مستند الشّيعة - ج ١٨

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٨

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-204-0
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٤٥

الطهارة السابقة كافية عن الطهارة الحاليّة وقسيم لها ، ولا مدلول أخبار سوق المسلم ويده أنّهما قسيمان يدلاّن على التذكية وكافيان عنها ، حتى لو علم انتفاء الطهارة الحاليّة والتذكية يكفيان عنهما. بل مدلولهما : أنّ ما لم يعلم رفع طهارته السابقة فهو محكوم بالطهارة الحاليّة شرعاً ، والمأخوذ عن يد المسلم محكوم بكونه مذكّى. فلا تنافي بين هذه الأخبار وأخبار شرطيّة طهارة الثوب وتذكية الجلد.

والموضوعات في تلك الأخبار ليست أُموراً قسيمة للعدالة بدلاً عنها في ترتّب قبول الشهادة ، بل هي معرِّفات لها وكاشفات عنها ، فإنّ الأصل في مثل ذلك وإن كانت البدليّة والقسيميّة كما بيّناه في عوائد الأيّام إلاّ أنّا بيّنا أيضاً أنّه قد يحكم بالمعرفة الشرعيّة بالدليل أيضاً ؛ والدليل عليه إمّا نصّ ، أو إجماع ، أو قرينة.

ومن القرائن الدالّة عليها : اشتراط عدم ظهور خلاف الأمر الأول مع الثاني أيضاً ، فإنّ العرف يفهم حينئذٍ أنّ الأمر الثاني بدل عن العلم بالأول لا عنه نفسه ، وأنّ مع الأمر الثاني يحكم شرعاً بتحقّق الأول أيضاً.

ومن القرائن أيضاً : أن يستند ترتّب الحكم على الثاني إلى الأخذ بظاهر الحال ، فإنّه يدلّ على أنّ العلّة للحكم ليس الأمر الثاني فقط ، وإلاّ لكان الاستناد إلى ظاهر الحال لغواً ، بل هي أمر يظهر من الأمر الثاني بشهادة الحال.

وقد دلّ النصّ والإجماع والقرائن فيما نحن فيه على أنّ كفاية موضوعات تلك الأخبار إنّما هي لأجل أنّها معرِّفة للعدالة شرعاً.

أمّا النصّ ، فهو رواية سلمة بن كهيل ، الواردة في مخاطبة شريح في آداب القضاء : « واعلم أنّ المسلمين عدولٌ بعضهم على بعض ، إلاّ مجلوداً‌

٦١

في حدٍّ لم يتب منه ، أو معروفاً بشهادة زور ، أو ظنيناً » (١) الحديث.

والمرويّ في عرض المجالس للصدوق ، عن الصادق عليه‌السلام : يا بن رسول الله ، أخبرني ، عمّن تقبل شهادته ومن لم تقبل ، فقال : « يا علقمة ، كلّ من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته » إلى أن قال : « فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً ، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان ، فهو من أهل العدالة والسرّ ، وشهادته مقبولة وإن كان في نفسه مذنباً » (٢).

فإنّ هذين الخبرين ظاهران في أنّ ظاهر الإسلام والتوبة مع عدم معروفية الفسق معرِّف للعدالة ، وأنّ كفايته لأجل كشفه عن العدالة الشرعيّة ، وكون المتّصف به عدلاً شرعاً.

وأمّا الإجماع ، فلأنّ كلّ من اكتفى في الشهادة بظاهر الإسلام مع عدم ظهور الفسق صرّح باشتراط العدالة ، وبأنّ الأصل في المسلم العدالة كما مرّ.

وأمّا القرائن ، فللتصريح في صحيحة حريز ورواية العلاء (٣) بانضمام عدم معرفة الفسق منه. وقد عرفت أنّه قرينة على المعرّفيّة.

ولمرسلة يونس : عن البيّنة إذا أُقيمت على الحقّ ، أيحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ فقال : « خمسة أشياء يجب أن يأخذوا فيها بظاهر الحال : الولايات ، والمناكح ، والمواريث ، والذبائح ، والشهادات ، فإذا كان ظاهره ظاهراً مأموناً جازت شهادته ، ولا يُسأل عن باطنه » (٤).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٢ ، ١ ، الفقيه ٣ : ٨ ، ١٠ ، التهذيب ٦ : ٢٢٥ ، ٥٤١ ، الوسائل ٢٧ : ٢١١ أبواب آداب القضاء ب ١ ح ١.

(٢) أمالي الصدوق : ٩١ ، ٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٥ أبواب الشهادات ب ٤١ ح ١٣ ؛ وفيهما : والستر ، بدل : والسرّ.

(٣) المتقدّمتين في ص ٥٧.

(٤) الفقيه ٣ : ٩ ، ٢٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٢ أبواب الشهادات ب ٤١ ح ٣ ، بتفاوت.

٦٢

وقد عرفت أنّ ذكر ظاهر الحال قرينة على إرادة المعرّفيّة ، سيّما مع ذكر الذبائح أيضاً ، فإنّ الأمر فيها على المعرّفيّة قطعاً.

هذا ، مع أنّه على فرض التعارض أيضاً يكون الترجيح لأخبار العدالة ؛ لموافقة الكتاب ، ومطابقة عمل الأصحاب.

فرع : اشتراط العدالة في قبول الشهادة يشمل النساء أيضا فيما تقبل فيه شهادتهن ؛ لرواية جابر المتقدّمة (١) ، مع عدم القول بالفصل.

ولا ينافيه ما يأتي من رواية عبد الكريم بن أبي يعفور (٢) المعلّقة قبول شهادتهن على أوصافٍ مخصوصة ؛ لاحتمال كون هذه الأوصاف عدالة النساء كما ذكره جماعة (٣) ، ولولاه لكانت الرواية أعمّ مطلقاً من حديث العدالة ، فلتخصّص به.

وهل يشمل الصبيان فيما تقبل فيه شهادتهم إن قلنا بتحقّق العدالة؟.

قيل : لا دليل على الاشتراط ، وإطلاق روايات قبول شهادة المملوك إذا كان عدلاً (٤) ممنوع ؛ لكونه في مقام بيان حكم آخر.

وقد يقال بالاشتراط ؛ لإطلاق بعض الروايات ، وحيث نقول بعدم تحقّق العدالة المعتبرة في الشهادة في الصبي كما يأتي يسقط هذا البحث عنّا.

نعم ، يمكن اشتراط الائتمان من الكذب فيهم ؛ للتعليل الوارد في موثّقة محمّد ، المتقدّمة في مسألة اشتراط البلوغ (٥).

__________________

(١) في ص ٥٣.

(٢) التهذيب ٦ : ٢٤٢ ، ٥٩٧ ، الإستبصار ٣ : ١٣ ، ٣٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٨ أبواب الشهادات ب ٤١ ح ٢٠.

(٣) منهم الشيخ في النهاية : ٣٢٥ ، العلاّمة في المختلف : ٧٠٤ ، الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٧٩.

(٤) انظر الوسائل ٢٧ : ٣٤٥ أبواب الشهادات ب ٢٣.

(٥) راجع ص ١١.

٦٣

البحث الثاني

في بيان حقيقتها وكيفيّة معرفتها‌

وفيه مسائل :

المسألة الأُولى : قيل : اختلفوا في معنى العدالة ، هل هي ظاهر الإسلام مع عدم ظهور فسق ، أو حسن الظاهر ، أو الملكة ، أي الهيئة الراسخة في النفس الباعثة لها على ملازمة التقوى والمرّوة (١)؟ انتهى.

وقد يقال : إنّ ذلك خطأ من قائله ، فإنّ من قال بحسن الظاهر أو ظاهر الإسلام قال : إنّه طريق معرفتها لا أنّه نفسها ، وهو الظاهر من البيان والدروس والذكرى.

حيث قال في الأول في بحث صلاة الجماعة ـ : وجوّز بعض الأصحاب التعويل في العدالة على حسن الظاهر ، وقال ابن الجنيد : كلّ المسلمين على العدالة حتى يظهر خلافها ، ولو قيل باشتراط المعرفة الباطنة أو شهادة عدلين كان قوّياً (٢).

وقال في الثاني في بحث الجماعة أيضاً : وتُعلَم العدالة بالشياع ، والمعاشرة الباطنة ، وصلاة عدلين خلفه ، ولا يكفي الإسلام في معرفة العدالة خلافاً لابن الجنيد ، ولا التعويل على حسن الظاهر على الأقوى (٣).

وقريبٌ ممّا ذكر في الذكرى ، وفيها علّل اكتفاء من يكتفي بحسن‌

__________________

(١) انظر الرياض ٢ : ٣٩٠.

(٢) البيان : ١٣١.

(٣) الدروس ١ : ٢١٨.

٦٤

الظاهر بعسر الاطّلاع على البواطن (١).

وكذا هو الظاهر من صاحب الكفاية ، حيث قال : الحكم بالعدالة هل يحتاج إلى التفتيش والخبرة والبحث عن البواطن ، أم يكفي الإسلام وحسن الظاهر ما لم يثبت خلافه؟

الأقوى : الثاني (٢).

وأصرح منها كلام الكركي في الجعفريّة ، حيث قال : وطريق معرفة العدالة ما مرّ ، وصلاة عدلين خلفه ، ولا يكفي الإسلام ، ولا التعويل على حسن الظاهر على الأصحّ (٣).

وقال والدي العلاّمة قدس‌سره في المعتمد : لم نعثر على مصرّحٍ من المشاهير بكون العدالة في عرف الشرع أحدهما. انتهى.

وكلام العاملي في بحث [ شهادات (٤) ] المسالك كالصريح في ذلك أيضاً ، حيث قال : والكلام في العدالة يتوقّف على أمرين ، أحدهما : ما به تثبت ، والثاني : ما به تزول ، فالأول قد تقدّم البحث فيه في القضاء ، وأنّه هل يحكم بها للمسلم من دون أن يعلم منه الاتّصاف بملكتها ، أم لا بدّ من اختباره أو تزكيته (٥)؟

أقول : قد نسبوا القول بكون العدالة ظاهر الإسلام إلى الشيخ في المبسوط والخلاف والإسكافي والمفيد (٦).

__________________

(١) الذكرى : ٢٦٧.

(٢) كفاية الأحكام : ٢٧٩.

(٣) الرسالة الجعفريّة ( رسائل المحقق الكركي ١ ) : ١٢٦.

(٤) في « ح » و « ق » : قضاء والصحيح ما أثبتناه.

(٥) المسالك ٢ : ٤٠١.

(٦) نسبه إليهم في الحدائق ١٠ : ١٨ ، والرياض ٢ : ٣٩٠.

٦٥

أمّا كلام المبسوط فهو أنّه قال : العدالة في اللغة : أن يكون الإنسان متعادل الأحوال متساوياً.

وفي الشريعة : هو من كان عدلاً في دينه ، عدلاً في مروّته ، عدلاً في أحكامه.

والعدل في الدين : أن يكون مسلماً ، لا يُعرَف منه شي‌ءٌ من أسباب الفسق.

وفي المروّة : أن يكون مجتنباً للأُمور التي تسقط المروّة ، مثل : الأكل في الطرقات ، ومدّ الرجلين بين الناس ، ولبس الثياب المصبّغة.

وفي الأحكام : أن يكون بالغاً عاقلاً.

فمن كان عدلاً في جميع ذلك قبلت شهادته.

ثم قال ما ملخّصه : فإن ارتكب شيئاً من الكبائر سقطت شهادته ، فأمّا إن كان مجتنباً للكبائر ومواقعاً للصغائر فإنّه يعتبر الأغلب من حاله (١). انتهى.

وقال فيه أيضاً : إن عرف عدالتهما حكم بشهادتهما ، وإن عرفهما فاسقين ظاهراً أو باطناً لم يحكم ، وإن لم يعرفهما ، بل جهل حالهما ـ فالجهل على ضربين ، أحدهما : لا يعرفهما أصلاً ، والثاني : أن يعرف إسلامهما دون عدالتهما لم يحكم بشهادتهما حتى يبحث عن عدالتهما.

إلى أن قال ما ملخّصه : وبه قال قومٌ إن كان في قصاصٍ أو حدّ ، وإن كان غير ذلك حكم بشهادتهما بظاهر الحال ، ولم يبحث عن عدالتهما بعد أن يعرف إسلامهما ، إلاّ أن يقول المحكوم عليه : هما فاسقان ، فحينئذٍ‌

__________________

(١) المبسوط ٨ : ٢١٧.

٦٦

لا يحكم حتى يبحث ، فإذا عرف العدالة حكم ، وإذا حكم بشهادتهما بظاهر العدالة عنده بعد حكمه فلو ثبت أنّهما كانا فاسقين حين الحكم بشهادتهما لم ينقض الحكم ، والأول أحوط عندنا (١). انتهى.

قال في المختلف بعد حكايته : وهو يعطي ترجيح ما قاله المفيد (٢). أي وجوب الاستزكاء ، كما مرّ في البحث الأول.

وأمّا كلامه في الخلاف فقد مرّ في صدر البحث الأول (٣).

وأمّا المفيد فقال : العدل من كان معروفاً بالدين ، والورع عن محارم الله تعالى (٤).

وقال أيضاً ما سبق كما حكاه عنه في المختلف ما ملخّصه : إنّه إذا شهد عند الحاكم من لا يخبر حاله ، وكان على ظاهر العدالة ، يكتب شهادته ، ولم ينفذ الحكم بها حتى يثبت أمره ، فإن عرف له ما يوجب جرحه أو التوقّف في شهادته لم يمض الحكم بها ، وإن لم يعرف شيئاً ينافي عدالته وإيجاب الحكم لم يتوقّف (٥). انتهى.

قال في المختلف بعد نقله : وهو يعطي وجوب الاستزكاء في جميع الأحكام (٦).

وأمّا الإسكافي فقد سبق كلامه في البحث الأول ، وقال أيضاً : إذا كان الشاهد حرّاً ، بالغاً ، مؤمناً ، بصيراً ، معروف النسب ، مرضيّاً ، غير مشهور‌

__________________

(١) المبسوط ٨ : ١٠٤.

(٢) المختلف : ٧٠٤.

(٣) الخلاف ٢ : ٥٩١.

(٤) المقنعة : ٧٢٥.

(٥) المقنعة : ٧٣٠.

(٦) المختلف : ٧٠٤.

٦٧

بكذب في شهادة ، ولا بارتكاب كبيرة ، ولا مقام على صغيرة ، حسن التيقّظ ، عالماً بمعاني الأقوال ، عارفاً بأحكام الشهادة ، غير معروف بحيف على معامل ، ولا متهاون بواجب من علم أو عمل ، ولا معروف بمعاشرة أهل الباطل ، ولا الدخول في جملتهم ، ولا بالحرص على الدنيا ، ولا بساقط المروّة ، بريئاً من أهواء أهل البدع التي توجب على المؤمنين البراءة من أهلها ، فهو من أهل العدالة المقبول شهادتهم (١). انتهى.

قال في المختلف بعد حكايته : وظاهر كلامه موافقة الشيخ في المبسوط (٢).

ثم أقول : أمّا كلام المبسوط فما حكي عنه أولاً وإن أفاد أنّ العدل في الدين هو أن يكون مسلماً لا يُعرَف منه فسق ، ولكن صرّح بأنّ العدالة المعتبرة في الشاهد ليست ذلك فقط ، بل أن يكون مع ذلك بالغاً عاقلاً ، مجتنباً عن منافيات المروّة.

وظاهر ذلك وإن أفاد أنّ نفس العدالة ذلك إلاّ أنّ ما نقل عنه بعد ذلك صريح في أنّ العدالة غير ذلك ، وإن كان يكتفى في الحكم بها بذلك.

فإنّ قوله : والثاني : أن يعرف إسلامهما دون عدالتهما لم يحكم بشهادتهما حتى يبحث عن عدالتهما.

وقوله : وإن كان غير ذلك حكم بشهادتهما بظاهر الحال ولم يبحث عن عدالتهما بعد أن يعرف إسلامهما.

وقوله : إلاّ أن يقول المحكوم عليه هما فاسقان.

وقوله : فلو ثبت أنّهما كانا فاسقين حين الحكم.

__________________

(١) نقله عنه في المختلف : ٧١٧.

(٢) المختلف : ٧١٨.

٦٨

صريحةٌ في مغايرة العدالة مع ظاهر الإسلام وعدم ظهور الفسق.

ولذا صرّح الفاضل بعد نقله عنه : أنّه يعطي ترجيح ما قاله المفيد ، أي ما نقله عنه قبل ذلك ، وقال : إنّه يعطي وجوب الاستزكاء.

وممّا ذكرنا يظهر ظهور المحكيّ عن الخلاف أيضاً في المغايرة (١) ، ويدلّ عليه أيضاً قوله : وأيضاً الأصل في المسلم العدالة (٢). فإنّها لو كانت نفس ظاهر الإسلام لم يصحّ جعل العدالة أصلاً فيه ، بل يكون نفسه.

وأمّا كلام المفيد ، فأول ما نقلنا عنه صريح في المغايرة وإن العدالة هي المعروفيّة بالدين والورع عن محارم الله.

وكلامه الثاني وإن تضمّن قوله : وإن لم يعرف شيئاً ينافي عدالته لم يتوقّف ، ولكن مع ذلك متضمّن لما يصرّح بالمغايرة ، حيث حكم بوجوب البحث مع كونه على ظاهر العدالة ، ولذا قال الفاضل بعد نقله : إنّه يعطي وجوب الاستزكاء.

وأمّا كلام الإسكافي ، فكلامه الأول المتقدّم في المسألة الاولى لا يدلّ على كون العدالة ظاهر الإسلام مع عدم ظهور الفسق أصلاً ، بل هو إلى الدلالة إلى المغايرة أظهر.

وكلامه الثاني : على أنّ من كان حرّا ، بالغاً ، مؤمناً ، بصيراً مرضيّاً ، غير معروف بفسق ، بريئاً من أهواء أهل البدع ، فهو من أهل العدالة. وأين ذلك من ظاهر الإسلام؟! فإنّه يتضمّن اشتراط الإيمان وكونه مرضيّاً وبريئاً من أهواء أهل البدع.

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٥٩١.

(٢) الخلاف ٢ : ٥٩٢.

٦٩

وقد عرفت ما ذكره الإمام في تفسيره في معنى الرضاء (١).

وظهر ممّا ذكرنا أنّ القول بكون العدالة هي ظاهر الإسلام مع عدم ظهور الفسق ممّا لم يظهر قائل به ، ونسبته إلى من نسب إليه غير جيّدة.

وأمّا حسن الظاهر ، فالظاهر أنّه هنا في قبال حسن الباطن ، والمراد من حسن الباطن : هو ملكة الإتيان بالأفعال الحسنة والاجتناب عن القبيحة حتى تكون سريرته حسنة ، فحسن الظاهر : كون ظاهره ظاهراً حسناً ، فتظهر منه الأفعال الحسنة ، ويجتنب القبائح ظاهراً من غير معرفة بباطنه وسريرته. فيتّحد حسن الظاهر مع العدالة ، بمعنى الملكة في الآثار الظاهرة ، ويختلفان بالحقيقة ، فيكون ظهور هذه الآثار أو نفسها عدالةً على القول بحسن الظاهر ، ومبدؤها ومنشأها يكون هي العدالة على القول بالملكة.

ثم إنّا لم نعثر من المتقدّمين على الفاضلين من ذكر ذلك بهذا العنوان ، أي عنوان حسن الظاهر.

نعم ، ذكره المحقّق في الشرائع (٢) والفاضل في بعض كتبه كالإرشاد وغيره (٣) من غير ارتضائهما به ، وذكره جمع ممّن تأخّر [ عنهما (٤) ] أيضاً (٥).

إلاّ أنّه يوجد في كلمات جمع من الأوائل ما لا يأبى عن حمله عليه ظاهراً ، كما سبق في كلام المفيد ، وقول الشيخ في النهاية ، قال : العدل‌

__________________

(١) راجع ص ٢٤ و ٢٦.

(٢) الشرائع ٤ : ٧٦.

(٣) الإرشاد ٢ : ١٤١ ، القواعد ٢ : ٢٠٥.

(٤) في « ح » و « ق » : عنده ، والأنسب ما أثبتناه.

(٥) كصاحب المدارك ٤ : ٦٦ ، والذخيرة : ٣٠٥ ، والحدائق ١٠ : ٢٣.

٧٠

الذي يجوز قبول شهادته للمسلمين وعليهم هو أن يكون ظاهره ظاهر الإيمان ، ثم يعرف بالستر والصلاح والعفاف والكفّ عن البطن والفرج واليد واللسان ، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار.

إلى أن قال : الساتر لجميع عيوبه ، ويكون متعاهداً للصلوات الخمس ، مواظباً عليهن ، حافظاً لمواقيتهن ، متوافراً على حضور جماعة المسلمين ، غير متخلّف عنهم إلاّ لمرض أو علّة أو عذر (١).

والحلبي قال : يثبت حكم العدالة بالبلوغ وكمال العقل ، والإيمان ، واجتناب القبائح أجمع والظنّة والعداوة والحسد والمناقشة (٢).

والقاضي قال : العدالة معتبرة في صحّة الشهادة على المسلم ، وتثبت في الإنسان بشروط ، وهي : البلوغ ، وكمال العقل ، والحصول على ظاهر الإيمان ، والستر ، والعفاف ، واجتناب القبائح ، ونفي التهمة والظنّة والحسد والعداوة (٣).

وابن حمزة قال : فالعدالة في الدين : الاجتناب عن الكبائر ، وعن الإصرار على الصغائر (٤).

والحلّي قال : فالعدل في الدين أن لا يخلّ بواجب ، ولا يرتكب قبيحاً ، وقيل : لا يعرف بشي‌ء من أسباب الفسق ، وهذا قريب أيضاً (٥). انتهى.

__________________

(١) النهاية : ٣٢٥.

(٢) الكافي في الفقه : ٤٣٥ ، وفي « ق » وما نقله عنه في المختلف : ٧١٧ : المنافسة ، بدل : المناقشة.

(٣) المهذّب ٢ : ٥٥٦.

(٤) الوسيلة : ٢٣٠.

(٥) السرائر ٢ : ١١٧.

٧١

فإنّه يمكن أن يراد من هذه الكلمات أنّه إذا كان كذلك ظاهراً يكون عادلاً ، وتكون هذه الأفعال الظاهرة هي العدالة.

ولكن الظاهر من المعروفيّة بذلك كما في كلام المفيد [ ومن ] (١) قوله : ويعرف بذلك كما في كلام النهاية أن يُعلَمَ ذلك منه ، وحسن الظاهر لا يكفي في العلم والمعرفة ، وكذا الورع عن المحارم ، أو اجتناب القبائح أو الكبائر. ونحوها ممّا وقع في كلمات الباقين حقائق في تحقّق هذه الأُمور واقعاً ، ومجرّد الحصول في الظاهر لا يكفي فيه ، فالمستفاد من هذه الكلمات أيضاً أمر زائد على حسن الظاهر ، فهو أيضاً كظاهر الإسلام ممّا لم يُعلَمْ قائل بكفايته بخصوصه من القدماء ، بل المتوسّطين ، فكيف عن كونه نفس العدالة؟!

ويمكن أن يكون المراد من الظاهر : المحسوس مقابل غير المحسوس الذي هو الملكة ، فيكون المراد : أنّ العدالة هي هذه الأفعال المحسوسة وإن لم يكن منشؤها الملكة. ولا ينافي اشتراط العلم والمعرفة بها ؛ لعدّها عدالة ، فيكون المراد : أنّه يجب أن تعرف منه هذه الأعمال حتى يحكم بعدالته ؛ لأنّها هي العدالة.

نعم ، ورد هذا العنوان في عبارات جمع من المتأخّرين (٢) مضطرباً بين عدّه دليل العدالة وطريق معرفته كما هو ظاهر الأكثر أو نفسها.

ويمكن أن يكون المراد منه أيضاً : الظاهر المقابل للواقع ونفس الأمر ، وأن يراد منه المحسوس ؛ وكيف كان لم يظهر من أحد القول بأنّه هو العدالة.

__________________

(١) في « ح » و « ق » : من ، والأنسب ما أثبتناه.

(٢) منهم الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٣٦١.

٧٢

وقال والدي العلاّمة قدس‌سره في المعتمد بعد ما قال أولاً : إنّ حسن الظاهر أو ظاهر الإسلام لا يكفي لطريق معرفة العدالة ؛ لعدم استلزامهما لدليل العدالة حتى يعلم ثبوته بثبوتهما ونعْمَ ما قال ـ : إنّ هذا الاكتفاء إما لكونهما دليل العدالة كما يومئ إليه بعض الظواهر فقد ظهر فساده.

أو نفسهما ، فهو خلاف ما ثبت في عرف الشريعة والحكمة ، بل الظاهر مخالفته للإجماع ؛ إذ لم نعثر على مصرّح من المشاهير بكون العدالة في عرف الشرع أحدهما.

أو لعدم اشتراطهما في الشاهد ومثله ، وكفاية أحدهما في قبول الشهادة وإن لم يكن عدالة ولا دليلاً لها ، فهو خلاف النصّ القرآن والإجماع القطعي ، بل الضرورة. انتهى ملخّصاً.

وأمّا الملكة التي تبعث على ملازمة التقوى والمروّة ، واجتناب الكبائر والأفعال الرذيلة فهي الراجعة إلى العدالة في عرف علماء الأخلاق ، حيث عرّفوها : بأنّها هيئة نفسانيّة يقتدر بها على تعديل جميع الصفات والأفعال ، وردّ الزائد والناقص إلى الوسط ، وانكسار سورة التخالف بين القوى المتخالفة.

وبتقرير آخر : ملكة يقتدر بها العقل العملي على ضبط جميع القوى تحت إشارة العقل النظري.

ووجه الرجوع : أنّ ارتكاب المعاصي أو مخالفة المروّة إنّما ينشأ عن مخالفة القوّة العمليّة أوامر العقل النظري ، وإلاّ لما ارتكب إلاّ ما يشير إليه ، وهو لا يشير إلاّ إلى ملازمة التقوى والمروّة ، فجميع الفضائل النفسانيّة والأعمال الظاهريّة مرتّبة على العدالة.

ولذا قال أفلاطون : العدالة إذا حصلت للإنسان أشرق بها كلّ واحد‌

٧٣

من أجزاء نفسه ، ويستضي‌ء بعضها من بعض ، فينتهض حينئذٍ لفعلها الخاصّ على أفضل ما يكون ، فيحصل لها غاية القرب إلى مبدئها سبحانه. انتهى.

ثم كلام القدماء من فقهاء أصحابنا في تفسير العدالة الشرعيّة خالٍ عن ذكر الملكة ، كما سمعت شطراً منها.

نعم ، هو المشهور بين المتأخّرين من زمان المحقّق إلى زماننا هذا ، وبها فسّرت في أكثر كتبهم ، كما في المختلف والقواعد والإرشاد والتحرير وتهذيب الاصول ونهاية الأُصول والإيضاح ومنية المريد والدروس والذكرى والتنقيح والروضة وروض الجنان وجامع المقاصد والمعالم وتجريد الأُصول وأنيس المجتهدين والمعتمد ورياض المسائل (١) ، وغيرها.

وفي مجمع الفائدة : إنّه هو المشهور في الفروع والأُصول (٢).

وفي كشف الرموز : إنّ تعريفها بذلك مشهور بين العامّة والخاصّة في الفروع والأُصول.

وعزاه في التنقيح إلى الفقهاء (٣). وبه عرّفها الغزالي والعضدي والآمدي (٤). بل الظاهر أنّ القدماء أيضاً وإن لم يصرّحوا بلفظ الملكة ولكنّهم أرادوها من نحو قولهم : الورع عن محارم الله ، والستر والعفاف ،

__________________

(١) المختلف : ٧١٨ ، القواعد ٢ : ٢٣٦ ، الإرشاد ٢ : ١٥٦ ، التحرير ٢ : ٢٠٨ ، الإيضاح ٤ : ٤٢٠ ، الدروس ٢ : ١٢٥ ، الذكرى : ٢٣٠ ، التنقيح ٤ : ٢٨٩ ، الروضة ١ : ٣٧٨ ، روض الجنان : ٢٨٩ ، جامع المقاصد ٢ : ٣٧٢ ، معالم الأُصول : ٢٠١ ، الرياض ٢ : ٣٩١.

(٢) مجمع الفائدة ٢ : ٣٥١.

(٣) لم نعثر عليه في التنقيح ، ولكنه موجود في كنز العرفان ٢ : ٣٨٤.

(٤) الغزالي في المستصفى ١ : ١٥٧ ، العضدي في شرح المختصر : ١٦٧ ، الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣٠٨.

٧٤

والكفّ والاجتناب عن الكبائر والقبائح ، وعدم الإخلال بالواجب ، فإنّ المتفاهم عرفاً من هذه العبارات إرادة ملكة هذه الأُمور.

فإنّ من قال : اشتر عبداً كاتباً قارئاً بشّاشاً ، لا يفهم منه إلاّ صاحب ملكات هذه الصفات لا نفس الفعل.

بل وكذا لو قال : اشتر عبداً ورعاً عفيفاً مجتنباً عن مخالطة الأراذل ، أو قال : لا تجالس إلاّ غير مخلّ بالواجب ، ونحو ذلك ، لا يفهم منه عرفاً غير ذي الملكات ، بل لولاه لكان المراد إمّا المتلبّس بهذه الآثار دائماً ، أو أغلبيّاً ؛ ضرورة عدم إرادة مجرّد التلبّس حال الشهادة.

والمتلبّس بها دائماً أو غالباً لا ينفكّ عن الملكة ؛ لأنّها مسبّبة عن تكرّر الآثار ، مع أنّا نعلم قطعاً أنّهم لا يعدّون مطلق الملبس بها ولو دائماً ، حتى الذي كان تلبّسه لأجل مانع من الترك ، كعدم التمكّن من شرب الخمر أو الزنا ؛ لعدم الانفكاك عمّن يراقبه ، أو عدم تركه الصلاة لأجل مخالطة الناس ، ولولاه لترك عادلاً قطعاً ، ما لم يكن ذلك من جهة نفسانيّة ، فيكون مرادهم ملكة هذه الآثار قطعاً.

نعم ، تختلف كلماتهم فيما تضاف إليه الملكة ، فمنهم من عبّر بملكة الورع (١) ، ومنهم من عبّر بملكة الاجتناب عن الكبائر والإصرار على الصغائر (٢) ، ومنهم من عبّر بملكة عدم الإخلال بالواجب وعدم ارتكاب القبائح (٣) ، ومنهم من عبّر بملكة التقوى (٤) ، إلى غير ذلك. ومرجع الكلّ إلى أمر واحد.

__________________

(١) قال المفيد في المقنعة : ٧٢٥ ، والعدل من كان معروفاً بالدين والورع عن محارم الله عزّ وجلّ.

(٢) كالشيخ حسن في معالم الأُصول : ٢٠١.

(٣) كالقاضي في المهذّب ٢ : ٥٥٦ ، وابن إدريس في السرائر ٢ : ١١٧.

(٤) كالعلاّمة في القواعد ٢ : ٢٣٦ ، والمقداد في التنقيح ٤ : ٢٨٩ والأردبيلي في مجمع الفائدة ٢ : ٣٥١.

٧٥

وعلى هذا ، فيكون تفسير العدالة بالملكة هو المشهور بين القدماء والمتأخّرين ، بل هو المجمع عليه بين الأُصوليين والفروعيين كافّة ، حتى من جعل ظاهر الإسلام دليلاً عليها.

ولو أبيت عن اتّفاقه أيضاً فلا شكّ أنّه لا يقدح في الإجماع ؛ لندرة القائل به ، فيكون كون العدالة الشرعيّة هي ملكة الآثار المذكورة ممّا انعقد عليه الإجماع أي أنّها هي إجماعاً وإن اختلفت كلماتهم في الجملة فيما تضاف إليه الملكة كما عرفت.

ولو أبيت عن ذلك أيضاً فنقول : لا شكّ ولا ريب في الإجماع على كونها عدالة ، بمعنى : أنّ ذا الملكة عادل إجماعاً أي تتحقّق له العدالة بأيّ معنى فُسّرت ـ فتكون هي القدر المشترك المجمع عليه قطعاً ، ويكون الكلام في غيرها أنّه هل تتحقّق العدالة الشرعيّة بدونها أيضاً أم لا؟

ولتحقيق المقام في ذلك المرام نقول : إنّ العدالة في اللغة : الاستواء والاستقامة ، والتوسّط بين طرفي الإفراط والتفريط. وقد تُطلَق على مقابل الجور.

وظاهرٌ أنّ معناها اللغوي لا يمكن أن يراد منها في المواضع التي جعلها الشارع شرطاً ، ولا خلاف في ذلك أيضاً ، فاللاّزم أن يمعن النظر في أنّه هل تثبت لها حقيقة شرعيّة أم لا؟

فإن ثبتت فهي المراد في كلام الشارع ، ولا حاجة إلى البحث عن المعنى الآخر ، إلاّ أن تقام قرينة في موضع أنّ المراد هنا غير الشرعي.

وإن لم تثبت فيجب البحث والفحص ثانياً في أنّه هل نصَّ الشارع أو أقام قرينة على أنّ المراد من العدالة فيما جعلها شرطاً أيّ شي‌ء هو ، أم لا؟

٧٦

فإن ظهر نصّ أو قرينة منه على مراده يجب الحمل عليه أيضاً.

وإن لم يظهر فيجب الحمل على المعنى المجازي إن اتّحد ، وعلى الأقرب الثابت وجوب الحمل عليه إن تعدّد ، سواء ثبتت لها حقيقة عرفيّة عامّة أو خاصّة أم لا ؛ لأنّ العرفيّة العامّة إنّما يحمل اللفظ عليها إذا علم تحقّقها في زمان الشارع أيضاً ، وإلاّ فتُدفَع بأصالة تأخّر الحادث.

وإن لم يكن له أقرب كذلك ، فإن كان في تلك المعاني المتعدّدة قدر مشترك فيحكم بإرادته قطعاً ، ويُنفى الباقي بالأصل إن أمكن ، وإلاّ فيدخل الإجمال في اللفظ.

وبعد ذلك نقول : إن إثبات الحقيقة الشرعيّة في لفظ العدالة مشكل ، سيّما في زمان نزول الآية وما يقرب منه.

وتعريف الفقهاء لا يفيد النقل في زمن الخطاب.

وطريق معرفة الحقيقة الشرعيّة إمّا النصّ ، أو الإجماع ، أو إثبات علامات الحقيقة في زمان الشارع.

والأخير غير متحقّق فيه وإن تحقّق في كثير من الألفاظ المتداولة.

والإجماع على الحقيقة الشرعيّة غير ثابت.

والنصوص خالية عن بيان الحقيقة فيها.

وعلى هذا ، فاللازم أولاً : الرجوع إلى الأخبار ، حتى ينظر أنّه هل بيّن الشارع مراده من العدالة ، أو أقام قرينة عليه ، أم لا؟ فإن وجد فيعمل بمقتضاه ، وإلاّ ـ فلتعدّد المجاز ، وعدم وجود ما يعيّن أحد المجازات يؤخذ بالقدر المشترك ، أو يعمل فيه بمقتضى الأُصول المقرّرة.

والأخبار التي ذكروها في هذا المقام كثيرة ، ولكن أكثرها ممّا يدلّ على اشتراط صفات في قبول الشهادة ، ولا دلالة لها على تعيين معنى‌

٧٧

العدالة أو المراد منها.

وتعليق قبول الشهادة عليها لا دلالة له على كونها عدالة ، [ كأخبار (١) قبول شهادة التائب المشار إليها في البحث الأول.

أو قبول شهادة من لا يعرف بفسق ، كصحيحة حريز ورواية العلاء المتقدّمتين فيه أيضاً.

أو شهادة من عُلِمَ منه خير ، كبعض الروايات المتقدّمة فيه أيضاً.

أو شهادة المرضيّ أو العفيف أو الصائن أو الصالح أو المأمون ، [ كبعض (٢) ] الأخبار المتقدّمة في صدر مسألة اشتراط البلوغ.

مع أنّ في المراد من أكثرها إجمالاً لا يتعيّن فيه معنى خاصّ ، ولو تعيّن أيضاً فليس إلاّ بعض ما اشتمل عليه الصحيح الآتي ، فيجب اعتبار الباقي أيضاً حملاً للمطلق على المقيّد.

والأخبار التي تتضمّن بيان معنى العدالة منحصرة في أربعة : روايتا سلمة بن كهيل وعرض المجالس المتقدّمتين (٣).

وموثّقة سماعة : « من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدّثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، كان ممّن حرمت غيبته ، وظهر عدله ، ووجبت اخوّته » (٤).

وصحيحة ابن أبي يعفور : بِمَ تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال : « أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن‌

__________________

(١) ] في « ح » : فأخبار ، وهي ساقطة عن « ق » ، والأنسب ما أثبتناه.

(٢) في « ح » و « ق » : لبعض ، والأنسب ما أثبتناه.

(٣) في ص ٥٩.

(٤) الكافي ٢ : ٢٣٩ ، ٢٨ ، الوسائل ٨ : ٣١٥ أبواب صلاة الجماعة ب ١١ ح ٩.

٧٨

والفرج واليد واللسان ، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار ، من شرب الخمر ، والزنا ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وغير ذلك ، والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه ، حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه ، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس ، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ وحفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين ، وأن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلاّهم إلاّ من علّة ، فإذا كان كذلك لازماً لمصلاّه عند حضور الصلوات الخمس ، فإذا سُئل عنه في قبيلته ومحلّته قالوا : ما رأينا منه إلاّ خيراً ، مواظباً على الصلوات ، متعاهداً لأوقاتها في مصلاّه ، فإنّ ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين ، وذلك أنّ الصلاة ستر وكفّارة للذنوب ، وليس يمكن الشهادة على رجل بأنّه يصلي إذا كان لا يحضر مصلاّه ويتعاهد جماعة المسلمين ، وإنّما جعل الجماعة والاجتماع إلى الصلاة لكي يُعرَفَ من يصلّي ممّن لا يصلّي ، ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممّن يضيع ، ولو لا ذلك لم يمكن أحد أن يشهد على آخر بصلاح ؛ لأنّ من لا يصلّي لإصلاح له بين المسلمين ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم همّ بأن يحرق قوماً في منازلهم لتركهم الحضور لجماعة المسلمين ، وقد كان فيهم من يصلّي في بيته فلم يقبل منه ذلك ، وكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممّن جرى الحكم من الله عزّ وجلّ ومن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه الحرق في جوف بيته بالنار؟! » إلى أن قال : « ومن رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غيبته ، وسقطت بينهم عدالته » إلى أن قال‌

٧٩

« ومن لزم جماعتهم حرمت عليهم غيبته ، وثبتت عدالته بينهم » (١).

وبيان معنى الحديث : أنّه لمّا سُئل عمّا تعرف به عدالة الرجل ، فأجاب عليه‌السلام بمعرفة كونه أهل الستر والعفاف ، وكفّ الجوارح الأربع ، ومجتنباً عن الكبائر. ولمّا كان في معرفة ذلك خفاء لكونها في غاية الصعوبة فبيّن ثانياً أنّ الدليل على ذلك والسبيل إلى معرفته كونه ساتراً لجميع عيوبه ، متعاهداً للصلوات الخمس وحفظ مواقيتهن ، وحضور جماعة المسلمين ، غير متخلّف عن جماعتهم.

ثم بقي شيئان :

أحدهما : أنّ ستر العيوب والاجتناب المشترط في العدالة إلى أيّ حدّ يلزم؟ فإنّه هل يلزم أن يكون ساتراً لمن له معاشرة ومصاحبة وخلطة ، أو كلّ من لم يكن عالماً بعيوبه لأجل ستره ولو في مدّة قليلة؟ وكذا مواظبته وتعاهده للصلاة ، فإنّه هل يكفي مجرّد رؤيته لازماً لمصلاّه في مدّة قليلة وزمان يسير ، أو يستدعي الحكم بالعدالة أكثر من ذلك؟ فبيّن عليه‌السلام : بأنّ مجرّد الرؤية لا يكفي في ذلك ، بل ينبغي أن يكون لازماً للمصلّي ، ومع ذلك إذا سُئل في قبيلته وأهل محلّته ـ الذين عاشروه في مدّة طويلة واطّلعوا على بعض من خفايا أمره يشهدوا بهذين الأمرين.

وثانيهما : أنّه عليه‌السلام حكم أولاً بأنّ العدالة تعرف بالستر والكفّ واجتناب الذنوب ، ثم جعل دليل ذلك التعاهد للصلوات ، وكان وجه ذلك خفيّاً ، فبيّنه عليه‌السلام بقوله : « وذلك أنّ الصلاة ستر » أي دافع وحاجز وكفّارة‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٢٤ ، ٦٥ ، التهذيب ٦ : ٢٤١ ، ٥٩٦ ، الإستبصار ٣ : ١٢ ، ٣٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩١ أبواب الشهادات ب ٤١ ح ١ و ٢ ، بتفاوت.

٨٠