مستند الشّيعة - ج ١٨

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٨

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-204-0
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٤٥

فيكون الحكم بالبيّنة والاستصحاب معاً.

وأمّا الحكم بالبيّنة فقط فلا يتحقّق في شي‌ء من هذه الصور ؛ لأنّ استصحاب الشاهد أو عدم علمه بالمزيل أو نحوهما ليس حجّة للحاكم ، ولا يطلق عليه الشهادة.

وذلك غرض الفاضل في القواعد ، حيث قال في الصورة الاولى : إنّ في قبول الشهادة إشكالاً (١).

فإنّ غرضه الإشكال في إثبات الملكيّة الحاليّة بالبيّنة ، لا بنفس استصحاب الحاكم ، وهو في محلّه ؛ لأن الحاكم مأمور بعلمه باستصحاب نفسه ، وأمّا استصحاب الشاهد فهو وظيفته ، ولا يفيد للحاكم شيئاً ، ولكنّه لا يثمر ثمرة بعد جواز استصحاب الحاكم.

نعم ، لو كان الحاكم ممّن لا يقول بحجّية الاستصحاب والشاهد قائلاً بها تظهر الفائدة.

والتحقيق : عدم السماع حينئذ ، لأنّ القدر الثابت جواز الشهادة له بالاستصحاب ، وأمّا جواز العمل بالشهادة الاستصحابيّة فلا دليل عليه أصلاً.

وقد يفرّق بين الصورتين الأُوليين وبين الأخيرة ، فتُسمَع في الأُوليين دون الأخيرة ، بل يُنسَب إلى المشهور.

واستُدلّ عليه : بأنّ الأُوليين تفيدان أنّه يعلم البقاء أو يظنّه ، وعلم الشاهد وظنّه المستند إلى دليل شرعيّ حجّة شرعيّة. وأمّا الثانية فإنّما تفيد الشكّ ، وعدم بقاء الظنّ.

وفساده أظهر من أن يخفى.

__________________

(١) القواعد ٢ : ٢٣٤.

٣٦١

أمّا أولاً : فلأنّه أيّ دلالة للأُوليين على بقاء العلم أو الظنّ؟! بل هما أعمّان منهما ومن الشكّ ومن ظنّ الخلاف ، فإنّه لا ينافي الاستصحاب.

وإن كان مراده الظنّ الاستصحابي فهو متحقّق في الأخيرة أيضاً.

وأمّا ثانياً : فلأنّ قوله : لا أدري ، أعمّ من بقاء الظنّ ايضاً ، فلا ينفيه.

وأمّا ثالثاً : فلأنّ أيّ دليل على حجّية ظنّ الشاهد من حيث هو ظنّه؟! وأمّا الاستصحاب فهو حجّة في صورة الشكّ أيضاً إجماعاً ، بل هو حجّة مع ظنّ الخلاف أيضاً ، إلاّ إذا كان مستنداً إلى دليل شرعي ، وهو في حكم العلم.

مع أنّ ظنّ الشاهد لو كان حجّة فإنّما هو حجّة لنفسه ، دون غيره.

والله الموفّق والمعين.

٣٦٢

الفصل الثالث

فيما يتعلّق بتحمّل الشهادة وأدائها‌

وفيه مسائل :

المسألة الأُولى : يحصل التحمّل للشهادة بالمشاهدة لما تكفي هي فيه ، وبالسماع لما يكفي هو فيه ، ولو لم يستدع أحد طرفي الشهادة أو كلاهما عليه ، بل لو قالا له : لا تشهد ولا تتحمّل.

بلا خلاف يوجد ، إلاّ ما حكي عن الإسكافي في السماع (١).

وهو شاذّ لا يُعبأ به ؛ لعدم دليل على اشتراط الاستدعاء في صيرورته شاهداً مع حصولها بأحد الأمرين عرفاً ولغةً ، وفرض حصول العلم اللازم فيها المأمور بالشهادة معه كتاباً وسنّةً.

مضافاً إلى خصوص المعتبرة المصرّحة لخيار الشاهد بين إقامة الشهادة وعدمها في صورة عدم الاستدعاء (٢) ، ولو لا كونه متحمّلاً لما كان وجه لجواز الشهادة.

ومنه يظهر حصول التحمّل بالخباء ، وسماع كلام المشهود عليه.

ولا يصير متحمّلاً بشهادة العدلين عنده إلاّ [ لشهادتهما ] (٣).

ولا بقول المشهود له وسكوت المشهود عليه ؛ لأنّه أعمّ من الرضا.

ولا بإشارة الأخرس إلاّ [ لطريق ] (٤) إشارته ؛ لجواز خطائه في فهمها ،

__________________

(١) حكاه عنه في المختلف : ٧٢٩.

(٢) انظر الوسائل ٢٧ : ٣١٧ أبواب الشهادات ب ٥.

(٣) في « ح » و « ق » : بشهادتهما ، والظاهر ما أثبتناه.

(٤) في « ح » و « ق » : بطريق ، والظاهر ما أثبتناه.

٣٦٣

ولعدم كون الفهم مستنداً الى حسّ ، والله العالم.

المسألة الثانية : المشهور كما في المسالك والكفاية وشرح الإرشاد للأردبيلي (١) وغيرها (٢) وجوب تحمّل الشهادة إذا دعي إليه ، وهو مذهب الشيخ في النهاية والمفيد والإسكافي والحلبي والقاضي والديلمي وابن زهرة والفاضلين والفخري والشهيدين والصيمري (٣) ، وغيرهم من المتأخّرين (٤).

لقوله سبحانه ( وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا ) (٥).

فإنّ ظاهر سياق الآية أنّها للدعاء إلى التحمّل ؛ لأنّها منساقة في معرض الإرشاد للأمر بالكتابة ، ونهي الكاتب عن الإباء ، ثم الأمر بالإشهاد ، ونهي الشاهد عن الإباء.

مع أنّ هذا المعنى للآية مستفاد من المستفيضة ، كصحيحة هشام في قول الله تعالى ( وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ ) قال : « قبل الشهادة » وفي قول الله تعالى ( وَمَنْ يَكْتُمْها ) (٦).

__________________

(١) المسالك ٢ : ٤١٥ ، الكفاية : ٢٨٦ ، مجمع الفائدة ١٢ : ٥١٧.

(٢) كالمفاتيح ٣ : ٢٨٤.

(٣) النهاية : ٣٢٨ ، المفيد في المقنعة : ٧٢٨ ، نقله عن الإسكافي في المختلف : ٧٢٢ ، الحلبي في الكافي في الفقه : ٤٣٦ ، القاضي في المهذب ٢ : ٥٦٠ ، الديلمي في المراسم ( الجوامع الفقهية ) : ٦٥٧ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥ ، المحقق في الشرائع ٤ : ١٣٧ ، العلاّمة في القواعد ٢ : ٢٤٠ ، الفخري في الإيضاح ٤ : ٤٤٢ ، الشهيد الأوّل في اللمعة ( الروضة البهية ٣ ) : ١٣٧ ، والدروس ٢ : ١٢٣ ، الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤١٥ والروضة ٣ : ١٣٧.

(٤) منهم ابن فهد الحلّي في المقتصر : ٣٩٢ ، الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٨٢.

(٥) البقرة : ٢٨٢.

(٦) البقرة : ٢٨٣.

٣٦٤

قال : « بعد الشهادة » (١).

وصحيحة الحلبي : في قول الله عزّ وجلّ ( لا يَأْبَ الشُّهَداءُ ) فقال : « لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى شهادة يشهد عليها أن يقول : لا أشهد لكم » وقال : « ذلك قبل الكتاب » (٢).

ومثلها موثّقة سماعة (٣) ورواية الكناني (٤) إلى قوله : « لا أشهد لكم ».

ورواية محمّد بن الفضيل : في قول الله عزّ وجلّ ( وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ ) فقال : « إذا دعاك الرجل لتشهد له على دَين أو حقّ لم ينبغ لك أن تقاعس عنه » (٥).

وما في تفسير الإمام عليه‌السلام بعد ذكر التفسير الآتي ـ : وفي خبر آخر : قال : « نزلت فيمن دعي لسماع الشهادة فأبى ، ونزلت فيمن امتنع عن أداء الشهادة إذا كانت عنده ( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) » (٦).

ولرواية داود بن سرحان : « لا يأب الشاهد أن يجيب حين يدعى قبل الكتاب » (٧).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٠ ، ٤ ، الفقيه ٣ : ٣٤ ، ١١٢ ، التهذيب ٦ : ٢٧٥ ، ٧٥٠ ، الوسائل ٢٧ : ٣٠٩ أبواب الشهادات ب ١ ح ١.

(٢) الكافي ٧ : ٣٨٠ ، ٢ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٠ أبواب الشهادات ب ١ ح ٤.

(٣) الكافي ٧ : ٣٧٩ ، ١ ، التهذيب ٦ : ٢٧٥ ، ٧٥٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٠ أبواب الشهادات ب ١ ح ٥.

(٤) الكافي ٧ : ٣٧٩ ، ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٧٥ ، ٧٥١ ، الوسائل ٢٧ : ٣٠٩ أبواب الشهادات ب ١ ح ٢.

(٥) الكافي ٧ : ٣٨٠ ، ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٧٦ ، ٧٥٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٠ أبواب الشهادات ب ١ ح ٧.

(٦) تفسير العسكري «ع» : ٦٧٦ ، ٣٧٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٤ أبواب الشهادات ب ٢ ح ٨.

(٧) الكافي ٧ : ٣٨٠ ، ٦ ، التهذيب ٦ : ٢٧٦ ، ٧٥٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٠ أبواب الشهادات ب ١ ح ٦.

٣٦٥

والمدائني : « إذا دُعيتَ إلى الشهادة فأجب » (١).

مضافاً إلى دعاء الضرورة إليه غالباً في المعاملات والمناكحات ، فوجب بمقتضى الحكمة إيجابه رفعاً لحسم مادة النزاع.

خلافاً للحلّي حاكياً له عن المبسوط أيضاً قال : والذي يقوى في نفسي أنّه لا يجب التحمّل ، وللإنسان أن يمتنع من الشهادة إذا دعي إليها ليتحمّلها ؛ إذ لا دليل على وجوب ذلك عليه ، وما ورد في ذلك فهو أخبار آحاد.

فأمّا الاستشهاد بالآية ، والاستدلال بها على وجوب التحمّل ، فهو ضعيف جدّاً ؛ لأنّه تعالى سمّاهم شهداء ، ونهاهم عن الإباء إذا دعوا إليها ، وإنّما يسمّى شاهداً بعد تحمّلها ، فالآية بالأداء أشبه. وإلى هذا القول يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطه (٢). انتهى.

ولكن نسب في المختلف والإيضاح إلى المبسوط القول الأول (٣).

ويدلّ على ما ذكره الحلّي من كون الآية بالأداء أشبه المرويّ عن تفسير الإمام في تفسير هذه الآية : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في تفسيرها : « من كانت في عنقه شهادة فلا يأب إذا دعي لإقامتها ، وليقمها » (٤).

أقول : في تماميّة الدليل الأخير للقول المشهور نظر ؛ لرفع الضرورة بالأمر بعدم الإنكار ، والاستقامة على الحقّ ، ثم بتوقّف اليمين.

وكذا في دلالة رواية المدائني ؛ لاحتمال إرادة الأداء.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٠ ، ٥ ، التهذيب ٦ : ٢٧٥ ، ٧٥٢ ، الوسائل ٢٧ : ٣٠٩ أبواب الشهادات ب ١ ح ٣.

(٢) السرائر ٢ : ١٢٦ ، وانظر المبسوط ٨ : ١٨٦.

(٣) المختلف : ٧٢٢ ، الإيضاح ٤ : ٤٤١.

(٤) تفسير العسكري « عليه‌السلام » : ٦٧٦ ، ٣٧٨ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٤ أبواب الشهادات ب ٢ ح ٧.

٣٦٦

بل وكذا رواية داود ، وليس قوله : « قبل الكتاب » نصّاً ولا ظاهراً في التحمّل.

ومنه يظهر ضعف دلالة غير صحيحة هشام ، وخبر الإمام على تفسير الآية بالتحمّل أيضاً.

نعم ، هما تدلاّن عليه ، ولكن يعارضهما الخبر الأخير عن التفسير ، إلاّ أنّه لا يصلح لمعارضتهما ؛ لوجوه ، أقواها : مخالفته لفهم معظم الأصحاب من المتقدّمين والمتأخّرين ، مع ما يمكن من الكلام في ثبوت التفسير عن الإمام.

فلا ينبغي الريب في حمل الآية على التحمّل ، ومعه تثبت حرمة الإباء ، وبها يثبت وجوب التحمّل عند الدعاء.

ويدلّ على هذا القول أيضاً أمر الله سبحانه بالإشهاد في الآية (١) ، وأُخبر عنه في الأخبار ، كما في روايتي عمر وعمران ابني أبي عاصم : « إنّ أربعة لا تستجاب لهم دعوة ، أحدهم : رجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة ، فيقول الله عزّ وجلّ : ألم آمرك بالشهادة؟! » (٢).

وهو لا يستقيم بدون إيجاب التحمّل أيضاً ، بل الأول مفهم للثاني ، والثاني قرينة عليه عرفاً ، كما يظهر من أمر العبد بأخذ المال من عبد آخر ، أو أخذ دراهم من شخص ، أو نحو ذلك.

فالحقّ هو المشهور.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٢.

(٢) الكافي ٥ : ٢٩٨ ، ٢ ، ١ وفيه : عمّار وعمر [ ان ] ، وفي التهذيب ٧ : ٢٣٢ ، ١٠١٤ عن عمران ، وأورده في الوسائل ١٨ : ٣٣٨ أبواب القرض والدين ب ١٠ ح ١ عن الكافي والتهذيب. والظاهر اختلاف نسخ الكافي انظر هامش الوافي ٩ : ١٥٣٦.

٣٦٧

وأمّا صحيحة القدّاح : « جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، أُحبّ أن تشهد لي على نحل (١) نحلتها ابني ، قال : ما لك ولد ساه؟ قال : نعم ، فقال : نحلتهم كما نحلته؟ قال : لا ، قال : فإنّا معاشر الأنبياء لا نشهد على حَيْف (٢) » (٣).

حيث إنّ المراد بالحيف ليس الحرام ، وإلاّ حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببطلان نحلته ، بل خلاف الاولى ، ولا يجوز ترك الواجب لذلك ، وليس ذلك ايضاً من الخصائص.

فلا تنافي المختار ؛ لأنّه ما دعا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل قال : « أُحبّ ».

مع أنّه يمكن أن يعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحمّل غيره ، فإنّه قضيّة في واقعة.

ومعنى قوله : « فإنّا معاشر الأنبياء » إلى آخره ، يمكن أن يكون : إنّا لا نترك الحائف على حيفه ، بل ننصحه حتى يتركه. فلم يشهد (٤) عليه.

فروع :

أ : هل الوجوب على الكفاية؟ كما عن الشيخ في المبسوط والنهاية والإسكافي والفاضلين والفخري والشهيدين والصيمري (٥) وغيرهم من‌

__________________

(١) أي هبة مجمع البحرين ٥ : ٤٧٨ ، وفي روضة المتقين ٦ : ١٨٣ : نخل ..

(٢) يعني على الظلم والجور مجمع البحرين ٥ : ٤٢. وفي الفقيه : الجَنَف ، وهو الميل والعدول عن الحق مجمع البحرين ٥ : ٣٣.

(٣) الفقيه ٣ : ٤٠ ، ١٣٤ ، الوسائل ٢٧ : ٤١٤ أبواب الشهادات ب ٥٥ ح ١.

(٤) في « ق » : نشهد ..

(٥) المبسوط ٨ : ١٨٦ ، النهاية : ٣٢٨ ، حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٧٢٥ ، المحقّق في الشرائع ٤ : ١٣٨ ، العلاّمة في القواعد ٢ : ٢٤٠ ، الفخري في الإيضاح ٤ : ٤٤٢ ، الشهيد الأوّل في اللمعة ( الروضة البهية ٣ ) : ١٣٧ ، والدروس ٢ : ١٢٣ ، والشهيد الثاني في الروضة ٣ : ١٣٧ ، والمسالك ٢ : ٤١٥.

٣٦٨

المتأخّرين (١).

أو على العينيّة؟ كما حكي في الإيضاح عن ظاهر المفيد والحلبي والقاضي والديلمي وابن زهرة (٢).

قيل : ظاهر الآية والأخبار : الثاني ، إلاّ أنّ إطباق المتأخّرين على الأول يرجّحه ، مضافاً إلى فحوى الخطاب المستفاد من الحكم بكفائيّة الأداء ، وإلى إشعار جعل وجوبه مقابلاً لوجوب الأداء (٣).

ولا يخفى ما في هذه الوجوه من الضعف البيّن ، فإنّ بعد تسليم ظهور الآية والأخبار في أمر ، وفتوى كثير من أساطين القدماء عليه أيّ وقعٍ لإطباق المتأخرين؟! وأيّ أولويّة للتحمّل في الكفائيّة من الأداء؟!

مع أنّه يحصل المطلوب الذي هو ثبوت الحقّ بأداء الشاهدين ، ولا تبقى فائدة للشهادة بعده ، بخلاف التحمّل ، فإنّ موت بعض الشهداء حين الحاجة محتمل ، وكذا نسيانه أو فسقه أو غيبته أو جهل حاله عند الحاكم ، ففائدة غير الشاهدين كثيرة.

ولا إشعار للمقابلة المذكورة أصلاً.

فالصواب : الاستدلال بظاهر الآية على الكفائية ؛ لأنّ الله سبحانه أمر أولاً باستشهاد الرجلين ، وإن لم يكونا فرجل وامرأتان ، ثم قال عزّ شأنه‌

__________________

(١) كالسبزواري في الكفاية : ٢٨٦.

(٢) الإيضاح ٤ : ٤٤١ ، وهو في المقنعة : ٧٢٨ ، الكافي في الفقه : ٤٣٦ ، المهذب ٢ : ٥٦١ ، المراسم ( الجوامع الفقهية ) : ٦٥٧ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥.

(٣) انظر الرياض ٢ : ٤٥٠.

٣٦٩

( وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ ) ، اللام في ذلك للعهد الذكري ، فالمعنى : ولا يأب الرجلان والرجل والمرأتان من الإجابة ، فالنهي للرجلين أو الرجل والامرأتين المستشهد عنهما ، لا كل أحد ، فبعد إجابتهما لا أمر بالشهادة ولا نهي عن الإجابة ، كما هو شأن الواجب على الكفاية. والأصل عدم الوجوب على الغير.

ومنه يظهر عدم ثبوت غير الكفائي ممّا ذكرنا دليلاً أيضاً من الأمر بالإشهاد ، وأما سائر الأخبار فقد عرفت عدم ثبوت دلالتها على وجوب التحمّل.

ب : قيّد الشيخ في النهاية (١) وجماعة (٢) الوجوب بأنّه إنّما هو على من له أهليّة الشهادة ، وأطلق جمع آخر (٣).

والتقييد بالنسبة إلى من لا تتصوّر في حقّه الأهليّة ، كالولد على والده ، والمرأة في الطلاق ، ونحوه واضح.

وأمّا من تمكن في حقّه الأهليّة فالظاهر فيه أيضاً ذلك ؛ لأنّ الشاهد المأمور باستشهاده في الكتاب الكريم إنّما هو ممّن ترضون من الشهداء ، فالمنهيّ عن الإجابة أيضاً يكون هو ذلك ، كما يظهر وجهه ممّا مرّ.

ج : هل يجب في التحمّل حفظ المشهود به عن النسيان بكتابة ونحوها؟

الظاهر : لا ؛ للأصل ، وأصالة عدم النسيان ، واحتماله مع الكتابة‌

__________________

(١) النهاية : ٣٢٨.

(٢) منهم المحقّق في الشرائع ٤ : ١٣٧ ، العلاّمة في القواعد ٢ : ٢٤٠ ، الشهيد الأول في اللمعة ( الروضة البهية ٣ ) : ١٣٧ ، الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٨٢.

(٣) منهم المحقّق في النافع : ٢٨٩ ، الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤١٥ ، السبزواري في الكفاية : ٢٨٦.

٣٧٠

أيضاً.

د : يجب في تحمّل الشهادة لشخص أو عليه أن يعرفه إمّا بعينه ، بأن ينظر إليه ، ويثبته في خاطره ، بحيث يمتاز عن غيره عنده عند الأداء ، أو يعيّن وصفه وحليته ، بحيث لا يشاركه غيره فيهما عادةً ، ويثبته إلى وقت الأداء.

أو يعرفه باسمه ونسبه ، بحيث يمتاز عن غيره ، بأن يكون معروفاً عنده ابتداءً.

أو يعرفه حين التحمّل معرفة علميّة حاصلة من الشياع ، حيث عرفت أنّ الشياع معرِّف للأنساب (١) أو يعرفه بشهادة رجلين عدلين ، بالإجماع كما قيل ؛ ويدلّ عليه كلام الحلّي في السرائر أيضاً (٢) ، كما يشعر به كلام الكفاية (٣).

لأصالة حجّية شهادة العدلين ، كما بيّنا في موضعه.

ولرواية ابن يقطين : « لا بأس بالشهادة على إقرار المرأة وليست بمسفرة إذا عُرِفت بعينها أو حضر من يعرفها ، فأمّا إن لا تُعرَف بعينها ولا يحضر من يعرفها ، فلا يجوز للشهود أن يشهدوا عليها وعلى إقرارها دون أن تسفر » (٤).

وقوله : « أو حضر من يعرفها » وإن شمل الواحد أيضاً والمرأة ، إلاّ أنّ الأقلّ من العدلين خارج بالإجماع.

__________________

(١) في « ق » : للإنسان.

(٢) السرائر ٢ : ١٢٦.

(٣) الكفاية : ٢٨٤.

(٤) الكافي ٧ : ٤٠٠ ، ١ ، الفقيه ٣ : ٤٠ ، ١٣١ ، التهذيب ٦ : ٢٥٥ ، ٦٦٥ ، الإستبصار ٣ : ١٩ ، ٥٧ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٢ أبواب الشهادات ب ٤٣ ح ٣.

٣٧١

ومكاتبة الصفّار الصحيحة : فهل يجوز للشاهد الذي أشهده بجميع هذه القرية أن يشهد بحدود قطاع الأرضين التي له فيها ، إذا تُعرَف حدود هذه القطاع بقوم من أهل هذه القرية إذا كانوا عدولاً؟ فوقّع عليه‌السلام : « نعم ، يشهدون على شي‌ء مفهوم معروف إن شاء الله تعالى » (١).

وهي وإن كانت في معرفة حدود القطاع ، إلاّ أنّه لا فرق بين معرفة الشخص والحدّ.

وقريبة منها مكاتبته الأُخرى (٢).

وأمّا مكاتبته الصحيحة الثالثة : في رجل أراد أن يشهد على امرأة ليس لها بمحرم ، هل يجوز له أن يشهد عليها وهي من وراء الستر ويسمع كلامها ، إذا شهد رجلان عدلان أنّها فلانة بنت فلان التي تشهدك ، وهذا كلامها ، أو لا تجوز له الشهادة حتى تبرز ويثبتها بعينها؟ فوقّع عليه‌السلام : « تتنقّب وتظهر للشهود » (٣).

فحملها بعضهم على التقيّة ، ولأجلها جعلها مرجوحة بالنسبة إلى الرواية المتقدّمة ؛ حيث إنّه لا تجوز عند العامّة الشهادة على إقرار المرأة دون أن تسفر فينظر إليها الشهود ولو عرفت بعينها ، كما ورد في روايةٍ صحيحة (٤).

والظاهر أنّها لا تنافي الرواية ؛ لأنّ الظاهر أنّ المراد بالشهود : الذين يعرفونها أنّها فلانة ، دون الرجل الذي أراد أن يشهد عليها ، كما حملها عليه‌

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٢٧٦ ، ٧٥٨ ، وفي الكافي ٧ : ٤٠٢ ، ٤ ، والوسائل ٢٧ : ٤٠٧ أبواب الشهادات ب ٤٨ ح ١.

(٢) الفقيه ٣ : ١٥٣ ، ٦٧٦ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٧ أبواب الشهادات ب ٤٨ ح ١.

(٣) الفقيه ٣ : ٤٠ ، ١٣٢ ، الاستبصار ٣ : ١٩ ، ٥٨.

(٤) انظر الرياض ٢ : ٤٥١.

٣٧٢

الشيخ في الاستبصار (١) ؛ ويدلّ عليه جمع الشهود ، وقوله : « تتنقّب » ؛ لأنّ الظاهر أن التنقّب لهذا الرجل والظهور للشهود ؛ حيث إنّه يجب أن يكون الظهور لهم في حضوره ، حتى يشهدوا على عينها.

وإن كان المراد بالشهود : الرجل ، لم يحتج إلى التنقّب.

ولا يتوهّم أنّ ذلك ينافي ما مرّ من لزوم استناد الشهادة إلى الحسّ ، وإبطال قول الشيخ بجواز الشهادة الأصليّة بشهادة العدلين (٢).

لأنّ المشهود به هنا أيضاً وهو إقرار المرأة مستند إلى الحسّ.

والمعلوم بالعدلين هو بعض متعلّقات المشهود به دون نفسه.

وليس ذلك إلاّ كالشهادة على حضور مشاهدة بيع وكيل زيد أو وصيّ الصغير ـ الثابتة وكالته ووصايته بالعدلين ملكاً لغيره ، فإنّ المشهود به مستند إلى الحسّ.

وكذا إذا شهد بملكيّة عمرو الملك الفلاني الذي ابتاعه من أُمّ الغلام ، التي ورثت هذا الملك منه بشهادة امرأة واحدة ليست شهادته مستندة إلى قول امرأة.

فإنّ المفروض عدم التنازع في كون المشهود لها أو عليها الامرأة الفلانيّة وعدمه ، أو في وكالة الوكيل المذكور ، أو في وصاية الوصي ، أو حياة الغلام ، بل في أمر آخر محسوس للشاهد.

نعم ، لو أنكر حينئذٍ المشهود عليه كونها تلك الامرأة أو الوكالة أو الوصاية أو الحياة لم تجز الشهادة بالعدلين والامرأة الواحدة بكونها امرأة فلانيّة ووكيلاً ووصيّاً والغلام حيّاً.

__________________

(١) الاستبصار ٣ : ١٩.

(٢) المبسوط ٨ : ١٨١.

٣٧٣

ثم إنّه على ما ذكرنا من جواز الشهادة على إقرارها بتعريف العدلين لها هل يجب استناد شهادته إلى شهادتهما بمعرفتها؟ كما عن الحلّي في السرائر والفاضل في التحرير (١) وغيره ، أم يجوز ذكر الشهادة مطلقة؟

الظاهر : الثاني ، إن كان مذهب الحاكم كفاية معرفة العدلين في هذه الشهادة ، ويعلمه الشاهدان ، وإلاّ فلا ؛ والوجه واضح.

هـ : يجوز أن تسفر المرأة وتكشف عن وجهها ليعرفها الشاهدان لها أو عليها ، إذا لم يمكنهما معرفتها بشهادة العدلين العارفين لها شخصاً أو نسباً ، بلا خلاف يوجد ، كذا قيل (٢).

أقول : إن قلنا بجواز نظر الأجنبي إلى وجه الأجنبيّة من غير ريبة فلا حاجة إلى قيد عدم إمكان المعرفة بالعدلين ، وإن لم نقل به يجب التقييد به ، وبضرورة الشهادة أيضاً ، فتأمّل.

المسألة الثالثة : من تحمّل شهادةً فإمّا يكون بالاستدعاء أي التماس صاحب الحقّ للتحمّل أو بدونه.

فإن كان بالاستدعاء يجب عليه الأداء حين طلبه ، إجماعاً قطعيّاً ، بل ضرورة ، وحكاية الإجماع عليه مستفيضة (٣) ، والآيات عليه دالّة ، والأخبار عليه متواترة.

وإن كان بدونه ، فالمشهور بين المتأخّرين بل نُسب إلى جمهورهم (٤) الوجوب أيضاً ، وهو مختار الحلّي (٥) ؛ لما مرّ.

__________________

(١) السرائر ٢ : ١٢٦ ، التحرير ٢ : ٢١١.

(٢) انظر الرياض ٢ : ٤٥١.

(٣) القواعد ٢ : ٢٤٠ ، المسالك ٢ : ٤١٥ ، الروضة ٣ : ١٣٨ ، الرياض ٢ : ٤٤٩.

(٤) كما في الرياض ٢ : ٤٤٩.

(٥) السرائر ٢ : ١٣٢.

٣٧٤

وذهب جماعة من القدماء منهم : الإسكافي والشيخ في النهاية وظاهر الحلبي والقاضي وابنا حمزة وزهرة ، بل الكليني والصدوق (١) ، بل نسبه بعضهم إلى المشهور بين القدماء (٢) إلى عدم الوجوب حينئذ ، بل هو بالخيار ، إن شاء شهد ، وإن لم يشأ لم يشهد ؛ للصحاح الأربع لمحمّد وهشام :

الأُولى : « إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها ، إن شاء شهد ، وإن شاء سكت » (٣).

والثانية : في الرجل يشهد حساب الرجلين ، ثم يدعى إلى الشهادة ، [ قال : ] « إنشاء شهد ، وإن شاء لم يشهد » (٤).

والثالثة : « إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها ، فهو بالخيار ، إن شاء شهد ، وإن شاء لم يشهد » (٥).

ومثلها الرابعة ، وزاد فيها : وقال : « إنّه إذا أُشهد لم يكن له إلاّ أن يشهد » (٦).

__________________

(١) نقله عن الإسكافي في المختلف : ٧٢٩ ، النهاية : ٣٣٠ ، الحلبي في الكافي في الفقه : ٤٣٦ ، القاضي في المهذب ٢ : ٥٦١ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٢٣٣ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥ ، الكليني في الكافي ٧ : ٣٨١ ، الصدوق في الفقيه ٣ : ٣٣.

(٢) كما في الرياض ٢ : ٤٤٩.

(٣) الكافي ٧ : ٣٨١ ، ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٥٨ ، ٦٧٨ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٨ أبواب الشهادات ب ٥ ح ٣ ، بتفاوت.

(٤) الفقيه ٣ : ٣٣ ، ١٠٧ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٩ أبواب الشهادات ب ٥ ح ٦ ؛ وما بين المعقوفين من المصدرين.

(٥) الكافي ٧ : ٣٨٢ ، ٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٧ أبواب الشهادات ب ٥ ح ١ ؛ وفيهما : وإن شاء سكت.

(٦) الكافي ٧ : ٣٨١ ، ١ ، التهذيب ٦ : ٢٥٨ ، ٦٧٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٨ أبواب الشهادات ب ٥ ح ٢.

٣٧٥

والروايتين ، إحداهما لمحمّد : عن الرجل يحضر حساب الرجلين ، فيطلبان منه الشهادة على ما سمع منهما ، قال : « ذلك إليه ، إن شاء شهد ، وإن شاء لم يشهد ، فإن شهد شهد بحقّ قد سمعه ، وإن لم يشهد فلا شي‌ء عليه ؛ لأنّهما لم يشهداه » (١).

والثانية ليونس مرسلة : « إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها ، فهو بالخيار ، إن شاء شهد ، وإن شاء أمسك ، إلاّ إذا علم مَن الظالم فيشهد ، ولا يحلّ له إلاّ أن يشهد » (٢).

وأمّا رواية محمّد : في الرجل يشهد حساب الرجلين ، ثم يدعى إلى الشهادة ، قال : « يشهد » (٣).

فغير منافية لما مرّ ؛ لأنّ قوله : « يشهد » لا يفيد الوجوب ، ولو سلّم فيخصّص عندهم بما إذا حضر بالاستدعاء.

وصريح النافع والكفاية (٤) وبعض مشايخنا المعاصرين (٥) وظاهر المسالك (٦) وبعض آخر ممّن تأخّر عنه (٧) : التردّد ؛ لمعارضة تلك الأخبار مع إطلاقات الكتاب والسنّة بوجوب أداء الشهادة ، المعتضدة بالشهرة المتأخّرة.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٢ ، ٦ ، التهذيب ٦ : ٢٥٨ ، ٦٧٧ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٨ أبواب الشهادات ب ٥ ح ٥.

(٢) الكافي ٧ : ٣٨٢ ، ٤ ، التهذيب ٦ : ٢٥٨ ، ٦٨٠ ، الوسائل ٢٧ : ٣٢٠ أبواب الشهادات ب ٥ ح ١٠ ، بتفاوت.

(٣) الفقيه ٣ : ٣٣ ، ١٠٨ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٩ أبواب الشهادات ب ٥ ح ٧.

(٤) النافع : ٢٩٠ ، الكفاية : ٢٨٦.

(٥) كصاحب الرياض ٢ : ٤٤٩.

(٦) المسالك ٢ : ٤١٥.

(٧) كالكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٨٥.

٣٧٦

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ الإطلاق لا يعارض التقييد الصريح المنصوص ، الموافق لعمل أعيان القدماء ، بل كما قيل (١) شهرتهم ، فلا مناص عن ترجيح القول الثاني ، وعليه الفتوى.

ثم عدم الوجوب عند عدم الاستدعاء على المختار إنّما هو إذا لم يعلم الشاهد ذهاب حقّ المحقّ بسكوته ، وإن علم ذلك تجب عليه الشهادة ، كما صرّح به الصدوق في الفقيه والشيخ في النهاية (٢) ، كما نطقت به المرسلة المتقدّمة.

وتدلّ عليه رواية إبراهيم عن أبي الحسن عليه‌السلام : عن رجل طهرت امرأته من حيضها ، فقال : فلانة طالق ، وقوم يسمعون كلامه ، ولم يقل لهم : اشهدوا ، أيقع الطلاق عليها؟ قال : « نعم ، هذه شهادة ، أفيتركها معلّقة؟! » (٣).

قال : وقال الصادق عليه‌السلام : « العلم شهادة إذا كان صاحبه مظلوماً » (٤).

يعني : أنّ العلم شهادة وإن لم يشهد عليه مع الظلم. وذلك يشعر بأنّه إذا لم يكن صاحبه مظلوماً ليس مطلق العلم بدون الإشهاد شهادة.

ومنه يظهر جواب آخر عن العمومات والإطلاقات للشيخ وتابعيه.

__________________

(١) انظر الرياض ٢ : ٤٤٩.

(٢) الفقيه ٣ : ٣٤ ، النهاية : ٣٣٠.

(٣) الفقيه ٣ : ٣٤ ، ١٠٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٩ أبواب الشهادات ب ٥ ح ٨ ، وفيهما : عن علي بن أحمد بن أشيَم ، عن أبي الحسن عليه‌السلام ، ولم نعثر على رواية عن إبراهيم بهذا المتن. نعم ، وردت بدون قوله : « أفيتركها معلّقة » عن إبراهيم بن هاشم ، عن صفوان ، عن أبي الحسن عليه‌السلام انظر : الكافي ٦ : ٧٢ ، ٤ ، التهذيب ٨ : ٤٩ ، ١٥٥ ، الوسائل ٢٢ : ٥٠ أبواب الطلاق ب ٢١ ح ٢.

(٤) الفقيه ٣ : ٣٤ ، ١١٠ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٩ أبواب الشهادات ب ٥ ح ٩.

٣٧٧

وهل الوجوب مطلقاً على القول الأول ، ومع الاستدعاء على الثاني عيني أو كفائي؟

الظاهر إطباق الأولين واتّفاقهم على الثاني ، بل حكايات إجماعهم عليه مستفيضة ؛ لأنّ المطلوب من أداء الشهادة إحقاق الحقّ ، فمع حصوله حصل المطلوب ، ولا يتحصّل الحاصل.

والحاصل : أنّ الفرق بين الكفائي والعيني أنّه : إن عُلِمَ بتصريح الشارع أو بدليل آخر أنّ مطلوب الشارع نفس الفعل ، دون الفاعل ، وأمكن تحقّقه من بعض ، فهو الكفائي.

وإن احتمل مدخليّة الفاعل أيضاً ، وشمل دليل الحكم الفاعل ، فهو العيني.

ويعلم هناك بضرورة العقل أنّ المطلوب ليس إلاّ إحقاق الحقّ ، فبعد تحقّقه لا يبقى طلب ، وهو معنى الكفائي.

وربّما يشعر بذلك ما في رواية جابر ، من قوله : « من كتم شهادة أو شهد بها ليهدر دم امرئ مسلم ، أو ليزوي بها مال امرئ مسلم ، أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مدّ البصر » (١).

حيث دلّت بالمفهوم على أنّه من كتم لا لغير ذلك ومنه : عدم الحاجة إلى شهادته لم يكن كذلك.

وممّا ذكرنا تظهر الكفائيّة على القول الثاني أيضاً ، والظاهر أنّه أيضاً مراد القائلين به.

وأمّا جعل الوجوب مع الاستدعاء عينيّاً ؛ لأنّه المستفاد من الروايات‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٠ ، ١ ، الفقيه ٣ : ٣٥ ، ١١٤ ، التهذيب ٦ : ٢٧٦ ، ٧٥٦ ، ثواب الأعمال : ٢٢٥ ، ٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٢ أبواب الشهادات ب ٢ ح ٢.

٣٧٨

المفصّلة ، وجعله فارقاً بين النزاعين ، وردّ كلام المختلف الجاعل نزاعهم لفظيّاً بذلك (١) ، كما في الكفاية تبعاً للمسالك (٢).

فغير جيّد جدّاً ؛ لأن عموم الروايات وإطلاقها إن أفاد العينيّة لاشترك بين القولين ، وإن كان النظر إلى حصول إحقاق الحقّ فكذلك.

فإن قلت : فما الفرق بين القولين على هذا؟ حيث إنّ أرباب القول الثاني مع عدم الإشهاد أيضاً يقولون بالوجوب مع توقّف إحقاق الحقّ عليه.

قلت : الفرق ظاهر غاية الظهور ، فإنّ شأن الكفائي الوجوب على كلّ أحد ، إلاّ مع العلم بأداء الواجب عن غيره ، فمع عدم العلم يكون واجباً عليه ، ولا يسقط باحتمال الأداء.

فأهل القول الأول يقولون بوجوب أداء الشهادة على كلّ أحد ، إلاّ إذا علم نهوض غيره لأدائه مطلقاً.

وأهل الثاني يقولون بذلك أيضاً مع الاستدعاء ، وأمّا بدونه فيقولون بالوجوب مع العلم بعدم إحقاق الحقّ ، وأمّا ما لم يعلم ذلك واحتمل الإحقاق بغيره فلا يجب.

يصرّح بذلك قول الصدوق : فمتى علم أنّ صاحب الحقّ المظلومُ وجبت عليه الشهادة (٣).

وكذا الشيخ في النهاية ، حيث قال : إلاّ أن يعلم أنّه إن لم يقمها بطل حقّ مؤمن (٤).

هكذا ينبغي أن يُحقَّق المقام.

__________________

(١) المختلف : ٧٢٥.

(٢) الكفاية : ٢٨٦ ، المسالك ٢ : ٤١٥.

(٣) الفقيه ٣ : ٣٤.

(٤) النهاية : ٣٣٠.

٣٧٩

فروع :

أ : ما ذُكر هنا من وجوب الأداء وفيما تقدّم من وجوب التحمّل إنّما هو إذا لم يخف الشاهد على ضرر عليه ، أو على غيره من المؤمنين ولو كان المشهود عليه ، كما إذا كان المشهود عليه فقيراً غير متمكّن من الأداء ، ولا من الإثبات ، ويقع بالشهادة عليه في حبس أو نحوه ، فإنّه لا تجب الشهادة حينئذٍ إجماعاً ، بل تحرم.

لنفي الضرر والضرار في الآيات والأخبار عموماً.

وخصوص رواية عليّ بن سويد : « فأقم الشهادة لله » إلى أن قال : « فإن خفت على أخيك ضيماً فلا » (١). والضيم : الظلم.

ورواية داود بن الحصين : « أقيموا الشهادة على الوالدين والولد ، ولا تقيموها على الأخ في الدين الضير » قلت : وما الضير؟ قال : « إذا تعدّى فيه صاحب الحقّ الذي يدّعيه قبله خلاف ما أمر الله به ورسوله ، ومثل ذلك : أن يكون لرجل على آخر دين ، وهو معسر ، وقد أمر الله بإنظاره حتى ييسر ، قال ( فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (٢) ويسألك أن تقيم الشهادة ، وأنت تعرفه بالعسر ، فلا يحلّ لك أن تقيم الشهادة حال العسر » (٣).

وفي رواية محمّد بن القاسم الواردة في المعسر المديون : وإن كان عليه الشهود من مواليك قد عرفوا أنّه لا يقدر ، هل يجوز أن يشهدوا عليه؟

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨١ ، ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٧٦ ، ٧٥٧ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٥ أبواب الشهادات ب ٣ ح ١.

(٢) البقرة : ٢٨٠.

(٣) الفقيه ٣ : ٣٠ ، ٨٩ ، التهذيب ٦ : ٢٥٧ ، ٦٧٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٠ أبواب الشهادات ب ١٩ ح ٣ ، بتفاوتٍ يسير.

٣٨٠