفى شىء لو كان ثابتا لكان قيدا فى الصورة الذهنية التى يتحدث عنها اللفظ ، وإنما يراد به نفى شىء لو كان ثابتا لكان صورة ذهنية مستقلة وعنصرا آخر ، فاذا قال المتكلم : ( الفاتحة جزء فى الصلاة ، والركوع جزء فيها ، والسجود جزء فيها ... ) وسكت ، وأردنا أن نثبت بعدم ذكره لجزئية السورة أنها ليست جزء كان هذاإطلاقا مقاميا. ويتوقف هذا الاطلاق المقامى على إحراز أن المتكلم فى مقام بيان تمام أجزاء الصلاة ، إذ ما لم يحرز ذلك لا يكون عدم ذكره لجزئية السورة كاشفا عن عدم جزئيتها ، ومجرد استعراضه لعدد من أجزاء الصلاة لا يكفى لاحراز ذلك ، بل يحتاج إحرازه إلى قيام قرينة خاصة على أنه فى هذا المقام.

وبذلك يختلف الاطلاق المقامى عن الاطلاق اللفظى ، إذ فى الاطلاق اللفظى يوجد ظهور سياقى عام يتكفل إثبات أن كل متكلم يسوق لفظا للتعبير عن صورة ذهنية ، فلا تزيد الصورة الذهنية التى يعبر عنها باللفظ عن مدلول اللفظ ، ولا يوجد فى الاطلاق المقامى ظهور مماثل فى أن كل من يستعرض عددا من أجزاء الصلاة فهو يريد الاستيعاب.

بعض التطبيقات لقرينة الحكمة :

يدل الامر على الطلب وأنه على نحو الوجوب كما تقدم وقد يقال

٢٤١

بهدا الصدد : إن دلالته على الوجوب ليست بالوضع ، وإنما هى بالاطلاق وقرينة الحكمة ، لان الطلب غير الوجوبى طلب ناقص محدود ، وهذا التحديد تقييد فى هوية الطلب ، ومع عدم نصب قرينة على التقييد يثبت بالاطلاق إرادة الطلب المطلق ، أى الطلب الذى لا حد له بما هو طلب وهو الوجوب.

وللطلب انقسامات عديدة :

كانقسامه إلى الطلب ( النفسى ) و ( الغيرى ) ، فالاول هو طلب الشىء لنفسه ، والثانى هو طلب الشىء لاجل غيره.

وانقسامه إلى الطلب ( التعيينى ) و ( التخييرى ) ، فالاول هو طلب شىء معين ، والثانى طلب أحد الاشياء على سبيل التخيير.

وانقسامه إلى ( العينى ) و ( الكفائى ) ، فالاول هو طلب الشىء من المكلف بعينه ، والثانى طلبه من أحد المكلفين على سبيل البدل. وبالاطلاق وقرينة الحكمة يمكن أن نثبت كون الطلب نفسيا ، تعيينيا ، عينيا ، ويقال فى توضيح ذلك : إن الغيرية تقتضى تقييد وجوب الشىء بماإذا وجب ذلك الغير ، والتخييرية تقتضى تقييده بماإذا لم يؤت بالاخر ، والكفائية تقتضى تقييده بما إذا لم يأت الاخر بالفعل ، وكل هذه التقييدات تنفى مع عدم القرينة عليها بقرينة الحكمة ، فيثبت المعنى المقابل لها.

٢٤٢

العموم

تعريف العموم :

الاستيعاب تارة يثبت دون أن يكون مدلولا للفظ ، واخرى يكون مدلولا له ، فالاول كاستيعاب الحكم الوارد على المطلق لافراده ، فاذا قيل : ( أكرم العالم ) اقتضى اسم الجنس استيعاب وجوب الاكرام لافراد العالم ، إلا أن هذا الاستيعاب ليس مدلولا للفظ ، وإنما الكلام يدل على نفى القيد ، ومن لوازم ذلك انحلال الحكم حينئذ فى مرحلة التطبيق على جميع أفراد العالم. والثانى هو العموم ، كما فى قولنا : ( كل رجل ) فان ( كل ) هنا تدل بنفسها على الاستيعاب.

وبهذا ظهر أن أسماء العدد ( كعشرة ) رغم استيعابها لوحداتها ليست عموما ، لان هذا الاستيعاب صفة واقعية للعشرة ، فإن كل مركب يستوعب أجزاءه ، وليس مدلولا عليه بنفس لفظ العشرة ، فحاله حال انقسام العشرة إلى متساويين ، فكما أنه صفة واقعية ، وليس داخلا فى مدلول اللفظ كذلك الاستيعاب.

٢٤٣

أدوات العموم ونحو دلالتها :

لا شك فى وجود أدوات تدل على العموم بالوضع ، مثل كلمة ( كل ) و ( جميع ) ونحو هما من الالفاظ الخاصة بافادة الاستيعاب ، غير أن النقطة الجديرة بالبحث فيها وفى كل ما ثبت أنه من أدوات العموم بالوضع هى : أن إسراء الحكم إلى تمام أفراد مدخول الاداة ، أى ( عالم ) مثلا فى قولنا ( أكرم كل عالم ) هل يتوقف على إجراء الاطلاق وقرينة الحكمة فى المدخول ، أو أن دخول أداة العموم على الكلمة يغنيها عن مقدمات الحكمة ، وتتولى الاداة بنفسها دور تلك القرينة؟

وقد ذكر صاحب الكفاية ( رحمه‌الله ) أن كلا الوجهين ممكن من الناحية النظرية ، لان أداة العموم إذا كانت موضوعة لاستيعاب ما يراد من المدخول تعين الوجه الاول ، لان المراد بالمدخول لا يعرف حينئذ من ناحية الاداة ، بل بقرينة الحكمة ، وإذا كانت موضوعة لاستيعاب تمام ما يصلح المدخول للانطباق عليه تعين الوجه الثانى ، لان المدخول مفاده الطبيعة ، وهى صالحة للانطباق على تمام الافراد ، فيتم تطبيقها كذلك بتوسط الاداة مباشرة.

وقد استظهر رحمه الله بحق الوجه الثانى.

وقد لا يكتفى بالاستظهار فى تعيين الوجه الثانى ، بل يبرهن على إبطال الوجه الاول بلزوم اللغوية ، إذا بعد فرض الاحتياج إلى قرينة الحكمة لاثبات الاطلاق فى المرتبة السابقة على دخول الاداة يكون دور الاداة لغوا صرفا ، ولا يمكن افتراض كونها تأكيدا ، لان فرض الطولية بين دلالة الاداة وثبوت الاطلاق بقرينة الحكمة يمنع عن تعقل كون الاداة ذات أثر ولو تأكيدى.

٢٤٤

دلالة الجمع المعرف باللام :

ومما ادعيت دلالته على العموم ( الجمع المعرف باللام ) بعد التسليم بأن الجمع الخالى من اللام لا يدل على العموم ، وأن المفرد المعرف باللام لا يدل على ذلك أيضا ، وإنما يجرى فيه الاطلاق وقرينة الحكمة.

والكلام فى ذلك يقع فى مرحلتين :

الاولى : تصوير هذه الدلالة ثبوتا ، والصحيح فى تصويرها أن يقال : إن الجمع المعرف باللام مشتمل على دوال ثلاثة : أحدها : يدل على المعنى الذى يراد استيعاب أفراده ، وهو المادة ، وثانيها : يدل على الجمع ، وهو هيئة الجمع ، وثالثها : يدل على استيعاب الجمع لتمام أفراد مدلول المادة ، وهو اللام.

والثانية : فى حال هذه الدلالة إثباتا ، وتفصيل ذلك أنه تارة يدعى وضع اللام الداخلة على الجمع للعموم ، واخرى يدعى وضعها لتعيين مدخولها ، وحيث لا يوجد معين للافراد الملحوظين فى الجمع من عهد ونحوه تتعين المرتبة الاخيرة من الجمع ، لانها المرتبة الوحيدة التى لا تردد فى انطباقها وحدود شمولها ، فيكون العموم من لوازم المدلول الوضعى وليس هو المدلول المباشر. وقد اعترض على كل من الدعويين.

أما على الاولى فبأن لازمها كون الاستعمال فى موارد العهد مجازيا ، إذ لا عموم ، أو البناء على الاشتراك اللفظى بين العهد والعموم وهو بعيد.

وأما الثانية فقد أورد عليها صاحب الكفاية ( رحمه‌الله ) بأن التعيين كما هو محفوظ فى المرتبة الاخيرة من الجمع كذلك هو محفوظ فى المراتب

٢٤٥

الاخرى. وكأنه يريد بالتعيين المحفوظ فى كل تلك المراتب تعين العدد وماهية المرتبة وعدد وحداتها ، بينما المقصود بالتعيين الذى تتميز به المرتبة الاخيرة من الجمع تعين ما هو داخل من الافراد فى نطاق الجمع المعرف ، وهذا النحو من التعين لا يوجدإلا لهذه المرتبة.

٢٤٦

المفاهيم

تعريف المفهوم :

الكلام له مدلول مطابقى وهو المنطوق ، وقد يتفق أن يكون له مدلول التزامى ، والمفهوم مدلول التزامى للكلام ، ولكن لا كل مدلول التزامى ، بل المدلول الالتزامى الذى يعبر عن انتفاء الحكم فى المنطوق إذا اختلت بعض القيود المأخوذة فى المدلول المطابقى ، فقولك : ( صلاة الجمعة واجبة ) يدل بالدلالة الالتزامية على أن صلاة الظهر ليست واجبة ، ولكن هذا ليس مفهوما ، لانه لا يعبر عن انتفاء نفس وجوب صلاة الجمعة ، أى انتفاء حكم المنطوق. وتحصل الدلالة الالتزامية على انتفاء الحكم المنطوق باختلال بعض القيود بسبب أن الربط الخاص المأخوذ فى المدلول المطابقى بين الحكم وقيوده قد أخذ على نحو يستدعى انتفاء الحكم المنطوق بانتفاء ما ربط به.

ولكن ليس كل انتفاء من هذا القبيل للحكم المنطوق مفهوما أيضا ، بل إذا تضمن انتفاء طبيعى الحكم المنطوق ، فزيد مثلا قد يجب إكرامه بملاك ( المجاملة ) ، وقد يجب إكرامه بملاك ( مجازاة الاحسان ) ، وقد يجب إكرامه بملاك ( الشفقة ) ، وهكذا ، فإذا قيل ( إذا جاءك زيد

٢٤٧

فأكرمه ) فوجوب الاكرام المبرز بهذا الكلام لا بد أن يكون واحدا من هذه الافراد للوجوب. ولنفرض أنه الفرد الاول منها مثلا ، وهذا الفرد من الوجوب ينتفى بانتفاء الشرط تطبيقا لقاعدة احترازية القيود ، ولكن هذه القاعدة لا تنفى سائر أفراد الوجوب الاخرى ، ولا يعتبر ذلك مفهوما ، بل المفهوم أن يدل الربط الخاص المأخوذ فى المنطوق بين الحكم وقيده على انتفاء طبيعى الحكم بانتفاء القيد ، فقولنا : ( إذا جاء زيد فأكرمه ) فى المثال المتقدم ، إنما يعتبر له مفهوم إذا دل الربط فيه بين الشرط والجزاء على أنه فى حالات انتفاء الشرط ينتفى طبيعى وجوب الاكرام بكل أفراده الانفة الذكر. ومن هنا صح تعريف المفهوم بأنه : انتفاء طبيعى الحكم المنطوق على أن يكون هذا الانتفاء مدلولا التزاميا لربط الحكم فى المنطوق بطرفه.

ضابط المفهوم :

وعلى ضوء ما ذكرناه فى تعريف المفهوم نواجه السؤال التالى : ما هو هذا النحو من الربط الذى يستلزم انتفاء الحكم عند الانتفاء؟. لكى نبحث بعد ذلك عن الجمل التى يمكن القول بأنها تدل على ذلك النحو من الربط ، وبالتالى يكون لها مفهوم.

والمعروف أن الربط الذى يحقق المفهوم يتوقف على ركنين أساسيين :

أحدهما : أن يكون الربط معبرا عن حالة لزوم على انحصارى ، وبكلمة أخرى أن يكون من ارتباط المعلول بعلته المنحصرة ، إذ لو كان الربط بين الجزاء والشرط مثلا مجرد اتفاق بدون لزوم ، أو لزوما بدون

٢٤٨

علية أو علية بدون انحصار لتوفر علة اخرى ، لما انتفى مدلول الجزاء بانتفاء ما ارتبط به فى الجملة من شرط ، لامكان وجوده بعلة اخرى.

والركن الاخر : أن يكون المرتبط بتلك العلة المنحصرة طبيعى الحكم وسنخه لا شخصه ، لكى ينتفى الطبيعى بانتفاء تلك العلة لا الشخص فقط ، لما عرفت سابقا من أن المفهوم لا يتحقق إلا إذا كان الربط مستلزما لانتفاء طبيعى الحكم المنطوق بانتفاء القيد.

ونلاحظ على الركن الاول من هذين الركنين.

أولا : أن كون المرتبط به الحكم علة تامة ليس أمرا ضروريا لاثبات المفهوم ، بل يكفى أن يكون جزة العلة إذا افترضنا كونه جزء لعلة منحصرة ، فالمهم من ناحية المفهوم الانحصار لا العلية.

وثانيا : أن الجملة الشرطية مثلاإذا أفادت كون الجزء ملتصقا بالشرط ومتوقفا عليه كفى ذلك فى إثبات الانتفاء عند الانتفاء ، ولو لم يكن فيها ما يثبت علية الشرط للجزاء أو كونه جزء العلة ، بل وحتى لو لم يكن فيها ما يدل على اللزوم ، ولهذا لو قلنا : إن مجىء زيد متوقف صدفة على مجىء عمرو ، لدل ذلك على عدم مجىء زيد فى حالة عدم مجىء عمرو ، فليست دلالة الجملة على اللزوم العلى الانحصارى هى الاسلوب الوحيد لدلالتها على المفهوم ، بل يكفى بدلا عن ذلك دلالتها على الالتصاق والتوقف ، ولو صدفة من جانب الجزاء.

مفهوم الشرط :

من أهم الجمل التى وقع البحث عن مفهومها الجملة الشرطية. ولا شك فى دلالتها على ربط الجزاء بالشرط ، وإن وقع الاختلاف فى

٢٤٩

الدال على هذا الربط ، فالرأى المعروف أن أداة الشرط هى الدالة على الربط وضعا ، وخالف فى ذلك المحقق الاصفهانى ، إذ ذهب إلى أن الاداة موضوعة لافادة أنمدخولها ( أى الشرط ) قد افترض ، وقدر على نهج الموضوع فى القضية الحقيقية ، وأما ربط الجزاء بالشرط وتعليقه عليه ، فهو مستفاد من هيئة الجملة وما فيها من ترتيب للجزاء على الشرط.

وعلى أى حال يتجه البحث حول ماإذا كان هذا الربط المستفاد من الجملة الشرطية بين الجزاء والشرط يفى بإثبات المفهوم أولا. وفى هذا المجال نواجه سؤالين على ضوء ما تقدم من الضابط لاثبات المفهوم :

أولا : هل المعلق طبيعى الحكم أو شخصه؟.

ثانيا : هل يستفاد من الجملة أن الشرط علة منحصرة للمعلق؟.

وفيما يتصل بالسؤال الاول يقال عادة : بأن المعلق طبيعى الحكم لا الشخص ، وذلك باجراء الاطلاق وقرينة الحكمة فى مفاد هيئة جملة الجزاء ، فان مفادها هو المحكوم عليه بالتعليق ، ومقتضى الاطلاق أنه لوحظ بنحو الطبيعى لا بنحو الشخص ، ففى جملة ( إذا جاء زيد فأكرمه ) نثبت بالاطلاق أن مفاد ( أكرم ) طبيعى الوجوب المفاد بنحو المعنى الحرفى والنسبة الارسالية.

وفيما يتصل بالسؤال الثانى قد يقال : إن أداة الشرط موضوعة لغة للربط العلى الانحصارى بين الشرط والجزاء ، ولكن يورد على ذلك عادة بأنها لو كانت موضوعة على هذا النحو لزم أن يكون استعمالها فى مورد كون الشرط علة غير منحصرة مجازا وهو خلاف الوجدان ، ومن هنا اتجه القائلون بالمفهوم إلى دعوى اخرى وهى : أن اللزوم مدلول وضعى للاداة ، والعلية مستفادة من تفريع الجزاء على الشرط بالفاء الثابتة

٢٥٠

حقيقة أو تقديرا ، وأما الانحصار فيثبت بالاطلاق ، إذ لو كان للشرط بديل يتحقق عوضا عنه فى بعض الاحيان ، لكان لابد من تقييد الشرط المذكور فى الجملة بذلك البديل بحرف ( أو ) ونحوها ، فيقال مثلا ( إن جاء زيد أو مرض فأكرمه ) فحيث لم يذكر ذلك والقى الشرط مطلقا ، ثبت بذلك عدم وجود البديل وهو معنى الانحصار.

الشرط المسوق لتحقيق الموضوع :

يوجد فى الجملة الشرطية ( إن جاء زيد فأكرمه ) حكم وهو وجوب الاكرام ، وشرط وهو المجىء ، وموضوع ثابت فى حالتى وجود الشرط وعدمه ، وهو زيد ، وفى هذه الحالة يثبت مفهوم الشرط تبعا لما تقدم من بحوث. ولكننا أحيانا نجد أن الشرط يساوق وجود الموضوع ويعنى تحقيقه على نحو لا يكون فى الجملة الشرطية موضوع محفوظ فى حالتى وجود الشرط وعدمه ، كما فى قولنا : ( إذا رزقت ولدا فاختنه ) ، وفى مثل ذلك لا مجال للمفهوم إذ مع عدم الشرط لا موضوع لكى تدل الجملة على نفى الحكم عنه ، ويسمى الشرط فى حالات من هذا القبيل بالشرط المسوق لتحقق الموضوع.

مفهوم الوصف :

إذا قيد متعلق الحكم أو موضوعه بوصف معين ، كما فى ( أكرم الفقير العادل ) ، فهل يدل التقييد بوصف العادل على المفهوم؟.

قد يقال بثبوت المفهوم لاحد الوجهين التاليين :

الاول : أنه لو كان يجب إكرام الفقير العادل والفقير غير العادل معا ، فهذا يعنى أن العدالة ليس لها دخل فى موضوع الحكم بالوجوب ،

٢٥١

مع أن أخذ قيد فى الخطاب ظاهر عرفا فى أنه دخيل فى الحكم.

ويرد على ذلك : أن دلالة الخطاب على دخل القيد لا شك فيها ، ومردهاإلى ظهور حال المتكلم فى أن كل ما يبين بالكلام فى مرحلة المدلول التصورى فهو داخل فى نطاق المراد الجدى ، وحيث أن الوصف قد بين فى مرحلة المدلول التصورى بوصفه قيدا ، فيثبت بذلك أنه دخيل فى موضوع الحكم المراد جدا ، وعلى أساس ذلك قامت قاعدة احترازية القيود كما تقدم ، غير أن ذلك إنما يقتضى دخل الوصف فى شخص الحكم ، وانتفاء هذا الشخص الذى سبق الكلام لابرازه بانتفاء الوصف لا انتفاء طبيعى الحكم ، وما نقصده بالمفهوم انتفاء الطبيعى.

الثانى : أنه لو كان يجب إكرام الفقير العادل والفقير غير العادل ولو بفردين من الوجوب وبجعلين ، لما كانت هناك فائدة فى ذكر المولى لقيد العدالة ، لانه لو لم يذكره وجاء الخاطب مطلقا لما أضر بمقصوده ، وإذا لم تكن هناك فائدة فى ذكر القيد كان لغوا ، فيتعين لصيانة كلام المولى عن اللغوية أن يفترض لذكر القيد فائدة ، وهى التنبيه على عدم شمول الحكم للفقير غير العادل فيثبت المفهوم.

وهذا البيان وإن كان متجها ، ولكنه إنما يقتضى نفى الثبوت الكلى الشامل للحكم فى حالات انتفاء الوصف ولا ينفى ثبوته فى بعض الحالات مع انتفائه فى حالات اخرى ، إذ يكون لذكر القيد عندئذ فائدة وهى التحرز عن هذه الحالات الاخرى ، لانه لو لم يذكر لشمل الخطاب كل حالات الانتفاء. فالوصف إذن له مفهوم محدود ، ويدل على انتفاء الحكم بانتفاء الوصف على نحو السالبة الجزئية لا على نحو السالبة الكلية.

وينبغى ان نلاحظ فى هذا المجال ، ان الوصف تارة يذكر مع

٢٥٢

موصوفه فيقال مثلا : ( احترم العالم الفقيه ) واخرى يذكر مستقلا فيقال : ( احترام الفقيه ). والوجه الاول لاثبات المفهوم للوصف لو تم يجرى فى كلتا الحالتين ، وأما الوجه الثانى فيختص بالحالة الاولى ، لان ذكر الوصف فى الحالة الثانية لا يكون لغوا على أى حال مادام الموصوف غير مذكور

جمل الغاية والاستثناء :

وهناك جمل اخرى يقال عادة بثبوت المفهوم لها كالجملة المتكفلة لحكم مغيى ، كما فى ( صم إلى الليل ) أو المتكفلة لحكم مع الاستثناء منه. ولا شك فى أن الغاية والاستثناء يدلان على أن شخص الحكم الذى اريدإبرازه بذلك الخاطب منفى بعد وقوع الغاية ، ومنفى عن المستثنى تطبيقا لقاعدة احترازية القيود ، ولكن هذا لا يكفى لاثبات المفهوم ، لان المطلوب فيه نفى طبيعى الحكم ، كما فى الجملة الشرطية ، وهذا يتوقف على إثبات كون الغاية أو الاستثناء غاية لطبيعى الحكم واستثناء منه ، على وزان كون المعلق فى الجملة الشرطية طبيعى الحكم ، فان أمكن إثبات ذلك كان للغاية ولاداة الاستثناء مفهوم كمفهوم الجملة الشرطية ، فتدلان على أن طبيعى الحكم ينتفى عن جميع الحالات التى تشملها الغاية أو يشملها المستثنى ، وإذا لم يمكن إثبات ذلك لم يكن للغاية والاستثناء مفهوم بهذا المعنى. نعم يثبت لها مفهوم محدود بقدر ما ثبت للوصف بقرينة اللغوية إذ لو كان طبيعى الحكم ثابتا بعد الغاية أو للمستثنى أيضا ولو بجعل آخر ، كان ذكر الغاية أو الاستثناء بلا مبرر عرفى ، فلا بد من افتراض انتفاء الطبيعى فى حالات وقوع الغاية وحالات المستثنى ولو بنحو السالبة الجزئية صيانة للكلام عن اللغوية.

٢٥٣

التطابق بين الدلالات

تقدم أن الكلام له ثلاث دلالات ، وهى : الدلالة التصورية ، والدلالة التصديقية الاولى ، والدلالة التصديقية الثانية. وتقدم أن الظاهر من كل لفظ فى مرحلة الدلالة التصورية هو المعنى الموضوع له اللفظ. ونريد هنا الاشارة إلى ظهور كل لفظ فى مرحلة الدلالة التصديقية الاولى : فى أن المتكلم يقصد باللفظ تفهيم نفس المعنى الظاهر من الدلالة التصورية لا معنى آخر ، فاذا قال المتكلم ( أسد ) ، وشككنا فى أن المتكلم هل قصد أن يخطر فى ذهننا المعنى الحقيقى وهو الحيوان المفترس ، أو المعنى المجازى وهو الرجل الشجاع ، كان ظاهر حاله أنه يقصد إخطار المعنى الحقيقى ، ومرد ذلك فى الحقيقة إلى ظهور حال المتكلم فى التطابق بين الدلالة التصورية ، والدلالة التصديقية الاولى ، فما دام الظاهر من الاولى هو المعنى الحقيقى ، فالمقصود فى الثانية هو أيضا ، وهذا الظهور حجة على ما يأتى فى قاعدة حجية الظهور ، ويطلق على حجيته اسم أصالة الحقيقية.

ولنأخذ الان الدلالة التصديقية الثانية بعد افتراض تعيين الدلالتين

٢٥٤

السابقتين عليها لنجد فيها نفس الشىء ، فان الظاهر من الكلام فى مرحلة الدلالة التصديقية الثانية ، أن المراد الجدى متطابق مع ما قصد إخطاره فى الذهن فى مرحلة الدلالة التصديقية الاولى ، فاذا قال المتكلم ( أكرم كل جيرانى ) وعرفنا أنه يريد أن يخطر فى ذهننا صورة العموم ، ولكن شككنا فى أن مراده الجدى هل هو أن نكرم جيرانه جميعا ، أو أن نكرم بعضهم ، غير أنه أتى باللفظ عاما وقصدإخطار العموم مجاملة لجيرانه ، ففى هذه الحالة نجد أن ظاهر حال المتكلم أنه جاد فى التعميم ، وأن مراده الجدى ذلك ، ومرد ذلك فى الحقيقة إلى ظهور حال المتكلم فى التطابق بين الدلالة التصديقية الاولى والدلالة التصديقية الثانية ، فما دام الظاهر من الاولى إخطار صورة العموم ، فالظاهر من الثانية إرادة العموم جدا ، وهذا الظهور حجة ، ويطلق على حجيته فى هذا المثال أصالة العموم.

وقد يقول المتكلم : ( أكرم فلانا ) ويخطر فى ذهننا مدلول الكلام ، ولكننا نشك فى أنه جاد فى ذلك ، ونحتمل أنه متأثر بظروف خاصة من التقية ونحوها ، وأنه ليس له مراد جدى إطلاقا ، والكلام فيه كالكلام فى المثال السابق ، فان ظهور التطابق بين الدلالتين التصديقيتين يقتضى دلالة الكلام على أن ما أخطره فى ذهننا عند سماع هذا الكلام مراد له جدا ، وأن الجهة التى دعته إلى الكلام هى كون مدلوله مرادا جديا له لا التقية ، وهذا الظهور حجة ويسمى بأصالة الجهة.

ونلاحظ على ضوء ما تقدم أن فى الكلام ثلاثة ظواهر : أحدها تصورى ، وإثنان تصديقيان ، ويختلف التصورى عنهما فى أن ظهور اللفظ تصورا فى المعنى الحقيقى لا يتزعزع حتى مع قيام القرينة المتصلة على أن

٢٥٥

المتكلم أراد معنى آخر ، وأما ظهور الكلام تصديقا فى إرادة المتكلم للمعنى الحقيقى استعمالا وجدا فيزول بقيام القرينة المذكورة ويتحول من المعنى الحقيقى إلى المعنى الذى تدل عليه القرينة ، وأما القرينة المنفصلة فلا تزعزع شيئا من هذه الظواهر ، وإنما تشكل تعارضا بين ظهور الكلام الاول وبينها ، وتقدم عليه وفقا لقواعد الجمع العرفى.

٢٥٦

مناسبات الحكم والموضوع

قد يذكر الحكم فى الدليل مرتبطا بلفظ له مدلول عام ، ولكن العرف يفهم ثبوت الحكم لحصة من ذلك المدلول ، كماإذا قيل ( اغسل ثوبك إذا أصابه البول ) ، فان الغسل لغة قد يطلق على استعمال أى مائع ، ولكن العرف يفهم من هذا الدليل أن المطهر هو الغسل بالماء.

وقد يذكر الحكم فى الدليل مرتبطا بحالة خاصة ، ولكن العرف يفهم أن هذه الحالة مجرد مثال لعنوان عام ، وأن الحكم مرتبط بذلك العنوان العام ، كما إذا ورد فى قربة وقع فيها نجس أنه لا تتوضأ منها ولا تشرب ، فان العرف يرى الحكم ثابتا لماء الكوز أيضا ، وأن القربة مجرد مثال.

وهذه التعميمات وتلك التخصيصات تقوم فى الغالب على أساس ما يسمى بمناسبات الحكم والموضوع ، حيث إن الحكم له مناسبات ومناطات مرتكزة فى الذهن العرفى ، بسببها ينسبق إلى ذهن الانسان عند سماع الدليل التخصيص تارة والتعميم أخرى ، وهذه الانسباقات حجة ، لانها تشكل ظهورا للدليل ، وكل ظهور حجة وفقا لقاعدة حجية الظهور ، كما يأتى إن شاءالله تعالى.

٢٥٧

إثبات الملاك بالدليل

عرفنا سابقا أن كل حكم له ملاك ، فالوجوب مثلا ملاكه المصلحة الاكيدة فى الفعل ، والدليل على الحكم بالمطابقة دليل بالالتزام على ملاكه ، فله مدلولان : مطابقى ، والتزامى. فاذا افترضنا فى حالة من الحالات أن الحكم تعذرإثباته بذلك الدليل ، كما هو الحال فى صورة العجز ، فان الحكم بوجوب الفعل على العاجز غير صحيح ، فهذا يعنى أن المدلول المطابقى للدليل ساقط فى هذه الصورة ، والسؤال بهذا الشأن هو : أنه هل يمكن إثبات وجود الملاك بالدليل فيماإذا كان هناك أثر يترتب على إثبات الملاك كوجوب القضاء مثلا؟.

والجواب على هذا السؤال يتعلق بما يتخذ من مبنى فى ترابط الدلالة الالتزامية مع الدلالة المطابقية فى الحجية ، فان قلنا باستقلال كل من هاتين الدلالتين فى الحجية أمكن إثبات الملاك فى المقام بالدلالة الالتزامية للدليل ، لان سقوط دلالته المطابقية لا يؤثر على حجية الدلالة الالتزامية بحسب الفرض ، وإن قلنا بتبعية الالتزامية للمطابقية فى الحجية كما هو الصحيح فلا يمكن ذلك. وعليه ففى كل حالة يتعذر

٢٥٨

فيما إثبات نفس الحكم بالدليل لا يبقى فى الدليل ما يثبت وجود الملاك.

ومثل ذلك ماإذا كان الدليل على حكم دالا بالالتزام على حكم آخر ، وسقط المدلول المطابقى ، فان محاولة إثبات الحكم المدلول التزاما حينئذ بنفس الدليل كمحاولة إثبات الملاك بالدليل فى الحالة الانفة الذكر. ومثال ذلك : دليل الوجوب الدال بالالتزام على الحكم بالجواز وعدم الحرمة ، فاذا نسخ الوجوب جرى البحث فى مدى إمكان إثبات الجواز وعدم الحرمة بنفس دليل الوجوب المنسوخ ، والكلام فيه كما تقدم فى الملاك.

٢٥٩

٢ ـ الدليل الشرعى غير اللفظى

عرفنا فيما تقدم أن الدليل الشرعى تارة يكون لفظيا ، واخرى غير لفظى ، والدليل الشرعى غير اللفظى هو الموقف الذى يتخذه المعصوم وتكون له دلالة على الحكم الشرعى. ويتمثل هذا الموقف فى الفعل تارة ، وفى التقرير والسكوت عن تصرف معين تارة أخرى ، ونتكلم الان عن دلالات كل من الفعل والسكوت.

دلالة الفعل :

أما الفعل فتارة يقترن بمقال أو بظهور حال يقتضى كونه تعليميا فيكتسب مدلوله من ذلك ، وأخرى يتجرد عن قرينة من هذا القبيل ، وحينئذ فان لم يكن من المحتمل اختصاص المعصوم بحكم فى ذلك المورد دل صدور الفعل منه على عدم حرمته بحكم عصمته ، كما يدل الترك على عدم الوجوب لذلك ، ولا يدل بمجرده على استحباب الفعل ورجحانه إلا إذا كان عبادة فان عدم حرمتها مساوق لمشروعيتها ورجحانها أو أحرزنا فى مورد عدم وجود أى حافز غير شرعى ، فيتعين

٢٦٠