دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

يقال : إن إسناده غير جائز لانه لا يزال غير معلوم ، ومجرد جعل الحجية للامارة لا يبرر الاسناد بدون علم وإنما يجعلها منجزة ومعذرة من الوجهة العملية. وقد يقال : إن هذا مرتبط بالبحث السابق فى قيام الامارة مقام القطع الموضوعى ، لان القطع أخذ موضوعا لجواز إسناد الحكم إلى المولى ، فاذا استفيدت من دليل الحجية تلك العناية الاضافية التى تقوم الامارة بموجبها مقام القطع الموضوعى ترتب عليها جوازإسناد مؤدى الامارة إلى الشارع ، وإلا فلا.

٢٠١
٢٠٢

الدليل الشرعى

١ ـ تحديد دلالات الدليل الشرعى.

٢ ـ إثبات صغرى الدليل الشرعى.

٣ ـ إثبات حجية الدلالة فى الدليل الشرعى.

٢٠٣
٢٠٤

تحديد

دلالات الدليل الشرعى

١ ـ الدليل الشرعى اللفظى.

٢ ـ الدليل الشرعى غير اللفظى.

٢٠٥
٢٠٦

١ ـ الدليل الشرعى اللفظى

تمهيد :

لما كان الدليل الشرعى اللفظى يتمثل فى ألفاظ يحكمها نظام اللغة ... ناسب ذلك أن نبحث فى مستهل الكلام عن العلاقات اللغوية بين الالفاظ والمعانى ، ونصنف اللغة بالصورة التى تساعد على ممارسة الدليل اللفظى والتمييز بين درجات من الظهور اللفظى.

الظهور التصورى والظهور التصديقى :

إذا سمعنا كلمة مفردة كالماء من آلة انتقل ذهننا إلى تصور المعنى ، وكذلك إذا سمعناها من إنسان ملتفت ، ولكننا فى هذه الحالة لا نتصور المعنى فحسب بل نستكشف من اللفظ أن الانسان قصد بتلفظه أن يخطر ذلك المعنى فى ذهننا ، بينما لا معنى لهذا الاستكشاف حينما تصدر الكلمة من آلة ، فهناك إذن دلالتان لكلمة ( الماء ) إحداهما : الدلالة الثابتة حتى فى حالة الصدور من آلة وتسمى بالدلالة التصورية. والاخرى : الدلالة التى توجد عند صدور الكلمة من المتلفظ الملتفت وتسمى بالدلالة التصديقية.

٢٠٧

وإذا ضم المتلفظ الملتفت كلمة أخرى فقال ( الماء بارد ) استكشفنا أنه يريد أن يخطر فى ذهننا معنى ( الماء ) ومعنى ( بارد ) ومعنى جملة ( الماء بارد ) ككل. ولكن لماذا يريد أن نتصور ذلك كله؟ والجواب : أن تلفظه بهذه الجملة يدل عادة على أن المتكلم يريد بذلك أن يخبرنا ببرودة الماء ويقصد الحكاية عن ذلك ، بينما فى بعض الحالات لا يكون قاصدا ذلك كما فى حالات الهزل ، فان الهازل لا يقصدإلاإخطار صورة المعنى فى ذهن السامع فقط على خلاف المتكلم الجاد. فالمتكلم الجاد حينما يقول : ( الماء بارد ) يكتسب كلامه ثلاث دلالات وهى : الدلالة التصورية المتقدمة ، والدلالة التصديقية المتقدمة ، ولنسمها بالدلالة التصديقية الاولى ، ودلالة ثالثة هى الدلالة على قصد الحكاية والاخبار عن برودة الماء ، وتسمى بالدلالة على المراد الجدى ، كما تسمى بالدلالة التصديقية الثانية. وأما الهازل حين يقول : ( الماء بارد ) فلكلامه دلالة تصورية ودلالة تصديقية أولى دون الدلالة التصديقية الثانية ، لانه ليس جادا ولا يريد الاخبار حقيقة ، وأما الالة حين تردد الجملة ذاتها فليس لهاإلا دلالة تصورية فقط. وهكذا أمكن التمييز بين ثلاثة أقسام من الدلالة.

الوضع وعلاقته بالدلالات المتقدمة :

والدلالة التصورية هى فى حقيقتها علاقة سببية بين تصور اللفظ وتصور المعنى ، ولما كانت السببية بين شيئين لا تحصل بدون مبرر ، اتجه البحث إلى تبريرها ، ومن هنا نشأت عدة احتمالات :

الاول : احتمال السببية الذاتية بأن يكون اللفظ بذاته دالا على

٢٠٨

المعنى وسببا لاحضار صورته. ولا شك فى سقوط هذا الاحتمال لما هو معروف بالخبرة والملاحظة من عدم وجود أية دلالة للفظ لدى الانسان قبل الاكتساب والتعلم.

الثانى : افتراض أن السببية المذكورة نشأت من وضع الواضع اللفظ للمعنى ، والوضع نوع اعتبار يجعله الواضع وإن اختلف المحققون فى نوعية المعتبر ، فهناك من قال : إنه ( اعتبار سببية اللفظ لتصور المعنى ) ، ومن قال : إنه ( اعتبار كون اللفظ أداة لتفهيم المعنى ) ، ومن قال : إنه ( اعتبار كون اللفظ على المعنى ، كما توضع الاعمدة على رؤوس الفراسخ ).

ويرد على هذا المسلك بكل محتملاته أن سببية اللفظ لتصور المعنى سببية واقعية بعد الوضع ، ومجرد اعتبار كون شىء سببا لشىء أو اعتبار ما يقارب هذا المعنى لا يحقق السببية واقعا ، فلا بد لا صحاب مسلك الاعتبار فى الوضع ان يفسروا كيفية نشوء السببية الواقعية من الاعتبار المذكور ، وقد يكون عجز هذا المسلك عن تفسير ذلك أدى باخرين إلى اختيار الاحتمال الثالث الاتى :

الثالث : أن دلالة اللفظ تنشأ من الوضع ، والوضع ليس اعتبارا ، بل هو تعهد من الواضع بأن لا يأتى باللفظإلا عند قصد تفهيم المعنى ، وبذلك تنشأ ملازمة بين الاتيان باللفظ وقصد تفهيم المعنى ، ولازم ذلك أن يكون الوضع هو السبب فىالدلالة التصديقية المستبطنة ضمنا للدلالة التصورية. بينما على مسلك الاعتبار لا يكون الوضع سبباإلا للدلالة التصورية. وهذا فرق مهم بين المسلكين ، وهناك فرق آخر وهو أنه بناء على التعهد يجب افتراض كل متكلم متعهدا وواضعا لكى تتم الملازمة فى كلامه ، وأما بناء على مسلك الاعتبار فيفترض أن الوضع إذا صدر

٢٠٩

فى البداية من المؤسس أوجب دلالة تصورية عامة لكل من علم به بدون حاجة إلى تكرار عملية الوضع من الجميع.

ويرد على مسلك التعهد :

أولا : أن المتكلم لا يتعهد عادة ، بأن لا يأتى باللفظإلاإذا قصد تفهيم المعنى الذى يريد وضع اللفظ له ، لان هذا يعنى التزامه ضمنا بأن لا يستعمله مجازا ، مع أن كل متكلم كثيرا ما يأتى باللفظ ويقصد به تفهيم المعنى المجازى ، فلا يحتمل صدور الالتزام الضمنى المذكور من كل متكلم.

وثانيا : أن الدلالة اللفظية والعلقة اللغوية بموجب هذا المسلك تتضمن استدلالا منطقيا وإدراكا للملازمة وانتقالا من أحد طرفيها إلى الاخر ، مع أن وجودها فى حياة الانسان يبدأ منذ الادوار الاولى لطفولته وقبل أن ينضج أى فكر استدلالى له ، وهذا يبرهن على أنها أبسط من ذلك.

والتحقيق أن الوضع يقوم على أساس قانون تكوينى للذهن البشرى ، وهو : أنه كلما ارتبط شيئان فى تصور الانسان ارتباطا مؤكدا أصبح بعد ذلك تصور أحدهما مستدعيا لتصور الاخر. وهذا الربط بين تصورين تارة يحصل بصورة عفوية ، كالربط بين سماع الزئير وتصور الاسد الذى حصل نتيجة التقارن الطبيعى المتكرر بين سماع الزئير ورؤية الاسد ، وأخرى يحصل بالعناية التى يقوم بها الواضع ، إذ يربط بين اللفظ وتصور معنى مخصوص فى ذهن الناس فينتقلون من سماع اللفظإلى تصور المعنى ، والاعتبار الذى تحدثنا عنه فى الاحتمال الثانى ليس إلا طريقة يستعملها الواضع فى إيجاد ذلك الربط والقرن

٢١٠

المخصوص بين اللفظ وصورة المعنى. فمسلك الاعتبار هو الصحيح ، ولكن بهذا المعنى. وبذلك صح أن يقال : إن الوضع قرن مخصوص بين تصور اللفظ وتصور المعنى بنحو أكيد لكى يستتبع حالة إثارة أحدهما للاخر فى الذهن.

ومن هنا نعرف أن الوضع ليس سببا إلا للدلالة التصورية ، وأما الدلالتان التصديقيتان الاولى والثانية فمنشؤهما الظهور الحالى والسياقى للكلام لا الوضع.

الوضع التعيينى والتعينى :

وقد قسم الوضع من ناحية سببه إلى تعيينى وتعينى ، فقيل : إن العلاقة بين اللفظ والمعنى إن نشأت من جعل خاص فالوضع تعيينى ، وإن نشأت من كثرة الاستعمال بدرجة توجب الالفة الكاملة بين اللفظ والمعنى فالوضع تعينى.

ويلاحظ على هذا التقسيم بأن الوضع إذا كان هو ( الاعتبار ) او ( التعهد ) ، فلا يمكن أن ينشأ عن كثرة الاستعمال مباشرة ، لوضوح أن الاستعمال المتكرر لا يولد بمجرده اعتبار ولا تعهدا ، فلا بد من افتراض أن كثرة الاستعمال تكشف عن تكون هذا الاعتبار أو التعهد ، فالفرق بين الوضعين فى نوعية الكاشف عن الوضع.

وهذه الملاحظة لا ترد على ما ذكرناه فى حقيقة الوضع من أنه ( القرن الاكيد ) بين تصور اللفظ وتصور المعنى ، فان حالة ( القرن الاكيد ) تحصل بكثرة الاستعمال أيضا لانها تؤدى إلى تكرر الاقتران بين تصور اللفظ وتصور المعنى فيكون القرن بينهما أكيدا بهذا التكررإلى

٢١١

أن يبلغ إلى درجة تجعل أحد التصورين صالحا لتوليد التصور الاخر فيتم بذلك الوضع التعينى.

توقف الوضع على تصور المعنى :

ويشترط فى كل وضع يباشره الواضع أن يتصور الواضع المعنى الذى يريد أن يضع اللفظ له لان الوضع بمثابة الحكم على المعنى واللفظ ، وكل حاكم لابد له من استحضار موضوع حكمه عند جعل ذلك الحكم. وتصور المعنى تارة يكون باستحضاره مباشرة وأخرى باستحضار عنوان منطبق عليه وملاحظته بما هو حاك عن ذلك المعنى. وهذا الشرط يتحقق فى ثلاث حالات :

الاولى : أن يتصور الواضع معنى كليا كالانسان ويضع اللفظ بازائه ، ويسمى بالوضع العام والموضوع له العام.

الثانية : أن يتصور الواضع معنى جزئيا كزيد ويضع اللفظ بازائه ، ويسمى بالوضع الخاص والموضوع له الخاص.

الثالثة : أن يتصور الواضع عنوانا مشيراإلى فرده ويضع اللفظ بازاء الفرد الملحوظ من خلال ذلك العنوان المشير ، ويسمى بالوضع العام والموضوع له الخاص.

وهناك حالة رابعة لا يتوفر فيها الشرط المذكور ويطلق عليها اسم الوضع الخاص والموضوع له العام ، وهى : أن يتصور الفرد ويضع اللفظ لمعنى جامع ، وهذا مستحيل لان الفرد والخاص ليس عنوانا منطبقا على ذلك المعنى الجامع ليكون مشيراإليه ، فالمعنى الجامع فى هذه الحالة لا يكون مستحضرا بنفسه ولا بعنوان مشيرإليه ومنطبق عليه.

٢١٢

ومثال الحالة الاولى أسماء الاجناس ، ومثال الحالة الثانية الاعلام الشخصية ، وأما الحالة الثالثة فقد وقع الخلاف فى جعل الحروف مثالا لها ، وسيأتى الكلام عن ذلك فى بحث مقبل إن شاءالله تعالى.

توقف الوضع على تصور اللفظ :

كما يتوقف الوضع على تصور المعنى كذلك يتوقف على تصور اللفظ ، إما بنفسه فيسمى الوضع ( شخصيا ) ، وإما بعنوان مشيرإليه فيسمى الوضع ( نوعيا ). ومثال الاول : وضع أسماء الاجناس ، ومثال الثانى : وضع الهيئة المحفوظة فى ضمن كل أسماء الفاعلين لمعنى هيئة اسم الفاعل ، فان الهيئة لما كانت لا تنفصل فى مقام التصور عن المادة وكان من الصعب إحضار تمام المواد عند وضع اسم الفاعل اعتاد الواضع أن يحضر الهيئة فى ضمن مادة معينة كفاعل ، ويضع كل ما كان على هذه الوتيرة للمعنى الفلانى فيكون الوضع ( نوعيا ).

المجاز :

يكتسب اللفظ بسبب وضعه للمعنى الحقيقى صلاحية الدلالة على المعنى الحقيقى من أجل الاقتران الخاص بينهما ، كما يكتسب صلاحية الدلالة على كل معنى مقترن بالمعنى الحقيقى اقترانا خاصا كالمعانى المجازية المشابهة ، غير أنها صلاحية بدرجة أضعف ، لانها تقوم على أساس مجموع اقترانين ، ومع اقتران اللفظ بالقرينة على المعنى المجازى تصبح هذه الصلاحية فعلية ويكون اللفظ دالا فعلا على المعنى المجازى.

وأما فى حالة عدم وجود القرينة فالذى ينسبق إلى الذهن من اللفظ

٢١٣

تصور المعنى الموضوع له ، ومن هنا يقال : إن ظهور الكلام فى مرحلة المدلول التصورى يتعلق بالمعنى الموضوع له دائما بمعنى أنه هو الذى تأتى صورته إلى الذهن بمجرد سماع اللفظ دون المعنى المجازى.

وما ذكرناه من اكتساب اللفظ صلاحية الدلالة على المعنى المجازى لا يحتاج إلى وضع خاص وراء وضع اللفظ لمعناه الحقيقى ، وإنما يحصل بسبب وضعه للمعنى الحقيقى.

وإنما الكلام فى أنه هل يصح استعمال اللفظ فى المعنى المجازى مادام أصبح صالحا للدلالة عليه أو تتوقف صحته على وضع معين : وعلى تقدير القول بالتوقف لابد من تصوير الوضع المصحح للاستعمال المجازى بنحو يختلف عن الوضع للمعنى الحقيقى وإلا لا نقلب المعنى المجازى إلى حقيقى وهو خلف ويحفظ الطولية بين الوضعين على نحو يفسر أسبقية المعنى الحقيقى إلى الذهن عند سماع اللفظ المجرد عن القرينة ، وذلك بأن يدعى مثلا وضع اللفظ المنضم إلى القرينة للمعنى المجازى فحيث لا قرينة تنحصر علاقة اللفظ بالمعنى الحقيقى ولا يزاحمه المعنى المجازى.

والصحيح عدم الاحتياج إلى وضع فى المجاز لتصحيح الاستعمال ، لانه إن أريد بصحة الاستعمال حسنه فواضح أن كل لفظ له صلاحية الدلالة على معنى يحسن استعماله فيه وقصد تفهيمه به ، واللفظ له هذه الصلاحية بالنسبة إلى المعنى المجازى كما عرفت فيصح استعماله فيه ، وإن أريد بصحة الاستعمال انتسابه إلى اللغة التى يريد المتكلم التكلم بها فيكفى فى ذلك أن يكون الاستعمال مبنيا على صلاحية فى اللفظ للدلالة على المعنى ناشئة من أوضاع تلك اللغة.

٢١٤

علامات الحقيقة والمجاز :

ذكر المشهور عدة علامات لتمييز المعنى الحقيقى عن المجازى.

منها : التبادر من اللفظ أى انسباق المعنى إلى الذهن منه لان المعنى المجازى لا يتبادر من اللفظإلا بضم القرينة ، فاذا حصل التبادر بدون قرينة كشف عن كون المتبادر معنى حقيقيا.

وقد يعترض على ذلك بأن تبادر المعنى الحقيقى من اللفظ يتوقف على علم الشخص بالوضع فاذا توقف علمه بالوضع على هذه العلامة لزم الدور.

وأجيب على ذلك بأن التبادر يتوقف على العلم الارتكازى بالمعنى وهو العلم المترسخ فى النفس الذى يلتئم مع الغفلة عنه فعلا والمطلوب من التبادر العلم الفعلى المتقوم بالالتفات فلا دور ، كما أن افتراض كون التبادر عند العالم علامة عند الجاهل لا دور فيه أيضا.

والتحقيق أن الاعتراض بالدور لا محل له أساسا لانه مبنى على افتراض أن انتقال الذهن إلى المعنى من اللفظ فرع العلم بالوضع مع أنه فرع نفس الوضع ( أى وجود عملية القرن الاكيد بين تصور اللفظ وتصور المعنى فى ذهن الشخص ) فالطفل الرضيع الذى اقترنت عنده كلمة « ماما » برؤية امه يكفى نفس هذا الاقتران الاكيد ليتصور امه عند ما يسمع كلمة « ماما » ، مع أنه ليس عالما بالوضع إذا لا يعرف معنى الوضع. فالتبادرإذن يتوقف على وجود عملية القرن الاكيد بين التصورين فى ذهن الشخص ، والمطلوب من التبادر تحصيل العلم بالوضع أى العلم بذلك القرن الاكيد فلا دور.

٢١٥

ومنها : صحة الحمل ، فان صح الحمل الاولى الذاتى للفظ المراد استعلام حاله على معنى ثبت كونه هو المعنى الموضوع له ، وإن صح الحمل الشائع ثبت كون المحمول عليه مصداقا لعنوان هو المعنى الموضوع له اللفظ ، وإذا لم يصح كلا الحملين ثبت عدم كون المحمول عليه نفس المعنى الموضوع له ولا مصداقه.

والصحيح أن صحة الحمل إنما تكون علامة على كون المحمول عليه هو نفس المعنى المراد فى المحمول أو مصداق المعنى المراد ، أما أن هذا المعنى المراد فى جانب المحمول هل هو معنى حقيقى للفظ أو مجازى فلا سبيل إلى تعيين ذلك عن طريق صحة الحمل ، بل لابد أن يرجع الانسان إلى مرتكزاته لكى يعين ذلك.

ومنها : الاطراد ، وهو أن يصح استعمال اللفظ فى المعنى المشكوك كونه حقيقيا فى جميع الحالات وبلحاظ أى فرد من أفراد ذلك المعنى ، فيدل الاطراد فى صحة الاستعمال على كونه هو المعنى الحقيقى للفظ ، إذ لاإطراد فى صحة الاستعمال فى المعنى المجازى.

وقد أجيب على ذلك بأن الاستعمال فى معنى إذا صح مجازا ولو فى حال وبلحاظ فرد صح دائما ، وبلحاظ سائر الافراد مع الحفاظ على كل الخصوصيات والشؤون التىبها صح الاستعمال فى تلك الحالة أو فى ذلك الفرد ، فالاطراد ثابت إذن فى المعانى المجازية أيضا مع الحفاظ على الخصوصيات التى بها صح الاستعمال.

تحويل المجازإلى حقيقة :

إذا استعمل الانسان كلمة الاسد مثلا الموضوعة للحيوان المفترس

٢١٦

فى الرجل الشجاع فهذا استعمال مجازى. وقد يحتال لتحويله إلى استعمال حقيقى بأن يستعمله فى الحيوان المفترس ويطبقه على الرجل الشجاع بافتراض أنه مصداق للحيوان المفترس ، إذ بالامكان أن يفترض غير المصداق مصداقا بالاعتبار والعناية ، ففى هذه الحالة لا يوجد تجوز فى الكلمة لانها استعملت فيما وضعت له ، وإنما العناية فى تطبيق مدلولها على غير مصداقه فهو مجاز عقلى لا لفظى.

استعمال اللفظ وإرادة الخاص :

إذا استعمل اللفظ وأريد به معنى مباين لما وضع له فهو مجاز بلا شك. وأما إذا كان المعنى الموضوع له اللفظ ذا حصص وحالات كثيرة وأريد به بعض تلك الحصص ، كماإذا أتيت بلفظ الماء وأردت ماء الفرات فهذا له حالتان : الاولى : أن تستعمل لفظة الماء بمفردها فى تلك الحصة بالذات أى فى ماء الفرات بما هو ماء خاص ، وهذا يكون مجازا لان اللفظ لم يوضع للخاص بما هو خاص. الثانية : أن تستعمل لفظة الماء فى معناها المشترك بين ماء الفرات وغيره وتأتى بلفظ آخر يدل على خصوصية الفرات بأن تقول : ائتنى بماء الفرات ، فالحصة الخاصة قد أفيدت بمجموع كلمتى ماء والفرات لا بكلمة ماء فقط ، وكل من الكلمتين قد استعملت فى معناها الموضوعة له فلا تجوز ، ونطلق على إرادة الخاص بهذا النحو طريقة تعدد الدال والمدلول ، فطريقة تعدد الدال والمدلول نعنى بهاإفادة مجموعة من المعانى بمجموعة من الدوال وبازاء كل دال واحد من تلك المعانى.

٢١٧

الاشتراك والترادف :

لا شك فى إمكان الاشتراك ( وهو : وجود معنيين للفظ واحد ) والترادف ( وهو : وجود لفظين لمعنى واحد ) بناء على غير مسلك التعهد فى تفسير الوضع ، ومجرد كون الاشتراك مؤدياإلى الاجمال وتردد السامع فى المعنى المقصود لا يوجب فقدان الوضع المتعدد لحكمته ، لان حكمته إنما هى إيجاد ما يصلح للتفهيم فى مقام الاستعمال ولو بضم القرينة.

وأما على مسلك التعهد فلا يخلو تصوير الاشتراك والترادف من إشكال ، لان التعهدإذا كان بمعنى ( الالتزام بعدم الاتيان باللفظإلا إذا قصد تفهيم المعنى الذى يضع له اللفظ ) امتنع الاشتراك المتضمن لتعهدين من هذا القبيل بالنسبة إلى لفظ واحد ، إذ يلزم أن يكون عند الاتيان باللفظ قاصدا لكلا المعنيين وفاء بكلا التعهدين ، وهو غير مقصود من المتعهد جزما ، وإذا كان التعهد بمعنى ( الالتزام بالاتيان باللفظ عند قصد تفهيم المعنى ) امتنع الترادف المتضمن لتعهدين من هذا القبيل بالنسبة إلى معنى واحد ، إذ يلزم أن يأتى بكلا اللفظين عند قصد تفهيم المعنى ، وهو غير مقصود من المتعهد جزما. وحل الاشكال : إما بافتراض ( تعدد المتعهد ) أو ( وحدة المتعهد بأن يكون متعهدا بعدم الاتيان باللفظإلاإذا قصد تفهيم أحد المعنيين بخصوصه أو متعهدا عند قصد تفهيم المعنى بالاتيان بأحد اللفظين ) أو ( فرض تعهدين مشروطين على نحو يكون المتعهد به فى كل منهما مقيدا بعدم الاخر ).

٢١٨

تصنيف اللغة :

تنقسم اللغة إلى كلمة بسيطة ، وكلمة مركبة ، وهيئة تركيبية تقوم بأكثر من كلمة. فالكلمة البسيطة هى الكلمة الموضوعة بمادة حروفها وتركيبها الخاص بوضع واحد للمعنى ، من قبيل أسماء الاجناس وأسماء الاعلام والحروف. والكلمة المركبة هى الكلمة التى يكون لهيئتها وضع ولمادتها وضع آخر ، من قبيل الفعل. والهيئة التركيبية هى الهيئة التى تحصل بانضمام كلمة إلى أخرى وتكون موضوعة لمعنى خاص.

والهيئات والحروف عموما لا تستقل معانيها بنفسها لانها من سنخ النسب والارتباطات ، ففى قولنا : ( السيرإلى مكة المكرمة واجب ) ، تدل ( إلى ) على نسبة خاصة بين السير ومكة ، حيث إن السير ينتهى بمكة ، وتدل هيئة ( مكة المكرمة ) على نسبة وصفية وهى كون ( المكرمة ) وصفا لمكة ، وتدل هيئة جملة ( السير ... واجب ) على نسبة خاصة بين السير وواجب ، وهى أن الوجوب ثابت فعلا للسير. والنسبة التى يدل عليها الحرف غير كافية بمفردها لتكوين جملة تامة ، ولهذا تسمى بالنسبة الناقصة. وأما الهيئات فبعضها يدل على النسبة الناقصة كهيئة الجملة الوصفية ، وبعضها يدل على النسبة التى تتكون بها جملة تامة ، وتسمى نسبة تامة ، وذلك كهيئة الجملة الخبرية أو هيئة الجملة الانشائية من قبيل ( زيد عالم ) و ( صم ).

ويصطلح أصوليا على التعبير بالمعنى الحرفى عن كل نسبة ، سواء كانت مدلولة للحرف أو لهيئة الجملة الناقصة أو لهيئة الجملة التامة ، وبالمعنى الاسمى عما سوى ذلك من المدلولات. ويختلف المعنى الحرفى

٢١٩

عن المعنى الاسمى فى امور منها : أن المعنى الحرفى باعتباره نسبة وكل نسبة متقومة بطرفيها فلا يمكن أن يلحظ دائماإلا ضمن لحاظ طرفى النسبة ، وأما المعنى الاسمى فيمكن أن يلحظ بصورة مستقلة.

وقد ذهب المحقق النائينى رحمه‌الله إلى التفرقة بين المعانى الاسمية والمعانى الحرفية بأن الاولى ( إخطارية ) والثانية ( إيجادية ). والمستفاد من ظاهر كلمات مقررى بحثه أن مراده بكون المعنى الاسمى إخطاريا ، أن الاسم يدل علىمعنى ثابت فى ذهن المتكلم فى المرتبة السابقة على الكلام ، وليس دور الاسم إلا التعبير عن ذلك المعنى ، ومراده بكون المعنى الحرفى إيجاديا أن الحرف أداة للربط بين مفردات الكلام فمدلوله هو نفس الربط الواقع فى مرحلة الكلام بين مفرداته ، ولا يعبر عن معنى أسبق رتبة من هذه المرحلة ، ومن هنا يكون الحرف موجدا لمعناه لان معناه ليس إلا الربط الكلامى الذى يحصل به.

وهذا المعنى من الايجادية للحرف واضح البطلان لان الحرف وإن كان يوجد الربط فى مرحلة الكلام ولكنه إنما يوجد ذلك بسبب دلالته على معنى ، أى على الجانب النسبى والربطى فى الصورة الذهنية ، ونسبته إلى الربط القائم فى الصورة الذهنية على حد ربط الاسم بالمعانى الاسمية الداخلة فى تلك الصورة. فلا تصح التفرقة بين المعانى الاسمية والحرفية بالاخطارية والايجادية.

نعم هناك معنى آخر دقيق ولطيف لايجادية المعانى الحرفية تتميز به عن المعانى الاسمية تأتى الاشارة إليه فى الحلقة الثالثة إن شاء الله تعالى.

٢٢٠