دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

جزء عاشر أولا ، فهذا العلم التفصيلى ، يؤدى إلى انحلال ذلك العلم الاجمالى ، ولهذا لا يمكن أن نستعمل الصيغة اللغوية التى تعبر عن العلم الاجمالى ، فلا يمكن القول بأنا نعلم إما بوجوب التسعة أو بوجوب العشرة ، بل نحن نعلم بوجوب التسعة على أى حال ونشك فى وجوب العاشر.

وهكذا يصبح الشك فى وجوب العاشر شكا ابتدائيا بعد انحلال العلم الاجمالى فتجرى البراءة.

والصحيح هو القول بالبراءة عن غير الاجزاء المعلومة من الاشياء التى يشك فى دخولها ضمن نطاق الواجب كما ذكرناه.

٤ ـ الاستصحاب

على ضوء ما سبق نعرف أن أصل البراءة يجرى فى موارد الشبهة البدوية دون الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالى.

ويوجد فى الشريعة أصل آخر نظير أصل البراءة ، وهو ما يطلق عليه الاصوليون اسم « الاستصحاب ».

ومعنى الاستصحاب حكم الشارع على المكلف بالالتزام عمليا بكل شىء كان على يقين منه ثم شك فى بقائه.

ومثاله : أنا على يقين من أن الماء بطبيعته طاهر ، فاذا أصابه شىء متنجس نشك فى بقاء طهارته ، لاننا لا نعلم أن الماء هل يتنجس باصابة المتنجس له أولا؟

والاستصحاب يحكم على المكلف بالالتزام عمليا بنفس الحالة

١٤١

السابقة التى كان على يقين بها ، وهى طهارة الماء فى المثال المتقدم. ومعنى الالتزام عمليا بالحالة السابقة ترتيب آثار الحالة السابقة من الناحية العملية ، فاذا كانت الحالة السابقة هى الطهارة نتصرف فعلا كما إذا كانت الطهارة باقية ، وإذا كانت الحالة السابقة هى الوجوب نتصرف فعلا كما إذا كان الوجوب باقيا وهكذا والدليل على الاستصحاب هو قول الامام الصادق عليه‌السلام : فى صحيحة زرارة « ولا ينقض اليقين بالشك ».

ونستخلص من ذلك أن كل حالة من الشك البدوى يتوفر فيها القطع بشىء أولا والشك فى بقائه ثانيا يجرى فيها الاستصحاب.

الحالة السابقة المتيقنة :

عرفنا أن وجود حالة سابقة متيقنة شرط أساسى لجريان الاستصحاب ، والحالة السابقة قد تكون حكما عاما نعلم بجعل الشارع له وثبوته فى العالم التشريعى ولا ندرى حدود هذا الحكم المفروضة له فى جعله ومدى امتداده فى عالمه التشريعى ، فتكون الشبهة حكمية ، ويجرى الاستصحاب فى نفس الحكم كاستصحاب بقاء طهارة الماء بعدإصابة المتنجس له ويسمى بالاستصحاب الحكمى.

وقد تكون الحالة السابقة شيئا من أشياء العالم التكوينى ، نعلم بوجوده سابقا ولا ندرى باستمراره وهو موضوع للحكم الشرعى ، فتكون الشبهة موضوعية ويجرى الاستصحاب فى موضوع الحكم ومثاله استصحاب عدالة الامام الذى يشك فى طرو فسقه واستصحاب نجاسة الثوب الذى يشك فى طرو المطهر عليه ويسمى بالاستصحاب

١٤٢

الموضوعى لانه استصحاب موضوع لحكم شرعى ، وهو جواز الائتمام فى الاول وعدم جواز الصلاة فى الثانى.

ويوجد فى علم الاصول إتجاه ينكر جريان الاستصحاب فى الشبهة الحكمية ويخصه بالشبهة الموضوعية ، ولا شك فى أن الاستصحاب فى الشبهة الموضوعية هو المتيقن من دليله لان صحيحة زرارة التى ورد فيها اعطاء الامام للاستصحاب تتضمن شبهة موضوعية وهى الشك فى طرو النوم الناقض ، ولكن هذا لا يمنع عن التمسك باطلاق كلام الامام فى قوله ولا ينقض اليقين بالشك لا ثبات عموم القاعدة لجميع الحالات ، فعلى مدعى الاختصاص ان يبرز قرينة على تقييد هذا الاطلاق.

الشك فى البقاء :

والشك فى البقاء هو الشرط الاساسى الاخر لجريان الاستصحاب. ويقسم الاصوليون الشك فى البقاء إلى قسمين تبعا لطبيعة الحالة السابقة التى نشك فى بقائها ، لان الحالة السابقة قد تكون قابلة بطبيعتها للامتداد زمانيا ، وإنما نشك فى بقائها نتيجة لاحتمال وجود عامل خارجى أدى إلى ارتفاعها.

ومثال ذلك : طهارة الماء ، فان طهارة الماء تستمر بطبيعتها وتمتد إذا لم يتدخل عامل خارجى ، وإنما نشك فى بقائها لدخول عامل خارجى فى الموقف ، وهو إصابة المتنجس للماء.

وكذلك نجاسة الثوب ، فان الثوب إذا تنجس تبقى نجاسته وتمتد ما لم يوجد عامل خارجى وهو الغسل ، ويسمى الشك فى بقاء الحالة السابقة التى من هذا القبيل بـ « الشك فى الرافع ».

١٤٣

وقد تكون الحالة السابقة غير قادرة على الامتداد زمانيا ، بل تنتهى بطبيعتها فى وقت معين ونشك فى بقائها نتيجة لاحتمال انتهائها بطبيعتها دون تدخل عامل خارجى فى الموقف. ومثاله : نهار شهر رمضان الذى يجب فيه الصوم إذا شك الصائم فى بقاء النهار ، فان النهار ينتهى بطبيعته ولا يمكن أن يمتد زمانيا ، فالشك فى بقائه لا ينتج عن احتمال وجود عامل خارجى وانما هو نتيجة لاحتمال انتهاء النهار بطبيعته واستنفاده لطاقته وقدرته على البقاء. ويسمى الشك فى بقاء الحالة السابقة التى من هذا القبيل بـ « الشك فى المقتضى » ، لان الشك فى مدى اقتضاء النهار واستعداده للبقاء.

ويوجد فى علم الاصول اتجاه ينكر جريان الاستصحاب اذا كان الشك فى بقاء الحالة السابقة من نوع الشك فى المقتضى ويخصه بحالات الشك فى الرافع. والصحيح عدم الاختصاص تمسكا باطلاق دليل الاستصحاب.

وحدة الموضوع فى الاستصحاب :

ويتفق الاصوليون على أن من شروط الاستصحاب وحدة الموضوع ، ويعنون بذلك أن يكون الشك منصبا على نفس الحالة التى كنا على يقين بها فلا يجرى الاستصحاب اذا كان المشكوك والمتيقن متغايرين مثلا : اذا كنا على يقين بنجاسة الماء ثم صار بخارا وشككنا فى نجاسة هذا البخار لم يجر هذا الاستصحاب ، لان ما كنا على يقين بنجاسة هو الماء وما نشك فعلا فى نجاسته هو البخار والبخار غير الماء ، فلم يكن مصب اليقين والشك واحدا.

١٤٤

تعارض الادلة

عرفنا فيما سبق أن الادلة على قسمين : وهما الادلة المحرزة والاصول العملية ، ومن هنا يقع البحث تارة فى التعارض بين دليلين من الادلة المحرزة ، وأخرى فى التعارض بين أصلين عمليين ، وثالثة فى التعارض بين دليل محرز وأصل عملى ، فالكلام فى ثلاث نقاط نذكرها فيما يلى تباعا ان شاءالله تعالى.

١ ـ التعارض بين الادلة المحرزة

والتعارض بين دليلين محرزين معناه التنافى بين مدلوليهما ، وهو على أقسام منها أن يحصل فى نطاق الدليل الشرعى اللفظى بين كلامين صادرين من المعصوم ، ومنها أن يحصل بين دليل شرعى لفظى ودليل عقلى ، ومنها أن يحصل بين دليلين عقليين.

حالة التعارض بين دليلين لفظيين :

فى حالة التعارض بين دليلين لفظيين توجد قواعد نستعرض فيمايلى

١٤٥

عددا منها :

١ ـ من المستحيل أن يوجد كلامان للمعصوم يكشف كل منهما بصورة قطعية عن نوع من الحكم يختلف عن الحكم الذى يكشف عنه الكلام الاخر ، لان التعارض بين كلامين صريحين من هذا القبيل يؤدى الى وقوع المعصوم فى التناقض ، وهو مستحيل.

٢ ـ قد يكون أحد الكلامين الصادرين من المعصوم نصا صريحا وقطعيا ، ويدل الاخر بظهوره على ما ينافى المعنى الصريح لذلك الكلام.

ومثاله : أن يقول الشارع فى حديث مثلا : « يجوز للصائم أن يرتمس فى الماء حال صومه » ويقول فى حديث آخر : « لا ترتمس فى الماء وأنت صائم » ، فالكلام الاول دال بصراحة على إباحة الارتماس للصائم ، والكلام الثانى يشتمل على صيغة نهى ، وهى تدل بظهورها على الحرمة ، لان الحرمة هى أقرب المعانى الى صيغة النهى وان أمكن استعمالها فى الكراهة مجازا ، فينشأ التعارض بين صراحة النص الاول فى الاباحة وظهور النص الثانى فى الحرمة ، لان الاباحة والحرمة لا يجتمعان. وفى هذه الحالة يجب الاخذ بالكلام الصريح القطعى ، لانه يؤدى الى العلم بالحكم الشرعى ، فنفسر الكلام الاخر على ضوئه ونحمل صيغة النهى فيه على الكراهة لكى ينسجم مع النص الصريح القطعى الدال على الاباحة. وعلى هذا الاساس يتبع الفقيه فى استنباطه قاعدة عامة ، وهى الاخذ بدليل الاباحة والرخصة اذا عارضه دليل آخر يدل على الحرمة أو الوجوب بصيغة نهى أو أمر ، لان الصيغة ليست صريحة ودليل الاباحة والرخصة صريح غالبا.

٣ ـ قد يكون موضوع الحكم الذى يدل عليه أحد الكلامين أضيق

١٤٦

نطاقا وأخص دائرة من موضوع الحكم الذى يدل عليه الكلام الاخر. ومثاله أن يقال فى نص : « الربا حرام » ويقال فى نص آخر : « الربا بين الوالد وولده مباح » فالحرمة التى يدل عليها النص الاول موضوعها عام ، لانها تمنع باطلاقها عن التعامل الربوى مع أى شخص ، والاباحة فى النص الثانى موضوعها خاص ، لانها تسمح بالربا بين الوالد وولده خاصة ، وفى هذه الحالة تقدم النص الثانى على الاول ، لانه يعتبر بوصفه أخص موضوعا من الاول قرينة عليه ، بدليل أن المتكلم لو أوصل كلامه الثانى بكلامه الاول فقال : « الربا فى التعامل مع أى شخص حرام ، ولا بأس به بين الوالد وولده » لابطل الخاص مفعول العام وظهوره فى العموم.

وقد عرفنا سابقا أن القرينة تقدم على ذى القرينة ، سواء كانت متصلة أو منفصلة.

ويسمى تقديم الخاص على العام تخصيصا للعام اذا كان عمومه ثابتا بأداة من أدوات العموم ، وتقييدا له اذا كان عمومه ثابتا بالاطلاق وعدم ذكر القيد. ويسمى الخاص فى الحالة الاولى « مخصصا » وفى الحالة الثانية « مقيدا ». وعلى هذا الاساس يتبع الفقيه فى الاستنباط قاعدة عامة ، وهى الاخذ بالمخصص والمقيد وتقديمهما على العام والمطلق. الا ان العام والمطلق يظل حجة فى غير ما خرج بالتخصيص والتقييد ، اذ لا يجوز رفع اليد عن الحجة الا بمقدار ما تقوم الحجة الاقوى على الخلاف ، لا أكثر.

٤ ـ وقد يكون أحد الكلامين دالا على ثبوت حكم لموضوع ، والكلام الاخر ينفى ذلك فى حالة معينة بنفى ذلك الموضوع. ومثاله أن يقال فى

١٤٧

كلام « ... يجب الحج على المستطيع » ويقال فى كلام آخر : « المدين ليس مستطيعا » فالكلام الاول يوجب الحج على موضوع محدد وهو المستطيع والكلام الثانى ينفى صفة المستطيع عن المدين ، فيؤخذ بالثانى ويسمى « حاكما » ويسمى الدليل الاول « محكوما ».

وتسمى القواعد التى اقتضت تقديم أحد الدليلين على الاخر فى هذه الفقرة والفقرتين السابقتين بقواعد الجمع العرفى.

٥ ـ اذا لم يوجد فى النصين المتعارضين كلام صريح قطعى ، ولا ما يصلح أن يكون قرينة على تفسير الاخر ومخصصا له أو مقيدا أو حاكما عليه فلا يجوز العمل بأى واحد من الدليلين المتعارضين لانهما على مستوى واحد ولا ترجيح لاحدهما على الاخر.

حالات التعارض الاخرى :

وحالات التعارض بين دليل لفظى ودليل من نوع آخر أو دليلين من غير الادلة اللفظية لها قواعد أيضا نشير إليها ضمن النقاط التالية :

١ ـ الدليل اللفظى القطعى لا يمكن أن يعارضه دليل عقلى قطعى ، لان دليلا من هذا القبيل اذا عارض نصا صريحا من المعصوم عليه‌السلام أدى ذلك إلى تكذيب المعصوم (ع) وتخطئته وهو مستحيل.

ولهذا يقول علماء الشريعة : إن من المستحيل أن يوجد أى تعارض بين النصوص الشرعية الصريحة وأدلة العقل القطعية.

وهذه الحقيقة لا تفرضها العقيدة فحسب ، بل يبرهن عليها الاستقراء فى النصوص الشرعية ودراسة المعطيات القطعية للكتاب والسنة ، فانها جميعا تتفق مع العقل ولا يوجد فيها ما يتعارض مع أحكام

١٤٨

العقل القطعية اطلاقا.

٢ ـ إذا وجد تعارض بين دليل لفظى ودليل آخر ليس لفظيا ولا قطعيا قدمنا الدليل اللفظى لانه حجة ، وأما الدليل غير اللفظى فهو ليس حجة ما دام لا يؤدى إلى القطع.

٣ ـ إذا عارض الدليل اللفظى غير الصريح دليلا عقليا قطعيا قدم العقلى على اللفظى ، لان العقلى يؤدى إلى العلم بالحكم الشرعى ، وأما الدليل اللفظى غير الصريح فهو إنما يدل بالظهور ، والظهور إنما يكون حجة بحكم الشارع إذا لم نعلم ببطلانه ، ونحن هنا على ضوء الدليل العقلى القطعى نعلم بأن الدليل اللفظى لم يرد المعصوم (ع) منه معناه الظاهر الذى يتعارض مع دليل العقل ، فلا مجال للاخذ بالظهور.

٤ ـ إذا تعارض دليلان من غير الادلة اللفظية فمن المستحيل أن يكون كلاهما قطعيا ، لان ذلك يؤدى إلى التناقض ، وإنما قد يكون أحدهما قطعيا دون الاخر ، فيؤخذ بالدليل القطعى.

٢ ـ التعارض بين الاصول

وأما التعارض بين الاصول فالحالة البارزة له هى التعارض بين البراءة والاستصحاب ، ومثالها أنا نعلم بوجوب الصوم عند طلوع الفجر من نهار شهر رمضان حتى غروب الشمس ونشك فى بقاء الوجوب بعد الغروب إلى غياب الحمرة ، ففى هذه الحالة تتوفر أركان الاستصحاب من اليقين بالوجوب أولا والشك فى بقائه ثانيا ، وبحكم الاستصحاب يتعين الالتزام عمليا ببقاء الوجوب.

١٤٩

ومن ناحية اخرى نلاحظ أن الحالة تندرج ضمن نطاق أصل البراءة لانها شبهة بدوية فى التكليف غير مقترنة بالعلم الاجمالى ، وأصل البراءة ينفى وجوب الاحتياط ويرفع عنا الوجوب عمليا ، فبأى الاصلين نأخذ؟

والجواب أنا نأخذ بالاستصحاب ونقدمه على أصل البراءة ، وهذا متفق عليه بين الاصوليين ، والرأى السائد بينهم لتبرير ذلك أن دليل الاستصحاب حاكم على دليل أصل البراءة ، لان دليل أصل البراءة هو النص النبوى القائل « رفع ما لا يعلمون » وموضوعه كل ما لا يعلم ، ودليل الاستصحاب هو النص القائل « لا ينقض اليقين أبدا بالشك » وبالتدقيق فى النصين نلاحظ أن دليل الاستصحاب يلغى الشك ويفترض كأن اليقين باق على حاله ، فيرفع بذلك موضوع أصل البراءة.

ففى مثال وجوب الصوم ، لا يمكن أن نستند إلى أصل البراءة عن وجوب الصوم بعد غروب الشمس بوصفه وجوبا مشكوكا ، لان الاستصحاب يفترض هذا الوجوب معلوما ، فيكون دليل الاستصحاب حاكما على دليل البراءة ، لانه ينفى موضوع البراءة.

٣ ـ التعارض بين النوعين

ونصل الان إلى فرضية التعارض بين دليل محرز وأصل عملى كأصل البراءة أو الاستصحاب.

والحقيقة أن الدليل إذا كان قطعيا فالتعارض غير متصور عقلا بينه وبين الاصل ، لان الدليل القطعى على الوجوب مثلا يؤدى إلى العلم بالحكم الشرعى ومع العلم بالحكم الشرعى لا مجال للاستناد إلى أى

١٥٠

قاعدة عملية ، لان القواعد العملية إنما تجرى فى ظرف الشك ، اذ قد عرفنا سابقا أن أصل البراءة موضوعه كل ما لا يعلم ، والاستصحاب موضوعه أن نشك فى بقاء ما كنا على يقين منه ، فاذا كان الدليل قطعيا لم يبق موضوع هذه الاصول والقواعد العملية.

وإنما يمكن افتراض لون من التعارض بين الدليل والاصل إذا لم يكن الدليل قطعيا ، كما إذا دل خبر الثقة على الوجوب أو الحرمة وخبر الثقة كما مربنا دليل ظنى حكم الشارع بوجوب اتباعه واتخاذه دليلا وكان أصل البراءة من ناحية أخرى يوسع ويرخص.

ومثاله : خبر الثقة الدال على حرمة الارتماس على الصائم ، فان هذه الحرمة إذا لا حظناها من ناحية الخبر فهى حكم شرعى قد قام عليه الدليل الظنى ، واذا لا حظناها بوصفها تكليفا غير معلوم نجد أن دليل البراءة رفع ما لا يعلمون يشملها فهل يحدد الفقيه فى هذه الحالة موقفه على أساس الدليل الظنى المعتبر أو على أساس الاصل العملى؟.

ويسمى الاصوليون الدليل الظنى بالامارة ، ويطلقون على هذه الحالة اسم التعارض بين الامارات والاصول.

ولا شك فى هذه الحالة لدى علماء الاصول فى تقديم خبر الثقة وما إليه من الادلة الظنية المعتبرة على أصل البراءة ونحوه من الاصول العملية ، لان الدليل الظنى الذى حكم الشارع بحجيته يؤدى بحكم الشارع هذا دور الدليل القطعى ، فكما أن الدليل القطعى ينفى موضوع الاصل ولا يبقى مجالا لاى قاعدة عملية ، فكذلك الدليل الظنى الذى أسند إليه الشارع نفس الدور وأمرنا باتخاذه دليلا ، ولهذا يقال عادة : إن الامارة حاكمة على الاصول العملية.

١٥١
١٥٢

١٥٣
١٥٤

تمهيد

١ تعريف علم الاصول.

٢ موضوع علم الاصول وفائدته.

٣ الحكم الشرعى وتقسيمه.

٤ تنويع البحوث الاصولية.

٥ حجية القطع وأحكامه.

١٥٥
١٥٦

بسم الله الرحمن الرحيم

تعريف علم الاصول

يعرف علم الاصول عادة بأنه : « العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعى ».

وتوضيح ذلك : إن الفقيه فى استنباطه مثلا للحكم بوجوب رد التحية من قوله تعالى : « واذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها » (١) يستعين بظهور صيغة الامر فى الوجوب ، وحجية الظهور. فهاتان قاعدتان ممهدتان لاستنباط الحكم الشرعى بوجوب رد التحية.

وقد يلاحظ على التعريف أن تقييد القاعدة بوصف التمهيد يعنى أنها تكتسب أصوليتها من تمهيدها وتدوينها لغرض الاستنباط ، مع أننا نطلب من التعريف إبداء الضابط الموضوعى الذى بموجبه يدون علماء الاصول فى علمهم هذه المسألة دون تلك ، ولهذا قد تحذف كلمة التمهيد ويقال : إنه العلم بالقواعد التى تقع فى طريق الاستنباط. ولكن يبقى هناك اعتراض أهم وهو أنه لا يحقق الضابط المطلوب ، لان مسائل اللغة

__________________

(١) سورة النساء ٨٦.

١٥٧

كظهور كلمة الصعيد تقع فى طريق الاستنباط أيضا ، ولهذا كان الاولى تعريف علم الاصول بأنه : العلم بالعناصر المشتركة فى عملية الاستنباط. ونقصد بالاشتراك صلاحية العنصر للدخول فى استنباط حكم أى مورد من الموارد التى يتصدى الفقيه لاستنباط حكمها مثل ظهور صيغة الامر فى الوجوب ، فانه قابل لان يستنبط منه وجوب الصلاة أو وجوب الصوم وهكذا. وبهذا تخرج أمثال مسألة ظهور كلمة الصعيد عن علم الاصول ، لانها عنصر خاص لا يصلح للدخول فى استنباط حكم غير متعلق بمادة الصعيد.

١٥٨

موضوع علم الاصول وفائدته

موضوع علم الاصول :

يذكر لكل علم موضوع عادة ، ويراد به ما يكون جامعا بين موضوعات مسائله ، وينصب البحث فى المسائل على أحوال ذلك الموضوع وشؤونه ، كالكلمة العربية بالنسبة إلى علم النحو مثلا.

وعلى هذا الاساس حاول علماء الاصول تحديد موضوع لعلم الاصول ، فذكر المتقدمون منهم أن موضوعه هو : الادلة الاربعة ( الكتاب والسنة والاجماع والعقل ) واعترض على ذلك : بأن الادلة الاربعة ليست عنوانا جامعا بين موضوعات مسائله جميعا ، فمسائل الاستلزامات مثلا موضوعها الحكم ، إذ يقال مثلا : إن الحكم بالوجوب على شىء هل يستلزم تحريم ضده أولا؟ ومسائل حجية الامارات الظنية كثيرا ما يكون موضوعها الذى يبحث عن حجيته شيئا خارجا عن الادلة الاربعة ، كالشهرة وخبر الواحد ، ومسائل الاصول العملية موضوعها الشك فى التكليف على أنحائه وهو أجنبى عن الادلة الاربعة أيضا.

ولهذا ذكر جملة من الاصوليين : أن علم الاصول ليس له موضوع واحد ، وليس من الضرورى أن يكون للعلم موضوع واحد جامع بين

١٥٩

موضوعات مسائله. غير أن بالامكان توجيه ما قيل أولا من كون الادلة هى الموضوع مع عدم الالتزام بحصرها فى الادلة الاربعة بأن نقول : إن موضوع علم الاصول هو كل ما يترقب أن يكون دليلا وعنصرا مشتركا فى عملية استنباط الحكم الشرعى والاستدلال عليه ، والبحث فى كل مسألة اصولية إنما يتناول شيئا مما يترقب أن يكون كذلك ، ويتجه إلى تحقيق دليليته والاستدلال عليها إثباتا ونفيا ، فالبحث فى حجية الظهور أو خبر الواحد أو الشهرة بحث فى دليليتها ، والبحث فى أن الحكم بالوجوب على شىء ، هل يستلزم تحريم ضده بحث فى دليلية الحكم بوجوب شىء على حرمة الضد ، ومسائل الاصول العملية يبحث فيها عن دليلية الشك وعدم البيان على المعذرية ، وهكذا. فصح أن موضوع علم الاصول هو الادلة المشتركة فى الاستدلال الفقهى ، والبحث الاصولى يدور دائما حول دليليتها.

فائدة علم الاصول :

اتضح مما سبق أن لعلم الاصول فائدة كبيرة للاستدلال الفقهى ، وذلك أن الفقيه فى كل مسألة فقهية يعتمد على نمطين من المقدمات فى استدلاله الفقهى :

أحدهما : عناصر خاصة بتلك المسألة من قبيل الرواية التى وردت فى حكمها ، وظهورها فى إثبات الحكم المقصود ، وعدم وجود معارض لها ونحو ذلك.

والاخر : عناصر مشتركة تدخل فى الاستدلال على حكم تلك المسألة وفى الاستدلال على حكم مسائل اخرى كثيرة فى مختلف أبواب

١٦٠