مستند الشّيعة - ج ١٨

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٨

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-204-0
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٤٥

قال : « لا يجوز أن يشهدوا عليه » (١).

ويشترط في السقوط بالضرر أن يكون الضرر غير مستحقّ ، فلو كان للمشهود عليه حقٌّ على الشاهد لا يطالبه ، وتوجب شهادته المطالبة ، فلا يكفي ذلك في سقوط الوجوب ؛ لأنّه ضرر مستحقّ.

نعم ، لو لم يقدر على الأداء ، ولم يمكنه إثبات الإعسار ، ووقع بشهادته في المشقّة ، كان عذراً.

ولا يسقط أيضاً بمنع نفع متوقّع عنه كما إذا كان عنده للمشهود عليه مالُ مضاربة ينتفع بربحه ، فاستردّه بالشهادة لأنّه ليس ضرراً ، إلاّ إذا توقّفت معيشته عليه.

ومن الحرج المسقط للوجوب : سفر البحر لمن يخافه ، والسفر الطويل الموجب للتضرّر في الحضر ، أو تحمّل البرد أو الحرّ الشديد ، أو نحوها.

ب : لو احتاج الأداء أو التحمّل إلى مؤنة سفر يسقط الوجوب ؛ لأنّه ضرر ، إلاّ أن يتحمّلها المشهود له فيجب.

ج : لو أنفذ الشاهد شاهدي فرع مقبولي الشهادة على شهادته فيما تسمع فيه شهادة الفرع لا يجب عليه أداؤها بنفسه ؛ لصدق الأداء ، وعدم الكتمان.

ولا يسقط بالكتابة ولو مع ضمّ قرينة موجبة للعلم بشهادته ؛ لأنّها ليست أداء ولا مقبولة.

د : لو كان هناك شاهد واحد فقط ، وكان الحقّ ممّا يثبت بالشاهد‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٨ ، ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٦١ ، ٦٩٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣٣٩ أبواب الشهادات ب ١٩ ح ١.

٣٨١

واليمين ، وكانت اليمين ممكنة ولو بعد حين كما في الغائب والصغير وجب الأداء ؛ للعموم.

ولو لم يثبت بالشاهد واليمين ، أو لم يمكن اليمين ، فالمصرّح به في كلام جماعة : عدم الوجوب (١) ؛ لعدم الفائدة ، إلاّ مع احتمال تمام العدد.

وهل يجب لو احتمل حينئذٍ وصول بعض الحقّ بشهادته بصلح ونحوه؟

الظاهر : نعم ، للعموم.

ولو شهد أحد العدلين لا يجوز للآخر ترك الشهادة من جهة إمكان إثبات الحقّ بضمّ اليمين ؛ لأنّ في اليمين مشقّة ، وللعموم.

هـ : لو كان الشاهد فاسقاً ، فإن جوّز تأثير شهادته في الحقّ ولو بصيرورته عدد الشياع ، أو قرينة ، أو سبباً لردع المشهود عليه عن الإنكار ، أو موجباً لوصول شي‌ء من الحقّ بصلح وجب عليه الأداء ، وكذلك إن أمكن له جعل نفسه مقبول الشهادة حينئذٍ بالتوبة ؛ للعمومات ، وإلاّ لم يجب ؛ لعدم الفائدة.

ولو أمكن للفسّاق بأداء الشهادة عند حاكم الجور إيصال الحقّ إلى مستحقّه ، فصرّح بعضهم بالوجوب (٢).

ولعلّه لأجل أدلّة إعانة المظلوم ، والنهي عن المنكر ، أو لعموم وجوب أداء الشهادة.

ولكن هذا إذا لم يمكن التوصّل إلى الحقّ بنوع آخر ، ولم يكن الحاكم من الطواغيت الذين يحرم أخذ الحقّ بحكمهم.

__________________

(١) منهم الشهيد الثاني في الروضة ٣ : ١٣٩ ، صاحب الرياض ٢ : ٤٥٠.

(٢) انظر الرياض ٢ : ٤٥٠.

٣٨٢

و : لو كان هناك شاهد أو شاهدان لم يعلمه المشهود له :

فإن علم ثبوت الحقّ بعدلين آخرين لم يجب عليه شي‌ء.

ولو لم يعلم ثبوته وجب عليه الإعلام والأداء ؛ للعمومات.

وكذا في الشاهد الواحد الممكن ثبوت الحقّ به مع اليمين.

والله الموفّق والمعين.

٣٨٣

الفصل الرابع

في الشهادة على الشهادة‌

وفيه مسائل :

المسألة الأُولى : تقبل الشهادة على الشهادة ، لا بمعنى أنّها تقبل في حقّ شاهد الأصل من حيث إنّه قال كذا وكذا ؛ لأنّها ليست شهادة على الشهادة ، بل هي شهادة ، وثبت حكمها ، ودلّ على قبولها جميع العمومات المتقدّمة ، وليست عنواناً على حدة.

بل بمعنى أنّها تقبل في حقّ الأصل من حيث إنّه شاهد بكذا وكذا.

والحاصل : أنّه ليس المراد أنّها تقبل في شهادة الأصل ، بل تقبل فيما شهد به الأصل ، ألا ترى أنّهم يقولون : إنّها لا تقبل مع إمكان حضور شاهد الأصل ولا في الحدود ، فإنّه لا شكّ في أنّه يثبت بها قول شاهد الأصل بما قال ، ولو مع الإمكان ، ولو في الحدود. بل لا يقبل حينئذٍ ما شهد به الأصل ، ولا يترتّب عليه أثره فيه.

ثم الدليل على قبولها بالمعنى المراد : الإجماع القطعي في الجملة ، بل الضرورة.

وتدلّ عليه مرسلة الفقيه : « إذا شهد رجل على شهادة رجل فإنّ شهادته تقبل ، وهي نصف شهادة ، وإن شهد رجلان عدلان على شهادة رجل فقد ثبتت شهادة رجل واحد » (١).

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٤١ ، ١٣٥ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٤ أبواب الشهادات ب ٤٤ ح ٥.

٣٨٤

أي ثبتت شهادة واحد من حيث إنّها شهادة ، ويترتّب عليها حكم شاهد واحد فيما شهد به الأصل ، وبقي شاهد آخر في حقّه.

وأمّا أصل قول الأصل فهو قد ثبت تامّاً بشهادة الفرعين ، ولم تكن فائدة للتقييد بالواحد ، وذلك تصريح من الإمام بما ذكرنا من المراد.

وأيضاً يصرّح به قوله عليه‌السلام : « وهي نصف شهادة » ، أي لما شهد به الأصل ، ونصفها الآخر شهادة الفرع الآخر ، وهذه شهادة واحد لما شهد به الأصل ، ويحتاج إلى شهادة آخر ليتحقّق الشاهدان على ما شهد به الأصل ، المحتاج ثبوته إلى أربعة أنصاف.

وتدلّ عليه أيضاً رواية غياث بن إبراهيم : « إن عليّاً عليه‌السلام كان لا يجيز شهادة رجل على شهادة رجل واحد ، إلاّ شهادة رجلين على شهادة رجل » (١).

دلّت بمفهوم الاستثناء على إجازة شهادة رجلين على شهادة رجل ، أي من حيث إنّها شهادة ، فيتحقّق بها شاهد واحد على ما شهد به الأصل.

وأمّا مجرّد شهادة الأصل من حيث إنّها قوله فلا شكّ في إجازة شهادة رجل واحد فيها ، بمعنى : أنّها تقبل بواحد من الشاهدين ، كما هو المعهود من الشارع في القبول والإجازة.

يدلّ عليه جميع ما مرّ من الأخبار المجيزة لشهادة الزوج والوالد والولد والأخ (٢).

وتدلّ عليه أيضاً صحيحة محمّد على ما في الفقيه ـ : في الشهادة‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٤١ ، ١٣٦ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٣ أبواب الشهادات ب ٤٤ ح ٤.

(٢) راجع ص ٢٤٤ و ٢٥٣. وأُنظر الوسائل ٢٧ : ٣٦٦ ، ٣٦٧ كتاب الشهادات ب ٢٥ ، ٢٦.

٣٨٥

على شهادة الرجل ، وهو بالحضرة في البلد ، قال : « نعم ، ولو كان خلف سارية ، يجوز ذلك إذا كان لا يمكنه أن يقيمها هو لعلّة تمنعه من أن يحضر ويقيمها ، فلا بأس بإقامة الشهادة على الشهادة » (١).

وهذا أيضاً نصّ في أنّ المراد إثبات المشهود به الذي شهد به الأصل ، دون مجرّد شهادة الأصل.

والرضوي : « فإذا شهد رجل على شهادة رجل فإنّ شهادته تقبل ، وهي نصف شهادة ، وإذا شهد رجلان على شهادة رجل فقد ثبتت شهادة رجل واحد ، وإن كان الذي شهد عليه في مصره » (٢).

وضعف بعض هذه الأخبار لو كان مجبور بعمل الأصحاب.

وأمّا الاستدلال بعمومات قبول الشهادة كما وقع عن جمع من المتأخّرين (٣) فغير جيّد ؛ لأنّها إنّما تفيد لو كان المراد إثبات نفس ما شهد به الأصل ، وأمّا إثبات ما شهد هو به فلا ؛ إذ لا ملازمة بين ثبوت شهادة الأصل وثبوت ما شهد به ، كما في صورة إمكان الأصل ، وفي الحدود ، وفي الفرعيّة الثالثة.

ثم ها هنا أُمور ثلاثة : ما شهد به الأصل من الحقّ ، وشاهد الأصل ، وشاهد الفرع.

ومقتضى إطلاق الأخبار المذكورة بل عموم بعضها أصالة قبول الشهادة على الشهادة في الأول مطلقاً ، سواء كان ما شهد به الأصل من‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٤٢ ، ١٤١ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٢ أبواب الشهادات ب ٤٤ ح ١.

(٢) فقه الرضا « عليه‌السلام » : ٢٦١ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٤٤٢ أبواب الشهادات ب ٣٧ ح ١.

(٣) منهم الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤١٥ ، السبزواري في الكفاية : ٢٨٦ ، صاحب الرياض ٢ : ٤٥٤.

٣٨٦

حقوق الله عزّ جاره ، أو من حقوق الآدميّين.

وسواء كانت الاولى من الحدود ، أو رؤية الأهلّة ، أو الماليّة من الأوقاف العامّة ، والزكوات ، والكفّارات ، والنذور إن قلنا إنّها حقّ الله.

وسواء كانت الثانية من الأموال كالقرض ، والقراض ، والديون ، والغصب ، والإتلاف ، والوصيّة ، وغيرها أو من غير الأموال كالعقود ، والإيقاعات ، والأنكحة ، والفسوخ ، والعقوبات كالقصاص وغيره ، والطلاق ، والنسب ، والعتق ، وعيوب النساء ، والولادة ، والوكالة ، والوصاية ، وغير ذلك بل الحكم في غير الحدود ممّا لا خلاف فيه ، كما صرّح به غير واحد (١) ، بل إجماعيّ كما ذكره جماعة (٢).

وكذا الحكم في الثاني ، فتقبل الشهادة على الشهادة ، سواء كان شاهد الأصل رجلاً ، أو امرأة ، أو رجلاً وامرأة فيما تقبل فيه شهادة الامرأة ، أو صبيّاً أو ذميّاً فيما تقبل فيه شهادتهما. والظاهر أنّه إجماعيّ وإن قصرت الأخبار المذكورة عن إفادة الحكم في المرأة.

وأمّا الثالث أي شاهد الفرع فالأخبار مقصورة على الرجل ، بل مقتضى رواية غياث اختصاص شاهد الفرع المقبول شهادته بالرجال أيضاً ، وسيأتي الكلام فيه إنشاء الله سبحانه.

المسألة الثانية : يشترط أن يشهد على شهادة كلّ من الأصلين فرعان‌ عدلان إجماعاً ؛ له ، وللنصوص المتقدّمة.

__________________

(١) كالسبزواري في الكفاية : ٢٨٦ ، صاحب الرياض ٢ : ٤٥٤.

(٢) منهم الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤١٥ ، الروضة ٣ : ١٤٩ ، الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٨٤.

٣٨٧

ولا يشترط تغاير فرعي كلّ أصل لفرعي الآخر ؛ للإطلاق ، فتجوز شهادة اثنين على كلّ واحد من الأصلين ، وشهادة فرع مع أحد الأصلين على الآخر ، وبالعكس ، ونحو ذلك ، بلا خلاف أيضاً كما قيل (١) للإطلاق.

المسألة الثالثة : قد استثني من الأصل المذكور : الحدود ، فلا تقبل فيها شهادة الفرع إذا كانت من حقوق الله المحضة ، إجماعاً محكيّاً مستفيضاً (٢) ومحقّقاً.

له ، ولروايتي طلحة بن زيد وغياث بن إبراهيم :

الأُولى : عن عليّ عليه‌السلام أنّه كان لا يجيز شهادة على شهادة في حدّ (٣).

والثانية : « لا تجوز شهادة على شهادة في حدّ ، ولا كفالة في حدّ » (٤).

وكذا في الحدود المشتركة بينه تعالى وبين الآدميّين كحدّ القذف والسرقة ـ عند الأكثر ، كما في الإيضاح والمسالك والكفاية (٥) ، وعن التنقيح والروضة (٦) ، وهو مختار الفاضل في التحرير والقواعد وولده في الإيضاح (٧) ، وهو الأظهر ؛ لعموم الخبرين ، ودرء الحدود بالشبهة الحاصلة منهما.

__________________

(١) انظر الرياض ٢ : ٤٥٥.

(٢) كما في الإرشاد ٢ : ١٦٥ ، الإيضاح ٤ : ٤٤٤ ، المسالك ٢ : ٤١٦ ، الرياض ٢ : ٤٥٤.

(٣) التهذيب ٦ : ٢٥٥ ، ٦٦٧ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٤ أبواب الشهادات ب ٤٥ ح ١.

(٤) الفقيه ٣ : ٤١ ، ١٤٠ ، التهذيب ٦ : ٢٥٦ ، ٦٧١ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٤ أبواب الشهادات ب ٤٥ ح ٢.

(٥) الإيضاح ٤ : ٤٤٤ ، المسالك ٢ : ٤١٦ ، الكفاية : ٢٨٦.

(٦) التنقيح ٤ : ٣١٧ ، الروضة ٣ : ١٥٠.

(٧) التحرير ٢ : ٢١٥ ، القواعد ٢ : ٢٤١ ، الإيضاح ٤ : ٤٤٤.

٣٨٨

خلافاً للمحكيّ عن المبسوط وابن حمزة والنكت والمسالك (١) ، ونسب إلى الإيضاح أيضاً (٢) وهو خطأ للأصل المذكور ، وضعف الخبرين ، وقاعدة ترجيح حقّ الآدمي.

والأصل مخصَّص بما مرّ ، والضعف بما ذكر منجبر ، والقاعدة غير ثابتة ؛ مع أنّها إنّما تفيد لو ثبت القبول في مطلق حقوق الآدميّين.

ثم المصرّح به في كلام الأكثر : القبول في القصاص مع كونه حدّا ؛ لكونه حقّ الآدمي ، وظاهر المسالك إجماعنا عليه (٣).

ولكن قال الشيخ في النهاية : ويجوز أن يشهد رجل على شهادة رجل إلى أن قال : وذلك أيضاً لا يكون إلاّ في الديون والأملاك والعقود ، فأمّا الحدود فلا يجوز أن تقبل شهادة على شهادة (٤).

وقال الحلّي أيضاً في السرائر : فذلك لا يكون أيضاً إلاّ في حقوق الآدميّين من الديون والأملاك والعقود ، فأمّا الحدود فلا يجوز أن تقبل فيها شهادة على شهادة (٥).

وظاهرهما كما ترى عدم القبول في القصاص أيضاً ، كما هو مقتضى عموم الخبرين ، فإن ثبت إجماع على القبول فيه ، وإلاّ فلا يمكن القول به ، إلاّ عند من ردّ الخبرين بالضعف ، وعدم الجابر في المقام.

ولو اشتمل المشهود به على حدّ وغيره من الأحكام كاللواط‌

__________________

(١) المبسوط ٨ : ٢٣١ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٢٣٣ ، حكاه عن نكت الشهيد في الرياض ٢ : ٤٥٤ ، المسالك ٢ : ٤١٦.

(٢) نسبه إليه صاحب الرياض ٢ : ٤٥٤.

(٣) المسالك ٢ : ٤١٦.

(٤) النهاية : ٣٢٨.

(٥) السرائر ٢ : ١٢٧.

٣٨٩

المترتّب عليه نشر حرمة أُمّ المفعول وأُخته وبنته أيضاً ، والزنا بالعمّة والخالة المستلزم لتحريم بنتهما ، ووطء البهيمة المثبت لتحريم لحمها ، ونحو ذلك فلا شك في عدم ثبوت الحدّ.

وفي عدم قبولها في سائر الأحكام أيضاً لتلازم الأمرين ، وكونهما معلولي علّة واحدة وقبولها فيها للعموم المذكور ، خرج منه الحدّ بالنصّ والإجماع ، فيبقى الباقي وجهان ، أظهرهما : الثاني ؛ لما ذكر ، كما اختاره في الشرائع والتحرير والقواعد والإرشاد والدروس والمسالك واللمعة والروضة (١).

والتلازم المدّعى ليس بعقليّ لا يتخلّف ، بل ملازمة شرعيّة بالعموم ، فيقبل التخصيص ، كعلّيّة المعلول للأمرين ، أي جعَلَ الشارع المشهود به علّة للأمرين بالعموم ، فيجوز التخصيص فيما وجد مخصِّص.

وهذا مرادهم من قولهم : علل الشرع معرِّفات يجوز انفكاك معلولاتها عنها بالدليل.

والمحصَّل : أنّه تقبل الشهادة في ثبوت الملزوم والعلّة ، الذي هو سبب الأمرين ، ولكن يتخلّف عنه اللزوم والعلّيّة لأحد الأمرين هنا بالدليل.

المسألة الرابعة : وقد استثني أيضاً من الأصل المذكور : ما إذا تمكّن الأصل من إقامة الشهادة حين طلبها بنفسه ، بأن كان حاضراً في البلد ، أو في موضع يمكنه الحضور من غير مشقّة لا تتحمّل غالباً ، ولم يكن له عذر من حضور مجلس الأداء ، من مرض أو زمانة (٢) أو خوف عدوّ أو نحو ذلك.

__________________

(١) الشرائع ٤ : ١٤٠ ، التحرير ٢ : ٢١٦ ، القواعد ٢ : ٢٤١ ، الدروس ٢ : ١٤١ ، المسالك ٢ : ٤١٨ ، اللمعة والروضة ٣ : ١٥٠.

(٢) يقال : زَمِنَ الشخص زَمناً وزَمَانَةً فهو زَمِنٌ من باب تعب وهو مرض يدوم زماناً طويلاً مجمع البحرين ٦ : ٢٦٠.

٣٩٠

فإنّه مع ذلك التمكّن لا تسمع شهادة الفرع ، على الحقّ المشهور بين الأصحاب كما صرّح به جماعة (١) بل عن الخلاف الإجماع عليه (٢) ، لصحيحة محمَّد المتقدّمة (٣).

خلافاً للمحكيّ عن بعض الأصحاب ، كما ذكره في الخلاف (٤) ، ولم يعيّن القائل ، وقال في الدروس : إنّه جنح إليه في الخلاف (٥). ولعلّه لنقله دليل عدم الاشتراط ، والسكوت عنه. وفي دلالته على الميل تأمّل.

وقال في الدروس بعد حكاية قول الإسكافي : إنّه لو أنكر شاهد الأصل بعد ما شهد عليه اثنان لم يلتفت إلى جحوده ـ : إنّ فيه إشارة إلى أنّ تعذّر الحضور غير معتبر (٦).

وفيه نظر ؛ لأنّ الجحود لا ينحصر بالحضور ، بل يمكن حصول العلم به بالشياع ، أو القرينة المفيدة للعلم.

مع أنّه يمكن أن يكون الشرط عندهم التعذّر أولاً ، ويكون حكم مسألة جحود الأصل غير ما نحن فيه ، كيف؟! وقد صرّح الإسكافي بالاشتراط ، قال : ولا بأس بإقامتها وإن كان المشهود على شهادته حاضرَ البلد أو غائباً ، إذا كانت له علّة تمنعه من الحضور للقيام بها (٧).

__________________

(١) منهم الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤١٧ ، الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٨٥ ، صاحب الرياض ٢ : ٤٥٦.

(٢) الخلاف ٢ : ٦٢٩.

(٣) في ص ٣٨٣ و ٣٨٤.

(٤) الخلاف ٢ : ٦٣٠.

(٥) الدروس ٢ : ١٤١.

(٦) الدروس ٢ : ١٤١.

(٧) حكاه عنه في المختلف : ٧٢٣.

٣٩١

ومن ذلك يظهر ما في كلام بعض آخر كالمحقّق الأردبيلي (١) حيث نسب الخلاف إلى والد الصدوق ، فإنّه أيضاً لم يذكر إلاّ قبول شهادة الثاني بعد إنكار الأول.

وكيف كان ، فالمخالف شاذّ نادر ، يمكن دعوى الإجماع على خلافه ، ومع ذلك فالصحيحة تردّه.

ثم مقتضى الصحيحة اشتراط عدم إمكان حضور الأصل ، والأصحاب اكتفوا بالمشقّة التي لا تتحمّل غالباً كجماعة (٢) أو مطلق المشقّة ، كبعض آخر (٣).

ويمكن الاستدلال لجواز القبول مع المشقّة الشديدة التي تسمّى حرجاً بأنّه لا يجب على الأصل حينئذٍ أداؤها بنفسه ؛ لنفي الضرر والحرج ، فبقي إمّا إبطال حقّ المشهود له ، أو قبول شهادة الفرع ، والأول باطل إجماعاً ، فلم يبق إلاّ الثاني.

فرعان :

أ : هل يشترط في القبول تعذّر الأصل مطلقاً ، أو يكفي تعذّر الأصلين اللذين يشهد على شهادتهما؟

الظاهر : الثاني ؛ للأصل ، وعدم دلالة الصحيحة على الأزيد من تعذّرهما ، فلو تعذّر حضور عدلين أصلين ، ولكن كان للمشهود له عدلان أصلان آخران أيضاً ، فيجوز له إقامة الفرعين على الأصلين الأولين ، وتقبل‌

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٤٨٦.

(٢) منهم الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤١٧ ، صاحب الرياض ٢ : ٤٥٦.

(٣) منهم الشيخ في النهاية : ٣٢٩ ، الخلاف ٢ : ٦٢٩ ، المبسوط ٨ : ٢٣٣ ، العلاّمة في التحرير ٢ : ٢١٥ ، القواعد ٢ : ٢٤٢.

٣٩٢

شهادتهما ، ويجوز للحاكم الاكتفاء بها.

ب : هل الشرط تعذّر الأصل عن الإقامة حال إشهاد للفرع أو حال طلب الأداء والمرافعة؟

الوجه هو : الثاني ؛ لأنّه المستفاد من الصحيحة ، فلو أشهده مع إمكان الإقامة تقبل ، لو لم يمكن له الإقامة حين طلبها ، ولو انعكس الأمر لم تقبل.

ولو تعذّر حال إقامة الفرع ، ثم رفع العذر قبل الحكم ، فظاهر الصحيحة عدم قبول الفرعيّة. وحملُها على عدم صحّة أداء الفرع دون سماع شهادته كما عن النكت ـ احتمالٌ بعيد ، مع أنّه لا معنى لصحّتها إلاّ قبولها.

المسألة الخامسة : قد عرفت أنّ مقتضى رواية غياث بن إبراهيم (١) عدم قبول شهادة النساء في الفرع ، وهو فيما إذا كان المشهود به في الأصل ممّا لا تقبل فيه شهادة النساء موضع وفاق.

وأمّا فيما كان ممّا تقبل فيه شهادتهنّ منفردات أو منضمّات ففيه خلاف ، فذهب في السرائر والشرائع والقواعد والتحرير والإيضاح والنكت والمسالك والتنقيح (٢) وغيرهم من المتأخّرين (٣) بل قيل : لم أجد فيه مخالفاً (٤) إلى المنع ، بل نسب القول بالجواز إلى الندرة (٥).

__________________

(١) المتقدمة في ص ٣٨٣.

(٢) السرائر ٢ : ١٢٨ ، الشرائع ٤ : ١٤٠ ، القواعد ٢ : ٢٤٢ ، التحرير ٢ : ٢١٦ ، الإيضاح ٤ : ٤٤٨ ، ونقله عن النكت في الرياض ٢ : ٤٥٥ ، المسالك ٢ : ٤١٨ ، التنقيح ٤ : ٣١٩.

(٣) انظر كفاية الأحكام : ٢٨٧ ، والمفاتيح ٣ : ٢٩٣.

(٤) انظر الرياض ٢ : ٤٥٥.

(٥) انظر الرياض ٢ : ٤٥٥.

٣٩٣

للرواية المذكورة ، مضافة إلى الحصر المستفاد من رواية السكوني : « شهادة النساء لا تجوز في طلاق ولا نكاح ولا حدود ، إلاّ الديون وما لا يستطيع إليه النظر للرجال » (١).

ولا شكّ أنّ شهادتهنّ الفرعيّة إنّما هي على الشهادة ، وهي ليست من الديون ولا مالا يستطيع إليه النظر للرجال.

فإن قيل : المراد من ذلك ليس أن يكون خصوص المشهود به الديون ، بل تكون هي مقصود المستشهد من طلب الإقامة ، وإلاّ تثبت الحدود أيضاً بشهادة الفرع ؛ لأنّ المشهود به فيها أيضاً الشهادة دون الحدّ.

قلنا : معنى قوله : « إلاّ الديون » أنّه تسمع شهادتهنّ في الديون ، وشهادة الفرع ليست منها حقيقة ، والخروج عن الحقيقة في الحدّ بالقرينة ـ حيث إنّه لا يمكن أن يكون المراد شهادة الفرع على نفس الحدّ لا يوجب الخروج عنها فيما لا قرينة فيه.

مع أنّ المذكور في روايتي الحدود : أنّه لا تقبل شهادة على شهادة في حدّ (٢) ، وقوله : « في حدّ » متعلّق بالشهادة الثانية.

خلافاً للمحكيّ عن الإسكافي والخلاف وموضع من المبسوط (٣) ، واختاره في المختلف (٤) ، وعن الخلاف : الإجماع عليه ووردت الأخبار به (٥).

للإجماع المنقول.

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٢٨١ ، ٧٧٣ ، الإستبصار ٣ : ٢٥ ، ٨٠ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٢ أبواب الشهادات ب ٢٤ ح ٤٢.

(٢) راجع ص ٣٨٦.

(٣) نقله عن الإسكافي في المختلف : ٧٢٤ ، الخلاف ٢ : ٦٣٠ ، المبسوط ٨ : ٢٣٤.

(٤) المختلف : ٧٢٤.

(٥) الخلاف ٢ : ٦٣٠.

٣٩٤

والأخبار المشار إليها في الخلاف.

وللأصل.

وعموم قوله سبحانه ( فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ ) (١).

وخبر السكوني المذكور.

وفحوى ما دلّ على قبول شهادة الأصل فيما تقبل فيه.

والكلّ مردود :

أمّا الأول : فبعدم الحجّية ، سيّما فيما كان مخالفاً للشهرة المحقّقة.

وأمّا الثاني : فبعدم وجود خبر ، فضلاً عن الأخبار إن أُريد منها ما يدلّ على خصوص المورد ، وإن أُريد منها مثل رواية السكوني فقد عرفت أنّها على الخلاف دالّة.

وأمّا الثالث : فبأنّ الأصل بما مرّ مندفع ، مع أنّه لا أصل له ، بل الأصل خلافه.

وأمّا الرابع : فبأنّ الآية واردة في الدَّين ، والمورد ليس منه ، بل في رواية داود بن الحصين أنّها مخصوصة به ، ففيها بعد قول القائل : فأنّى ذكر الله تعالى قوله ( فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ )؟ قال : « ذلك في الدَّين ، إذا لم يكن رجلان فرجل وامرأتان » (٢).

وجعل ذلك أيضاً دَيناً لو كان هو المشهود به للأصل ، فقد عرفت ما فيه.

وبه ظهر ردّ الخامس أيضاً.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٢.

(٢) التهذيب ٦ : ٢٨١ ، ٧٧٤ ، الإستبصار ٣ : ٢٦ ، ٨١ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٠ أبواب الشهادات ب ٢٤ ح ٣٥.

٣٩٥

وأمّا السادس : فبأنّ العلّة في الأصل غير معلومة ، ثم الأولويّة ممنوعة.

فهذا القول ضعيف كتردّد النافع والإرشاد والدروس والروضة (١) ، كما حكي عنها.

المسألة السادسة : قال الشيخ في المبسوط وتبعه سائر الأصحاب ـ : إنّ شاهد الفرع يصير متحمّلاً لشهادة شاهد الأصل بأحد أسباب ثلاثة :

أحدها : الاسترعاء ، وهو أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع : أشهدُ أنّ لفلان بن فلان على فلان بن فلان درهماً ، فاشهد على شهادتي ، أو نحو ذلك.

سمّي استرعاءً لالتماس شاهد الأصل رعاية شهادته. وألحق به جماعة : أن يسمع أنّه يسترعي آخر (٢).

والثاني : أن يسمع شاهد الفرع شاهد الأصل يشهد بالحقّ عند الحاكم ، فإذا سمعه يشهد به عنده صار متحمّلاً لشهادته.

الثالث : أن يشهد الأصل بالحقّ ، ويعزيه إلى سبب وجوبه ، فيقول : أشهد أنّ لفلان بن فلان على فلان بن فلان ألف درهم من ثمن ثوب أو عبد أو دار أو ضمان (٣).

قالوا : والأول هو أعلى المراتب ، وحصول التحمّل به ممّا لا خلاف فيه ، كما صرّح به في الكفاية (٤) وغيره (٥) ، بل عن الإيضاح والتنقيح‌

__________________

(١) النافع ٢ : ٢٩٠ ، الإرشاد ٢ : ١٦٥ ، الدروس ٢ : ١٤١ ، الروضة ٣ : ١٥٢.

(٢) منهم العلاّمة في المختلف : ٧٢٩.

(٣) المبسوط ٨ : ٢٣١.

(٤) الكفاية : ٢٨٧.

(٥) كالرياض ٢ : ٤٥٥.

٣٩٦

والمسالك الإجماع عليه (١).

ودونه الثاني ، ودونه الثالث ؛ لوقوع الخلاف فيهما عن الإسكافي ، فإنّه قال بالتحمّل في صورة الاسترعاء خاصّة (٢) ، وظاهره المنع فيما عداها. وفي الأخيرة عن الفاضلين (٣) وغيرهما (٤) ، فتردّدوا فيها.

ولكن قال الكلّ بعدم التحمّل في غير تلك الصور ، وهو الصورة الرابعة ، وهي أن يقول : أشهد أنّ عليه كذا ، من دون استرعاء ، ولا في مجلس الحكم ، ولا ذكر سبب.

قال في السرائر : فأمّا إن لم يكن هناك استرعاء ، ولا سمعه يشهد عند الحاكم ، ولا عزاه إلى سبب وجوبه مثل أن سمعه يقول : أشهدُ أنّ لفلان ابن فلان على فلان بن فلان درهماً فإنّه لا يصير بهذا متحمّلاً للشهادة على شهادته. انتهى (٥).

إلاّ أنّ في الشرائع استشكل فيها (٦).

قيل : لاشتمالها على الجزم الذي لا يناسب العدل أن يتسامح به ، فالواجب إمّا القبول فيها كما في الثالثة أو الردّ كذلك ، لكن الأول بعيد ، بل لم يقل به أحد ، فيتعيّن الثاني (٧).

قيل بعد ذكر هذه المراتب ـ : أنّها خالية عن النصّ ، فينبغي الرجوع‌

__________________

(١) الإيضاح ٤ : ٤٤٥ ، التنقيح ٤ : ٣١٩ ، المسالك ٢ : ٤١٦.

(٢) نقله عنه في المختلف ٧٢٩.

(٣) المحقّق في الشرائع ٤ : ١٣٩ ، الفاضل في القواعد ٢ : ٢٤١.

(٤) كالشهيد في الدروس ٢ : ١٤٢.

(٥) السرائر ٢ : ١٢٩.

(٦) الشرائع ٤ : ١٣٩.

(٧) انظر مفاتيح الشرائع ٣ : ٢٩٤.

٣٩٧

إلى مقتضى الأُصول ، وهو اعتبار علم الفرع بشهادة الأصل ، من دون فرق بين الصور ، فلو فرض أن لم يحصل العلم في صورة الاسترعاء لم يجز أداء الشهادة على شهادته ، ولو فرض حصوله في الرابعة جاز ، بل وجب (١).

وإلى هذا أشار في التنقيح ، حيث قال : والأجود أنّه إن حصلت قرينة دالّة على الجزم وعدم التسامح قبلت ، وإن حصلت قرينة على خلافه ـ كمزاح وخصومة ـ لم تقبل (٢).

وكذا المحقّق الأردبيلي ، قال : والأقوى أنّه إن تيقّن عدم التسامح صار متحمّلاً ، وإلاّ فلا (٣).

أقول : لا يخفى أنّ نظر الشيخ ومن تبعه إلى القاعدة المتقدّمة ، المدلول عليها بالنصوص ، وبمقتضى معنى الشهادة من أنّ مستند الشاهد يجب أن يكون العلم الحاصل من الحسّ ، أو الاستفاضة في موارد مخصوصة ، أو ظنّ خاصّ على بعض الأقوال كما مرّ ، ولا يفيد في قبول الشهادة أو في تحقّقها كلّ علم ولا كلّ ظنّ ـ فإنّه على هذا لا يصير الفرع متحمّلاً لشهادة الأصل إلاّ إذا علم أنّه شهادة ، أي مستند إلى ما ذكر.

ويعلم ذلك بكلّ من المراتب الثلاث :

أمّا الأُولى : فلأنّه يأمر الأصل برعاية شهادته ، والشهادة بها لا تكون إلاّ للإقامة ، ولمّا لم تجز الإقامة إلاّ مع استناد شهادة الأصل إلى العلم المعتبر في الشهادة ، ولا يكفي كلّ علم ، يعلم أنّ ما شهد به شهادة شرعيّة ، فيكون متحمّلاً للشهادة.

__________________

(١) انظر الرياض ٢ : ٤٥٥.

(٢) التنقيح ٤ : ٣٢٠.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٤٧٨.

٣٩٨

وأمّا الثانية : فلأنّ على ما ذكر لا يجوز للأصل الشهادة عند الحاكم إلاّ مع استنادها إلى ما ذكر ، فبعد سماعها حينئذٍ يعلم الشهادة الشرعيّة ، ويصير متحمّلاً.

وأمّا الثالثة : فلأنّ ذكر السبب قرينة على مشاهدة السبب ؛ لأنّه ظاهر فيها ، فيصدق تحمّل الشهادة.

بخلاف المرتبة الرابعة ، فإنّ الفرع لمّا لم يكن في مقام الإشهاد ، ولا في مقام الشهادة ، ولم يذكر أيضاً قرينة ظاهرة في المشاهدة وكثيراً ما يطلق لفظ الشهادة في الأخبار على الجازم مطلقاً ، بأيّ نوع حصل الجزم ، حتى عرّفها به بعض الفقهاء (١) ، وتداول استعمالها فيه عرفاً عند أهل العرف ، بل المتشرّعة لا يعلم أن شهادته هل هي بالعلم الحاصل من المشاهدة ، أو مطلق العلم ، فلا تقبل.

وقد صرّح بذلك الحلّي في السرائر ، حيث إنّه بعد ما نقلنا عنه ، وذكر عدم التحمّل بالمرتبة الرابعة قال : لأنّ قوله : أشهد بذلك ، ينقسم إلى الشهادة بالحقّ ، ويحتمل العلم به على وجه لا يشهد به ، وهو أن يسمع الناس يقولون كذا وكذا ، فلذا وقف التحمّل لهذا الاحتمال ، فإذا حقّق ما قلنا زال الإشكال (٢). انتهى.

وبما ذكرنا ظهر أنّ ما قيل كما نقلنا عنه : إنّه ينبغي الرجوع إلى مقتضى الأُصول ـ ناشئ عن الغفلة عن فهم مراد الشيخ ، بل مراده هو مقتضى الأُصول ، واعتبار مطلق العلم ليس بمقتضاه.

وكذا ظهر ما في كلام صاحب التنقيح والمحقّق الأردبيلي.

__________________

(١) كالشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤٠٠.

(٢) السرائر ٢ : ١٢٩.

٣٩٩

وكذا ما في كلام الشرائع من الاستشكال في الفرق بين المرتبتين الأخيرتين ، من جهة أنّ الأخيرة أيضاً مشتملة على الجزم ، ولا يناسب العدل التسامح به فإنّ مراد الشيخ ليس التسامح بالجزم ، بل التسامح في الجزم ، أي في سبب الجزم ، وليس فيه عدم مناسبته للعدالة ؛ إذ ليس في الأخيرة في مقام إشهاد ولا إقامة شهادة حتى يجب عليه البناء على الجزم بالسبب المعيّن.

هكذا ينبغي أن يحقّق المقام.

ومع ذلك ففي حصول التحمّل بالمرتبة الثالثة كلام ؛ لاحتمال بنائه في ذكر السبب على مطلق العلم ، دون المشاهدة ؛ إذ ليس هو فيها في مقام الشهادة أو الإشهاد ، فتردّد الفاضلين ومن لحقهما فيها في موقعه.

وكذا ينبغي أن يخصّص التحمّل في الأولين أيضاً بما إذا كان الأصل عالماً بأحكام الشهادة ، كما هو مفروضهم هنا وفي مقام بيان مستند الشاهد.

المسألة السابعة : تسمع شهادة الفرع لو مات الأصل بعد إشهاده الفرع أو جنّ ؛ إذ ليست شهادة الفرع إثباتاً للمشهود به ، بل إثباتٌ لأنّ الأصل كان شاهداً ، ولإطلاق الأخبار.

وكذا لا يضرّ عمى الأصل ، وإن كان المشهود به ممّا يحتاج إلى البصر ، بعد ما كان الأصل بصيراً حين التحمّل.

ولو طرأ فسق أو ردّة أو نحو ذلك ممّا يمنع عن قبول شهادته ، فإن كان بعد الحكم فلا يضرّ إجماعاً ، ووجهه ظاهر.

وإن كان قبله ، فإن كان قبل الإشهاد فلا شكّ في منعه عن القبول.

وإن كان بعده ، فإن كان بعد شهادة الفرع عند الحاكم ، فهو مثل طريان الفسق للشاهد بعد الشهادة وقبل الحكم ، ويأتي أنّ الظاهر أنّه‌

٤٠٠