دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

لان جواز الاسناد حكم شرعى اخذ فى موضوعه القطع بما يسند إلى المولى.

تلخيص ومقارنة :

اتضح مما ذكرناه أن تنجز التكليف المقطوع لما كان من شؤون حق الطاعة للمولى سبحانه ، وكان حق الطاعة له يشمل كل ما ينكشف من تكاليفه ، ولو انكشافا احتماليا ، فالمنجزية إذن ليست مختصة بالقطع ، بل تشمل كل انكشاف مهما كانت درجته ، وإن كانت بالقطع تصبح مؤكدة وغير معلقة كما تقدم.

وخلافا لذلك مسلك من افترض المنجزية والحجية لازما ذاتيا للقطع ، فانه ادعى أنها من خواص القطع ، فحيث لا قطع ولا علم لا منجزية ، فكل تكليف لم ينكشف بالقطع واليقين فهو غير منجز ولا يصح العقاب عليه ، وسمى ذلك بقاعدة ( قبح العقاب بلا بيان ) أى بلا قطع وعلم ، وفاته أن هذا فى الحقيقة تحديد لمولوية المولى وحق الطاعة له رأسا.

وهذان مسلكان يحدد كل منهما الطريق فى كثير من المسائل المتفرعة ، ويوضح للفقيه منهجا مغايرا من الناحية النظرية لمنهج المسلك الاخر.

ونسمى المسلك المختار بمسلك حق الطاعة ، والاخر بمسلك قبح العقاب بلا بيان.

١٨١
١٨٢

الادلة

١ ـ الادلة المحرزة.

٢ ـ الاصول العملية ( أو الادلة العملية ).

١٨٣
١٨٤

تحديد المنهج فى الادلة والاصول :

عرفنا سابقا أن الادلة التى يستندإليها الفقيه فى استدلاله الفقهى واستنباطه للحكم الشرعى على قسمين ، فهى : إما أدلة محرزة يطلب بها كشف الواقع ، وإما أدلة عملية ( اصول عملية ) تحدد الوظيفة العملية للشاك الذى لا يعلم بالحكم.

ويمكن القول على العموم بأن كل واقعة يعالج الفقيه حكمها يوجد فيها دليل من القسم الثانى أى أصل عملى يحدد لغير العالم الوظيفة العملية ، فان توفر للفقيه الحصول على دليل محرز أخذ به وترك الاصل العملى وفقا لقاعدة تقدم الادلة المحرزة على الاصول العملية كما يأتى إن شاءالله تعالى فى تعارض الادلة وإن لم يتوفر دليل محرز أخذ بالاصل العملى ، فهو المرجع العام للفقيه حيث لا يوجد دليل محرز.

وتختلف الادلة المحرزة عن الاصول العملية فى أن تلك تكون أدلة ومستندا للفقيه بلحاظ كاشفيتها عن الواقع وإحرازها للحكم الشرعى ، وأما هذه فتكون أدلة من الوجهة العملية فقط ، بمعنى أنها تحدد كيف يتصرف الانسان الذى لا يعرف الحكم الشرعى للواقعة. كما أن الادلة

١٨٥

المحرزة تختلف فيما بينها ، لان بعضها أدلة قطعية تؤدى إلى القطع بالحكم الشرعى ، وبعضها أدلة ظنية تؤدى إلى كشف ناقص محتمل الخطأ عن الحكم الشرعى ، وهذه الادلة الظنية هى التى تسمى بالامارات.

المنهج على مسلك حق الطاعة :

وأعم الاصول العملية بناء على مسلك حق الطاعة هو ( أصالة إشتغال الذمة ) ، وهذا أصل يحكم به العقل ومفاده أن كل تكليف يحتمل وجوده ولم يثبت إذن الشارع فى ترك التحفظ تجاهه فهو منجز ، وتشتغل به ذمة المكلف. ومرد ذلك إلى ما تقدم من أن حق الطاعة للمولى يشمل كل ما ينكشف من التكاليف ولو انكشافا ظنيا أو احتماليا.

وهذا الاصل هو المستند العام للفقيه ، ولا يرفع يده عنه إلا فى بعض الحالات التالية :

أولا : إذا حصل له دليل محرز قطعى على نفى التكليف كان القطع معذرا بحكم العقل كما تقدم ، فيرفع يده عن أصالة الاشتغال إذ لا يبقى لها موضوع.

ثانيا : إذا حصل له دليل محرز قطعى على إثبات التكليف فالتنجز يظل على حاله ، ولكنه يكون بدرجة أقوى وأشد كما تقدم.

ثالثا : إذا لم يتوفر له القطع بالتكليف لا نفيا ولاإثباتا ، ولكن حصل له القطع بترخيص ظاهرى من الشارع فى ترك التحفظ ، فحيث أن منجزية الاحتمال والظن معلقة على عدم ثبوت إذن من هذا القبيل كما تقدم ، فمع ثبوته لا منجزية فيرفع يده عن أصالة الاشتغال.

١٨٦

وهذا الاذن تارة يثبت بجعل الشارع الحجية للامارة ( الدليل المحرز غير القطعى ) ، كماإذا أخبر الثقة المظنون الصدق بعدم الوجوب فقال لنا الشارع : ( صدق الثقة ) وأخرى يثبت بجعل الشارع لاصل عملى من قبله ، كأصالة الحل الشرعية القائلة ( كل شىء حلال حتى تعلم أنه حرام ) والبراءة الشرعية القائلة ( رفع ما لا يعلمون ) وقد تقدم الفرق بين الامارة والاصل العملى.

رابعا : إذا لم يتوفر له القطع بالتكليف لا نفيا ولاإثباتا ، ولكن حصل له القطع بأن الشارع لا يأذن فى ترك التحفظ ، فهذا يعنى أن منجزية الاحتمال والظن تظل ثابتة غير أنها آكد وأشد مماإذا كان الاذن محتملا.

وهنا أيضا تارة يثبت عدم الاذن من الشارع فى ترك التحفظ ، بجعل الشارع الحجية للامارة ، كماإذا أخبر الثقة المظنون الصدق بالوجوب فقال الشارع : ( لا ينبغى التشكيك فيما يخبر به الثقة ) أو قال : صدق الثقة ) ، واخرى يثبت بجعل الشارع لاصل عملى من قبله كأصالة الاحتياط الشرعية المجعولة فى بعض الحالات.

فائدة المنجزية والمعذرية الشرعية :

وبما ذكرناه ظهر أنه فى الحالتين الاولى والثانية لا معنى لتدخل الشارع فى إيجاد معذرية أو منجزية ، لان القطع ثابت ، وله معذرية ومنجزية كاملة ، وفى الحالتين الثالثة والرابعة يمكن للشارع أن يتدخل فى ذلك ، فاذا ثبت عنه جعل الحجية للامارة النافية للتكليف أو جعل أصل مرخص كأصالة الحل ، إرتفعت بذلك منجزية الاحتمال أو

١٨٧

الظن ، لان هذا الجعل منه إذن فى ترك التحفظ ، والمنجزية المذكورة معلقة على عدم ثبوت الاذن المذكور ، وإذا ثبت عنه جعل الحجية لامارة مثبتة للتكليف أو لاصل يحكم بالتحفظ ، تأكدت بذلك منجزية الاحتمال ، لان ثبوت ذلك الجعل معناه العلم بعدم الاذن فى ترك التحفظ ونفى لاصالة الحل ونحوها.

المنهج على مسلك قبح العقاب بلا بيان :

وما تقدم كان بناء على مسلك حق الطاعة ، وأما بناء على مسلك قبح العقاب بلا بيان فالامر على العكس تماما والبداية مختلفة ، فان أعم الاصول العملية حينئذ هو قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان ) وتسمى أيضا بالبراءة العقلية ومفادها : أن المكلف غير ملزم عقلا بالتحفظ تجاه أى تكليف ما لم ينكشف بالقطع واليقين ، وهذا الاصل لا يرفع الفقيه يده عنه إلا فى بعض الحالات :

ولنستعرض الحالات الاربع المتقدمة لنرى حال الفقيه فيها بناء على مسلك قبح العقاب بلا بيان.

أما الحالة الاولى : فيظل فيها قبح العقاب ثابتا ( أى المعذرية ) غير أنه يتأكد بحصول القطع بعدم التكليف.

وأما الحالة الثانية : فيرتفع فيها موضوع البراءة العقلية ، لان عدم البيان على التكليف تبدل إلى البيان والقطع فيتنجز التكليف.

وأما الحالة الثالثة : فيظل فيها قبح العقاب ثابتا ، غير أنه يتأكد بثبوت الاذن من الشارع فى ترك التحفظ.

وأما الحالة الرابعة : فأصحاب هذا المسلك يلتزمون عمليا فيها بأن

١٨٨

التكليف يتنجز على الرغم من أنه غير معلوم ، ويتحيرون نظريا فى كيفية تخريج ذلك على قاعدتهم القائلة بقبح العقاب بلا بيان ، بمعنى أن الامارة المثبتة للتكليف بعد جعل الحجية لها أو أصالة الاحتياط ، كيف تقوم مقام القطع الطريقى فتنجز التكليف مع أنه لا يزال مشكوكا وداخلا فى نطاق قاعدة قبح العقاب بلا بيان؟. وسيأتى فى الحلقة التالية بعض أوجه العلاج للمشكلة عند أصحاب هذا المسلك.

١٨٩
١٩٠

الادلة المحرزة

١ ـ الدليل الشرعى.

٢ ـ الدليل العقلى.

١٩١
١٩٢

تقسيم البحث فى الادلة المحرزة :

يعتمد الفقيه فى عملية الاستنباط على عناصر مشتركة تسمى بالادلة المحرزة كما تقدم. وهى إما أدلة قطعية ، بمعنى أنها تؤدى إلى القطع بالحكم فتكون حجة على أساس حجية القطع الناتج عنها ، وإما أدلة ظنية ويقوم دليل قطعى على حجيتها شرعا ، كماإذا علمنا بأن المولى أمر باتباعها فتكون حجة بموجب الجعل الشرعى.

والدليل المحرز فى الفقه سواء كان قطعيا أولا ، ينقسم إلى قسمين :

الاول : الدليل الشرعى ، ونعنى به كل ما يصدر من الشارع مما له دلالة على الحكم ، ككلام الله سبحانه أو كلام المعصوم.

الثانى : الدليل العقلى ، ونعنى به القضايا التى يدركها العقل ويمكن أن يستنبط منها حكم شرعى كالقضية العقلية القائلة بأن إيجاب شىء يستلزم إيجاب مقدمته.

والقسم الاول ينقسم بدوره إلى نوعين :

أحدهما : الدليل الشرعى اللفظى ، وهو كلام المعصوم كتابا أو سنة.

١٩٣

والاخر : الدليل الشرعى غير اللفظى ، ويتمثل فى فعل المعصوم سواء كان تصرفا مستقلا ، أو موقفاإمضائيا تجاه سلوك معين ، وهو الذى يسمى بالتقرير.

والبحث فى هذا القسم بكلا نوعيه تارة يقع فى تحديد دلالات الدليل الشرعى ، واخرى فى ثبوت صغراه ، وثالثة فى حجية تلك الدلالة ووجوب الاخذ بها ، ففى الدليل الشرعى إذن ثلاثة أبحاث.

ولكن قبل البدء بهذه الابحاث على الترتيب المذكور نستعرض بعض المبادىء والقواعد العامة فى الادلة المحرزة.

الاصل عند الشك فى الحجية :

عرفنا أن للشارع دخلا فى جعل الحجية للادلة المحرزة غير القطعية ( الامارات ) ، فان أحرزنا جعل الشارع الحجية لامارة فهو ، وإذا شككنا فى ذلك لم يكن بالامكان التعويل على تلك الامارة لمجرد احتمال جعل الشارع الحجية لها ، لانهاإن كانت نافية للتكليف ونريد أن نثبت بها المعذرية فمن الواضح بناء على ما تقدم عدم إمكان ذلك ما لم نحرز جعل الحجية لها الذى يعنى إذن الشارع فى ترك التحفظ تجاه التكليف المشكوك ، إذ بدون إحراز هذا الاذن تكون منجزية الاحتمال للتكليف الواقعى قائمة بحكم العقل ، ولا ترتفع هذه المنجزية إلا باحراز الاذن فى ترك التحفظ ، ومع الشك فى الحجية لاإحراز للاذن المذكور. وإن كانت الامارة مثبتة للتكليف ونريد ان نثبت بها المنجزية خروجا عن أصل معذر كأصالة الحل المقررة شرعا ، فواضح أيضا انا ما لم نقطع بحجيتها لا يمكن رفع اليد بها عن دليل أصالة الحل مثلا ، فدليل الاصل

١٩٤

الجارى فى الواقعة والمؤمن عن التكليف المشكوك هو المرجع ما لم يقطع بحجية الامارة المثبتة للتكليف. وبهذا صح القول : إن الاصل عند الشك فى الحجية عدم الحجية ، بمعنى أن الاصل نفوذ الحالة المفترضة لو لا تلك الامارة من منجزية أو معذرية.

مقدار ما يثبت بالادلة المحرزة :

الدليل المحرز له مدلول مطابقى ومدلول التزامى ، فكلما كان الدليل المحرز حجة ثبت بذلك مدلوله المطابقى ، وأما مدلوله الالتزامى ففيه بحث ، وحاصله أن الدليل المحرزإذا كان قطعيا فلا شك فى ثبوت مدلولاته الالتزامية به لانها تكون قطعية أيضا ، فتثبت بالقطع كما يثبت المدلول المطابقى بذلك ، وإذا كان الدليل ظنيا وقد ثبتت حجيته بجعل الشارع كما فى الامارة ، مثل خبر الثقة وظهور الكلام ، فهنا حالتان :

الاولى : أن يكون موضوع الحجية أى ما حكم الشارع بأنه حجة صادقا على الدلالة الالتزامية كصدقه على الدلالة المطابقية ، ومثال ذلك : أن يرد دليل على حجية خبر الثقة ، ويقال بأن الاخبار عن شىء إخبار عن لوازمه ، وفى هذه الحالة يثبت المدلول الالتزامى ، لانه مما أخبر عنه الثقة بالدلالة الالتزامية ، فيشمله دليل الحجية المتكفل للامر بالعمل بكل ما أخبر به الثقة مثلا.

الثانية : أن لا يكون موضوع الحجية صادقا على الدلالة الالتزامية ، ومثال ذلك : أن يرد دليل على حجية ظهور اللفظ ، فان الدلالة الالتزامية غير العرفية ليست ظهورا لفظيا فلا تشكل فردا من موضوع دليل الحجية ، فمن هنا يقع البحث فى حجية الدليل لاثبات المدلول

١٩٥

الالتزامى فى حالة من هذا القبيل ، وقد يستشكل فى ثبوت هذه الحجية بدليل حجية الظهور ، لان دليل حجية الظهور لا يثبت الحجية إلا لظهور اللفظ ، والدلالة الالتزامية لهذا الظهور ليست ظهورا لفظيا فلا تكون حجة ، ومجرد علمنا من الخارج بأن ظهور اللفظ إذا كان صادقا فدلالته الالتزامية صادقة أيضا ، لا يبرر استفادة الحجية للدلالة الالتزامية ، لان الحجية حكم شرعى ، وقد يخصصه بإحدى الدلالتين دون الاخرى على الرغم من تلازمهما فى الصدق.

ويوجد فى هذا المجال اتجاهان :

أحدهما للمشهور ، وهو : أن دليل الحجية كلما استفيد منه جعل الحجية لشىء بوصفه أمارة على الحكم الشرعى كان ذلك كافيا لاثبات لوازمه ومدلولاته الالتزامية ، وعلى هذا الاساس وضعوا قاعدة مؤداها أن مثبتات الامارات حجة ، أى أن الامارة كما يعتبرإثباتها لمدلولها المطابقى حجة ، كذلك إثباتها لمدلولها الالتزامى.

والاتجاه الاخر للسيد الاستاذ ، حيث ذهب إلى أن مجرد قيام دليل [ على ] حجية أمارة على أساس ما لها من كشف عن الحكم الشرعى لا يكفى لذلك ، إذ من الممكن ثبوتا أن الشارع يتعبد المكلف بالمدلول المطابقى من الامارة فقط ، كما يمكنه أن يتعبده بكل ما تكشف عنه مطابقة أو التزاما ، ومادام كلا هذين الوجهين ممكنا ثبوتا ، فلا بد لتعيين الاخير منهما من وجود إطلاق فى دليل الحجية يقتضى امتداد التعبد وسريانه إلى المداليل الالتزامية.

والصحيح هو الاتجاه الاول ، وذلك لاننا عرفنا سابقا أن الامارة

١٩٦

معناها الدليل الظنى الذى يستظهر من دليل حجيته أن تمام الملاك بحجيته هو كشفه بدون نظرإلى نوع المنكشف ، وهذا الاستظهار متى ما تم فى دليل الحجية كان كافيا لاثبات الحجية فى المدلولات الالتزامية أيضا ، لان نسبة كشف الامارة إلى المدلول المطابقى والالتزامى بدرجة واحدة دائما ، ومادام الكشف هو تمام الملاك للحجية بحسب الفرض ، فيعرف من دليل الحجية أن مثبتات الامارة كلها حجة. وعلى خلاف ذلك الاصول العملية تنزيلية أو غيرها فانها لما كانت مبنية على ملاحظة نوع المؤدى كما تقدم ، فلا يمكن أن يستفاد من دليلهاإسراء التعبد إلى كل اللوازم إلا بعناية خاصة فى لسان الدليل ، ومن هنا قيل إن الاصول العملية ليست حجة فى مثبتاتها أى فى مدلولاتها الالتزامية ، وسيأتى تفصيل الكلام عن ذلك فى أبحاث الاصول العملية إن شاءالله تعالى.

تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية :

عرفنا أن الامارات حجة فى المدلول المطابقى والمدلول الالتزامى معا ، والمدلول الالتزامى تارة يكون مساويا للمدلول المطابقى ، واخرى يكون أعم منه ، ففى حالة المساواة إذا علم بأن المدلول المطابقى باطل فقد علم ببطلان المدلول الالتزامى أيضا ، وبذلك تسقط الامارة بكلا مدلوليها عن الحجية ، وأماإذا كان اللازم أعم وبطل المدلول المطابقى ، فالمدلول الالتزامى يظل محتملا ، ومن هنا يأتى البحث التالى : وهو أن حجية الامارة فى إثبات المدلول الالتزامى هل ترتبط بحجيتها فى إثبات المدلول المطابقى أولا؟ فالارتباط يعنى أنهاإذا سقطت عن الحجية فى

١٩٧

المدلول المطابقى للعلم ببطلانه مثلا ، سقطت أيضا عن الحجية فى المدلول الالتزامى وهو معنى التبعية ، وعدم الارتباط يعنى أن كلا من الدلالة المطابقية والدلالة الالتزامية حجة ما لم يعلم ببطلان مفادها بالخصوص ، ومجرد العلم ببطلان المدلول المطابقى لا يوجد خللا فى حجية الدلالة الالتزامية ما دام المدلول الالتزامى محتملا ولم يتضح بطلانه بعد.

وقد يستدل على الارتباط بأحد الوجهين التاليين :

الاول : أن الدلالة الالتزامية متفرعة فى وجودها على الدلالة المطابقية ، فتكون متفرعة فى حجيتها أيضا. ويلاحظ على ذلك أن التفرع فى الوجود لماذا يستلزم التفرع فى الحجية؟ أولا يمكن أن نفترض أن كل واحدة من الدلالتين موضوع مستقل للحجية بلحاظ كاشفيتها؟.

الثانى : أن نفس السبب الذى يوجب سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية ، يوجب دائما سقوط الدلالة الالتزامية ، فإذا علم مثلا بعدم ثبوت المدلول المطابقى وسقطت بذلك حجية الدلالة المطابقية ، فإن هذا العلم بنفسه يعنى العلم أيضا بعدم ثبوت المدلول الالتزامى ، لان ما تحكى عنه الدلالة الالتزامية دائما حصة خاصة من اللازم ، وهى الحصة الناشئة أو الملازمة للمدلول المطابقى ، لا طبيعى اللازم على الاطلاق ، وتلك الحصة مساوية للمدلول المطابقى دائما.

وبكلمة اخرى إن ذات اللازم وإن كان أعم أحيانا ، ولكنه بما هو مدلول التزامى مساو دائما للمدلول المطابقى فلا يتصور ثبوته بدونه ، فموت زيد وإن كان أعم من احتراقه بالنار ولكن من أخبر باحتراقه بالمطابقة فهو لا يخبر التزاما بالموت الاعم ولو كان بالسم ، بل مدلوله الالتزامى هو الموت الناشىء من الاحتراق خاصة ، فاذا كنا نعلم بعدم

١٩٨

الاحتراق فكيف نعمل بالمدلول الالتزامى؟ وسيأتى تكميل البحث عن ذلك وتعميقه فى الحلقة الاتية إن شاءالله تعالى.

وفاء الدليل بدور القطع الموضوعى :

الدليل المحرز إذا كان قطعيا فهو يفى بما يقتضيه القطع الطريقى من منجزية ومعذرية ، لانه يوجد القطع فى نفس المكلف بالحكم الشرعى ، كما أنه يفى بما يترتب على القطع الموضوعى من أحكام شرعية ، لان هذه الاحكام يتحقق موضوعها وجدانا.

والدليل المحرز غير القطعى ( أى الامارة ) يفى بما يقتضيه القطع الطريقى من منجزية ومعذرية ، فالامارة الحجة شرعاإذا دلت على ثبوت التكليف أكدت منجزيته ، وإذا دلت على نفى التكليف كانت معذرا عنه ورفعت أصالة الاشتغال كما لو حصل القطع الطريقى بنفى التكليف ، كما تقدم توضيحه ، وهذا معناه قيام الامارة مقام القطع الطريقى.

ولكن هل تفى الامارة بالقيام مقام القطع الموضوعى؟ فيه بحث وخلاف ، فلو قال المولى : كل ما قطعت بأنه خمر فأرقه وقامت الامارة الحجة شرعا على أن هذا خمر ولم يحصل القطع بذلك ، فهل يترتب وجوب الاراقة على هذه الامارة كما يترتب على القطع أولا؟ وهنا تفصيل ، وهو أنا تارة نفهم من دليل وجوب إراقة مقطوع الخمرية أن مقصود هذا الدليل من المقطوع ما قامت حجة منجرة على خمريته وليس القطع إلا كمثال ، واخرى نفهم منه إناطة الحكم بوجوب الاراقة بالقطع بوصفه كاشفا تاما لا يشوبه شك.

١٩٩

ففى الحالة الاولى تقوم الامارة الحجة مقام القطع الموضوعى ويترتب عليها وجوب الاراقة لانها تحقق موضوع هذا الوجوب وجدانا وهو الحجة.

وفى الحالة الثانية لا يكفى مجرد كون الامارة حجة وقيام دليل على حجيتها ووجوب العمل بها لكى تقوم مقام القطع الموضوعى. لان وجوب الاراقة منوط بالقطع بما هو كاشف تام ، والامارة وإن أصبحت حجة ومنجزة لمؤداها بجعل الشارع ، ولكنها ليست كاشفا تاما على أى حال ، فلا يترتب عليها وجوب الاراقة ، إلا إذا ثبت فى دليل الحجية أو فى دليل آخر أن المولى أعمل عناية ونزل الامارة منزلة الكاشف التام فى أحكامه الشرعية ، كما نزل الطواف منزلة الصلاة فى قوله : الطواف بالبيت صلاة ، وهذه عناية إضافية لا يستبطنها مجرد جعل الحجية للامارة. وبهذا صح القول : إن دليل حجية الامارة بمجرد افتراضه الحجية لا يفى لاقامتها مقام القطع الموضوعى.

إثبات الدليل لجواز الاسناد :

من المقرر فقهيا أن إسناد حكم إلى الشارع بدون علم غير جائز ، وعلى هذا الاساس فاذا قام على الحكم دليل وكان الدليل قطعيا ، فلا شك فى جواز إسناد مؤداه إلى الشارع لانه إسناد بعلم. وأما إذا كان الدليل غير قطعى كما فى الامارة التى قد جعل الشارع لها الحجية وأمر باتباعها فهل يجوز هناإسناد الحكم إلى الشارع؟.

لا ريب فى جواز إسناد نفس الحجية والحكم الظاهرى إلى الشارع لانه معلوم وجدانا. وأما الحكم الواقعى الذى تحكى عنه الامارة فقد

٢٠٠