مستند الشّيعة - ج ١٨

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٨

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-204-0
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٤٥

للذنوب ، كما قال سبحانه ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (١).

ثم بقي شي‌ء آخر ، هو أنّ الصلاة إذا كانت كفّارة للذنوب فهي تكفي في الحكم بالعدالة ، ولم تكن حاجة لحضور جماعة المسلمين ، وكيف جعل ترك ذلك المستحبّ قادحاً في العدالة؟ فأوضَحَه بأنّ اشتراط حضور جماعتهم ليس لكونه في نفسه دليلاً على الاجتناب من الذنوب وكفّارة لها ، بل لأنّه لمّا لم تكن معرفة كون أحد ساعياً في صلاته وحافظاً لمواقيتهن ، ولم يمكن الشهادة بأنّه يصلّي إلاّ مع التعاهد للجماعة وحضور المصلّى ، فلذلك جعل التعاهد لها من متمّمات الحكم بالعدالة.

ثم لمّا كان لأحد أن يقول : إذا كان اشتراط التعاهد لذلك ، فلو علمنا أنّ أحداً يصلّي في بيته لكان كافياً ، ولا يحتاج إلى تعاهد للجماعة. استأنف كلاماً آخر وقال : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم همّ » إلى آخره ، يعني : أنّ ما ذكر كان سبباً لشرع الجماعة ، ولمّا كان تركها في أوائل الإسلام مؤدّياً إلى ترك الصلاة همَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يحرق قوماً في منازلهم وإن كان فيهم من يصلّي في بيته ؛ لاستقرار ذلك الأمر المستحبّ الموجب لاستقرار الواجب ، فلأجل ذلك لا يحكم بالعدالة وإن علمنا بكون الرجل مصلّياً في بيته.

ثم المفيد فيما نحن فيه هو ما ذكره أولاً من قوله : « أن تعرفوه » إلى قوله « وغير ذلك » وأمّا ما بعده فلا يفيد ها هنا ، وإن أفاد في طريق معرفة العدالة.

نعم ، يستفاد من جملة ما ذكره اشتراط التعاهد للصلاة وحفظ‌

__________________

(١) العنكبوت : ٤٥.

٨١

مواقيتهنّ وحضور جماعة المسلمين في ثبوت أصل العدالة.

ثم إنّ حاصل ما يدلّ عليه (١) الستر والعفاف وكفّ الجوارح الأربع واجتناب الكبائر ، وإذا ضمّ إليه ما يستفاد من بعده أيضاً [ يزيد (٢) ] : حفظُ مواقيت الصلاة وحضور جماعة المسلمين.

هذا على جعل قوله : « أن تعرفوه » إعادةً لقوله : بِمَ تُعرَف ، ويكون قوله : « ويعرف باجتناب الكبائر » عطفاً على قوله : « تعرفوه » ويكون الفعل منصوباً بلفظ أن ، يعني : أنّه لمّا سُئل أنّه بِمَ تعرف بين المسلمين عدالة الرجل؟ أجاب : بأن تعرفوه بالستر والعفاف واجتناب الكبائر ، أي يعرف بهذه الصفات.

ويمكن أن يكون : « يعرف » مضموماً ، ويكون عطفاً على مجموع : « أن تعرفوه » ، يعني : أنّ العدالة تعرف بالستر والعفاف والكفّ ، وتعرف باجتناب الكبائر أيضاً.

فعلى الأوّل يكون المجموع معرِّفاً واحداً ، وعلى الثاني يكون كلّ منهما معرِّفاً برأسه.

ويمكن أن لا يكون قوله : « أن تعرفوه » إعادةً لقوله : « تعرف » بل يكون : « يعرف » مقدّراً ، ويكون المعنى : ويعرف بأن تعرفوه بالستر ، أي يعرف بالمعروفية بهذه الصفات ، ويكون لقوله : « ويعرف » حينئذٍ الاحتمالان المذكوران ان أيضاً ، ولكن لا يختلف المطلوب بذانك الاحتمالان كما لا يخفى.

وهاهنا احتمال آخر ، وهو أن يكون قوله : « ويعرف » ابتداءً للكلام ،

__________________

(١) في « ح » و « ق » : زيادة : أنّ.

(٢) في « ح » و « ق » : بزيد ، والأنسب ما أثبتناه.

٨٢

ويكون المستتر فيه راجعاً إلى الستر والعفاف والكفّ ، يعني : العدالة : الستر والعفاف والكفّ ، ويعرف الستر والعفاف والكفّ الذي هو العدالة باجتناب الكبائر ، ولا يحتاج إلى معرفة الكفّ عن جميع المعاصي.

وهذا هو ظاهر الأكثر ، حيث اقتصروا بالأخذ في تعريف العدالة باجتناب الكبائر ، فيكون هو معرّفاً للستر والعفاف والكفّ ، ويكون ما بعده معرّفاً إمّا للمجموع أو للحكم باجتناب الكبائر.

ثم إنّ ما ذكر في الصحيحة على جميع احتمالاتها من الأوصاف هي الأوصاف الظاهرة التي ذكرها القدماء ، وجعلوها أو ملكتها هي العدالة.

فإن قلنا : إنّ المتبادر من ذلك الكلام إرادة ملكة هذه الأوصاف كما أشرنا إليه سابقاً فيكون مدلول الصحيحة هو كون العدالة ملكة ، وإلاّ فيتردّد الأمر بينها وبين هذه الأوصاف ؛ لأنّ ما علم منها هو أنّ العدالة تعرف بكذا وكذا ، ولا شكّ أنّ معرفتها بها يحتمل أن تكون لأجل كونها هي هي ، وكلّ وصفٍ جزءٌ لها كما يقال : يعرف الكتاب الفلاني بالمسائل الفلانيّة وأن تكون لأجل كونها علائم لها أو لوازم ، كما يقال : يعرف وجود النار بوجود الدخان.

وعلى هذا ، فمدلول الصحيحة : أنّ هذه الأوصاف ممّا يعلم بحصولها العدالة. وأمّا أنّ العدالة هل هي هي ، أو الملكة؟ فلا يعلم منه حينئذٍ.

هذا معنى الصحيحة.

وأما مدلول رواية سلمة (١) فهو : أنّ المسلم الذي لم يكن مجلوداً في حدّ ، أو معروفاً بشهادة : زور ، أو ظنيناً والمراد ما يشمل الفاسق كما صرّح في الأحاديث المعتبرة [ فهو (٢) ] عدل.

__________________

(١) المتقدّمة في ص ٥٩.

(٢) ما بين المعقوفين ليس في « ح » و « ق » ، أضفناه لاستقامة العبارة.

٨٣

ومفاد رواية المجالس (١) : أنّ من ولد على فطرة الإسلام ولم تر بعينك أنّه يذنب ولم يشهد به عدلان فهو من أهل العدالة.

ومعنى رواية سماعة (٢) : أنّ من اجتمعت خصالٌ ثلاث فيه وهي : عدم الظلم عند المعاملة ، وعدم الكذب عند المحادثة ، وعدم الخلف عند المواعدة فهو ممّن ظهرت عدالته.

وقد يقال : إنّه إن كان المراد من هذه المفاداة أنّ بتوسّط تلك الأُمور تعرف العدالة إمّا لكونها هي هي أو لوازمها وخواصّها ، فيحصل التعارض بين تلك الأخبار الثلاثة وبين الصحيحة بالعموم والخصوص المطلق ؛ إذ مفاد الصحيحة : أنّ العدالة ملكة الستر والعفاف والكفّ واجتناب الكبائر ومواظبة الصلوات الحاصلة للمسلم.

أو تعرف بهذه الأُمور ، إمّا من جهة أنّها هي ، أو أنّها من لوازمها الغير المتخلّفة عنه.

ومفاد الثلاثة : أنّها الإسلام وعدم العلم بارتكاب الفسق ؛ أو : الإسلام والعلم بعدم الظلم والكذب والخلف بشي‌ء.

ولا شكّ أنّ الأخيرين أعمّ مطلقاً من الأول ، فيجب تخصيصهما به ، سيّما مع ضعف أسناد الثلاثة وصحّة هذه ، ومعاضدة الصحيحة بالشهرة القويمة القديمة والجديدة ، بل بالإجماع ، ومخالفة الثلاثة لعمل المتقدّمين والمتأخّرين بحيث صارت شاذّة ، كما صرّح به في الشرائع (٣) وموافقة الصحيحة لأصالة عدم ثبوت العدالة لغير من اتّصف بهذه الأوصاف.

__________________

(١) المتقدّمة في ص ٥٩.

(٢) المتقدّمة في ص ٧٦.

(٣) الشرائع ٤ : ٧٦.

٨٤

أقول : إن كان المراد في هذه الأخبار : أنّ هذه الأُمور نفس العدالة ، لأمكن القول بتعارضها ، ويكون بالتباين لا بالعموم والخصوص المطلقين.

أمّا لو كان المراد التعريف باللوازم والآثار فلا تعارض أصلاً ، كما لا تعارض بين قولك : يعرف الإنسان بالنطق والضحك ، وقولك بالكتابة واستقامة القامة ؛ ولا بين قولك : تعرف النار بالإحراق ، وقولك : تعرف بالإحراق والدخان.

نعم ، يعارض مفهوم الشرط في الصحيحة في قوله : « فإذا كان كذلك لازماً » إلى آخره ، وقوله : « ومن رغب عن جماعة المسلمين » وقوله : « من لزم جماعتهم » إلى آخره الأخبار الثلاثة بالعموم من وجه ، وكذا قوله فيها : « وكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ».

وعلى هذا ، فإن رجّحنا الصحيحة بالمرجّحات المتقدّمة ، وإلاّ فيرجع إلى الأصل ، وهو أيضاً مع الصحيحة ، بل لنا أن نقول : إنّه قد عرفت أنّ ما يستفاد من الأخبار الثلاثة من كون العدالة هي ما ذكر فيها أو ملزوماً له إمّا لا قائل به منّا أصلاً ، أو شاذٌّ نادرٌ لا يُعبأ به ، وثبت على خلافه الإجماع ، ومثل ذلك الخبر لا يكون حجّة البتّة ، فلا يكون للصحيحة معارض صالح للمعارضة ، فتكون هي المرجع في معرفة العدالة.

ولكن لو لم نقل أنّها ظاهرة في إرادة الملكة يكون مدلول الصحيحة في معنى العدالة مردّداً بين معنيين :

أحدهما : الهيئة النفسانيّة التي ذكرها المتأخّرون.

وثانيهما : الأوصاف الظاهرية ، كما هو أحد احتمالي كلمات القدماء. وتلك الأوصاف وإن كانت مختلفة في عباراتهم إلاّ أنّ مرجع الجميع الى أُمور متقاربة ، بل أمر واحد.

٨٥

ولكن ذلك التردّد غير ضائر في ترتّب الثمرة في هذا المقام ؛ لأنّه لو جعل الشارع أو غيره وجود شي‌ء مناطاً لحكم من الأحكام ولذلك احتجنا إلى معرفة ذلك الشي‌ء والعلم بحقيقته لنحكم عند وجوده بترتّب الحكم وعند عدمه بعدمه فكما يفيدنا العلم بحقيقة ذلك الشي‌ء كذلك تفيدنا معرفة علائمه ولوازمه المساوية ، وكلّ واحد من هاتين المعرفتين يغنينا عن الأُخرى ؛ لأنّ مفاد الحكم هو العلم بوجود هذا الشي‌ء ، وهو كما يحصل بمعرفة ذلك الشي‌ء نفسه ، كذلك يحصل بالعلم بوجود ما لا ينفكّ ذلك الشي‌ء عنه.

فمراد الشارع من العدالة على هذا وإن لم يكن متعيّناً عندنا ولكن بيّن لنا أُموراً ، أو حكم بعدم انفكاك العدالة عنها ، سواء كان عدم الانفكاك لأجل أنّ تلك الامور أجزاء لها أو لجهة أُخرى ، وهذا القدر يكفينا في الأحكام.

فإن قيل : ربّما يتخلّف العلم بوجود هذه الآثار عن العلم بوجود الملكة ، كما إذا رأينا شخصاً في مدّة قليلة كشهر أو شهرين أو ثلاثة كانت جوارحه مجتنبة عن الكبائر ، فإنّه يعلم وجود الآثار دون الملكة ، سيّما إذا كان اجتنابه عن البعض لعدم المقتضي أو وجود المانع ، كالعنّين الذي يجتنب عن الزنا واللواط ، والأخرس أو الأصمّ أو الأعمى بالنسبة إلى معاصي هذه الجوارح ، أو عدم حياة والديه بالنسبة إلى العقوق وعدمه ، وكمن كان في موضع لم يتمكّن فيه من آلات بعض المعاصي.

بل ربّما يتخلّف عن الملكة أيضاً ، كالصبي المعترف فيما يحرم على الرجال إذا بلغ واجتنب المعاصي بعده ، ورأيناه كذلك في شهر أو شهرين ، وربّما يعلم أنّه يحمّل نفسه على ترك المعاصي بالمشقّة الشديدة ، وربّما‌

٨٦

يكون تركه لخوف الناس ، ويعلم أنّه يطلب خلوة عن الناس لارتكاب المعاصي.

وعلى هذا ، فتترتّب الثمرة على تعيين المراد ممّا في الصحيحة أيضاً ، فإنّه إن كانت هذه الأُمور نفس العدالة يكون الأشخاص المذكورون عدولاً ، وإن كانت من آثار الملكة فلا يمكن الحكم بعدالة هذه الأشخاص ، بل قد يمكن أن يستدلّ بما ذكر الى أنّ العدالة نفس هذه الأوصاف دون الملكة ؛ لعدم استلزامها لها ، للتخلّف في الأشخاص المذكورين.

وعلى هذا ، فيلزم تعيين ما هو المراد في الصحيحة ، وبيان الحكم في حقّ هذه الأشخاص في الحكم بالعدالة.

قلنا أولاً : إنّ هذا السؤال لا يختصّ وروده بجعل العدالة ملكة ، بل يرد عليه وعلى من يفسّرها بالأوصاف الظاهريّة وحسن الظاهر أيضاً.

أمّا الأول فيقال له : إنّ من علمنا أنّه ليست له ملكة العدالة ، ولكن يحمّل نفسه على ترك محارم الله بالجهد والمشقّة طول الشهر والسنة ، هل تقبل شهادته مع أنّه ليس بعادل بمعنى ذي الملكة أم لا؟ مع أنّه قد يعدّ أعلى مرتبة من العادل ، وأكثر ثواباً منه ، وأفضل درجة منه.

وأمّا الثاني فيقال له : من ترك المعاصي لأجل عدم الآلة ، أو عدم المقتضي ، أو وجود المانع الخارجي ، سيّما إذا علم منه أنّ تركه إنّما هو لعدم التمكّن ، ولو تمكّن أو ارتفع المانع لم يترك المعاصي.

وثانياً : إنّ الملكة الباعثة على التقوى وتعديل القوى على قسمين :

أحدهما : نفس ملكة العدالة ، وهي ملكة يقتدر بها على ترك المعاصي واجتنابها عن الإفراط والتفريط بسهولة ، وهي العدالة في عرف‌

٨٧

علماء الأخلاق ، وهي التي عدّها في رواية سماعة (١) المشتملة على تعداد خمسة وسبعين من جنود العلم والجهل من جند العلم ، وهي التي عرّفوها في بيان الحديث بأنّها ملكة لزوم الاقتصاد في كلّ شي‌ء من الأخلاق والأعمال ومعاملات الناس ، من غير ميل إلى طرفي الإفراط والتفريط. وهذه الملكة لا تحصل إلاّ بمجاهدة ، وتكرار أعمال ، ومزاولة الأُمور ، ولا تزول بفعل خلافها مرّة أو مرّات.

وثانيهما : صفة نفسانيّة أُخرى غير ملكة العدالة ، بحمل النفس على ترك محارم الله والتقوى ، كخوف من الله ديناً أو دنيا ، أو طمع في ثوابه ، أو إجلال له جلّ جلاله ، أو نحو ذلك.

وذلك مثل الشجاعة والسخاوة ، فإنّ الشجاعة بنفسها ملكة يقتدر بها على خوض الأهوال ، ومعاركة الأبطال ، وتلزمها جرأة وقوّة قلب ، وقد لا تكون لأحد هذه الملكة ، فلا جرأة له ولا قوّة قلب ، ولكن يخوض المعارك لصفة نفسانيّة اخرى ، كغيرة ، أو حميّة ، أو حبّ شخص ، أو بغضه ، أو حفظ مال ، ونحو ذلك ؛ وكذا السخاوة.

والملكة بهذا المعنى لا يحتاج حصولها إلى مزاولة ( وتكرار فاعل ) (٢) ، بل قد تحصل دفعة ، كما إذا حصل خوف من الله يوجب ترك جميع المحرّمات.

نعم ، لا يكون إلاّ من صفة أُخرى كامنة في النفس ، كالغيرة بالنسبة إلى الشجاعة ، فإنّه قد يشّجّع الجبان بملاحظة أمر ينافي الغيرة ، فيخاصم الشجعان ، وهذا هو الذي يزول بفعل خلافه ولو مرّة.

ولكن العدالة حينئذٍ ليست مجرّد الصفة المذكورة ، بل هي إمّا هذه‌

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٠ ، ١٤.

(٢) في « ق » : وتكرّر أفاعيل.

٨٨

الصفة من جهة بعثها على التورّع عن المحارم واجتناب الكبائر أو هي التورّع والاجتناب المسبّبان عن تلك الصفة ، ويكون تعريفها بالملكة حينئذٍ إمّا لجزئيّتها لها أو سببيّتها.

وما ذكر إنّما يرد على القائلين بالملكة لو أرادوا بها المعنى الأول ، أمّا لو أرادوا الثاني فيكون من ذكر نقضاً داخلاً في العدول ؛ لأنّ تركه لا محالة مسبّبه عن هيئة وصفة نفسانيّة.

نعم ، يشترط أن تكون هذه الصفة حسنة ، كما يشعر به قولهم : « عن محارم الله أو الكبائر » يعني : أن تكون لأجل كونه محارم الله أو معصية كبيرة ، لا أن تكون هذه الصفة رياءً أو خوفاً من الناس مثلاً فإنّه بنفسه معصية ، وليس تركاً لمحارم الله ، بل ترك للزنا مثلاً.

وكذا نقول : إنّ من ( يفسّر ) (١) العدالة بالأوصاف المذكورة لا يريد منها نفس عدم وجود المعاصي ، فإنّه لا يقال في العرف لمن ليس له الآلة أو لم يتمكّن أو وجد له المانع : إنّه كافّ ، أو مجتنب ، أو متورّع ، أو تارك ، بل لا تصدق عليه هذه العنوانات إلاّ مع كونه كذلك مع وجود الآلة والتمكّن ، أو فرضهما ؛ وأن يكون بنفسه تاركاً مجتنباً في مدّة يحكم فيه العرف بحصول صفة الكفّ والترك والاجتناب ، كما يشعر به عنوان حسن الظاهر ، ولا يتحقّق ذلك إلاّ إذا استند الاجتناب إلى جهة في النفس.

وعلى هذا ، فيحصل التلازم بين الهيئة النفسانيّة وبين الاجتناب والترك بالمعنى الذي ذكرنا لهما ، بل يمكن أن يقال : إنّهما يتّحدان.

ثم لو اختلج لك إباء في بعض ما ذكرنا ، فنقول : لا شكّ في أنّ‌

__________________

(١) في « ق » : يعتبر.

٨٩

الصحيحة تحتمل الأمرين اللذين ذكرنا ، وحيث لا يتعيّن أحدهما فيجب الأخذ في معنى العدالة بالمجمع عليه ، وهو الملكة المتكرّر ذكرها ، والحكم باشتراطها فيما علّق عليها.

وحاصلها : صفة نفسانيّة باعثة على الستر والعفاف ، وكفّ الجوارح واجتناب الكبائر.

أو هي الستر والعفاف ، والكفّ ، والاجتناب المذكور ، المنبعثة عن صفة نفسانيّة.

ولك الاقتصار على الاجتناب عن الكبائر وعن الإصرار على الصغائر ، المنبعثة عنها ؛ لاستلزامه البواقي ، بل على الاجتناب المذكور أيضاً ؛ إذ لا صغيرة مع الإصرار.

فروع :

أ : يشترط في الأُمور التي تتحقّق العدالة باجتنابها والكفّ عنها أن تكون معصية في حقّ الفاعل ، فلو ارتكب بعضها سهواً ، أو جهلاً من غير تقصير ، أو مع عذر مجوّز ولو مكرّراً ، لم يقدح في العدالة إجماعاً.

ويلزمه أنّه لو ارتكب أحد أمراً بتقليد من لا يحرّمه كالنظر إلى وجه الأجنبيّة من غير ريبة ، أو سماع الغناء فيما يستثنيه جماعة (١) ، ونحو ذلك لم يقدح في عدالته ، ولو عند مجتهد يقول بحرمته.

ولو ارتكب أحد ما يحرّمه باعتقاده يخرج عن العدالة حتى عند من لا يقول بحرمته.

__________________

(١) كالمحقّق في الشرائع ٤ : ١٢٨ ، العلاّمة في القواعد ٢ : ٢٣٦ ، الشهيد في الدروس ٢ : ١٢٦ ، صاحب الرياض ٢ : ٤٣٠.

٩٠

وكذا يشترط أن يكون تركها واجتنابها من حيث إنّها معصية ، فلو تركها لا من هذه الجهة بل لعدم القدرة ، أو وجود المانع أو نحو ذلك لم تكن عدالة إجماعاً.

ولو لم يعلم أنّ الكفّ والترك هل هو من جهة أنّه معصية أو لغيرها ولم تكن قرينة ولو مفيدة للظنّ أيضاً ، فالظاهر عدم الحكم بالعدالة.

ب : اعلم أنّ المستفاد من تتبّع كلمات الأصحاب : أنّ مقابل العدالة وضدّها الفسق ، بل الظاهر أنّه إجماعي.

ومنه يظهر أيضاً أنّ ملكة العدالة التي يقولون بها هنا غير الملكة التي هي العدالة عند أهل الحكمة النظريّة وعلماء الأخلاق ، وهي أحد جنود العلم ؛ لأنّ ضدّها الجور ، كما صرّح به في رواية سماعة المتقدّمة (١).

والمراد به الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط ، ولذا يعدّ المُفرِط في بعض الصفات كالتواضع والتحمّل ونحوهما غير عادل بهذا المعنى ، ولا يعدّ فاسقاً شرعاً.

ثم الفسق الذي هو ضدّ العدالة الشرعيّة إمّا يكون هو ارتكاب بعض ما يكون اجتنابه والكفّ عنه عدالةً فعلاً ، أو يكون ملكة الارتكاب بالمعنى المذكور في العدالة الشرعيّة ، أي صفة نفسانيّة باعثة على الارتكاب.

وبعبارة اخرى : كون الشخص بحيث لم يستنكف نفسه عن ارتكاب المعاصي ، ولا متوطّناً نفسه عن الاجتناب وإن لم يرتكب بالاختيار بعد.

فإن كان المراد منه الأول كما هو ظاهر بعض كلماتهم ، سيّما في‌

__________________

(١) في ص ٨٦.

٩١

مقام بيان أصالة الفسق تحصل الواسطة بين العدالة والفسق في الواقع ونفس الأمر قطعاً ؛ لأنّ من كان في قرية لا تحصل فيها الخمر ، وكان تاركاً لشربها ، وعلمنا أو ظننا أنّه إن وجدها يشربها ، ليس عادلاً إجماعاً ، ولا فاسقاً على هذا ؛ لعدم ارتكابه للشرب بالفعل.

والحاصل : أنّ الاجتناب الغير المسبّب عن الصفة النفسانيّة لا يكون عدالةً ولا فسقاً.

وإن كان المراد الثاني ، كما هو ظاهر كلّ من عرّف العدالة بالملكة ؛ إذ لا يصحّ جعل مقابل الملكة وضدّها الفعل ، وإن لم تكن واسطة بين الصفتين واقعاً ولكن تتحقّق الواسطة بينهما بحيث عُلِمَتا قطعاً ؛ إذ تكون حينئذٍ نسبتهما إلى الأصل على السواء ، فليس كلّ من لم يعلم اتّصافه بأحدهما متّصفاً بالأُخرى شرعاً حتى تنتفي الواسطة ، بل يمكن أن يعلم أنّ فلاناً عادل أو فاسق شرعاً ، فتتحقّق الواسطة في العلم.

فإن قيل : العدالة على ما ذكرت هي الصفة الباعثة على اجتناب المحارم من حيث بعثها عليه ، أو الاجتناب المنبعث عن الصفة النفسانيّة ، ومآلهما واحد ، فضدّها عدم ذلك أي ما لم يكن كذلك بأن لا يكون مجتنباً ، أو كان ولم يكن اجتناباً منبعثاً عن صفة النفس ، فأيّهما يكون يحصل الفسق وتنتفي الواسطة.

قلنا : الاجتناب الغير المنبعث عن الصفة النفسيّة على قسمين : لأنّه إمّا تكون معه صفة باعثة على الارتكاب ، ولكن تمنعه الموانع الخارجيّة.

أو لا يكون كذلك ، بل تكون النفس خالية عن الصفتين ، الباعثة على الاجتناب عنه من حيث إنّه من محارم الله ، والباعثة على الارتكاب ، وكثيراً‌

٩٢

ما يتحقّق ذلك في حقّ من لم يتصوّر نوعاً من المعصية ولم يلتفت إليه ، كمن نشأ في موضع لم تذكر فيه الخمر وشربها ، والشطرنج والنرد واللعب بهما ، والغناء وسماعه ، ونحو ذلك.

ولا نسلّم انّ المجتنب الذي كان من القسم الأخير يكون فاسقاً ، بل لعلّه ليس كذلك إجماعاً ، ولا يكون عادلاً أيضاً ؛ لانتفاء الملكة الباعثة.

نعم ، لو جعلت العدالة مجرّد الاجتناب والآثار الظاهرية سواء كانت مستندة إلى صفة حسنة أو لا ، والفسق مجرّد الارتكاب تنتفي الواسطة بينهما ، ولكنّه غير صحيح البتّة ؛ وكذا لا واسطة بين ملكة العدالة بالمعنى المعروف عند أهل الحكمة النظريّة وعلماء الأخلاق وبين ضدّها ، الذي هو الجور والميل.

ج : اعلم أنّ الناظر في كلام الأُصوليين والفقهاء يرى وقوع الخلاف بينهم في أصالة العدالة أو الفسق ، فمنهم من يقول بأصالة العدالة ، كما سمعت من كلام شيخ الطائفة في الخلاف (١) ، ومراد القائل أنّها الأصل في المسلم بمقتضى الأدلّة الشرعيّة.

ومنهم من يقول بأصالة الفسق ؛ نظراً إلى توقّف العدالة على أُمور وجوديّة حادثة علماً وعملاً ، وعليه جريتُ في كتاب أساس الأحكام.

ومنهم من يقول : بتساويهما بالنسبة إلى الأصل ، إمّا لكون كلّ منهما ملكة حادثة ، أو لتوقّف كلّ منهما على أُمور حادثة ، وعليه جريتُ في كتاب مناهج الأحكام ، وبيّنتُ الوجه فيه.

والتحقيق : أنّ الكلام إمّا فيمن يجتنب عمّا يشترط في انتفاء الفسق‌

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٥٩٢.

٩٣

اجتنابه من المحرّمات وترك الواجبات ، ولا يعلم أنّ اجتنابه عن الجميع هل هو منبعث عن صفة نفسيّة مقتضية له حتى يكون عادلاً ، أو منضمّة مع صفة مقتضية لخلافه وإن اتّفق الاجتناب بسبب خارجي حتى يكون فاسقاً ، أو لا يقارن شيئاً من الصفتين حتى لا يكون عادلاً ولا فاسقاً ، فنسبة الأصل إليهما على السواء ، وكلاهما خلاف الأصل.

أو فيمن لا يعلم أنّه هل هو مجتنب عمّا يشترط اجتنابه في تحقّق العدالة ، أم لا؟

وظاهر كلام أكثر من تعرّض للمقام أنّ الأصل فيه الفسق (١) ؛ لأنّ الأصل وإن كان عدم ارتكاب الأفعال المحرّمة ، ولكنّ الأصل عدم الإتيان بالواجبات العلميّة والعمليّة ، وهو كافٍ في تحقّق الفسق.

ومنهم من قال بتساوي نسبتهما إلى الأصل ؛ لأنّ الأصل وإن كان عدم الإتيان بالواجبات إلاّ أنّ الأصل عدم وجوبها أولاً (٢).

أمّا المشروطات الغير المتيقنة حصول شرطها كغسل الجنابة ، والمسّ ، وحجّ البيت ، والزكاة ، والخمس ، والكفّارات ، والنذورات ، ونحوها ، وهي أكثر الواجبات فظاهر.

وأمّا المطلقات ، فلأنّ وجوبها إنّما هو مع انتفاء الجهل الساذج ، أو السهو ، أو النسيان ، أو الخطأ ، أو العذر ، ومع ثبوت وجوبها فالأصل وإن كان عدم الإتيان بها ولكن يعلم كلّ أحد أنّ المكلّف ليس باقياً على حالٍ كانت عليه قبل التكليف وقبل تعلّق وجوب الفعل عليه ، بل تبدّلت حالاته وانتقل من حال إلى حال ، ومن فعل إلى فعل ، بل يعلم قطعاً أنّه في كلّ‌

__________________

(١) انظر التنقيح ٤ : ٢٨٩ ، المسالك ٢ : ٣٦١ ، كشف اللثام ٢ : ٣٧٠.

(٢) انظر الحدائق ١٠ : ٢٤.

٩٤

يوم ليس باقياً على فعل يومه السابق ، بل تركه ونام ، ثم استيقظ وتجدّدت أفعاله ، فكما أنّ الأصل عدم تلبّسه بالفعل الواجب عليه (١) ، الأصل عدم تلبّسه بأحد أضداده الخاصّة الوجوديّة أيضاً ؛ ومع ذلك ففي كثير من الواجبات يجب البناء على الفعل والتحقّق ، كالتطهّر من الأخباث ، والتذكية ، وأداء الزكاة والخمس ، بل أكثر الاعتقادات.

وعلى هذا ، فنسبة الأصل إليهما على السواء.

وفيه : أنّ هذا كان حسناً لو كان أحد أفراد الفسق هو الإتيان بأحد الأضداد الوجوديّة للواجب ، كما أنّ العدالة موقوفة على الإتيان بالواجب ، فيصحّ أن يقال : إنّ الأصل بالنسبة إليهما على السواء ، ولكنّ الفسق يتحقّق بعدم الإتيان بالواجب ، والعدالة موقوفة على الإتيان به ، والأصل عدم الإتيان ، ولا دخل لأصالة عدم الإتيان بالأضداد بالمقام ، وإن كان هو من مقارنات عدم الإتيان بالواجب في الخارج ؛ لعدم خلوّ الإنسان عن الأكوان.

ولكن ها هنا كلاماً آخر أتقن ، وهو أنّ الثابت بالاستصحاب والأصل هو إبقاء الأحكام التوقيفيّة من الشارع من الشرعيّات والوضعيّات للمستصحب بعد حصول الشكّ في بقائه.

وأمّا الأحكام العقليّة والعرفيّة والآثار والخواصّ المترتبة عليه بالتجربة وأمثالها فلا تترتّب عليه قطعاً ، ولا يجب إبقاؤها أبداً.

فإنّا نحكم بعدم جواز تقسيم إرث الغائب في موضع لا يوجد فيه مأكول إلاّ أمداد معيّنة من خبز ، وعدم جواز نكاح زوجته ، ووجوب نفقتها على ماله ، ونحو ذلك من الأحكام الشرعيّة. ولكن لا نحكم بنقص شي‌ء‌

__________________

(١) في « ق » : علمه.

٩٥

من ذلك الخبز لأجل أكله إيّاه البتّة.

ونحكم في جُنُب شكّ في غسله بعدم جواز الصلاة والمكث في المساجد وقراءة العزائم ونحوها ، ولكن لو كان زرع تفسد ثمرته بعبور الجنب عليه لا نحكم بفساد ثمرته ، بل نقول : لا نعلم أنّه هل يُفسِدُ أم لا ، ولو قال الشارع بفساد بيع ثمرته لا يحكم بفساد بيعه.

ولا شكّ [ في سببيّة ترك الواجب للفسق ، وأنّ (١) ] تركه خروج عن طاعة الله عقلاً وعرفاً ؛ لأنّ الحاكم بالإطاعة والمخالفة بعد تحقّق الأمر والنهي هو العقل والعرف ، والخروج عن طاعة الله هو معنى الفسق لغةً.

نعم ، رتّب الشارع على هذا اللفظ بحسب معناه أحكاماً ، وأمّا تحقّق معناه وعدمه ليس من الأحكام الشرعيّة ، فلا يترتّب هو على استصحاب شي‌ء.

والحاصل : أنّ الفسق هو الخروج عن طاعة الله لغةً ، والخروج عنها إنّما يترتّب على عدم الإتيان بالواجب واقعاً عقلاً وعرفاً ، ولا يترتّب على استصحاب عدم إتيانه ؛ لأنّه ليس حكماً شرعيّاً أو وضعيّاً من الشارع يتبع الاستصحاب ، فكما لا يمكن أن يحكم على من يستصحب عدم إتيانه لواجب أنّه مخالف لأمر الله خارج عن طاعة الله ، كذلك لا يحكم أنّه فاسق ، والله هو الموفّق.

د : لا فرق في صفة العدالة الشرعيّة بين الرجال والنسوان ؛ لظاهر الإجماع المركّب.

وأمّا رواية عبد الكريم : « تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كنّ مستورات‌

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في « ق » : أنّ ترك الواجب للفسق .. ، وفي « ح » : أنّ سببية ترك الواجب للفسق أنّ .. ؛ والظاهر ما أثبتناه.

٩٦

من أهل البيوتات ، معروفات بالستر والعفاف ، مطيعات للأزواج ، تاركات للبذاء والتبرّج إلى الرجال في أنديتهم » (١).

فلا تدل على أنّ هذه الأوصاف هي العدالة فيهن ، فلعلّ المراد بمعرفة هذه الصفات فيهنّ يحصل الظنّ بحصول صفة العدالة الشرعيّة ، كما أنّ بمعرفة ما ذكر في الصحيحة من ستر العيوب ، وملازمة الصلاة ، وقول أهل القبيلة : إنّا لا نعلم منه إلاّ خيراً يحصل الظنّ بعدالة الرجل ، وهذا القدر كافٍ في قبول الشهادة.

وعلى هذا يحمل أيضاً كلام الشيخ في النهاية ، حيث إنّه بعد ما فسّر العدل بما في صحيحة ابن أبي يعفور (٢) قال : ويعتبر في قبول شهادة النساء : الإيمان ، والستر ، والعفاف ، إلى آخر ما في هذه الرواية (٣).

هـ : قال الفاضل في المختلف في بحث الإمامة في الصلاة : العدالة غير متحقّقة في الصبي ؛ لأنّها هيئة قائمة بالنفس تقتضي البعث على ملازمة الطاعات والانتهاء عن المحرّمات ، وكلّ ذلك فرع التكليف (٤).

وقال مثل ذلك فخر المحقّقين في الإيضاح (٥).

وصريحهما عدم تحقّق العدالة في الصبي ، وهو مقتضى الأصل ؛ لأنّ الأصل عدم تحقّق العدالة الشرعيّة فيه ، حيث إنّ الأخبار المثبتة لها ظاهرة في المكلّفين ، بل الصحيحة صريحة فيهم ؛ لقوله : بِمَ تعرف عدالة الرجل؟

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٢٤٢ ، ٥٩٧ ، الإستبصار ٣ : ١٣ ، ٣٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٤ أبواب الشهادات ب ٤١ ح ٢٠.

(٢) المتقدمة في ص ٧٨.

(٣) النهاية : ٣٢٥.

(٤) المختلف : ١٥٣.

(٥) الإيضاح ٤ : ١٤٩.

٩٧

إلى آخره ، مع أنّها مع قطع النظر عن الاختصاص لا يتحقّق ما تضمّنته في غير المكلّف ؛ لأنّ العدالة المذكورة فيه إمّا هي الأفعال المذكورة في الصحيحة ، أو صفة باعثة عليها.

والمراد من البعث والمتبادر منه هو البعث فعلاً ، وهو في حقّ الصبي غير ممكن ؛ إذ لا كبيرة عليه ولا صغيرة ، ولا كفّ عليه ولا ستر.

وإرادة ما هو كبيرة في حقّ المكلّفين باطلة قطعاً ، فلا يمكن البعث الفعلي.

وكفاية الفرضي منه في تحقّق العدالة بمعنى : أنّه كان بحيث لو تعلّق به الأمر والنهي ائتمر وانتهى غير معلومة ، وإن كان مثله في حقّ الصبي ممكناً ، ولأجله يمكن اتّصاف من كان أول عهده بالبلوغ ولو بنحو يوم بالعدالة.

هذا في العدالة الشرعيّة المعتبرة في الشهادة ونحوها.

أمّا صفة العدالة عند علماء الأخلاق فالظاهر أنّ تحقّقها في الصبي ممكن ، كصفة الشجاعة ، والحلم ، والصبر ، ونحوها ، فتأمّل.

و : هل يشترط في تحقّق العدالة الإسلام ، فلا يتحقّق العادل في غير المسلمين ، أم لا ، فيتحقّق؟

صريح الشهيد الثاني وظاهر بعض آخر عدم اشتراط العدالة بالإسلام ، كما يأتي في الفروع اللاّحقة (١) ، وصريح الفاضل والشيخ حسن وجمع آخر الاشتراط ، كما يأتي أيضاً (٢).

والتحقيق : أنّه إن أُريد بالعدالة العدالة في عرف علماء الأخلاق‌

__________________

(١) انظر ص ٩٩.

(٢) انظر ص ٩٩.

٩٨

ـ وهي المعبّر عنها بملكة العدالة ، التي هي تعديل القوى النفسانيّة وإقامتها بين طرفي الإفراط والتفريط فلا منع في تحقّقها في غير المسلم ، كسائر الصفات النفسانيّة.

وإن أُريد العدالة الشرعيّة أي ما اعتبرها الشارع وجعلها شرطاً لأُمور فلا دليل على ثبوتها لغير المسلم وكونها صفة ممكنة التحقّق فيه ، بل الظاهر من الصحيحة كونها أفعالاً أو ملزومة لأفعال لا تكون في غير المسلم ، من كفّ الجوارح الأربع أي ممّا حرّمه الله تعالى في دين الإسلام والاجتناب عن الكبائر التي أوعد الله عليها النار في القرآن ، وملازمة الصلوات الخمس ، وحفظ مواقيتهن ، ولزوم جماعتهنّ وجماعة المسلمين.

فإن قيل : الكفّ عن المعاصي والاجتناب عن الكبائر كم يكون للمسلمين يكون لغيرهم أيضاً بعد بذل جهده وإتعاب نفسه في تحقيق الحقّ.

قلنا : الظاهر المتبادر أنّ المراد بما يكفّ عنه والكبائر التي يلزم الاجتناب عنها هي المحرّمات في دين الإسلام وما هي كبيرة فيه مطلقاً ، وعدم كون بعضها محرّماً أو كبيرة في غير دين الإسلام أو حرمة غيرها فيه إنّما يوجب عدم ترتّب المعصية على ارتكابه وترتّبها على ارتكاب غيره لو كان ممّن بذل جهده على تحقّق العدالة بمحض اجتناب ما هو محرّم في دينه.

وإن توهّم عموم الرجل في الصحيحة (١) ، فيحمل ما يكفّ عنه ويجتنب على ما هو محرّم عنده.

__________________

(١) أي صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة في ص ٧٦ ٧٧.

٩٩

يدفع بأنّ قوله فيها : حتى تقبل شهادته لهم وعليهم ، يخصّصه بالمسلم ؛ لعدم قبول شهادة غير المسلم على المسلم ، وكذا شرط التعاهد للصلوات الخمس ، ولزوم مواقيتها ، وحضور جماعة المسلمين.

فإن قيل : قوله في موثّقة سماعة المتقدّمة (١) : « من عامل الناس » وقوله في رواية علقمة : « فمن لم تره بعينك » (٢) عامّ.

قلنا : « وجبت أُخوّته » في الاولى ، و : « شهادته مقبولة » في الثانية ، يخصّصه ، سيّما مع مسبوقيّة قوله في الثانية بقوله : « من ولد على الفطرة » أولاً ، وتعقّبه بقوله : « من اغتاب مؤمناً » آخراً.

والمحصّل : أنّ العدالة التي هي مصطلح أهل الأخلاق في غير المسلم ممكنة التحقّق ؛ وكذا عدالة أهل كلّ دين عند أهله ، إذا أرادوا من العدالة : اجتناب المحرّمات والإتيان بالواجب بحسب دينهم ، ونحن لا نعلم أنّ لهم أيضاً عدالة أو اصطلاحاً فيها أم لا ؛ وكذا إن أُريد إثبات العدالة بهذا المعنى لهم عندنا.

أمّا كون العدالة التي اعتبرها شارعنا المقدّس وهي كون اجتناب أهل كلّ دين عمّا هو محرّم عندهم فلم تثبت عندنا ، فلا يمكن الحكم بعد التهم بهذا المعنى ، وإن لم يمكن الحكم بالفسق أيضاً إذا كان مطيعاً لله بحسب دينه ، باذلاً جهده في تحقيق الدين.

فإن قيل : قال الله سبحانه ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (٣) ، فيكون كلّ كافر فاسقاً.

__________________

(١) في ص ٧٦.

(٢) أمالي الصدوق : ٩١ ، ٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٥ أبواب الشهادات ب ٤١ ح ١٣.

(٣) المائدة : ٤٧.

١٠٠