دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

الفقه ، من قبيل أن خبر الواحد الثقة حجة ، وأن ظهور الكلام حجة.

والنمط الاول من المقدمات يستوعبه الفقيه بحثا فى نفس تلك المسألة ، لان ذلك النمط من المقدمات مرتبط بها خاصة. وأما النمط الثانى فهو بحكم عدم اختصاصه بمسألة دون اخرى ، انيط ببحث آخر خارج نطاق البحث الفقهى فى هذه المسألة وتلك ، وهذا البحث الاخر هو الذى يعبر عنه علم الاصول ، وبقدر ما اتسع الالتفات تدريجا من خلال البحث الفقهى إلى العناصر المشتركة ، اتسع علم الاصول وازداد أهمية ، وبذلك صح القول : بأن دور علم الاصول بالنسبة إلى الاستدلال الفقهى يشابه دور علم المنطق بالنسبة إلى الاستدلال بوجه عام ، حيث إن علم المنطق يزود الاستدلال بوجه عام بالعناصر المشتركة التى لا تختص بباب من أبواب التفكير دون باب ، وعلم الاصول يزود الاستدلال الفقهى خاصة بالعناصر المشتركة التى لا تختص بباب من أبواب الفقه دون باب.

١٦١

الحكم الشرعى وتقسيمه

الحكم الشرعى هو التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الانسان وتوجيهه ، وهو على قسمين : أحدهما : الاحكام التكليفية التى تتعلق بأفعال الانسان ولها توجيه عملى مباشر ، والاخر : الاحكام الوضعية التى ليس لها توجيه عملى مباشر ، وكثيرا ما تقع موضوعا لحكم تكليفى كالزوجية التى تقع موضوعا لوجوب النفقة مثلا.

مبادى الحكم التكليفى :

ونحن إذا حللنا عملية الحكم التكليفى كالوجوب كما يمارسها أى مولى فى حياتنا الاعتيادية نجد أنها تنقسم إلى مرحلتين : إحداهما : مرحلة الثبوت للحكم ، والاخرى مرحلة الا ثبات والابراز ، فالمولى فى مرحلة الثبوت يحدد ما يشتمل عليه الفعل من مصلحة وهى ما يسمى بالملاك حتى إذا أدرك وجود مصلحة بدرجة معينة فيه تولدت إرادة لذلك الفعل بدرجة تتناسب مع المصلحة المدركة ، وبعد ذلك يصوغ المولى إرادته صياغة جعلية من نوع الاعتبار ، فيعتبر الفعل على ذمة

١٦٢

المكلف ، فهناك إذن فى مرحلة الثبوت ( ملاك ) و ( ارادة ) و ( اعتبار ) ، وليس الاعتبار عنصرا ضروريا فى مرحلة الثبوت ، بل يستخدم غالبا كعمل تنظيمى وصياغى اعتاده المشرعون والعقلاء ، وقد سار الشارع على طريقتهم فى ذلك. وبعد إكتمال مرحلة الثبوت بعناصرها الثلاثة أو بعنصريها الاولين على أقل تقدير تبدا مرحلة الاثبات ، وهى المرحلة التى يبرز فيها المولى بجملة إنشائية أو خبرية مرحلة الثبوت بدافع من الملاك والارادة ، وهذا الابراز قد يتعلق بالارادة مباشرة ، كما إذا قال : ( اريد منكم كذا ) ، وقد يتعلق بالاعتبار الكاشف عن الارادة ، كما إذا قال : ( لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ). وإذا تم هذا الابراز من المولى أصبح من حقه على العبد قضاء لحق مولويته الاتيان بالفعل ، وانتزع العقل عن إبراز المولى لارادته الصادر منه بقصد التوصل إلى مراده عناوين متعددة من قبيل البعث والتحريك ونحو هما. وكثيرا ما يطلق على الملاك والارادة وهما العنصران اللازمان فى مرحلة الثبوت اسم ( مبادى الحكم ) ، وذلك بافتراض أن الحكم نفسه هو العنصر الثالث من مرحلة الثبوت أى الاعتبار والملاك والارادة مبادىء له وإن كان روح الحكم وحقيقته التى بها يقع موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال هى نفس الملاك والارادة إذا تصدى المولى لابرازهما بقصد التوصل إلى مراده سواء أنشأ اعتبارا أولا.

ولكل واحد من الاحكام التكليفية الخمسة مبادىء تتفق مع طبيعته ، فمبادىء الوجوب هى الارادة الشديدة ، ومن ورائها المصلحة البالغة درجة عالية تأبى عن الترخيص فى المخالفة. ومبادىء الحرمة هى المبغوضية الشديدة ، ومن ورائها المفسدة البالغة إلى الدرجة نفسها.

١٦٣

والاستحباب والكراهة يتولدان عن مبادىء من نفس النوع ، ولكنها أضعف درجة بنحو يسمح المولى معها بترك المستحب وبارتكاب المكروه. وأما الاباحة فهى بمعنيين ، أحدهما : الاباحة بالمعنى الاخص التى تعتبر نوعا خامسا من الاحكام التكليفية ، وهى تعبر عن مساواة الفعل والترك فى نظر المولى. والاخر : الاباحة بالمعنى الاعم ، وقد يطلق عليها اسم الترخيص فى مقابل الوجوب والحرمة فتشمل المستحبات والمكروهات مضافا إلى المباحات بالمعنى الاخص لاشتراكها جميعا فى عدم الالزام.

والاباحة قد تنشأ عن خلو الفعل المباح من أى ملاك يدعو إلى الالزام فعلا أو تركا ، وقد تنشأ عن وجود ملاك فى أن يكون المكلف مطلق العنان ، وملاكها على الاول ( لا اقتضائى ) ، وعلى الثانى ( اقتضائى ).

التضاد بين الاحكام التكليفية :

وحين نلاحظ أنواع الحكم التكليفى التى مرت بنا ، نجد أن بينها تنافيا وتضادا يؤدى إلى استحالة اجتماع نوعين منها فى فعل واحد ، ومرد هذا التنافى إلى التنافر بين مبادىء تلك الاحكام ، وأما على مستوى الاعتبار فقط فلا يوجد تنافر ، إذ لا تنافى بين الاعتبارات إذا جردت عن الملاك والارادة.

وكذلك أيضا لا يمكن أن يجتمع فى فعل واحد فردان من نوع واحد ، فمن المستحيل أن يتصف شىء واحد بوجوبين ، لان ذلك يعنى اجتماع إرادتين على مراد واحد ، وهو من قبيل اجتماع المثلين ، لان الارادة

١٦٤

لا تتكرر على شىء واحد ، وإنما تقوى وتشتد ، والمحذور هنا أيضا بلحاظ المبادىء لا بلحاظ الاعتبار نفسه.

شمول الحكم الشرعى لجميع وقائع الحياة :

ولما كان الله تعالى عالما بجميع المصالح والمفاسد التى ترتبط بحياة الانسان فى مختلف مجالاته الحياتية ، فمن اللطف اللائق برحمته أن يشرع للانسان التشريع الافضل وفقا لتلك المصالح والمفاسد فى شتى جوانب الحياة ، وقد أكدت ذلك نصوص كثيرة وردت عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، (١) ، وخلاصتها أن الواقعة لا تخلو من حكم.

الحكم الواقعى والحكم الظاهرى :

ينقسم الحكم الشرعى إلى واقعى وظاهرى ، فالحكم الواقعى هو : كل حكم لم يفترض فى موضوعه الشك فى حكم شرعى مسبق ، والحكم الظاهرى هو : كل حكم افترض فى موضوعه الشك فى حكم شرعى مسبق ، من قبيل أصالة الحل فى قوله : كل شىء لك حلال حتى تعلم أنه حرام ، وسائر الاصول العملية الاخرى ، ومن قبيل أمره بتصديق الثقة والعمل على وفق خبره وأمره بتصديق سائر الامارات الاخرى. وعلى هذا الاساس يقال عن الاحكام الظاهرية بأنها متأخرة رتبة عن الاحكام الواقعية ، لانها قد افترض فى موردها الشك فى الحكم الواقعى ، ولو لا وجود الاحكام الواقعية فى الشريعة لما كانت هناك

__________________

(١) اصول الكافى ج ١ كتاب فضل العلم باب الرد الى الكتاب والسنة.

١٦٥

أحكام ظاهرية.

الامارات والاصول :

والاحكام الظاهرية تصنف عادة إلى قسمين :

أحدهما : الحكم الظاهرى المرتبط بكشف دليل ظنى معين على نحو يكون كشف ذلك الدليل هو الملاك التام لجعله ، كالحكم الظاهرى بوجوب تصديق خبر الثقة والعمل على طبقه ، سواء كان ذلك الدليل الظنى مفيدا للظن الفعلى دائما أو غالبا وفى حالات كثيرة ، وفى هذه الحالة يسمى ذلك الدليل بالامارة ، ويسمى الحكم الظاهرى بالحجية ، فيقال : إن الشارع جعل الحجية للامارة.

والقسم الاخر : الحكم الظاهرى الذى اخذ فيه بعين الاعتبار نوع الحكم المشكوك ، سواء لم يؤخذ أى كشف معين بعين الاعتبار فى مقام جعله ، أو أخذ ولكن لا بنحو يكون هو الملاك التام ، بل منظما إلى نوع الحكم المشكوك. ومثال الحالة الاولى : أصالة الحل ، فان الملحوظ فيها كون الحكم المشكوك والمجهول مرددا بين الحرمة والاباحة ، ولم يلحظ فيها وجود كشف معين عن الحلية. ومثال الحالة الثانية : قاعدة الفراغ ، فان التعبد فى هذه القاعدة بصحة العمل المفروغ عنه يرتبط بكاشف معين عن الصحة ، وهو غلبة الانتباه وعدم النسيان فى الانسان ، ولكن هذا الكاشف ليس هو كل الملاك ، بل هناك دخل لكون المشكوك مرتبطا بعمل تم الفراغ عنه ، ولهذا لا يتعبدنا الشارع بعدم النسيان فى جميع الحالات.

وتسمى الاحكام الظاهرية فى هذا القسم بالاصول العملية ،

١٦٦

ويطلق على الاصول العملية فى الحالة الاولى اسم الاصول العملية غير المحرزة ، وعليها فى الحالة الثانية اسم الاصول العملية المحرزة ، وقد يعبر عنها بالاصول العملية التنزيلية.

اجتماع الحكم الواقعى والظاهرى :

وبناء على ما تقدم يمكن أن يجتمع فى واقعة واحدة حكمان ، أحدهما : واقعى ، والاخر : ظاهرى. مثلا : إذا كان الدعاء عند رؤية الهلال واجبا واقعا وقامت الامارة على إباحته ، فحكم الشارع بحجية الامارة وبأن الفعل المذكور مباح فى حق من يشك فى وجوبه ، فقد اجتمع حكمان تكليفيان على واقعة واحدة ، أحدهما واقعى وهو الوجوب ، والاخر ظاهرى وهو الاباحة ، ومادام أحدهما من سنخ الاحكام الواقعية ، والاخر من سنخ الاحكام الظاهرية ، فلا محذور فى اجتماعهما ، وإنما المستحيل أن يجتمع فى واقعة واحدة وجوب واقعى وإباحة واقعية.

القضية الحقيقية والقضية الخارجية للاحكام :

الحكم الشرعى تارة يجعل على نحو القضية الخارجية ، واخرى يجعل على نحو القضية الحقيقية ، وتوضيح ذلك : إن المولى المشرع تارة يشير إلى الافراد الموجودين فعلا من العلماء مثلا ، فيقول : أكرمهم ، واخرى يفترض وجود العالم ويحكم بوجوب إكرامه ولو لم يكن هناك عالم موجود فعلا ، فيقول : إذا وجد عالم فأكرمه. والحكم فى الحالة الاولى مجعول على نحو القضية الخارجية ، وفى الحالة الثانية مجعول على نحو القضية الحقيقية ،

١٦٧

وما هو المفترض فيها نطلق عليه اسم الموضوع للقضية الحقيقية ، والفارق النظرى بين القضيتين : أننا بموجب القضية الحقيقية نستطيع أن نقول : لو ازداد عدد العلماء لوجب إكرامهم جميعا ، لان موضوع هذه القضية العالم المفترض ، وأى فرد جديد من العالم يحقق الافتراض المذكور ، ولا نستطيع أن نؤكد القول نفسه بلحاظ القضية الخارجية ، لان المولى فى هذه القضية أحصى عددا معينا وأمر باكرامهم ، وليس فى القضية ما يفترض تعميم الحكم لو ازداد العدد.

١٦٨

تنويع البحث

حينما يستنبط الفقيه الحكم الشرعى ، ويستدل عليه ، تارة يحصل على دليل يكشف عن ثبوت الحكم الشرعى فيعول على كشفه ، واخرى يحصل على دليل يحدد الموقف العملى والوظيفة العملية تجاه الواقعة المجهول حكمها ، وهذا ما يكون فى الاصول العملية التى هى أدلة على الوظيفة العملية وليست أدلة على الواقع.

وعلى هذا الاساس سوف نصنف بحوث علم الاصول إلى نوعين :

أحدهما : البحث فى الادلة من القسم الاول ، أى العناصر المشتركة فى عملية الاستنباط التى تتخذ أدلة باعتبار كشفها عن الحكم الشرعى ، ونسميها بالادلة المحرزة.

والاخر البحث فى الاصول العملية ، وهى الادلة من القسم الثانى ، أى العناصر المشتركة فى عملية الاستنباط التى تتخذ أدلة على تحديد الوظيفة العملية تجاه الحكم الشرعى المجهول ، ونسميها بالادلة العملية أو الاصول العملية.

وكل ما يستند إليه الفقيه فى استدلاله الفقهى واستنباطه للحكم

١٦٩

الشرعى لا يخرج عن أحد هذين القسمين من الادلة.

ويمكن القول على العموم : بأن كل واقعة يعالج الفقيه حكمها يوجد فيها أساسا دليل من القسم الثانى ، أى أصل عملى يحدد الوظيفة العملية ، فان توفر للفقيه الحصول على دليل محرز أخذ به وترك الاصل العملى ، وفقا لقاعدة تقدم الادلة المحرزة على الاصول العملية كما يأتى إن شاءالله تعالى وإن لم يتوفر دليل محرز أخذ بالاصل العملى فهو المرجع العام للفقيه حيث لا يوجد دليل محرز.

ويوجد عنصر مشترك يدخل فى جميع عمليات استنباط الحكم الشرعى ، سواء ما استند فيه الفقيه إلى دليل من القسم الاول أو إلى دليل من القسم الثانى ، وهذا العنصر هو حجية القطع ، ونريد بالقطع انكشاف قضية بدرجة لا يشوبها شك ، ومعنى حجيته : كونه ( منجزا ) أى مصححا للعقاب إذا خالف العبد مولاه فى تكليف مقطوع به لديه ، وكونه ( معذرا ) أى نافيا لاستحقاق العقاب عن العبدإذا خالف مولاه نتيجة عمله بقطعه.

وواضح أن حجية القطع بهذا المعنى لا يستغنى عنها جميع عمليات الاستنباط ، لانهاإنما تؤدى إلى القطع بالحكم الشرعى أو بالموقف العملى تجاهه ، ولكى تكون هذه النتيجة ذات أثر ، لابد من الاعتراف مسبقا بحجية القطع ، بل إن حجية القطع مما يحتاجها الاصولى فى الاستدلال على القواعد الاصولية نفسها ، لانه مهما استدل على ظهور صيغة ( إفعل ) فى الوجوب مثلا فلن يحصل على أحسن تقديرإلا على القطع بظهورها فى ذلك ، وهذا لا يفيد إلا مع افتراض حجية القطع.

كما أنه بعد افتراض تحديد الادلة العامة والعناصر المشتركة فى

١٧٠

عملية الاستنباط ، قد يواجه الفقيه حالات التعارض بينها ، سواء كان التعارض بين دليل من القسم الاول ودليل من القسم الثانى ، كالتعارض بين الامارة والاصل ، أو بين دليلين من قسم واحد ، سواء كانا من نوع واحد كخبرين لثقتين ، أو من نوعين كالتعارض بين خبر الثقة وظهور الاية ، أو بين أصالة الحل والاستصحاب.

ومن أجل ذلك سنبدأ فيما يلى بحجية القطع ، ثم نتكلم عن القسم الاول من الادلة ، ثم عن القسم الثانى ( الاصول العملية ) ، ونختم بأحكام تعارض الادلة إن شاءالله تعالى ومنه نستمد التوفيق.

١٧١

حجية القطع

للقطع كاشفية بذاته عن الخارج. وله أيضا نتيجة لهذه الكاشفية محركية نحو ما يوافق الغرض الشخصى للقاطع إذا انكشف له بالقطع ، فالعطشان إذا قطع بوجود الماء خلفه تحرك نحو تلك الجهة طلبا للماء. وللقطع إضافة إلى ( الكاشفية ) و ( المحركية ) المذكورتين خصوصية ثالثة وهى : ( الحجية ) بمعنى أن القطع بالتكليف ينجز ذلك التكليف ، أى يجعله موضوعا لحكم العقل بوجوب امتثاله وصحة العقاب على مخالفته.

والخصوصية الاولى والثانية بديهيتان ولم يقع بحث فيهما ، ولا تفيان بمفرد هما بغرض الاصولى وهو تنجيز التكليف الشرعى على المكلف بالقطع به وإنما الذى يفى بذلك الخصوصية الثالثة. كما أنه لا شك فى أن الخصوصية الاولى هى عين حقيقة القطع ، لان القطع هو عين الانكشاف والارادة ، لا أنه شىء من صفاته الانكشاف ، ولا شك أيضا فى أن الخصوصية الثانية من الاثار التكوينية للقطع بما يكون متعلقا للغرض الشخصى ، فالعطشان الذى يتعلق غرض شخصى له بالماء حينما يقطع بوجوده فى جهة ، يتحرك نحو تلك الجهة لا محالة ، والمحرك هنا

١٧٢

هو الغرض ، والمكمل لمحركية الغرض هو قطعه بوجود الماء ، وبامكان استيفاء الغرض فى تلك الجهة.

وأما الخصوصية الثالثة وهى حجية القطع ، أى منجزيته للتكليف بالمعنى المتقدم ، فهى شىء ثالث غير مستبطن فى الخصوصيتين السابقتين ، فلا يكون التسليم بهما من الناحية المنطقية تسليما ضمنيا بالخصوصية الثالثة ، وليس التسليم بهما مع إنكار الخصوصية الثالثة تناقضا منطقيا ، فلا بدإذن من استئناف نظر خاص فى الخصوصية الثالثة. وفى هذا المجال يقال عادة : إن الحجية لازم ذاتى للقطع ، كما أن الحرارة لازم ذاتى للنار ، فالقطع بذاته يستلزم الحجية والمنجزية ، ولاجل ذلك لا يمكن أن تلغى حجيته ومنجزيته فى حال من الاحوال ، حتى من قبل المولى نفسه. لان لازم الشىء لا يمكن أن ينفك عنه ، وإنما الممكن للمولى أن يزيل القطع عن القاطع ، فيخرجه عن كونه قاطعا بدلا عن أن يفكك بين القطع والحجية. ويتلخص هذا الكلام فى قضيتين :

إحداهما : إن الحجية والمنجزية ثابتة للقطع لانها من لوازمه.

والاخرى : إنها يستحيل أن تنفك عنه لان اللازم لا ينفك عن الملزوم.

أما القضية الاولى فيمكن أن نتساءل بشأنها : أى قطع هذا الذى تكون المنجزية من لوازمه؟ هل هو القطع بتكليف المولى ، أو القطع بتكليف أى آمر؟. ومن الواضح أن الجواب هو الاول لان غير المولى إذا أمر لا يكون تكليفه منجزا على المأمور ولو قطع به ، فالمنجزية إذن تابعة للقطع بتكليف المولى ، فنحن إذن نفترض أولا أن الامر مولى ثم نفترض

١٧٣

القطع بصدور التكليف منه ، وهنا نتساءل من جديد ما معنى المولى؟ والجواب أن المولى هو من له حق الطاعة أى من يحكم العقل بوجوب امتثاله واستحقاق العقاب على مخالفته ، وهذا يعنى ان الحجية ( التى محصلها كما تقدم حكم العقل بوجوب الامتثال واستحقاق العقاب على المخالفة ) قد افترضناها مسبقا بمجرد افتراض أن الامر مولى ، فهى إذن من شؤون كون الامر مولى ، ومستبطنة فى نفس افتراض المولوية ، فحينما نقول : إن القطع بتكليف المولى حجة أى يجب امتثاله عقلا كأننا قلنا : إن القطع بتكليف من يجب امتثاله يجب امتثاله ، وهذا تكرار لما هو المفترض ، فلا بد أن نأخذ نفس حق الطاعة والمنجزية المفترضة فى نفس كون الامر مولى لنرى مدى ما للمولى من حق الطاعة على المأمور ، وهل له حق الطاعة فى كل ما يقطع به من تكاليفه ، أو أوسع من ذلك بأن يفترض حق الطاعة فى كل ما ينكشف لديه من تكاليفه ولو بالظن أو الاحتمال ، أو أضيق من ذلك بأن يفترض حق الطاعة فى بعض ما يقطع به من التكاليف خاصة؟ وهكذا يبدو أن البحث فى حقيقته بحث عن حدود مولوية المولى ، وما نؤمن به له مسبقا من حق الطاعة ، فعلى الاول تكون المنجزية ثابتة فى حالات القطع خاصة ، وعلى الثانى تكون ثابتة فى كل حالات القطع والظن والاحتمال ، وعلى الثالث تكون ثابتة فى بعض حالات القطع.

والذى ندركه بعقولنا أن مولانا سبحانه وتعالى له حق الطاعة فى كل ما ينكشف لنا من تكاليفه بالقطع أو بالظن أو بالاحتمال ما لم يرخص هو نفسه فى عدم التحفظ ، وهذا يعنى أن المنجزية ليست ثابتة للقطع بما هو قطع بل بما هو انكشاف ، وأن كل انكشاف منجز مهما

١٧٤

كانت درجته ما لم يحرز ترخيص الشارع نفسه فى عدم الاهتمام به.

نعم كلما كان الانكشاف بدرجة أكبر كانت الادانة وقبح المخالفة أشد ، فالقطع بالتكليف يستتبع لا محالة مرتبة أشد من التنجز والا دانة لانه المرتبة العليا من الانكشاف.

وأما القضية الثانية وهى : إن المنجزية لا تنفك عن القطع بالتكليف ، وليس بإمكان المولى نفسه أن يتدخل بالترخيص فى مخالفة القطع وتجريده من المنجزية. فهى صحيحة ، ودليلها : أن هذا الترخيص إما حكم واقعى أو حكم ظاهرى ، والاول مستحيل لان التكليف الواقعى مقطوع به ، فاذا ثبتت أيضا إباحة واقعية لزم اجتماع الضدين ، لما تقدم من التنافى والتضاد بين الاحكام التكليفية الواقعية ، والثانى مستحيل أيضا لان الحكم الظاهرى كما تقدم ما اخذ فى موضوعه الشك ولا شك مع القطع.

وبهذا يظهر أن القطع لا يتميز عن الظن والاحتمال فى أصل المنجزية ، وإنما يتميز عنهما فى عدم إمكان تجريده عن تلك المنجزية ، لان الترخيص فى مورده مستحيل كما عرفت ، وليس كذلك فى حالات الظن والاحتمال ، فان الترخيص الظاهرى فيها ممكن لانه لا يتطلب أكثر من فرض الشك والشك موجود ، ومن هنا صح أن يقال : إن منجزية القطع غير معلقة بل ثابتة على الاطلاق ، وإن منجزية غيره من الظن والاحتمال معلقة لانها مشروطة بعدم إحراز الترخيص الظاهرى فى ترك التحفظ.

١٧٥

معذرية القطع :

كنا نتحدث حتى الان عن الجانب التنجيزى والتسجيلى من حجية القطع ( المنجزية ) ، والان نشيرإلى الجانب الاخر من الحجية وهو ( المعذرية ) ، أى كون القطع بعدم التكليف معذرا للمكلف على نحو لو كان مخطئا فى قطعه لما صحت معاقبته على المخالفة ، وهذه المعذرية تستندإلى تحقيق حدود مولوية المولى وحق الطاعة ، وذلك لان حق الطاعة هل موضوعه الذى تفرض طاعته تكاليف المولى بوجودها فى الشريعة بقطع النظر عن قطع المكلف بها ، وشكه فيها ، أو قطعه بعدمها ، أى أنها تستتبع حق الطاعة فى جميع هذه الحالات ، أو أن موضوع حق الطاعة تكاليف المولى المنكشفة للمكلف ولو بدرجة احتمالية من الانكشاف؟ فعلى الاول لا يكون القطع معذراإذا خالف الواقع وكان التكليف ثابتا على خلاف ما قطع ، وعلى الثانى يكون القطع معذرا إذ لا حق طاعة للمولى فى حالة عدم انكشاف التكليف ولو انكشافا احتماليا. والاول من هذين الاحتمالين غير صحيح ، لان حق الطاعة من المستحيل أن يحكم به العقل بالنسبة إلى تكليف يقطع المكلف بعدمه ، إذ لا يمكن للمكلف أن يتحرك عنه فكيف يحكم العقل بلزوم ذلك ، فيتعين الاحتمال الثانى ، ومعه يكون القطع بعدم التكليف معذرا عنه لانه يخرج فى هذه الحالة عن دائرة حق الطاعة ، أى عن نطاق حكم العقل بوجوب الامتثال.

١٧٦

التجرى :

إذا قطع المكلف بوجوب أو تحريم فخالفه وكان التكليف ثابتا فى الواقع اعتبر عاصيا ، وأماإذا قطع بالتكليف وخالفه ولم يكن التكليف ثابتا واقعا سمى متجريا ، وقد وقع البحث فى أنه هل يدان مثل هذا المكلف المتجرى بحكم العقل ويستحق العقاب كالعاصى أولا؟.

ومرة أخرى يجب أن نرجع إلى حق الطاعة الذى تمثله مولوية المولى لنحدد موضوعه ، فهل موضوعه هو التكليف المنكشف للمكلف أو مجرد الانكشاف ولو لم يكن مصيبا؟ بمعنى أن حق المولى على الانسان هل فى أن يطيعه فى تكاليفه التى انكشفت لديه أو فى كل ما يتراءى له من تكاليفه ، سواء كان هناك تكليف حقا أولا؟ فعلى الاول لا يكون المكلف المتجرى قد أخل بحق الطاعة إذ لا تكليف ، وعلى الثانى يكون قد أخل به فيستحق العقاب. والصحيح هو الثانى ، لان حق الطاعة ينشأ من لزوم احترام المولى عقلا ورعاية حرمته ، ولا شك فى أنه من الناحية الاحترامية ورعاية الحرمة لا فرق بين التحدى الذى يقع من العاصى ، والتحدى الذى يقع من المتجرى ، فالمتجرى إذن يستحق العقاب كالعاصى.

العلم الاجمالى :

القطع تارة يتعلق بشىء محدد ويسمى بالعلم التفصيلى ومثاله : العلم بوجوب صلاة الفجر أو العلم بنجاسة هذا الاناء المعين ، واخرى يتعلق بأحد شيئين لا على وجه التعيين ، ويسمى بالعلم الاجمالى ومثاله :

١٧٧

العلم بوجوب صلاة ما فى ظهر الجمعة هى إما الظهر أو الجمعة دون أن تقدر على تعيين الوجوب فى إحداهما بالضبط ، أو العلم بنجاسة أحد الاناءين بدون تعين.

ونحن إذا حللنا العلم الاجمالى نجد أنه مزدوج من العلم بالجامع بين الشيئين ، ومن شكوك واحتمالات بعدد الاطراف التى يتردد بينها ذلك الجامع ، ففى المثال الاول يوجد عندنا علم بوجوب صلاة ما ، وعندنا احتمالان لوجوب صلاة الظهر خاصة ، ولوجوب صلاة الجمعة خاصة.

ولا شك فى أن العلم بالجامع منجز ، وأن الاحتمال فى كل طرف منجز أيضا ، وفقا لما تقدم من أن كل انكشاف منجز مهما كانت درجته ، ولكن منجزية القطع على ما عرفت غير معلقة ، ومنجزية الاحتمال معلقة ، ومن هنا كان بامكان المولى فى حالات العلم الاجمالى أن يبطل منجزية احتمال هذا الطرف أو ذاك ، وذلك بالترخيص الظاهرى فى عدم التحفظ ، فاذا رخص فقط فى إهمال احتمال وجوب صلاة الظهر بطلت منجزية هذا الاحتمال وظلت منجزية احتمال وجوب الجمعة على حالها ، وكذلك منجزية العلم بالجامع فانها تظل ثابتة أيضا بمعنى أن المكلف لا يمكنه أن يترك كلتا الصلاتين رأسا ، وإذا رخص المولى فقط فى إهمال احتمال وجوب صلاة الجمعة بطلت منجزية هذا الاحتمال وظلت منجزية الباقى كما تقدم ، وبامكان المولى أن يرخص فى كل من الطرفين معا بترخيصين ظاهريين ، وبهذا تبطل كل المنجزيات بما فيها منجزية العلم بالجامع. وقد تقول : إن العلم بالجامع فرد من القطع وقد تقدم أن منجزية القطع غير معلقة ، فكيف ترتفع منجزية العلم بالجامع هنا؟. والجواب : أن القطع الذى تكون

١٧٨

منجزيته غير معلقة هو العلم التفصيلى ، إذ لا مجال للترخيص الظاهرى فى مورده ، لان الترخيص الظاهرى لا يمكن إلا فى حالة الشك ، ولا شك مع العلم التفصيلى ، ولكن فى حالة العلم الاجمالى حيث أن الشك فى كل طرف موجود ، فهناك مجال للترخيص الظاهرى فتكون منجزية العلم الاجمالى معلقة على عدم إحراز الترخيص الظاهرى فى كل من الطرفين ، هذا من الناحية النظرية ثبوتا ، وأما من الناحية الواقعية إثباتا وأنه هل صدر من الشارع ترخيص فى كل من طرفى العلم الاجمالى؟ ، فهذا ما يقع البحث عنه فى الاصول العملية.

القطع الطريقى والموضوعى :

تارة يحكم الشارع بحرمة الخمر مثلا فيقطع المكلف بالحرمة ، ويقطع بأن هذا خمر ، وبذلك يصبح التكليف منجزا عليه كما تقدم ، ويسمى القطع فى هذه الحالة بالقطع الطريقى بالنسبة إلى تلك الحرمة لانه مجرد طريق وكاشف عنها وليس له دخل وتأثير فى وجودها واقعا ، لان الحرمة ثابتة للخمر على أى حال ، سواء قطع المكلف بأن هذا خمر أولا.

وأخرى يحكم الشارع بأن ما تقطع بأنه خمر حرام ، فلا يحرم الخمر إلاإذا قطع المكلف بأنه خمر ، ويسمى القطع فى هذه الحالة بالقطع الموضوعى ، لانه دخيل فى وجود الحرمة ، وثبوتها للخمر فهو بمثابة الموضوع للحرمة.

والقطع إنما ينجز التكليف إذا كان قطعا طريقيا بالنسبة إليه ، لان منجزيته إنما هى من أجل كاشفيته ، وهوإنما يكشف عما يكون قطعا طريقيا بالنسبة إليه ، وأما التكليف الذى يكون القطع موضوعا له

١٧٩

ودخيلا فى أصل ثبوته ، فهو لا يتنجز بذلك القطع ، ففى المثال المتقدم للقطع الموضوعى لا يكون القطع بالخمرية منجزا للحرمة ، لانه لا يكشف عنها وإنما يولدها ، بل الذى ينجز الحرمة فى هذا المثال القطع بحرمة مقطوع الخمرية. وهكذا ينجز كل قطع ما يكون كاشفا عنه وطريقاإليه من التكاليف ، دون ما يكون موضوعا ومولدا له من الاحكام.

وقد يتفق أن يكون قطع واحد طريقيا بالنسبة إلى تكليف ، وموضوعيا بالنسبة إلى تكليف آخر ، كماإذا قال المولى : الخمر حرام ، ثم قال : من قطع بحرمة الخمر فيحرم عليه بيعه ، فان القطع بحرمة الخمر قطع طريقى بالنسبة إلى حرمة الخمر ، وقطع موضوعى بالنسبة إلى حرمة بيع الخمر.

جواز الاسنادإلى المولى :

وهناك جانب ثالث فى القطع غير المنجزية والمعذرية ، وهو جواز إسناد الحكم المقطوع إلى المولى ، وتوضيح ذلك : أن المنجزية والمعذرية ترتبطان بالجانب العملى فيقال : إن القطع بالحرمة منجز لها ، بمعنى أنه لابد للقاطع أن لا يرتكب ما قطع بحرمته ، وإن القطع بعدم الحرمة معذر عنها ، بمعنى أن له أن يرتكب الفعل ، وهناك شىء آخر وهو إسناد الحرمة نفسهاإلى المولى ، فان القطع بحرمة الخمر يؤدى إلى جواز إسناد الحرمة إلى المولى ، بأن يقول القاطع : ان الشارع حرم الخمر ، لانه قول بعلم ، وقد أذن الشارع فى القول بعلم ، وحرم القول بلا علم.

وبالتدبر فيما بيناه من التمييز بين القطع الطريقى والقطع الموضوعى يتضح أن القطع بالنسبة إلى جواز الاسناد قطع موضوعى لا طريقى ،

١٨٠