دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

١ ـ الدليل الشرعي

أ ـ الدلي الشرعي اللفظي

حجّية الظهور

إذا واجهنا دليلاً شرعياً فليس المهمّ أن نفسِّره بالنسبة إلى مدلوله التصوّريّ اللغويّ فحسب ، بل أن نفسِّره بالنسبة إلى مدلوله التصديقي ؛ لنعرف ماذا أراد الشارع به ، وكثيراً ما نلاحظ أنّ اللفظ صالح لدلالاتٍ لغويةٍ وعرفيةٍ متعدّدة فكيف نستطيع أن نعيِّن مراد المتكلِّم منه؟

وهنا نستعين بظهورين : أحدهما : ظهور اللفظ في مرحلة الدلالة التصورية في معنىً معيّن ، ومعنى الظهور في هذه المرحلة : أنّ هذا المعنى أسرع انسباقاً إلى تصوّر الإنسان عند سماع اللفظ من غيره من المعاني فهو أقرب المعاني إلى اللفظ لغةً. والآخر : ظهور حال المتكلِّم في أنّ ما يريده مطابق لظهور اللفظ في مرحلة الدلالة التصورية ، أي أنّه يريد أقرب المعاني إلى اللفظ لغةً ، وهذا ما يسمّى بظهور التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت ، ومن المقرّر في علم الاصول أنّ ظهور حال المتكلِّم في إرادة أقرب المعاني إلى اللفظ حجّة.

ومعنى حجّيّة الظهور : اتّخاذه أساساً لتفسير الدليل اللفظيّ على ضوئه ، فنفترض دائماً أنّ المتكلِّم قد أراد المعنى الأقرب إلى اللفظ في النظام

١٠١

اللغوى العام (١) أخذا بظهور حاله. ولاجل ذلك يطلق على حجية الظهور اسم « أصالة الظهور » ، لانها تجعل الظهور هو الاصل لتفسير الدليل اللفظى.

وفى ضوء هذا نستطيع أن نعرف لماذا كنا نهتم فى البحث السابق بتحديد المدلول اللغوى الاقرب للكلمة والمعنى الظاهر لها بموجب النظام اللغوى العام. مع أن المهم عند تفسير الدليل اللفظى هو اكتشاف ماذا أراد المتكلم باللفظ من معنى؟ لا ما هو المعنى الاقرب إليه فى اللغة؟ فانا ندرك فى ضوء أصالة الظهور أن الصلة وثيقة جدا بين اكتشاف مراد المتكلم وتحديد المدلول اللغوى الاقرب للكلمة ، لان أصالة الظهور تحكم بأن مراد المتكلم من اللفظ هو نفس المدلول اللغوى الاقرب ، أى المعنى الظاهر من اللفظ لغة ، فلكى نعرف مراد المتكلم يجب ان نعرف المعنى الاقرب إلى اللفظ لغة لنحكم بأنه هو المعنى المراد للمتكلم.

والدليل على حجية الظهور يتكون من مقدمتين :

الاولى : ان الصحابة وأصحاب الائمة كانت سيرتهم قائمة على العمل بظواهر الكتاب والسنة وإتخاذ الظهور اساسا لفهمها كما هو واضح تاريخيا من عملهم وديدنهم.

الثانية : ان هذه السيرة على مرأى ومسمع من المعصومين عليهم‌السلام ولم يعترضوا عليها بشىء وهذا يدل على صحتها شرعا وإلا لردعوا عنها ، وبذلك يثبت امضاء الشارع للسيرة القائمة على العمل بالظهور وهو معنى حجية الظهور شرعا.

__________________

(١) لا نريد باللغة والنظام اللغوى العام هنا اللغة فى مقابل العرف ، بل النظام القائم بالفعل لدلالة الالفاظ سواء كان لغويا أوليا أو ثانويا ( منه رحمه الله تعالى ).

١٠٢

تطبيقات حجية الظهور على الادلة اللفظية :

ونستعرض فيما يلى ثلاث حالات لتطبيق قاعدة حجية الظهور :

الاولى : ان يكون للفظ فى الدليل معنى وحيد فى اللغة ولا يصلح للدلالة على معنى آخر فى النظام اللغوى والعرفى العام.

والقاعدة العامة تحتم فى هذه الحالة أن يحمل اللفظ على معناه الوحيد ويقال [ : ( إن المتكلم أراد ذلك المعنى » ، لان المتكلم يريد باللفظ دائما المعنى المحدد له فى النظام اللغوى العام ، ويعتبر الدليل فى مثل هذه الحالة صريحا فى معناه ونصا.

الثانية : أن يكون للفظ معان متعددة متكافئة فى علاقتها باللفظ بموجب النظام اللغوى العام من قبيل المشترك ، وفى هذه الحالة لا يمكن تعيين المراد من اللفظ على أساس تلك القاعدة ، إذ لا يوجد معنى أقرب إلى اللفظ من ناحية لغوية لتطبق القاعدة عليه ، ويكون الدليل فى هذه الحالة مجملا.

الثانية : أن يكون للفظ معان متعددة فى اللغة وأحدها أقرب إلى اللفظ لغويا من سائر معانيه ، ومثاله كلمة « البحر » التى لها معنى حقيقى قريب وهو « البحر من الماء » ومعنى مجازى بعيد وهو « البحر من العلم » ، فاذا قال الامر : « إذهب إلى البحر فى كل يوم » وأردنا أن نعرف ماذا أراد المتكلم بكلمة البحر من هذين المعنيين؟ يجب علينا أن ندرس السياق الذى جاءت فيه كلمة البحر ونريد بـ « السياق » كل ما يكتنف اللفظ الذى نريد فهمه من دوال اخرى ، سواء كانت لفظية كالكلمات التى تشكل مع اللفظ الذى نريد فهمه كلاما واحدا

١٠٣

مترابطا ، أو حالية كالظروف والملابسات التى تحيط بالكلام وتكون ذات دلالة فى الموضوع.

فان لم نجد فى سائر الكلمات التى وردت فى السياق ما يدل على خلاف المعنى الظاهر من كلمة البحر كان لزاما علينا أن نفسر كلمة البحر على أساس المعنى اللغوى الاقرب تطبيقا للقاعدة العامة القائلة بحجية الظهور.

وقد نجد فى سائر أجزاء الكلام ما لا يتفق مع ظهور كلمة البحر ، ومثاله أن يقول الامر : ( اذهب إلى البحر فى كل يوم واستمع إلى حديثه باهتمام ». فان الاستماع إلى حديث البحر لا يتفق مع المعنى اللغوى الاقرب إلى كلمة البحر ، وانما يناسب العالم الذى يشابه البحر لغزارة علمه وفى هذه الحالة نجد انفسنا تتساءل ماذا أراد المتكلم بكلمة البحر ، هل أراد بها البحر من العلم بدليل أنه أمرنا بالاستماع إلى حديثه ، أو أراد بها البحر من الماء ولم يقصد بالحديث هنا المعنى الحقيقى بل أراد به الاضغاء إلى صوت أمواج البحر؟ وهكذا نظل مترددين بين كلمة البحر وظهورها اللغوى من ناحية ، وكلمة الحديث وظهورها اللغوى من ناحية أخرى ، ومعنى هذا أنا نتردد بين صورتين : إحداهما صورة الذهاب إلى بحر من الماء المتموج والاستماع إلى صوت موجه ، وهذه الصورة هى التى توحى بها كلمة البحر. والاخرى صورة الذهاب إلى عالم غزير العلم والاستماع إلى كلامه ، وهذه الصورة هى التى توحى بها كلمة الحديث.

وفى هذا المجال يجب أن نلاحظ السياق جميعا ككل ونرى أى هاتين الصورتين أقرب إليه فى النظام اللغوى العام؟ أى إن هذا السياق

١٠٤

إذا ألقى على ذهن شخص يعيش اللغة ونظامها بصورة صحيحة هل سوف تسبق إلى ذهنه الصورة الاولى أو الصورة الثانية؟ فان عرفنا أن إحدى الصورتين أقرب إلى السياق بموجب النظام اللغوى العام ولنفرضها الصورة الثانية تكون للسياق ككل ظهور فى الصورة الثانية ووجب أن نفسر الكلام على أساس تلك الصورة الظاهرة.

ويطلق على كلمة الحديث فى هذا المثال اسم « القرينة » لانها هى التى دلت على الصورة الكاملة للسياق وأبطلت مفعول كلمة البحر وظهورها.

وأما إذا كانت الصورتان متكافئتين فى علاقتهما بالسياق فهذا يعنى أن الكلام أصبح مجملا ولا ظهور له ، فلا يبقى مجال لتطبيق القاعدة العامة.

القرينة المتصلة والمنفصلة :

عرفنا أن كلمة « الحديث » فى المثال السابق قد تكون قرينة فى ذلك السياق ، وتسمى « قرينة متصلة » لانها متصلة بكلمة البحر التى أبطلت مفعولها وداخلة معها فى سياق واحد ، والكلمة التى يبطل مفعولها بسبب القرينة تسمى بـ « ذى القرينة ».

ومن أمثلة القرينة المتصلة الاستثناء من العام ، كما إذا قال الامر : « أكرم كل فقير إلا الفساق » ، فان كلمة « كل » ظاهرة فى العموم لغة ، وكلمة « الفساق » تتنافى مع العموم ، وحين ندرس السياق ككل نرى أن الصورة التى تقتضيها هذه الكلمة أقرب إليه من صورة العموم التى تقتضيها كلمة « كل » ، بل لا مجال للموازنة بينهما ، وبهذا تعتبر أداة

١٠٥

الاستثناء قرينة على المعنى العام للسياق.

فالقرينة المتصلة هى كل ما يتصل بكلمة أخرى ، فيبطل ظهورها ويوجه المعنى العام للسياق الوجهة التى تنسجم معه.

وقد يتفق أن القرينة بهذا المعنى لا تجىء متصلة بالكلام بل منفصلة عنه فتسمى « قرينة منفصلة ».

ومثاله أن يقول الامر : « أكرم كل فقير » ثم يقول فى حديث آخر بعد ساعة : « لا تكرم فساق الفقراء » ، فهذا النهى لو كان متصلا بالكلام الاول لا عتبر قرينة متصلة ولكنه انفصل عنه فى هذا المثال.

وفى هذا الضوء نفهم معنى القاعدة الاصولية القائلة : إن ظهور القرينة مقدم على ظهور ذى القرينة سواء كانت القرينة متصلة أو منفصلة.

١٠٦

١ ـ الدليل الشرعى

أ ـ الدليل الشرعى اللفظى

إثبات الصدور

لكى نعمل بكلام بوصفه دليلا شرعيا لابد من إثبات صدوره من المعصوم وذلك بأحد الطرق التالية :

( الاول ) التواتر وذلك بأن ينقله عدد كبير من الرواة وكل خبر من هذا العدد الكبير يشكل احتمالا للقضية وقرينة لا ثباتها وبتراكم الاحتمالات والقرائن يحصل اليقين بصدور الكلام ، وحجية التواتر قائمة على أساس افادته للعلم ولا تحتاج حجيته إلى جعل وتعبد شرعى.

( الثانى ) الاجماع والشهرة وتوضيح ذلك أنا إذا لا حظنا فتوى الفقيه الواحد بوجوب الخمس فى المعادن مثلا. نجد أنها تشكل قرينة إثبات ناقصة على وجود دليل لفظى مسبق يدل على هذا الوجوب لان فتوى الفقيه تجعلنا نحتمل تفسيرين لها :

أحدهما أن يكون قد استند فى فتواه إلى دليل لفظى مثلا بصورة صحيحة ، والاخر أن يكون مخطئا فى فتواه.

وما دمنا نحتمل فيها هذين التفسيرين معا فهى قرينة إثبات ناقص ، فاذا أضفنا إليها فتوى فقيه آخر بوجوب الخمس فى المعادن أيضا ، كبر

١٠٧

احتمال وجود دليل لفظى يدل على الحكم نتيجة لاجتماع قرينتين ناقصتين ، وحين ينضم إلى الفقيهين فقيه ثالث نزداد ميلا إلى الاعتقاد بوجود هذا الدليل اللفظى وهكذا نزداد ميلا إلى الاعتقاد بذلك كلما ازداد عدد الفقهاء بوجوب الخمس فى المعادن ، فاذا كان الفقهاء قد اتفقوا جميعا على هذه الفتوى سمى ذلك « إجماعا » ، وإذا كانوا يشكلون الاكثرية فقط سمى ذلك « شهرة ».

فالاجماع والشهرة طريقان لاكتشاف وجود الدليل اللفظى فى جملة من الاحيان.

وحكم الاجماع والشهرة من ناحية أصولية أنه متى حصل العلم بالدليل الشرعى بسبب الاجماع أو الشهرة وجب الاخذ بذلك فى عملية الاستنباط ، وأصبح الاجماع والشهرة حجة ، وإذا لم يحصل العلم بسبب الاجماع أو الشهرة ، فلا اعتبار بهما ، إذ لا يفيدان حينئذ إلا الظن ولا دليل على حجية هذا الظن شرعا فالاصل عدم حجيته ، لان هذا هو الاصل فى كل ظن كما تقدم.

( الثالث ) سيرة المتشرعة ، وهى السلوك العام للمتدينين فى عصر المعصومين من قبيل اتفاقهم على إقامة صلاة الظهر فى يوم الجمعة بدلا عن صلاة الجمعة ، أو على عدم دفع الخمس من الميراث.

وهذا السلوك العام إذا حللناه إلى مفرداته ، ولا حظنا سلوك كل واحد بصورة مستقلة ، نجد أن سلوك الفرد المتدين الواحد فى عصر التشريع ، يعتبر قرينة إثبات ناقصة على صدور بيان شرعى يقرر ذلك السلوك ، ونحتمل فى نفس الوقت أيضا الخطأ والغفلة وحتى التسامح.

فاذا عرفنا أن فردين فى عصر التشريع كانا يسلكان نفس السلوك

١٠٨

ويصليان الظهر مثلا فى يوم الجمعة ازدادت قوة الاثبات. وهكذا تكبر قوة الاثبات حتى تصل إلى درجة كبيرة عندما نعرف أن ذلك السلوك كان سلوكا عاما يتبعه جمهرة المتدينين فى عصر التشريع ، إذ يبدو من المؤكد حينئذ أن سلوك هؤلاء جميعا لم ينشأ عن خطأ أو غفلة أو تسامح ، لان الخطأ والغفلة أو التسامح قد يقع فيه هذا أو ذاك ، وليس من المحتمل أن يقع فيه جمهرة المتدينين فى عصر التشريع جميعا.

وهكذا نعرف أن السلوك العام مستند إلى بيان شرعى يدل على إمكان إقامة الظهر فى يوم الجمعة ، وعدم وجوب الخمس فى الميراث. وهى فى الغالب تؤدى إلى الجزم بالبيان الشرعى ضمن شروط لا مجال لتفصيلها الان.

ومتى كانت كذلك فهى حجة ، وأما إذا لم يحصل منها الجزم فلا اعتبار بها لعدم الدليل على الحجية حينئذ.

وهذه الطرق الثلاث كلها مبنية على تراكم الاحتمالات وتجمع القرائن.

( الرابع ) خبر الواحد الثقة ونعبر بخبر الواحد عن كل خبر لا يفيد العلم ، وحكمه أنه إذا كان المخبر ثقة اخذ به وكان حجة وإلا فلا ، وهذه الحجية ثابتة شرعا لا عقلا لانها لا تقوم على أساس حصول القطع ، بل على أساس أمر الشارع باتباع خبر الثقة ، فقد دلت أدلة شرعية عديدة على ذلك ، ويأتى بيانها فى حلقة مقبلة إن شاء الله تعالى.

ومن تلك الادلة آية النبأ وهى قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا » ... الاية (١) ، فانه يشتمل على جملة شرطية

__________________

(١) الحجرات ٦.

١٠٩

وهى تدل منطوقا على إناطة وجوب التبين بمجىء الفاسق بالنبأ وتدل مفهوما على نفى وجوب التبين فى حالة مجىء النبأ من قبل غير الفاسق ، وليس ذلك إلا لحجيته فيستفاد من الاية الكريمة حجية خبر العادل الثقة.

ويدل على حجية خبره أيضا ان سيرة المتشرعة والعقلاء عموما على الاتكال عليه ، ونستكشف من انعقاد سيرة المتشرعة على ذلك واستقرار عمل اصحاب الائمة والرواة عليه أن حجيته متلقاة لهم من قبل الشارع وفقا لما تقدم من حديث عن سيرة المتشرعة ، وكيفية الاستدلال بها.

١١٠

١ ـ الدليل الشرعى

ب ـ الدليل الشرعى غير اللفظى

الدليل الشرعى غير اللفظى كل ما يصدر من المعصوم مما له دلالة على الحكم الشرعى وليس من نوع الكلام.

ويدخل ضمن ذلك فعل المعصوم ، فان أتى المعصوم بفعل دل على جوازه ، وإن تركه ، دل على عدم وجوبه ، وإن أوقعه بعنوان كونه طاعة لله تعالى دل على المطلوبية ، ويثبت لدينا صدور هذه الانحاء من التصرف عن المعصوم بنفس الطرق المتقدمة التى يثبت بها صدور الدليل الشرعى اللفظى.

ويدخل ضمن ذلك تقرير المعصوم ، وهو السكوت منه عن تصرف يواجهه ، فانه يدل على الامضاء وإلا لكان على المعصوم أن يردع عنه فيستكشف من عدم الردع الامضاء والارتضاء.

والتصرف تارة يكون شخصيا فى واقعة معينة كما إذا توضأ انسان امام الامام فمسح منكوسا وسكت الامام عنه ، وأخرى يكون نوعيا كالسيرة العقلائية ، وهى عبارة عن ميل عام عند العقلاء نحو سلوك معين دون أن يكون للشرع دور إيجابى فى تكوين هذا الميل ، ومثال ذلك الميل العام لدى العقلاء نحو الاخذ بظهور كلام المتكلم أو خبر الثقة أو

١١١

باعتبار الحيازة سببا لتملك المباحات الاولية ، والسيرة العقلائية بهذا المعنى تختلف عن سيرة المتشرعة التى تقدم أنها احدى الطرق لكشف صدور الدليل الشرعى ، فان سيرة المتشرعة بما هم كذلك تكون عادة وليدة البيان الشرعى ، ولهذا تعتبر كاشفة عنه كشف المعلول عن العلة. وأما السيرة العقلائية فمردها كما عرفنا إلى ميل عام يوجد عند العقلاء نحو سلوك معين ، لا كنتيجة لبيان شرعى بل نتيجة العوامل والمؤثرات الاخرى التى تتكيف وفقا لها ميول العقلاء وتصرفاتهم ، ولاجل هذا لا يقتصر الميل العام الذى تعبر عنه السيرة العقلائية على نطاق المتدينين خاصة ، لان الدين لم يكن من عوامل تكوين هذا الميل.

وبهذا يتضح أن السيرة العقلائية لا تكشف عن البيان الشرعى كشف المعلول عن العلة ، وانما تدل على الحكم الشرعى عن طريق دلالة التقرير ، بالتقريب التالى : وهو أن الميل الموجود عند العقلاء نحو سلوك معين يعتبر قوة دافعة لهم نحو ممارسة ذلك السلوك ، فاذا سكتت الشريعة عن ذلك الميل ولم يردع المعصوم عن السيرة مع معاصرته لها كشف ذلك عن الرضا بذلك السلوك وامضائه شرعا. ومثال ذلك : سكوت الشريعة عن الميل العام عند العقلاء نحو الاخذ بظهور كلام المتكلم ، وعدم ردع المعصومين عن ذلك ، فانه يدل على ان الشريعة تقر هذه الطريقة فى فهم الكلام ، وتوافق على اعتبار الظهور حجة ، وإلا لمنعت الشريعة عن الانسياق مع ذلك الميل العام ، وردعت عنه فى نطاقها الشرعى.

وبهذا يمكن ان نستدل على حجية الظهور بالسيرة العقلائية ، إضافة إلى استدلالنا سابقا عليها بسيرة المتشرعة المعاصرين للرسول والائمة عليهم‌السلام.

١١٢

٢ ـ الدليل العقلى

دراسة العلاقات العقلية :

حينما يدرس العقل العلاقات بين الاشياء يتوصل إلى معرفة أنواع عديدة من العلاقة ، فهو يدرك مثلا علاقة التضاد بين السواد والبياض وهى تعنى استحالة اجتماعهما فى جسم واحد ، ويدرك علاقة التلازم بين السبب والمسبب ، فان كل مسبب فى نظر العقل ملازم لسببه ويستحيل انفكاكه عنه ، نظير الحرارة بالنسبة إلى النار ، ويدرك علاقة التقدم والتأخر فى الدرجة بين السبب والمسبب. ومثاله : إذا أمسكت مفتاحا بيدك وحركت يدك فيتحرك المفتاح بسبب ذلك ، وبالرغم من أن المفتاح فى هذا المثال يتحرك فى نفس اللحظة التى تتحرك فيها يدك ، فان العقل يدرك أن حركة اليد متقدمة على حركة المفتاح ، وحركة المفتاح متأخرة عن حركة اليد لا من ناحية زمنية بل من ناحية تسلسل الوجود ، ولهذا نقول حين نريد أن نتحدث عن ذلك : « حركت يدى فتحرك المفتاح » فالفاء هنا تدل على تأخر حركة المفتاح عن حركة اليد ، مع أنهما وقعا فى زمان واحد. فهناك إذن تأخر لا يمت إلى

١١٣

الزمان بصلة ، وإنما ينشأ عن تسلسل الوجود فى نظر العقل ، بمعنى أن العقل حين يلحظ حركة اليد وحركة المفتاح ، ويدرك أن هذه نابعة من تلك ، يرى أن حركة المفتاح متأخرة عن حركة اليد بوصفها نابعة منها ، ويرمز إلى هذا التأخر بالفاء فيقول : « تحركت يدى فتحرك المفتاح » ، ويطلق على هذا التأخر اسم « التأخر الرتبى ».

وبعد أن يدرك العقل تلك العلاقات يستطيع أن يستفيد منها فى اكتشاف وجود الشىء أو عدمه ، فهو عن طريق علاقة التضاد بين السواد والبياض ، يستطيع أن يثبت عدم السواد فى جسم إذا عرف أنه أبيض نظرا إلى استحالة اجتماع البياض والسواد فى جسم واحد ، وعن طريق علاقة التلازم بين المسبب وسببه ، يستطيع العقل أن يثبت وجود المسبب إذا عرف وجود السبب نظرا إلى استحالة الانفكاك بينهما. وعن طريق علاقة التقدم والتأخر ، يستطيع العقل أن يكتشف عدم وجود المتأخر قبل الشىء المتقدم ، لان ذلك يناقض كونه متأخرا ، فاذا كانت حركة المفتاح متأخرة عن حركة اليد فى تسلسل الوجود ، فمن المستحيل أن تكون حركة المفتاح والحالة هذه موجودة بصورة متقدمة على حركة اليد فى تسلسل الوجود.

وكما يدرك العقل هذه العلاقات بين الاشياء ويستفيد منها فى الكشف عن وجود شىء أو عدمه ، كذلك يدرك العلاقات القائمة بين الاحكام ، ويستفيد من تلك العلاقات فى الكشف عن وجود حكم أو عدمه ، فهو يدرك مثلا التضاد بين الوجوب والحرمة ، كما كان يدرك التضاد بين السواد والبياض ، وكما كان يستخدم هذه العلاقة فى نفى السواد إذا عرف وجود البياض كذلك يستخدم علاقة التضاد بين

١١٤

الوجوب والحرمة لنفى الوجوب عن الفعل إذا عرف أنه حرام.

فهناك إذن أشياء تقوم بينها علاقات فى نظر العقل ، وهناك أحكام تقوم بينها علاقات فى نظر العقل أيضا.

ونطلق على الاشياء اسم « العالم التكوينى » وعلى الاحكام اسم « العالم التشريعى ».

وكما يمكن للعقل أن يكشف وجود الشىء أو عدمه فى العالم التكوينى عن طريق تلك العلاقات كذلك يمكن للعقل أن يكشف وجود الحكم أو عدمه فى العالم التشريعى عن طريق تلك العلاقات.

ومن أجل ذلك كان من وظيفة علم الاصول أن يدرس تلك العلاقات فى عالم الاحكام بوصفها قضايا عقلية صالحة لان تكون عناصر مشتركة فى عملية الاستنباط ، وفيما يلى نماذج من هذه العلاقات :

تقسيم البحث :

توجد فى العالم التشريعى أقسام من العلاقات : فهناك قسم من العلاقات قائم بين نفس الاحكام أى بين حكم شرعى ، وحكم شرعى آخر ، وقسم ثان من العلاقات قائم بين الحكم وموضوعه ، وقسم ثالث بين الحكم ومتعلقه ، وقسم رابع بين الحكم ومقدماته ، وقسم خامس وهو العلاقات القائمة فى داخل الحكم الواحد ، وقسم سادس وهو العلاقات القائمة بين الحكم وأشياء أخرى خارجة عن نطاق العالم التشريعى.

وسوف نتحدث عن نماذج لاكثر هذه الاقسام فيما يلى :

١١٥

العلاقات القائمة بين نفس الاحكام

علاقة التضاد بين الوجوب والحرمة :

من المعترف به فى علم الاصول أنه ليس من المستحيل أن يأتى المكلف بفعلين فى وقت واحد أحدهما واجب والاخر حرام ، فيعتبر مطيعا من ناحية إتيانه بالواجب وجديرا بالثواب ، ويعتبر عاصيا من ناحية إتيانه للحرام ومستحقا للعقاب.

ومثاله ان يشرب الماء النجس ويدفع الزكاة إلى الفقير فى وقت واحد.

وأما الفعل الواحد فلا يمكن أن يتصف بالوجوب والحرمة معا ، لان العلاقة بين الوجوب والحرمة هى علاقة تضاد ولا يمكن اجتماعهما فى فعل واحد كما لا يمكن أن يجتمع السواد والبياض فى جسم واحد ، فدفع الزكاة إلى الفقير لا يمكن أن يكون وهو واجب حراما فى نفس الوقت ، وشرب النجس لا يمكن ان يكون وهو حرام واجبا فى نفس الوقت.

وهكذا يتضح :

( أولا ) أن الفعلين المتعددين كدفع الزكاة وشرب النجس يمكن أن يتصف أحدهما بالوجوب والاخر بالحرمة ولو أوجد هما المكلف فى زمان واحد.

( وثانيا ) أن الفعل الواحد لا يمكن أن يتصف بالوجوب والحرمة معا.

والنقطة الرئيسية فى هذا البحث عند الاصوليين هى أن الفعل قد

١١٦

يكون واحدا بالذات والوجود ، ومتعددا بالوصف والعنوان ، وعندئذ فهل يلحق بالفعل الواحد لانه واحد وجودا وذاتا؟ أو يلحق بالفعلين لانه متعدد بالوصف والعنوان؟ ومثاله أن يتوضأ المكلف بماء مغصوب ، فان هذه العملية التى يؤديها إذا لو حظت من ناحية وجودها فهى شىء واحد ، وإذا لوحظت من ناحية أوصافها فهى توصف بوصفين ، إذ يقال عن العملية : إنها وضوء ، ويقال عنها فى نفس الوقت : إنها غصب وتصرف فى مال الغير بدون إذنه ، وكل من الوصفين يسمى « عنوانا ».

ولأَجل ذلك تعتبر العملية فى هذا المثال واحدة ذاتا ووجودا ومتعددة وصفا وعنوانا.

وفى هذه النقطة قولان للاصوليين « أحدهما » أن هذه العملية ما دامت متعددة بالوصف والعنوان تلحق بالفعلين المتعددين ، فكما يمكن أن يتصف دفع الزكاة للفقير بالوجوب وشرب الماء النجس بالحرمة ، كذلك يمكن أن يكون أحد وصفى العملية وعنوانيها واجبا وهو عنوان الوضوء والوصف الاخر حراما وهو عنوان الغصب. وهذا القول يطلق عليه اسم « القول بجواز إجتماع الامر والنهى ». و « القول الاخر » يؤكد على إلحاق العملية بالفعل الواحد على أساس وحدتها الوجودية ، ولا يبرر مجرد تعدد الوصف والعنوان عنده تعلق الوجوب والحرمة معا بالعملية. وهذا القول يطلق عليه اسم « القول بامتناع إجتماع الامر والنهى ).

وهكذا اتجه البحث الاصولى إلى دراسة تعدد الوصف والعنوان من ناحية أنه هل يبرر إجتماع الوجوب والحرمة معا فى عملية الوضوء بالماء المغصوب؟ أو أن العملية ما دامت واحدة وجودا وذاتا فلا يمكن أن توصف بالوجوب والحرمة فى وقت واحد.

١١٧

فقد يقال إن الاحكام باعتبارها أشياء تقوم فى نفس الحاكم انما تتعلق بالعناوين والصور الذهنية لا بالواقع الخارجى مباشرة ، فيكفى التعدد فى العناوين والصور لارتفاع المحذور ، وهذا معناه جواز إجتماع الامر والنهى. وقد يقال إن الاحكام وإن كانت تتعلق بالعناوين والصور الذهنية ، ولكنها لا تتعلق بها بما هى صور ذهنية. إذ من الواضح ان المولى لا يريد الصورة ، وإنما تتعلق الاحكام بالصور بما هى معبرة عن الواقع الخارجى ومرآة له ، وحيث ان الواقع الخارجى واحد ، فيستحيل ان يجتمع علهى الوجوب والحرمة ولو بتوسط عنوانين وصورتين ، وعلى هذا الاساس يقال إن تعدد العناوين إن كان ناتجا عن تعدد الواقع الخارجى وكاشفا عن تكثر الوجود جاز ان يتعلق الامر بأحدهما والنهى بالاخر وإن كان مجرد تعدد فى عالم العناوين والصور الذى هو الذهن فلا يسوغ ذلك.

هل تستلزم الحرمة البطلان؟

إن صحة العقد معناها أن يترتب عليه أثره الذى اتفق عليه المتعاقدان ، ففى عقد البيع يعتبر البيع صحيحا ونافذا إذا ترتب عليه نقل ملكية السلعة من البائع إلى المشترى ، ونقل ملكية الثمن من المشترى إلى البائع ، ويعتبر فاسدا وباطلا إذا لم يترتب عليه ذلك.

وبديهى أن العقد لا يمكن أن يكون صحيحا وباطلا فى وقت واحد ، فان الصحة والبطلان متضادان كالتضاد بين الوجوب والحرمة.

والسؤال هو هل يمكن أن يكون العقد صحيحا وحراما؟ ونجيب على ذلك بالايجاب ، إذا لا تضاد بين الصحة والحرمة ، ولا تلازم بين الحرمة والفساد ، لان معنى تحريم العقد منع المكلف من إيجاد البيع ،

١١٨

ومعنى صحته أن المكلف إذا خالف هذا المنع والتحريم وباع ترتب الاثر على بيعه وانتقلت الملكية من البائع إلى المشترى ، ولا تنافى بين أن يكون إيجاد المكلف للبيع مبغوضا للشارع وممنوعا عنه ، وأن يترتب عليه الاثر فى حالة صدوره من المكلف ، كالظهار فانه ممنوع شرعا ولكن لو وقع لترتب عليه أثره.

ومثال ذلك فى حياتنا الاعتيادية : أنك قد لا تريد أن يزورك فلان وتبغض ذلك اشد البغض ، ولكن إذا اتفق وزارك ترى لزاما عليك أن ترتب الاثر على زيارته وتقوم بضيافته.

وهكذا نعرف أن النهى عن المعاملة أى عقد البيع ونحوه لا يستلزم فسادها بل يتفق مع الحكم بصحة العقد فى نفس الوقت ، خلافا لعدد من الاصوليين القائلين بأن النهى عن المعاملة يقتضى بطلانها.

وكما يتعلق التحريم بالعقد والمعاملة كذلك قد يتعلق بالعبادة ، كتحريم صوم يوم العيد أو صلاة الحائض مثلا ، وهذا التحريم يقتضى بطلان العبادة خلافا للتحريم فى المعاملة ، وذلك لان العبادة لا تقع صحيحة إلا إذا أتى بها المكلف على وجه قربى وبعد أن تصبح محرمة لا يمكن قصد التقرب بها ، لان التقرب بالمبغوض وبالمعصية غير ممكن فتقع باطلة.

العلاقات القائمة بين الحكم وموضوعه

الجعل والفعلية :

حين حكمت الشريعة بوجوب الحج على المستطيع وجاء قوله تعالى :

١١٩

« ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا » (١) أصبح الحج من الواجبات فى الاسلام وأصبح وجوبه حكما ثابتا فى الشريعة. ولكن إذا افترضنا أن المسلمين وقتئذ لم يكن فيهم شخص مستطيع تتوفر فيه خصائص الاستطاعة شرعا فلا يتوجه وجوب الحج إلى أى فرد من أفراد المسلمين لانهم ليسوا مستطيعين ، والحج إنما يجب على المستطيع ، أى إن وجوب الحج لا يثبت فى هذه الحالة لاى فرد بالرغم من كونه حكما ثابتا فى الشريعة ، فاذا أصبح أحد الافراد مستطيعا اتجه الوجوب نحوه ، وأصبح ثابتا بالنسبة إليه.

وعلى هذا الضوء نلاحظ أن للحكم ثبوتين : أحدهما ثبوت الحكم فى الشريعة. والاخر ثبوته بالنسبة إلى هذا الفرد أو ذاك.

فحين حكم الاسلام بوجوب الحج على المستطيع فى الاية الكريمة ثبت هذا الحكم فى الشريعة ولو لم يكن يوجد مستطيع وقتئذ إطلاقا بمعنى أن شخصا لو سأل فى ذلك الوقت ما هى أحكام الشريعة؟ لذكرنا من بينها وجوب الحج على المستطيع ، سواء كان فى المسلمين مستطيع فعلا أو لا ، وبعد أن يصبح هذا الفرد أو ذاك مستطيعا يثبت الوجوب عليه.

ونعرف على هذا الاساس أن الحكم بوجوب الحج على المستطيع لا يتوقف ثبوته فى الشريعة بوصفه حكما شرعيا إلا على تشريعه ، وجعله من قبل الله تعالى سواء كانت الاستطاعة متوفرة فى المسلمين فعلا أولا.

وأما ثبوت وجوب الحج على هذا المكلف أو ذاك ، فيتوقف إضافة

__________________

(١) سورة آل عمران : ٩٧.

١٢٠